حوار بين أورموزد وأهريمان

 

فيصل زواوي

 

أهريمان[1]: تعبت من العزلة والوحدة هنا يا أورموزد[2]! وأنت أيها القلب الطَّيب الوحيد الذي يمكنه أن يحدِّثني بصراحة: أريد أن أستريح من لغط هذا العقل المجنون!

أورموزد: لكنك تتحدَّث عن نفسك وكأنك مجرَّد جمجمة من الماضي! الزمن حاضر دومًا وهو نتاج كوننا بهذا الإنسان الذي مذ ألَّهنا ونحن في حرب لم تقدِّم لنا شيئًا عدى الخيبة! هذا الميت لطالما تكلم هكذا عن شرِّك الذي لولاه لما عمَّ به خيري وعن نارك التي لولاها لما سطع منها نوري ولكن!

أهريمان: ولكن غياب نورك أيُّها الحكيم، بفضل غياب ناري الذي جعله أسير ظلماته! أليس هذا الإنسان ميِّت منذ الأزل؟! فماذا ننتظر لنرقد بسلام في عدمه الأبدي؟!

أورموزد: ليس هناك مخلوق مخلوقًا من عدمٍ أبديٍّ يا أهريمان! مثلما ليس هناك مخلوق مخلوقًا من وجود أزلي...

أهريمان: كيف! كيف ذلك يا أورموزد؟!

أورموزد: إما هناك عدم أبدي من الأزل وإما هناك وجود أزلي للأبد وما كان هذا الحوار ليكون حرًّا لولاه...

أهريمان: أتقصد بالحريَّة الألوهية ألوهية الحرية؟

أورموزد: أقصد أنَّ الربوبية كذلك مذ خلقت الموت والحياة والعبودية في حيرة من أمر الحرية وحقيقتها! شيء جميل ما قاله أحدهم[3]: (أن تتدرب على الموت معناه أن تتدرب على أن تكون حرًّا! فحين تعرف أن تموت فإنك بالتالي لا تعرف قطّ أن تكون عبدًا؟!). لكن لنفرض أنك نجحت في استعبادك لحياتك، ألست في الأخير عبدًا للحرية ولكنك فقط حاولت تجاهل عبوديتك لها... العبودية ما زالت تجهل الكثير الكثير عن ماهية خلقها بين الموت والحياة، فما بالك عن ما وراء ذلك؛ ما وراء وراء حتَّى افتراض ذلك الفراغ الكامل مثلاً! لذا دعني أسألك باختصار: من يستطيع أن يميت الموت بعد أن أحياه أول مرة؟

أهريمان: هو وحده حيٌّ بحقٍّ ليس بميت. لكن هناك من فضوليي الفكر ممن اعتبروا بعدمه أشدَّ من بذل جهد لإيجاده في أنفسهم وبحجة أنه لا مكان للامتناه! واليوم هل من شكل متناه أكمل من فضاء هذا القبر؟! أنظر إذا استطعت أن تطرف عينا على هذا الظلام الفكري الذي لطالما تأملته بعقولهم.

أورموزد: ومن ذا يستطيع التنوُّر برصد روح حريته تلك إلا واحدًا تحرَّر في عمق تعبُّده من عوارض رصده نفسها.

أهريمان: أتصوَّر أن الأمر لن يتوضَّح بين أتراب من الآلهة العاجزة أمثالنا، لذلك هناك من حاول تبرير قدر التضحية بالمثنوي في إضفاء غاية مسطرة مسبقًا لهذا الوجود السفلي، كما حدث لي شخصيًا وقد قرنني البعض أو اعتبروني أوَّل الموتى! ذاك الخنَّاس الذي شهدناه في سخطه أمام خلق الإنسان الأول فوقًا واليوم قد جفَّ سخطه من عروق آخر الموتى بالحياة الدنيا حتى آخر قطرة. من الصَّعب بحال تصور حجم مأساة مكان بدون زمان أرهب من عذاب لا تموت فيه ولا تحيا...

أورموزد: على مهلك يا أهريمان! يبدو أنك الآن أسوأ حالاً مما فكروك هزلاً بأنفسهم وظنوا بك خلاصًا نهائيًا لأهوائهم لمَّا عملوا بكدٍّ على فسادهم وسفك دمائهم وأن لا حساب ولا حسيب يلاقونه في النهاية. هل أدركت يا أهريمان ما مدى جحيم أنك انوجدت بمجرد تصوُّر ذلك الإنسان أنك مخلِّصه من اضطهاد نفسه حتَّى اعتبر القتل من عادات اللهو ونوافل الألعاب! فأية جبرية أرهب من تلك الحرية التي أودت بكل عقل اعتقد بك بكماله ونفاذه المطلق اعتقادًا راسخًا، إلى غير الهلاك والجحيم. أظن أن ذاك القليل من العلم الإلهي اللانهائي لم يتحقق في هذا العالم إلاَّ في إيمان قلوب عباده المخلصين بعظيم بواعث خلقه كل شيء بالحق... ولم تؤخذ على السَّواء كلمة الحق في الخلق وما سينجرُّ عنها بمحمل الجدِّ!

أهريمان: كيف؟

أورموزد: أليس هو نفسه ما كتبه بنفسه على نفسه المريد أن يُعرف بالحق مع علمه المسبق من أزليته لأبديته بجدلنا بهذا المخلوق لدهورٍ لَأكبر دليل على تحقيقه العادل لتشريفه؛ وقد أمكنه أن لا يخلق شيئًا أو يُذهب كل ما يخلقه لغير رجعة! لكنه أراد أن يُعرف باسمه الألوهي الذي أراده اسمًا أوحدَ له فحقَّ عليه عظيم حقِّه فشهد به؛ فالإله الحقُّ متحقِّق الألوهة بمعزل عمَّن رآه كذلك فقط بوجوده المخلوق المقدِّر المُراد ضمن ما تقتضيه شؤون الرُّبوبية... الإنسان الذي حاول معرفته مصمِّمًا ضمن تصور تنزيه التشبيه والعكس بالعكس كان محكومًا بأن يفقد صوابه آجلاً أم عاجلاً بين معضلة تحديدات فهم الشيء بالشيء أو باللاشيء بين اللااتصال واللاانفصال! اللامادة واللاروح وكيف بمنفذ للازمكان من الذهن! ومشيئته في الخلق احتار فيها المتقلبون في العقل والمتعقلون في القلب حين كلَّفوا تصوُّراتهم سبيل ما لا استطاعة حتى لبواطن أذهانهم إليه تحليقا... لذا قال لهم مثلاً أنه لا ينبغي له فهل فهموا حقًا ما ينبغي لهم فهمه بحرية؟!

أهريمان: كل ذلك التأمل العميق الذي استغرقته للتحرر منك والتنكُّر لك وأنا في أوجِّ حرية إيمانك يا أورموزد آل إلى التبلُّد!

أورموزد: نحن شهودها علينا الآن! لكن البشر طوال مسيرة يومهم أو بعضه على هذه الأرض التعيسة أخفقوا تمامًا في الفصل الحق بيننا؛ أنظر لمدى خيبة بصرك عبر أوهامهم كيف تتجانس مع أمل بصيرتي في استقبال النور الذي سيسطع من إكسير النور المقدَّس نفسه بدل ما كان يسطع من حرقة الشموس - الآفلة - على مآلها جميعًا.

أهريمان: حقًا! أخفقوا لأنني لطالما كنت أقوى في ضعفك بقلوبهم يا أورموزد: فما معنى هذا الثقل خارج هذا الجذب وما معنى هذه الحكمة خارج هذا الخرق وما هو الشرُّ في النهاية إلا انتكاس الخير! لكن أما أمكنهم ببحثهم بنا وعنَّا مجتمعين عن حقيقة ما وراء صراع الأضداد تحقيق تمام الصَّفاء الإيماني كالذي لطالما توسَّمته فيهم قبل موت كل علق الحياة! أنظر على مدِّ بصرك إلى تلك القبور كيف ترتجف خيفة لما تحمله بين أحشائها من لا هجوع الأنفس التي لا تجد الراحة تحت سطح الأرض! وماذا خلَّفت فوقًا رغم التَّمادي في اللَّهو بالتكاثر؟! لا شيء سوى ذكرى فساد متفان والآن الاستعاضة بأرق هذا الانتظار المرهَق منها تمامًا.

أورموزد: بفضل نفاقك العادل معهم ظنَّ كل جلاَّد منهم أنه المختار الأذكى، الأقوى، الأحق بتعذيب هذه الأرض لتفشي له وحده بسرِّ تفادي لعنة الانقراض! لكن هيهات لهم ذلك جميعًا: ما من عقل مطلق يمكن للذهن تحمُّل أوزاره! لقد عجزت أصلاً على الفصل بين مدركاتك وأذواقي؛ وقوة المركب كحال أيِّ مخلوق تكمن في الاعتراف بضعفه وحاجته للآخر للبقاء حتى لأضعف الضعفاء، وليس التمتع بالوعي الإنساني بشيء بسيط كالمعاناة منه أكثر من عدمه، كما ظنه أكثرهم مسألة غوث أو عقاب عشوائي من السماء لا دخل لأهل الأرض به؛ الوعي الكامل بكمال المشيئة آل لأقصى درجاته البدائية ما دام البشر قد تلاعبوا منذ البدء بجدية التكامل والتعارف والتعاون المنشود بينهم للحفاظ على جمال وحب وحدة وجودهم معًا، لكن دون الإيمان بوجودهم حقّا، دون رؤيته أوحدَ يتلألأ بأنفسهم، لا مناص لهم من سوء هذا الختام الذي شنته هبَّة من جناحي فراشة أخيرة!

أهريمان: لكن الوعي الكوني نسبيٌّ ومعقَّد والتجرُّد من صوره العارضة ليس هيِّنًا على الأغلب، والبشر أبناء العادات الفكرية اليسيرة فكيف بهم بلوغ كنه الوعي بالموت أثناء الحياة والعكس بالعكس؟!

أورموزد: إن استغلال جلَد الأرض المستمر وتجاهل حاجتها النفسية للراحة والسَّكينة كان كفيلاً بتعرُّضها للإحباط الذي أدركت مدى فضاعته أبسط أشكال الحياة المرئية واللامرئية المحيطة بالإنسان عداه! التَّعاطف مع استسلام فرائس الطبيعة الغرائزية لبعضها البعض لم يكفِ لضمان استمرارية التطوُّر الانتهازي في اختصار واقع الزمكان المسخَّر ليقارب حلول الصِّفر؛ هناك فعلاً لم يبقَ أيُّ مجال لحماقة التَّحايل أكثر باسم الخيال العلمي الذي استنفذ كل طاقات الجياع والمرضى وضحايا الحروب السلمية باسم استكشاف الحياة الأخرى على كوكبِ عاقٍ آخر ذو منخرين وعين ثالثة! التطوُّر العقلاني الوحيد الذي يمكن أن يُشاد به على الإنسان على مستوى عهده العلمي المذهل في الكون هو أنَّه نمَّق انتظاره للمجهول ونشَّط تآكله المنطقي ببعض تعاويذ المجادلة السِّحرية دون أن يكلَّ أو يملّ!

أهريمان: هل يمكن فهم نهم الإنسان لمثلَّجة الخلود على أنه كان أولى نزواته الساذجة وآخرها؛ إيقاف ترهُّل الزمن، شدُّ تجاعيده، تجميله بعملية انتحارية ما على مستوى ضغط زرٍّ نووي مثلاً!؟ رغم أن أمر الإبادة الأرضية غير المسبوقة بدا متعارفًا عليه كذلك لقرون، إلا أنَّ الكائن البشري انتهى حقيقة عكس ما اقترحته نظرية النمو والارتقاء! وأصبح شبيه الإنسان لا يقوى حتَّى على نطق عبارة: "أن تكون قردًا أو لا تكون..."!

أورموزد: أرى أنك أصبحت مفعمًا بروح الدُّعابة رغم أنك تعلم أن أحداث النهاية المأساوية كانت أدهى وأمرَّ!

أهريمان: سامحني يا أورموزد: قصدت فقط أن أروِّح عن مزاجية الحوار الصَّارمة، فأنت تبدو كئيبًا وشاحبًا للغاية!

أورموزد: أجل، كنت أغوص في أعماق أحاسيس الهاوية حين سقط الكل فجأة تحت وطأة الطَّامَّة، أراقبك تتلوى مع تموجات الرُّعب الكوني وقد جُنَّت بك العقول المدهوشة وهي تحاول التقاط أنفاسها الأخيرة، لتغوص في محيط الهذيان الوجودي المظلم! إنني أتذكَّر لمحة الرُّوح الناظرة للخلق بعين حالكة وأخرى ناضرة، أحاول أن أستجمع كل تقلبات الصورة المنسيَّة بظلال الحقِّ وأتجدَّد بمحبتي الخالصة على امتداد فيوض الرحمة الأبدية... لكن هذا الصلصال لا يدعني! سعير هذا القبر البارد يسلبني إرادة التحرُّر الكامل من أغلالك يا أهريمان!

أهريمان: بل دويُّ نبضك المتواصل من بقي يرجرج أفكاري! يشوِّش على تركيزي لفهم عجز العالم على احتضان طموح البشر للسَّلام؛ التفوُّق على إعجابهم بأنفسهم، على استخفافهم بما يدور حولهم، في النهاية استغرابهم من كونهم غرباء عن أنفسهم وما يدور حولهم! إلى حدٍّ أصبحت فيه إنسانيتهم تمثِّل أدهش صور الغرابة لديهم!

أورموزد: لم تبقَ إلا لحظات وتدقُّ ساعة البعث السَّرمدي الذي لا مفرَّ منه؛ ساعة لطالما ارتعشت لها أجهَم الأساطير والحكايا المروِّعة عن حروب السَّماوات البعيدة واقتتال أطغى الآلهة على شاشات المجلَّدات الرقميَّة!

أهريمان: لقد بدأ يتملَّكني شعور أسوأ من الموت يا أورموزد: إنني جدُّ متخوُّف! وهل إذا أغمضنا أعيننا انعدمنا فجأة وقد كان موجودًا بيننا؟!

أورموزد: لكن كيف ونحن لا زلنا لم نفتح أعيننا بعد يا أهريمان!

*** *** ***

من مجموعة كتاب الميت

 


 

horizontal rule

[1] Ahriman  The Evil Principle or Being of the ancient Persians; the Prince of Darkness as opposer to Ormuzd, the King of Light.

 [Persian] In ancient Persian (Iran) religion and books of Zoroastrianism, Angra Mainyu is the god of darkness, the eternal destroyer of good, personification and creator of evil, bringer of death and disease. He is also known as Ahriman, and his name means "fiendish spirit". He is seen as the personification of evil, he leading the dark forces against the hosts of Spenta Mainyu, the holy spirit, who assisted Ahura Mazda, the wise lord, and final victor of the cosmic conflict. Ahriman introduced the frost in winter, heat in summer, all manner of diseases and other ills, to thwart Ahura Mazda, and he also created the dragon Azi Dahaka, who brought ruin to the Earth. When Ahura Mazda created the heavens, Azi Dahaka sprung into the sky like a snake, and in opposition to the stars formed the planets. Both Ahriman and Ormazd were offspring of Zurvan Akarana, who had vowed that the firstborn should reign as king. Ahriman thus ripped open his mother's womb, and Zurvan pronounced that he should..

[2] Ormuzd  The good principle, or being, of the ancient Persian religion.

[Persian] In Persian belief, Ahura Mazdah ("Lord Wisdom") was the supreme god, he who created the heavens and the Earth, and another son of Zurvan. Atar, his son, battled Azhi Dahaka, the great dragon of the sky, and bound it in chains on a high mountain. The dragon was, however, destined to escape and destroy a third of mankind at the final reckoning, before it was slain. Ahura Mazdah was the god of prophetic revelation, and bore both Ahriman and Ormazd. As leader of the Heavenly Host, the Amesha Spentas, he battles Ahriman and his followers to rid the world of evil, darkness and deceit. His symbol is the winged disc.

[3] SÉNÈQUE / Lettres à Lucilius / Robert Laffont - Bouquins 1993

« "Exerce-toi à mourir." C’est me dire : exerce-toi à être libre. Qui sait mourir ne sait plus être esclave : il s’établit au-dessus, du moins en dehors de tout despotisme. Que lui font le cachot, les gardes, les verrous? Il a toujours porte libre. Une seule chaîne nous tient à l’attache : l’amour de la vie. Sans rejeter trop loin cette passion, il est bon de la réduire assez pour que, si la circonstance l’exige, rien ne nous retienne ni ne nous empêche d’être prêts à faire sur l’heure ce qu’il faudra faire tôt ou tard. »

< III Lettre 26-10 p.667 >

 

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني