الغسقُ والسَحَر

 

أحمد دلول

 

من وجد الحياة قبل موته، لن يموت أبدًا.
(فراس السواح)

كان الغسق والسَحر جالسين يتسامران على أطراف الليل، فقال السَحر:

-       ما زلت فتيًا أيها الغسق، وما يزال ليلك طويلاً. أما أنا فقد غزا الشيب مفرقي، ولم يبق لي في هذه العتمة سوى النذر اليسير. وإني أحدس بأن موعد لقائي مع الشمس قد دنا.

قال الغسق متململاً:

-       عن أي شمس تتحدث أيها العجوز؟

-       إنها تلك القوة الخفية المستترة وراء الأشياء، التي تمد الكون بالطاقة والحياة. أفلا تؤمن بها؟

-       أنا لا أؤمن بالغيب، قال الغسق، فلو كانت الشمس موجودة حقًا، لماذا لا تشرق إذن وتكشف لنا عن نفسها، لكي ندرك وجودها باليقين، بدلاً من الاعتقاد والتخمين؟

أجاب السحر:

-       ولكن يا صديقي، نحن ظل لشمس لا نراها، لأننا محجوبون عنها بفعل الكثافة. فإذا أشرقت الشمس، اختفى الظل الذي هو نحن. ولذلك فإن إدراكنا لنور الشمس مرهون بزوالنا.

أيها الغسق، إن الظلام في الكون هو نفي، والنور هو الإثبات. فكيف للنفي أن يلتقي بالإثبات، ما دام الإثبات ينفي ضده! أما إذا أردت معايشة الحقيقة، فلا بد لك من تجاوز فرديتك، إلى فضاء الكون اللامتناهي، وبذلك تعثر على النور الذي هو علة وجودك. فالنور الذي تعجز عن إدراكه حواسك، قد تراه بعيون قلبك، إن أطلقته قبل أن يباغتك الفجر.

أجاب الغسق:

-       إن ما لا تدركه الحواس هو مجرد وهم ابتدعه خيالنا لمداراة مخاوفنا وتبرير جهلنا. فنحن لا شك سنفنى في آخر الليل، ولكن لا تحدثني عما وراء الليل من شمس ونهار. فليس وراء الظلام سوى العدم. ثم كيف لي أن أؤمن بما لا أرى!

-       ولكن الليل الذي نعيشه هو ظل للحقيقة أيها الغسق. وهناك على الطرف الآخر من وجودنا، يكمن الوجه الجلي للحقيقة في وضح النهار. فالظلام الذي نحن مجبولون منه هو مجرد استثناء، والنور هو القاعدة. ومن ثم، فإن رحلتنا مع الظلمة سوف تنتهي، لأن الفجر آت لا محالة، ليدفن ظلمة الليل بأنواره، ولسوف ننتقل من حال إلى حال، ولن يفنى منا إلا العتمة. فالأثير الذي نسكنه، كان بالأمس مفعمًا بالنور، وهو سيكون كذلك غدًا. وحتى لو فني منا الشكل والمظهر، فإن هناك مخاضًا سوف نولد بعده أحرارًا، ونعود إلى موطننا، لنكون فيه نحن ونور الشمس واحد.

ضحك الغسق وكان صدى ضحكه يتردد في أرجاء الليل، وكان يقول في نفسه:

-       ما أشقى ذلك السَحر العجوز، يقايض الحقيقة بالوهم، ويماري في حقيقة الليل الذي يعيش، ليؤمن بخرافة الشمس التي لا يرى.

لكن الشمس كانت على الجانب الآخر من وجوده، وهو يسعى نحوها من حيث لا يدري. ولم يمض وقت طويل حتى انقلب الغسق سَحرًا، ثم ما لبث أن سمع طرقًا مهيبًا على بابه، حيث كان النهار قد بدأ بإزاحة لثام الكثافة، ليظهر ذاته، ودخل نور مبهم غامر.

لقد انبلج الفجر وامتص بنوره قوامه، فذاب في النور. ثم لم يعرف أحد عن مآله شيئًا. فالذي يذوب كنهه في النور، لا يرجع عن صوته أي صدى، ولن يعود ليحدث الناس عما رأى. إلا من كان من صفوة البشر، الذين عثروا على الشمس قبل مطلع فجرهم. فأولئك هم الذين عثروا على الأبد.

من رواية "الحج إلى الحياة"

*** *** ***

 

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني