النظريات الكونية في منظور الهرمسية

 

قيصر زحكا

 

يقول الكاتب الفرنسي Jean D’Ormesson:

الحياة رحلة قطار بمحطات عديدة، تغيرات خلال الطريق، حوادث. نصعد القطار عند ولادتنا، نلتقي بأهلنا ونظن أنهم سيسافرون معنا دائمًا، لكن للأسف، ينزل أهلنا في محطة أو أخرى يتركوننا وحدنا. مع الوقت، يصعد أناس آخرون: أشقاؤنا، أصدقاؤنا، أولادنا، حبُّ حياتنا. بعضهم ينزلون ويتركون فينا فجوة دائمة، آخرون ينزلون بدون أن ننتبه لهم. رحلة القطار مليئة بالفرح، بالحزن، بالأمل، بالسلام، بالوداع. يأتي النجاح من خلال حصولنا على علاقات جيدة مع كل الركَّاب من خلال إعطاء أفضل ما عندنا. يظل اللغز القائم: نحن لا نعرف في أيَّة محطَّة سننزل، لذلك يجب أن نعيش بأفضل ما يمكن: محبَّة، تسامح، وأن نعطي أفضل ما عندنا. من الضروري فعل ذلك لأننا عندما سننزل ونترك مقاعدنا فارغة، من الأفضل أن نترك ذكريات جميلة للذين سيبقون في القطار. أعطي المحبَّة والسعادة، والأهمُّ من ذلك، كن شاكرًا للرحلة.

أضيف هاهنا على كلام الكاتب بأن هناك من يعيش بمقطورة واحدة ويرى فقط ما هو موجود في هذه المقطورة، ومنَّا من ينتقل إلى أكثر من مقطورة ويرى أناس أكثر اختلافًا، ومنَّا من يحاول النظر خارج المقطورة، ولكن إذا كانت حياتنا هي رحلة القطار هذه، هل هذا يعني أنه لا يوجد حياة خارج القطار، أم أنه يوجد عوالم وعوالم؟

يقول الشاعر الفارسي حافظ الشيرازي: "أتمنى لو أستطيع أن أريك عندما تكون وحيدًا أو مظلمًا الأضواء الباهرة في داخل كيانك". ويقول جبران خليل جبران: "أنا مسافر وملَّاح وكل يوم أكتشف شيئًا جديدًا بداخلي". ويقول جلال الدين الرومي: "هذا المكان كالحلم، وفقط النائم يظنُّه حقيقة. يأتي الموت كالفجر ونستيقظ ضاحكين على ما ظننَّاه أسانا".

منذ فجر التاريخ والإنسان يسعى إلى فهم نفسه وفهم ما يحيط به وفهم هذا الكون الواسع الذي يعيش به. كانت المفاهيم الأولى بدائية جدًا، قامت على عبادة قوى الطبيعة من شمس وقمر ومطر وجبال ورعد وولادة وموت ونار وريح... إلخ، ولكنها كانت إلى حد كبير بسيطة لكن متوازنة وفيها الكثير من التواضع والاعتراف بأن إدراكنا بسيط جدًا أمام تلك القوى الهائلة. كانت العبادات تجمع بين فلسفة بسيطة مصحوبة بتقاليد وشعائر بسيطة.

مع تطور الإنسانية، وحصول إدراك أكبر للإنسان لما يحصل حوله، بدأت تلك الفلسفات الدينية تتعقد وتأخذ مفاهيمًا أكبر، وبنفس الوقت تطورت الحالة الاجتماعية والمدنية بشكل أكبر وظهرت المدن ومن ثم الدول، مما تطلب وضع قوانين وشعائر. هذا التطور كانت له طبعًا فوائد جمة على حياة الإنسان وقيمه الاجتماعية والفكرية، ولكن حمل معه تناقضًا لم يكن موجودًا سابقًا على كافة الأصعدة، فظهرت القوانين مثلاً، والتي طبعًا تنظم العلاقات بين الناس وتحفظ حقوقهم وواجباتهم، ولكن بنفس الوقت فقدت الشفافية التي كانت موجودة، وأصبح القانون بطشًا أحيانًا وأصبح بيد الأقوى. ظهرت بنفس الوقت التصنيفات والطبقات الاجتماعية. على مستوى العبادة، لم تعد العبادة بالانسجام والبساطة نفسهما، وظهر تياران واضحان جدًا وأحيانًا كثيرة متناقضان: التيار الأول وهو الفلسفة، ويقوم على محاولة فهم الكون والألوهة من خلال تجارب عقلية ونفسية وروحية معينة؛ والتيار الثاني وهو الدين، والذي يقوم على ممارسة شعائر وطقوس معينة، واعتبار الألوهة أمرًا خارجيًا يجب تقديم الأضاحي والقرابين وصلوات معينة نحوها.

الين واليانغ

يمكن القول إن هذا ينطبق على كل مفاهيم الحياة بشكل عام، وليس فقط على مستوى العبادة، فمنذ فجر الإنسانية والإنسان في صراع مستمر بين تيار مادي يعزي الأمور بأجمعها إلى ما يراه ويسمعه وبالتالي يحاول السيطرة عليه، وتيار روحي يرى وجود عوالم أخرى لا ندركها بحواسنا الخمسة. إن مبدأ الثنائية هو مبدأ أساسي جدًا على المستوى الأرضي وسيكون دائمًا موجودًا ومؤثرًا، وقد عبَّر الصينيون عن هذا ببراعة من خلال الين واليانغ (الصورة أعلاه)، وكيف يغلب أحدهما ظاهريًا أحيانًا ليتحول إلى المبدأ الثاني لاحقًا. إذا نظرنا إلى كل الأديان التي ظهرت خلال التاريخ، لوجدنا أن هناك أزمنة تقارب فيها المنهج الفلسفي مع المنهج الديني، وأزمنة أخرى كان هناك تباعدًا واضحًا، بل قام أتباع المنهج الديني باضطهاد وتعذيب وحتى حرق أتباع المنهج الفلسفي، وإذا تأملنا مليًّا وبشكل أعمق، لوجدنا أن فترات التقارب عادة ما تكون فترات الاستقرار السياسي والرخاء الاقتصادي والتقدم العلمي والمعرفي في بلد معين، أمَّا فترات التباعد، فغالبًا ما تتزامن مع فترات الانحطاط والتخلف والاضطراب السياسي والاقتصادي. كان ابن خلدون من أعمق من كتبوا بهذا الخصوص. الهندوسية مثلاً كتبت أعظم الكتب الفلسفية من فيدا وفيدانتا وأوبانيشاد ومرت بفترات روحية عظيمة وبالمقابل تحولت في فترات معينة إلى نظام طبقي أجوف عقيم. البوذية أحدثت ثورة فلسفية وروحية عميقة جدًا، وبالمقابل تحولت في فترات معينة إلى نزاع على ترَّهات وأمور غير أساسية وظهرت المدارس المختلفة من ماهايانا وهينايانا... الخ. كانت اليهودية في فترة ما ضوء نور التوحيد ونشر الهداية وتوصلت إلى أعماق فلسفية وروحية عميقة من خلال الكابالا وغيرها، ولكن سيطرة التيار الفرّيسي الطبقي المادي بعد تحطيم الرومان لكيانهم وتهديم المعبد وتشريدهم بعد ذلك جعلها تتجه اتجاهًا ماديًّا كبيرًا. في الديانة المسيحية والإسلامية نجد نفس الأشياء. يقول السيد المسيح: "من ضربك على خدِّك الأيمن فحوًل له الأيسر"، وقد عانى المسيحيون الأوائل شتى أنواع التعذيب والاضطهاد وهم تحت تأثير النشوة الروحية الإيمانية، ولكن تحولت الكنيسة إلى عقيدة قاسية في القرون الوسطى تضطهد كل من يخالفها، ومحاكم التفتيش وحرق المخالفين. نرى التناقض بين التيارين أيضًا من خلال بساطة وتواضع عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما وغيرهما وبين فخامة وغطرسة القصور الأموية والعباسية بعد ذلك، والدسائس التي كانت تحاك باستمرار.

من هو هرمس وما هي الهرمسية:

إذا تأملنا مليًا، نجد أن الهرمسية كمبادئ موجودة في عمق كل الديانات من الأسيوية الشرقية كهندوسيَّة وطاويَّة وبوذيَّة إلى الديانات الشرق أوسطية من يهودية ومسيحية وإسلام إلى ديانات الشعوب الأصلية في الأمريكيتين وإفريقيا وأوروبا واوستراليا بدرجات مختلفة وبالتركيز على جوانب معينة أو أخرى.

هرمس ثلاثي العظمة Hermes Trismegistus هو شخص عظيم، من المفترض أنه حصل على المعارف الثلاثة من فلك، خيمياء ولاهوت، وعاش في مصر القديمة وكان يسمَّى بالفرعونيَّة دجهوتي ḏhwtj، والتي أصبحت بالقبطيَّة ثووغت θωογϮ وبالإغريقية ثوث Thoth، وبالعربية توت. اعتبر أحد الآلهة الأساسيَّة الفرعونيَّة وهو أحد الإلهين (مع معات) الذين حملا البارجة الشمسيَّة للإله رع، واعتبر توت إله السحر والكتابة وتطور العلوم ومحاكمة الموتى، وكان يرمز له بجسد إنسان ورأس الطائر أبي منجل. ومع تداخل الإغريقية مع الحضارة المصريَّة ونشوء الهلنستيَّة، تمَّ جمع صفات الإله هرمس (وهو أيضًا إله الكتابة والمعارف الإلهيَّة) مع توت ليسمى هرمس ثلاثي العظمة أو تريسماجستس. اعتمدت أفكاره ومبادؤه وحكمته من خلال تلامذته، وكان النقل شفهيًّا بالدرجة الأولى طبعًا ولعدَّة أسباب أحدها أنَّها كانت الطريقة المتَّبعة والشائعة بشكل عام، وثانيها عدم تطوُّر الطرق الكتابيَّة بعد بشكل محسوس، وثالثها وأهمُّها الخوف من الاضطهاد من قبل المدارس الدينية المسيطرة، ورابعها الخوف من تسفيه وتمييع المبادئ إن وضعت بشكل كتابي. تمَّ لاحقًا كتابة ما يسمَّى لوح الزمرُّد Emerald Tablet. اكتُشف لوح الزمرُّد – حسب الفرضيَّة – مكتوبًا باللغة الأطلنطيَّة، وتمَّت ترجمته لاحقًا إلى اللغة اليونانيَّة في القرن الثاني الميلادي، ثم وُجد مترجَمًا إلى السريانيَّة والعربيَّة واللاتينيَّة (وُجد لأول مرَّة ذكر لهرمس في كتاب عربي بين القرن السادس والثامن الميلادي). كان للهرمسيَّة دورًا كبيرًا في علوم الخيمياء العربية والأوروبيَّة. سنجد في الحقيقة أن المبادئ الأساسية للهرمسيَّة لها صدى واسع في كل الحضارات والأديان بلا استثناء، سواء بالهند أو الصين أو اليابان أو بلاد فارس أو الشرق الأوسط أو الديانات القديمة في افريقيا وآىسيا وأوروبا والهنود الحمر... الخ. وجد لاحقًا ما يسمَّى بالهرمتيكا، وتمَّ كتابة المبادئ الشفهيَّة بشكل موثَّق وعصري من قبل ثلاثة كتَّاب مجهولين في أوائل القرن العشرين (قد يكون أحدهم William Walker Anderson وهو أحد روَّاد الفكر الحديث) وأُطلق عليه ما يسمَّى بالكيباليون Kybalion.

اعتبر توت إله السحر والكتابة وتطور العلوم ومحاكمة الموتى، وكان يرمز له بجسد إنسان ورأس الطائر أبي منجل

لماذا الاهتمام بالكيباليون والهرمسيَّة:

قد يسأل الكثيرون عن سبب الاهتمام بالكيباليون والهرمسية. يكمن الجواب جزئيّا في الأسباب التالية:

-       لأننا كما ذكرت نجد صدى للهرمسيَّة في معظم العقائد والأديان.

-       لأنَّ الهرمسيَّة تعطي الكثير من الأجوبة على تساؤلات لم تُجِبْ عليها بعد العلوم الحديثة من فيزياء ورياضيَّات وعلم نفس وكيمياء... الخ.

-       لأن فهم المبادئ الهرمسيَّة وإدراكها وإتقانها يجعل الإنسان يفهم نفسه وكونه ومغزى حياته ويجعله يعيش بشكل أكثر انسجامًا مع محيطه وقادرًا على التقليل من المصاعب والمشقَّات والحالات النفسيَّة التي يمرُّ بها.

لنتأمَّل بعض أقوال الهرمسيَّة، ونجد شيوعها في معظم الأديان:

-       شفاه الحكمة مغلقة، إلا للذين يملكون آذان الفهم والإدراك.

-       حيت تطأ أقدام المعلِّم، تفتح آذان هؤلاء المستعدِّين لسماعه.

-       عندما تكون أذنا التلميذ مستعدَّة للسماع، تأتي شفاه من يملؤها بالحكمة.

قامت الهرمسية على 7 مبادئ أساسية هي:

-       أولاً: مبدأ العقلانية Mentalism: وهو أن الكون بأكمله هو تكوين عقليٌّ من اللّه عزَّ وجلَّ.

-       ثانيًا: مبدأ الترابط Correspondence: كما في الأعلى كذلك في الأسفل، وكما في الأسفل، كذلك في الأعلى.

-       ثالثًا: مبدأ الاهتزاز Vibration: لا شيء ساكن، كلُّ شيء يتحرَّك، كلُّ شيء يهتزُّ.

-       رابعًا:  مبدأ القطبية Polarity: كل شيء ثنائي. كل شيء له قطبان. كل شيء له وجهين متضادين. المشابه والمغاير هما الشيء نفسه. المتضادان لهما نفس الجوهر ولكن يختلفان بالنسب. المتضادان يلتقيان. الحقائق هي أنصاف حقائق ويمكن التوفيق بين جميع الأضداد.

-       خامسًا: مبدأ الإيقاع Rhythm: كل شيء له إيقاع معين، كل شيء يصعد ويهبط ويعمل بشكل موجي معين.

-       سادسًا: مبدأ السبب والنتيجة Cause and effect: كل سبب له نتيجة، وكل نتيجة لها سببها. كل شيء يحدث نتيجة قانون. الصدفة هي اسم فقط لقانون غير معروف بعد. هناك عدة مستويات للأسباب والنتائج، ولكن لا شيء يهرب من هذا القانون.

-       سابعًا: مبدأ النوع أو الجنس Gender: الجنس موجود في كل شيء. كل شيء له ذكريته وأنثويته، وهذا المبدأ يعبِّر في كل المستويات، ليس فقط على المستوى الفيزيائي، بل أيضًا على المستوى العقلي العاطفي.

المبدأ الأول: مبدأ العقلانية Mentality

يقول الكيباليون: "الكل هو عقل، والكون مركب عقلي". وبمعنى أوسع أن كل التظاهرات المادية، وما نسميه الحياة والمادة والطاقة، هو في الحقيقة روح لا نستطيع إدراكها ولا تعريفها، ولكن يمكن القول عنها بأنها عقل حيٌّ كوني لانهائي، ويقول هذا المبدأ أيضًا أن كل التظاهرات التي نراها ونسمعها وندركها ما هي إلا تكوين عقلي من الكلِّ، وأن الكون بأكمله وبأجزائه له وجود في عقل الكلِّ (الصورة 4).

الكل هو عقل، والكون مركب عقلي

الصورة 4

يقول الكيباليون أيضًا: "العقل (بما فيه العناصر والمعادن والأجزاء) يمكن لها أن تتحول من حالة إلى أخرى، من درجة إلى أخرى، من قطب إلى آخر، من اهتزاز إلى آخر". كما ذكرت سابقًا عن إساءة استعمال المبادئ والأديان المختلفة من خلال التركيز فقط على الناحية المادية الشعائرية، نرى هذا بوضوح في إساءة استعمال هذا المبدأ الهرمسي في القرون الوسطى من أجل تحويل المعادن إلى ذهب، بينما بالمقابل كان المبدأ الهرمسي عند المصريين يعني التصاعد والارتقاء بالحالات النفسية الغرائزية إلى حالات روحية أسمى من خلال علوم معينة يمكن تسميتها بفنون الخيمياء العقلية أو علم النفس السرَّاني العملي، إلى حدٍّ ما شبيه بتحويل الجوهر لطاقة والطاقة لروح في العلوم الصينية أو الارتقاء بطاقة الكونداليني في العلوم الهندية.

يقول الكيباليون: "خلف هذا التكوين الزماني المكاني والمتحول باستمرار تكمن الحقيقة الأساسية التي ندعوها الكل"، وأيضًا: "هذه الحقيقة الأساسية، والواقع الأساسي لا اسم لها، الحكماء يسمونها بالكلِّ". ولكن ما هو هذا الكلُّ؟ البعض أطلق على هذا الكلِّ اسم الله عز جلاله، البعض أطلق عليه الطاقة الأزلية غير المنتهية، البعض أطلق عليه الروح الأزلية... الخ. يرى الهرمسيون أن الكلَّ سيظل أبدًا غير معروف، لأن كل محاولة لإدراكها من خلال عقل محدود ستبوء بالفشل، ولسبب بسيط هو الوسيلة المستعملة ألا وهي العقل المادِّي المحدود. لقد حاولت الديانات الأولى بسذاجة إعطاء مظاهر عقلية وعاطفية وشخصية وغرائزية للكلِّ، من خلال صفات إنسانية كالغيرة والمديح والجمال وغيرها.

بما أن الكلَّ هو أساس كل التكوينات الأخرى، فلا بدَّ أن يكون هو كل ما هو موجود ولا وجود لغيره، بمعنى آخر لا يوجد شيء آخر غيره، وإلا لن يكون الكلَّ. لا بدَّ أن يكون الكلُّ غير محدود، لأنه لن يوجد شيء آخر يحدِّده، أو يضبطه أو يمنعه. لا بدَّ أن يكون أزليًا لأنه لن يكون شيء آخر قبله أو بعده، ولا يمكن أن يكون أتى من شيء آخر وإلا لن يكون الكلَّ، ولن يزول لأن الشيء لا يمكن أن يصبح لاشيء. لا بدَّ أن يكون غير محدود بالمكان، لأنه لا يوجد مكان خارجه. لابدَّ أن يكون أيضًا مستمرًا غير منقطع، لا يمكن تقسيمه، مطلق القوة، غير قابل للتحوُّل.

إذا كان الكلُّ غير محدود، مطلق، أزلي وغير متغير، عندها يمكن الاستنتاج أن أي شيء محدَّد، متغير لا يمكن أن يكون الكلَّ. ما هي طبيعة الكلِّ؟ هل هو مادة؟ لا يمكن أن يكون مادة، لأن المادة لا تستطيع وحدها تكوين الحياة والعقل والطاقة، وبما أن هناك تظاهرات للعقل والحياة والطاقة فلا يمكن للكلِّ إذًا أن يكون مادة. في الحقيقة، أثبتت العلوم الفيزيائية الحديثة أنه لا وجود مستقل للمادة، وإنما هي طاقة على درجات منخفضة من الاهتزاز.

هل الكلُّ طاقة أو قوة؟ بالطبع لا يمكن أن يكون طاقة حسب المفاهيم المادية، لأن الطاقة هنا طاقة عمياء ليس لها وعي وحياة، ولا يمكن لأي شيء أن يتصاعد فوق جوهره.

إذا لم يكن الكلُّ مادة أو طاقة، فما هو؟ هل هو حياة وعقل؟ الجواب نعم ولا. إذا كنا نعني بالحياة والعقل حياتنا المؤقتة وما نفكر به، فالجواب لا، ولكن إذا كنا نعني عقلاً حيًّا فوق مستوى الأحياء، عقلاً أزليًا لا محدودًا، أو ما يسميه البعض بالروح أو الجوهر، فالجواب قد يكون نعم.

إذا كان الكون الذي نعيش فيه موجودًا أو على الأقل يبدو موجودًا، فلا بدَّ أن يكون قد أتى من الكلِّ، لأنه لا شيء موجود خارج الكلِّ، ولكن بنفس الوقت الكون يتألف من ذرات وجزيئات عديدة ومتغيرة باستمرار ولا تتطابق مع مفهوم الكلِّ، فإذًا لا بدَّ أن تكون لاشيئًا، لأنها إذا كانت شيئًا، لا بدَّ أن تكون من الكلِّ. هل يمكن أن يكون الكلُّ خلقها من لاشيء. اللاشيء لا يمكن أن يعطي شيئًا. يقول البعض إن الكلَّ خلق الكون من جوهره ومن طبيعته، ولكن الكلَّ لا ينقسم ولا يتجزَّأ، ولا يمكن أن يخسر معرفته لنفسه ويصبح مجرد ذرة أو جزيء. الكلُّ لا يمكن أن يطرح جزءًا من نفسه ويكوِّن شيئًا آخرَ. الحلُّ الوحيد يبقى أن الكلَّ خلق عقليًا (يمكن تشبيهه بشكل بسيط ومتواضع بالطريقة التي يكوِّن الإنسان فيها صورًا عقلية أو بالصور الهولوغرافيَّة).

يقول الكيباليون: "يكوِّن الكلُّ من خلال عقله اللامحدود أكوانًا وأكوانًا، تستمر لملايين السنين، ومع هذا، فإن تكوين وتطوير وزوال وموت ملايين الأكوان هي للكلِّ طرفة عين".

الكلُّ واحد دائمًا، لكن في عقله اللامحدود، يتكون الكون. سأعطي مثالاً قد يقرِّب الفكرة. إذا رمينا حصاة في الماء ستكوِّن دائرة ودوائر إلى أن تختفي. إن الدائرة والدوائر هي حقيقة ووهم في نفس الوقت، فهي حقيقة لفترة معيَّنة فقط، ويجب خلالها أن ندرك ما يحدث وما يحصل نتيجتها، ولكنَّها لحظة بسيطة أمام عمر الماء نفسه، ألا تشبه حياتنا – مهما طالت – وهلة صغيرة في عمر الكون والأزليَّة؟

 صورة 7

صورة 6

صورة 5

       

صورة 9

صورة 8

 

 صورة 13

صورة 12

صورة 11

صورة 10

 

صورة 15

صورة 14

 

صورة 17

صورة 16

صورة 18

صورة 20

صورة 19

 

صورة 22

صورة 21

 

صورة 22

صورة 21

 

صورة 22

صورة 21

 

صورة 24

صورة 23

صورة 26

صورة 25

يبدو أن العالم بأكمله انبثق من المركز نحو المحيط وغالبًا على شكل دوائر كما تفعل الحصاة بالماء. الدوائر ولَّدت دوائر أخرى وأخرى وتوسَّع الكون (الصور أعلاه: 5، 6، 7). تكوَّن الشكل البيضوي السمكي vesica piscis، والدالُّ على التقاء وتناغم دائرتين مختلفتين من التكوُّن، والذي أصبح مثالاً هامًّا في الهندسة المعماريَّة، والذي يدلُّ أيضًا على التقاء المادَّة والروح وتشكيل النفس من التقائهما (الصور أعلاه: 8 و9). تكوَّنت بعدها بذرة الحياة (الصور أعلاه: 10 و11)، بيضة الحياة (الصورة 12)، زهرة الحياة (الصورة 13)، شجرة الحياة (الصور: 14، 15، 16، 17)، والتي منها جاءت فكرة الكابالا (الصورة 18). كلَّما تكَّثفت هذه الطاقة أكثر وانخفض اهتزازها وانفتحت بيضة الحياة، بدأت تتكوَّن الأشكال الهندسيَّة الأخرى وأوَّلها الأشكال الأفلاطونية (الصور: 19، 20، 21، 22) (وهي أشكال تتميَّز كلُّها بأنَّها متساوية السطوح، متساوية الزوايا، متساوية الأضلاع، وإذا وضعت في كرة، فإنَّ كل زواياها ستلمس الكرة) (الصورة 23) من أجل بناء الكون ووضع الدعامات الأساسيَّة له. حتَّى الأصوات والألوان وكل شيء آخر تكوَّن بالطريقة نفسها (الصورة 24).

تأتي الدو من السلم الموسيقي السابق بشحنة إيجابية، ولكن من أجل تكوين الهرم المقلوب الأنثوي، تغيِّر شحنتها إلى سلبيَّة، وتنتقل بالمستوى نفسه لتشكِّل الري والمي، ثم تقلب اتجاهها بالفراغ نحو الفا (والتي يشكِّل مسقطها تقريبًا منتصف المسافة على السطح المكوَّن من الدو والري والمي، ولذلك كان الفاصل الموسيقي بين المي والفا نصف درجة) (الصورة 25)، تنتقل بعدها في الفراغ وتنقلب شحنتها إلى إيجابيَّة لتشكِّل الصول (وهذا ما تكلَّم عنه Gurudjieff بإسهاب)، ثم يتشكَّل بالطريقة نفسها الهرم الذكري. إذا أخذنا دائما نفس المسافة وهي النصف درجة، نحصل على الأزرار البيضاء والسوداء ويصبح العدد 12. ينطبق الكلام نفسه على الشاكرات، فهي سبعة أساسيَّة حسب المفهوم الهندي، ولكن إن أخذنا الثانوية أيضًا نحصل على 12 شاكرا حسب المفهوم المصري الفرعوني، وعندها تكون المسافات متشابهة بين الواحدة والأخرى حوالي 7.25 سم في جسم الإنسان. يتكوَّن الحقل الطاقي المعروف بالحقل الحلقي بعد ذلك Toroidal field (الصورة 26).

المبدأ الثاني: مبدأ الترابط Correspondance

تعتبر الهرمسية أن هناك ثلاثة مستويات أساسية من الوجود: المستوى المادي، المستوى العقلي والمستوى الروحي. هذه المستويات غير منفصلة، بل هي تدرجات لانهائية، التدرج السابق يتصل بالتدرج اللاحق، إذ إن كل مستوى يتدرج إلى سبعة تدرجات متتالية وكل تدرج فيه تدرجات ثانوية سبعة وهذه بدورها تتدرج إلى سبع تدرجات ثالثية... إلخ، فالتدرجات متصلة ببعضها، بشكل مشابه للألوان والنوطات الموسيقية. قبل أن أذكر ما هي هذه المستويات، لا بد أن نسأل نفسنا ماذا يعني المستوى أو التدرج؟ هل هو مكان له أبعاد أو هو حالة ذهنية فكرية معينة. الحقيقة الجواب عن هذا ليس سهلاً، فهو طبعًا أكثر من مجرد حالة ذهنية ولكنه ينبثق عن الفكر، لأن كل شيء هو فكري حسب المبدأ الأول للهرمسية، وكذلك لا يقوم فقط على الأبعاد الثلاثة المعروفة، بل يعتمد على بعد آخر هو البعد الاهتزازي، بمعنى، أنه حسب المبدأ الثالث وهو مبدأ الاهتزاز وأن كل شيء يهتز، فهذه التدرجات والمستويات يعتمد وجودها على درجة الاهتزاز، فكلما ازداد تواتر الاهتزاز وقل طول الموجة، ارتفعنا بالتدرج والمستوى؛ وعليه يمكن تقسيم المستويات الثلاثة إلى التدرجات السبعة الرئيسية:

أولاً: المستوى الفيزيائي:

·         العالم المادي الأول.

·         العالم المادي الثاني.

·         العالم المادي الثالث.

·         العالم الأثيري.

·         العالم الطاقي الأول.

·         العالم الطاقي الثاني.

·         العالم الطاقي الثالث.

ليست الألوان إلا جزءًا من هذه التدرجات وكذلك الأصوات والروائح والكهرباء والمغناطيس والجاذبية وغيرها، وربما الأرقام إلى حدٍّ ما. يكمن الاختلاف في أن العضو أو الشيء القادر على تحسسها يعمل على مجال معين من هذه الاهتزازات.

ثانيًا: المستوى الفكري:

·         العالم الفكري المعدني.

·         العالم الفكري العنصري الأول.

·         العالم الفكري النباتي.

·         العالم الفكري العنصري الثاني.

·         العالم الفكري الحيواني.

·         العالم الفكري العنصري الثالث.

·         العالم الفكري الإنساني.

ثالثًا: المستوى الروحي:

من الصعب كثيرًا وضع اسم لتدرجاته، بل من الأحرى يكون هناك إنقاص كثير بوضع اسم محدد لتدرجاته، وخاصة أن التدرجات تنقسم إلى تدرجات ثانوية وثالثية ولا نعرف تمامًا أين ينتهي الواحد ويبدأ الثاني، ولكن يمكن القول تقريبًا إن هذه التدرجات تحتوي على مستويات الملائكة المختلفة. من الضروري التنويه أن هذه العوالم والمستويات ليست مفصولة بحدود قاسية صلبة، بل هي مجالات متصلة ببعضها، وعليه فالعالم الفكري المعدني متواصل مثلاً مع العالم المادي الطاقي الثالث. باختصار يمكن القول إن المستويات الثلاثة ما هي إلا ثلاث مجموعات كبرى من درجات تظاهرات الحياة، وكلما كانت سرعة الاهتزاز أعلى، كلما انتقلنا إلى مستوى أعلى. وعليه، لا تعتبر الفلسفة الهرمسية المادة كشيء منفصل بحد ذاته، كذلك لا تعتبرها كشيء منفصل عن العقل الكامن في الكلِّ، وإنما ببساطة تعتبرها طاقة باهتزازات منخفضة.

يتألف العالم المادي الأول من أشكال المادة الصلبة والسائلة والغازية. العالم المادي الثاني والثالث يصعب وصفهما تمامًا من قبل علوم الفيزياء المعروفة، وهي درجات أعلى من المادة بشكلها الإشعاعي. العالم الأثيري هو فرضية وجود الأثير، مادة شديدة الليونة والرقة والانسياب في كامل الفراغ الكوني والتي تلعب دور الوسيط في انتقال كل الاهتزازات الضوئية والحرورية والكهربائية والمغناطيسية... الخ، وهي صلة الوصل بين المادة والطاقة (في الحقيقة، تقول المبادئ الهرمسية إن هذا المستوى ككل المستويات له أيضًا 7 تدرجات مختلفة أثيرية).

يحتوي العالم الطاقي الأول على الأشكال المختلفة من الطاقة المعروفة على سبع مستويات أيضًا وهي بالترتيب: الحرارة، الضوء، المغناطيسية، الكهرباء، الانجذاب بكل أنواعه (الجاذبية، الالتصاق، الانجذاب الكيماوي... الخ) ومستويين آخرين غير معروفين علميًا بعد. يحتوي العالم الطاقي الثاني على سبع مستويات أيضًا مما يسمى القوى الطبيعية الناعمة، والتي في طور الاكتشاف. يقترب العالم الطاقي الثالث من المستوى الفكري الأدنى، وبالتالي يحتوي على سبع تدرجات ثانوية أقرب ما تكون لصفات الحياة نفسها.

يشكل العالم الفكري المعدني الحالات والتظاهرات الفكرية التي تشمل ما نعرفه بالمعادن والذرات الكيماوية، وهي طبعًا مختلفة عن الذرات والجزيئات والمعادن بحد ذاتها مثلما جسد الإنسان مختلف عن نفسه من مشاعر وأفكار وشخصية. يمكن تسميتها بالنفوس وهي أعلى قليلاً من الطاقة الحية في المستويات الفيزيائية العليا.

العالم الفكري العنصري الأول والثاني والثالث هي مستويات غير معروفة تمامًا للشخص العادي وبمجرد الحواس العادية وإنَّما فقط للمتنورين، وكل واحد من هذه العوالم يقسم إلى 7 تدرجات ثانوية. العالم الفكري العنصري الأول يأتي بين المعدني والنباتي، الثاني بين النباتي والحيواني، والثالث بين الحيواني والإنساني. ينقسم العالم الفكري الإنساني أيضًا إلى 7 تدرجات ثانوية. لقد مرَّ الفكر الإنساني خلال تطوره خلال ملايين السنين ليصل إلى التدرج الثانوي الرابع حيث يقبع معظم العرق البشري حاليًا، وقد تمكن بعض الأذكياء جدًا من الوصول للتدرج الخامس، وربما فقط عدد قليل جدًا من الوصول للتدرج السادس والسابع.

يحتوي المستوى الروحي كما أسلفت على التدرجات الروحية المختلفة التي تضم كائنات روحية بدرجات ملائكية مختلفة. إن إساءة استعمال هذه الطاقات المتاحة لهذه الكائنات والدخول بمرحلة الغرور هو وراء الأساطير والحقائق المختلفة عن الشيطان ولوسيفر والملائكة الهابطين... الخ.

المبدأ الثالث: مبدأ الاهتزاز Vibration

يقول الكيباليون: "لا شيء ساكن، كل شيء يتحرك، كل شيء يهتز". يقولون أيضا بأن التظاهرات المختلفة التي نراها في الكون ما هي إلا نتيجة اختلافات سرعات وأسلوب الاهتزازات، ليس هذا فقط، بل حتى الكلُّ يتظاهر من خلال سرعة اهتزاز عالية جدًا لدرجة نشعرها أنها سكون.

علينا ألا ننسى أن حالة السكون الظاهرية تنجم من أمرين: إما سرعة اهتزاز بطيئة جدا وأمواج طويلة الأمد، أو سرعة اهتزاز عالية جدًا وأمواج شديدة القصر. ويمكن القول بالتالي أن الروح هي في طرف معين من المجال الموجي، بينما المادة في طرف آخر.

يقول العلم طبعًا بأن الضوء والحرارة والمغناطيس والكهرباء هي أمواج واهتزازات، قد تكون مرتبطة أو ربما منبثقة مما يسمى بالأثير، لكن العلم لا يعرف بعد تمامًا طبيعة ظواهر الالتصاق (أو الانجذاب الجزيئي)، الانجذاب الكيماوي أو الذري، أو الجاذبية (وهي السرُّ الأعظم بين كل هذه القوى)، على عكس الهرمسيين الذين يعتبروها أيضًا إحدى أشكال الطاقات الاهتزازية. أما بالنسبة للأثير، فيقول الهرمسيون بأنه طبيعة معينة بحد ذاتها وليست مادة، وهذه الطبيعة موجودة في كل مكان وعلى اهتزاز أعلى طبعًا من المادة، وهو صلة الوصل بين المادة وبين الطاقة والقوى الأخرى.

لنعطي أحد الأمثلة (الصورة أعلاه): "دولاب مثلاً أو اسطوانة نحركها بسرعة معينة، نستطيع رؤية هذه الاسطوانة لكن لا نسمع لها صوتًا، ثم تدريجيا مع زيادة سرعة الدوران، نبدأ بسماع صوت حشرجة معينة هي الأخفض بالسلم الموسيقي، وبازدياد السرعة أكثر وأكثر، يرتفع الصوت أكثر وأكثر في السلم الموسيقي إلى أن يصل إلى صوت أنين ثم يختفي الصوت لأنه صار أسرع من مجال سماع الأذن، وبعدها تبدأ الحرارة بالارتفاع، ثم يبدأ ظهور لون أسود قاتم محمر قليلاً (وهنا نكون قد تجاوزنا الأشعة تحت الحمراء)، ثم يصبح اللون أكثر احمرارًا ثم برتقاليًا، وأصفر وأخضر إلى اللون البنفسجي، ومن ثم تختفي الألوان. لا نعود نرى الشيء ولكن هذا لا يعني أنه غير موجود. بازدياد السرعة تنطلق الأشعة فوق البنفسجية والسينية وغيرها ثم الأمواج المغناطيسية والكهربائية، وبالوصول إلى سرعات أعلى، تبدأ الجزيئات بالانحلال إلى ذرات التي تنحل بعدها إلى بروتونات والكترونات وغيرها، وهذه تختفي بعدها لتدخل في الطبيعة الأثيرية، وهنا يقول الأثيريون أنه بازدياد السرعة تدخل في المستويات العقلية المختلفة ومن ثم الروحية لتذوب بعدها في الكلِّ. إن إطلاق الأصوات والألوان والدرجات الحرارية المختلفة لا يعني تحول هذه الاسطوانة إلى هذه الأصوات والألوان والحرارة، بل يعني فقط أن وصولها لهذه الدرجات من الاهتزاز سمح بإطلاق هذه الطاقات المحتبسة ضمن الأشكال المادية. (الصورة أدناه).

تذهب المبادئ الهرمسية أكثر من هذا لتقول إن الأفكار والمشاعر والمنطق والرغبات وغيرها من الحالات الذهنية مصحوبة باهتزازات معينة، والتي قد يرسل قسم منها نحو أشخاص آخرين مسببًا ظاهرة الـ telepathy، والتأثيرات العقلية لشخص على آخر، وتحريك الأشياء بواسطة العقل والتأثير على الحيوانات والنباتات فكريًا، ولذلك تقول الهرمسية: "من يفهم مبادئ الاهتزاز، يمسك بيديه صولجان القوة".

المبدأ الرابع: مبدأ القطبية Polarity

يقول الكيباليون: "كل شيء ثنائي، وكل شيء له قطبان، ما تحبُّ وما لا تحبُّ هما الشيء نفسه، المتضادان متشابهان بالطبيعة ولكن مختلفان بالدرجة، الأطراف تلتقي. كل الحقائق هي أنصاف حقائق، وكل المتغايرات يمكن جمعها".

ماذا يعني هذا الكلام؟ ما المقصود أن ما نراه متضادًا ومتعاكسًا ما هو في الحقيقة إلا درجات مختلفة في مجال معيَّن. لنأخذ الجمال مثلاً. هل يوجد فعلاً تعريف واضح ومفهوم واحد لما هو جميل وما هو قبيح. أليست أمور نسبية وتختلف حسب المقارنات والأشخاص، فما قد نراه جميلاً بالنسبة لغيره، سنجد لاحقًا ما هو أجمل منه، وبالمقابل بالنسبة لإنسان آخر قد يرى ما رأيناه قبيحًا جميلاً، فهي إذًا درجات على طيف معين. هذا الشيء ينطبق على ما هو حارٌّ وبارد، على ما هو جيد وسيء، على ما هو نيِّر ومعتم، على ما هو قريب وبعيد... الخ، وعلى كل شيء في هذا الكون عمليًا. وكما نستطيع وضع مكعب الثلج في الماء الغالي ونحصل على ماء أقل سخونة، فالأضداد يمكن تلاقيها على كل المستويات.

إذا سافرنا وسافرنا باتجاه الشمال نحو القطب وتابعنا المسير، سنجد أنه في وقت ما صرنا نتجه جنوبًا وليس شمالاً. إذا تابعنا المسير نحو الغرب سنعود إلى نفس النقطة. هل يوجد تمامًا حدٌّ فاصل بين الحبِّ والكره، أم هي تدرُّجات في طيف واحد؟ إذا هي كلُّها حالات ذهنية متغيِّرة، وهذا ما يستفيد منه الهرمسيون وممارسو التأمل والصلاة من أجل تحويل حالة ذهنية إلى حالة أخرى ضمن نفس الطائفة أو الصنف، فكما يمكن تحويل الحرارة مثلاً إلى برودة، يمكن تحويل الكره إلى حبٍّ، أو الخوف إلى شجاعة، ولكن لا يمكن مثلاً تحويل الخوف إلى حبٍّ أو الشجاعة إلى كراهية لأنها لا تنتمي إلى الصنف نفسه.

يقول الكيباليون: "للقضاء على اهتزاز عقلي غير مرغوب به (كالكراهية والغضب والخوف)، ضع نظرية القطبية أمامك، وأمعن التركيز في الجانب المضاد لما ترغب التخلص منه (كالمحبَّة والهدوء والشجاعة مثلاً). اقضي على ما تكرهه من خلال تغيير قطبيته"؛ وأيضًا: "لتغيير مزاجك وحالتك الذهنية، غيِّر اهتزازك"؛ وأيضًا: "العقل كالمعادن والعناصر يمكن تغييره من حالة إلى أخرى، من درجة إلى أخرى، من قطب إلى آخر، من اهتزاز إلى آخر".

التناقض الظاهري: يظنُّ بعض التلاميذ أنَّه بما أن الكون مجرَّد فكرة أو مخلوق فكري للكلِّ، فهو حلم ووهم (الصورة أعلاه). يجب الانتباه هاهنا أنه رغم تركيز الكيباليون والهرمسيَّة على النظر إلى أعماق الأمور وما وراء المرئيات، إلا أنه تعتبر في الوقت نفسه أن الأشخاص الذين ينظرون إلى العالم على أنه فقط حلم وغير حقيقي وزائل، وبالتالي يحاولون العيش فقط بالروح، أنهم سذَّج، ولا يرون إلا نصف الحقيقة، ويقعون في مطبَّات الحياة الأرضيَّة. تقول الهرمسيَّة: "دع عقلك ينظر إلى النجوم، ولكن لتراقب عيناك موطئ قدميك". رغم أن الكون فكرة أو خيال، لكنه في نفس الوقت أنت تعيش فيه، فهو موجود. هناك ثنائيَّة مثل كلِّ شيء: مطلق ونسبي. يحذِّر المعلِّمون دائمًا من إهمال جانب دون الآخر، المطلق أو النسبي، ومن المضيِّ بالعالم كالمنوَّمين مغناطيسيًا تحت تأثير عدم واقعيَّة الكون، مهملين الجانب الأرضي من العمل والحياة الاجتماعية والأعباء الأرضيَّة.

يظهر لنا الجانب المطلق أن العالم تكوَّن واستمرَّ وله نهاية، وبالتالي فهو مختلف عن طبيعة الكلِّ الذي ليس له بداية أو نهاية، وبالتالي فالكون حلم ووهم، وغير مستمرٍّ ومتغيِّر، لكن الجانب النسبيَّ يظهر لنا في الوقت نفسه أنَّه طالما نحن نعيش بهذا العالم، وطالما العقل المحدود فينا هو جزء من هذا العالم، فهو حقيقي بنفس الوقت. نحن في النهاية نملك قدرات للارتفاع بعقلنا والاقتراب من المركز، ولكن لن نستطيع إدراك المطلق، ما لم نعش في المطلق نفسه. إذًا فالبشرية تعيش في هذا المجال بين النسبي والمطلق، بين هذين القطبين ككلِّ شيء في الكون، نعيش في مجال معيَّن من درجات الحرارة ومن الضوء، ومن الجمال... الخ، وكذلك من النسبية. يجب أن نشعر دائمًا بالأمان، فنحن دائمًا في العقل اللانهائي للكلِّ، ولكن علينا أن نعيش تحت تأثير قوانين ومبادئ معيَّنة ستظلُّ موجودة طالما الكون موجود، وفقط الكلُّ يستطيع عدم الخضوع لهذه القوانين والمبادئ، ولكن الإنسان الذي يستطيع الارتفاع بمستواه الفكري والروحي ويعيش على ذبذبات أعلى، يستطيع من خلال الخضوع للمبادئ على المستويات العليا واستعمال المبادئ العليا مقابل المنخفضة، تخفيف تأثيرها على المستويات الدنيا وتقليل أذاها، كما سبق وذكرت.

يقول العالم الفيزيائي هربرت سبنسر بأن هناك طاقة أزليَّة لا نهاية لها، انبثق منها كلُّ شيء. في الحقيقة إن المبدأ الأول العقلانيَّة هو المبدأ الوحيد المختلف بين علوم الفيزياء الحديثة والهرمسيَّة، ولكن إن نظرنا بهذه الطريقة، سنجد أن كلَّ المبادئ الستَّة الأخرى ستكون بدون مشكلة بتاتًا مع علوم الفيزياء الحديثة.

المبدأ الخامس: مبدأ الإيقاع Rhythm

يقول الكيباليون: "كل شيء يذهب ويأتي، لكل شيء مدٌّ وجزر، كل الأشياء تصعد وتهبط. يتظاهر اهتزاز البندول في كل شيء. إن مدى الاهتزاز للأيمن يعادل مدى الاهتزاز للأيسر".

يتحرك كل شيء بين القطبين المذكورين أعلاه، وهذا لا يعني بالضرورة أن الأشياء تصل للقطب الأول ومن ثم للقطب الثاني، بل غالبًا ما تكون الحركة بينهما باتجاه الأول ثم باتجاه الثاني دون أن تصل بالضرورة لأقصى الأيمن أو الأيسر. تسمِّي الفيدا هذا المبدأ بشهيق وزفير البراهما، فالأكوان تُخلق وتتكون وتصل إلى قمة شكلها المادي، ثم تعود لتنكمش وتزول. تتكون النجوم وتصل إلى قمة إشعاعها، ثم تبدأ بالانكماش وتتحول إلى ثقوب سوداء. ينطبق هذا المبدأ على كل شيء في الكون، صعود الدول وزوالها حسب ابن خلدون، النهار والليل، الفصول، الطفولة والنضوج والشيخوخة، وحتى أننا نرى الإيقاع في الحالات النفسية للإنسان. هذا المبدأ ككل المبادئ لا يمكن الهروب منه، فكما نصعد سنهبط وكما نقوى سنضعف، ومثل ما يقول المثل: "ما وصلت شجرة عند ربِّها".

يندرج تحت مبدأ الإيقاع ما يسمى بمبدأ التعويض أو التوازن المضاد Counterbalance or Compensation، بمعنى أن ما يهتز للأيمن سيهتز للأيسر، والمدُّ سيأتي بعده الجزر، ومن يعتدي على غيره سيأتي من يعتدي عليه، ومن يعطي من محبَّته سيأتي من يعطيه من محبَّته، ومن ينغمس بالملذَّات، سيشعر بالألم سابقًا أو لاحقًا.

مثل كل المبادئ، استطاع الهرمسيون والمتنورون التغلب على هذه الصعوبة من خلال إدراكها ومعرفتها وتقليل التأثر بها من خلال الوصول إلى حالات عقلية وذهنية أعلى منها، وبالتالي سيظل المبدأ موجودًا، لكن تأثيراته علينا ستكون أقل. يسمى هذا المبدأ بالتعديل أو التحييد Neutralization، بمعنى الارتفاع بالأنا فوق ذبذبات مستوى العقل الباطن، وبالتالي لا تتظاهر حركة البندول السلبية في مستوى العقل الظاهر، ولا يحدث التأثر بها. يقول الكيباليون: "يمكن تحييد أو تعديل الإيقاع من خلال تطبيق فنِّ القطبية". لنتذكر هاهنا أننا لا نلغي مبدأ الإيقاع، لأن المبادئ لا يمكن تحطيمها. نحن فقط نتغلب عليه في مستوى معيَّن من خلال موازنته بمبدأ آخر، وبالتالي الحفاظ على توازن معيَّن".

المبدأ السادس: مبدأ السببية causation

يقول الكيباليون: "لكل سبب نتيجة ولكل نتيجة سبب؛ كل شيء يحصل نتيجة قانون معيَّن، والصدفة هي فقط اسم يطلق على قانون غير مفهوم بعد. هناك مستويات عديدة للسببية، ولكن لا يوجد شيء يخرج خارج هذه القانون".

إن أحد الأمثلة الصارخة على موضوع الصدفة هو حجر النرد. نحن نرمي الحجر وهناك احتمال 1 إلى ستَّة، ونسمِّي النتيجة صدفة أو حظًّا، ولكن لنتأمل مليًّا. أليست النتيجة لها علاقة بالطريق التي أمسكنا بها الحجر، الطريقة التي رميناها، القوة المبذولة، الزاوية التي رميناه بها، سطح الطاولة... الخ، وبالتالي هو نتيجة قوانين عديدة لم يقدر عقلنا على تحديدها بشكل كامل. ينطبق هذا الكلام على حركة وتطور الأجرام السماوية والنيازك والشهب والغيوم... الخ. إذا قمنا برمي حجر النرد عددًا كبيرًا جدًا من المرَّات، سنجد عندها أن احتمالات ظهور رقم معيَّن يقترب جدًا من عدد مرَّات ظهور الأرقام الأخرى. ينطبق نفس المبدأ على رمي قطعة النقود بالهواء. سنجد مع الوقت أن نسبة ظهور الطرَّة أو النقش يتعادلان، وهذا ينطبق على كلِّ شيء في حال أعطي الفترة الزمنية الكاملة والتي قد لا تغطيها حياة إنسانية واحدة أو حقبة زمنية أو غيرها، وهذا ما يسمّى قانون التعادل The Law of average.

يوجد دائمًا سبب لكلِّ ما نراه ولكلِّ سبب نتيجة. نظر الكثيرون إلى هذا الموضوع بعين الشكِّ، فكيف يمكن لفكرة فارغة تأتي وتروح أو لحدث معيَّن يمرُّ فقط في مرحلة زمنية معيَّنة أن يكون السبب لحدث آخر (وقد قلنا سابقًا أن كل هذه التكوينات هي مجرَّد حلم أو تكوين فكري في عقل الكلِّ). يمكن تفسير هذا بأن نقول أن الحدث بحدِّ ذاته أو الفكرة ليستا هما المسؤولان عن توليد غيرهما، بل هما مجرَّد رابطة في سلسلة منتظمة من الأحداث تسير في الطاقة والعقل الخلَّاقين للكلِّ. إذا أخذنا صفة وراثية معيَّنة مثل نمش جلدي معين في الوجه، وعدنا بالأجيال لنرى مصدره، ووصلنا للجدِّ الأربعين مثلاً، سيكون عدد الأجداد عندها لشخص واحد هو 1.099.511.627.776 جدًّا وجدَّة، وأحد هؤلاء أعطاه هذه الصفة الوراثية. هل معنى هذا أن ظهور النمش في وجه ذلك الشخص ، مع أن أهله وأجداده المباشرين ليس عندهما إياه. أن يعود هذا النمش ويظهر عند هذا الشخص بالذات، يدلُّ على أنه لا يوجد شيء مهمٌّ وشيء غير مهمٌّ في عقل الكلِّ. لنتأمل أيضًا هذه الفكرة: لو أن أحد رجال العصر الحجري لم يلتقي بامرأة معينة من العصر الحجري، لما كنتُ أنا أو أنت موجودين.

نعود دائمًا وأبدًا طبعًا إلى فكرة: "هل كلُّ شيء مكتوب وقدريٌّ، أم أن هناك إرادة حرَّة؟". حسب التعاليم الهرمسية وقانون القطبية، نرى أنه في الحقيقة القدر والإرادة هما قطبان وأنصاف حقائق وليست حقائق كاملة. حسب هذه التعاليم، قد يكون الإنسان حرَّ الإرادة ومقيَّدًا في الوقت نفسه، حسب المصطلحات ومعانيها، ودرجة الحقيقة التي يُنظر منها. بشكل عام، كلَّما ابتعد المخلوق عن المركز نحو العالم المادِّي، كلَّما خضع للجاذبية أكثر وكان مقيَّدًا أكثر، بينما كلَّما اقترب من المركز بعيدًا عن الانغماس الماديِّ، كلما كان أكثر حريَّة.

بتعبير آخر، كلَّما كان الإنسان يعيش بالمحيط، سيعيش بالتنوُّعات والظواهر المختلفة، وسيرى الحقيقة فقط بالممتلكات والمظاهر والملابس والسيارة والمنزل والمظهر الاجتماعي، ومن ثمَّ من خلال أفكار ومشاعر معيَّنة ومعتقدات، بينما كلَّما اقترب نحو المركز، اقترب من الوحدة وصار يرى سطحية الأمور كمراقب. للأسف، فإن أغلب الناس ضحايا وعبيد للوراثة، للمحيط الذي يعيشون فيه، للأفكار التي تشرَّبوها في صغرهم ومعتقداتهم، وللحياة الماديَّة بملذَّاتها وأعبائها، للأفكار التي يسمعوها وللتبدُّلات في المشاعر والأهواء، وبالتالي يظهرون كمًّا قليلاً جدًّا من الإرادة الحرَّة، مع أن البعض يظنُّ أنه يفعل ما يشاء ويقول ما يشاء، وبالتالي هو حرٌّ، ولكن هل سأل نفسه ما هو مصدر رغبته بأن يفعل هذا الشيء أو يقول هذا الشيء؟ هي فعلاَ إرادة حرَّة أو نتيجة برمجة معيَّنة تلقَّاها؟

على العكس من ذلك يكون وضع المعلِّمين الكبار الذين يعرفون ويدركون أبعاد الأمور بوضوح، فهم على معرفة تامَّة بمبدأ وقانون السببية ويعرفون أنهم لا يستطيعون الإفلات منه على المستويات الروحيَّة العليا، لكنَّهم يتصاعدون فوق المستوى الفيزيائي ويلمسون مصادر القوَّة الروحية والعقليَّة من أجل السيطرة على النتائج والظروف على المستوى المادِّي الفيزيائي.

يقول الكيباليون: "لا شيء يهرب من مبدأ السبب والنتيجة، ولكن هناك عدة مستويات للسببيَّة، والإنسان يستطيع استعمال المبادئ الأعلى من أجل تجاوز المبادئ الأخفض". بمعنى آخر، بالارتفاع فوق مستوى السبب والنتيجة على المستوى المادي، وبالتحكُّم بمشاعرهم ومزاجهم، يستطيعون أن يصبحوا أسبابًا بدلاً من أن يكونوا مسبِّبًا لهم. يسعى الهرمسيون دائمًا إلى إيجاد مستويات ذهنية أعلى، وأن يصبحوا لاعبين بدلاً من يكونوا فرائسًا، وأن يستعملوا مبدأ السبب والنتيجة بدل أن يكونوا مستعملين من قبله. يقول الكيباليون: "يقوم الحكماء بالخدمة على المستويات العليا، والحكم على المستويات الدنيا".

المبدأ السابع: مبدأ الجنس Gender

يقول الكيباليون: الجنس موجود في كل شيء. لكلِّ شيء طبيعة ذكرية وأنثوية. يتظاهر الجنس على كل المستويات. إن كلمة Gender تأتي من المصدر اللاتيني كوَّن أو أنشأ، وبالتالي فهي ذات معنى أوسع بكثير من كلمة جنس بالمعنى الفيزيائي sex، فالجنس الفيزيائي هو تظاهر مفهوم الجنس على المستوى الأرضي ومستوى الحياة العضوية، فيصبح عندنا رجل وامرأة أو ذكر حيواني وأنثى حيوانية. المعنى الأشمل لا يقتصر فقط على المستوى العضوي، بل يذهب أكثر من ذلك إلى مستوى الجزيئات والذرات والإيونات والكهرباء والمغناطيس والطاقات النفسية، وغالبًا ما تعتبر الهرمسية إلى اعتبار كل ما هو إيجابي ذكري، وكل ما هو سلبي أنثوي، كما ذكرت سابقًا في المبادئ الصينية أيضًا. أسيء طبعًا فهم هذه المبادئ مع الوقت، وصار الإيجابي مرتبطًا بالقوة والجودة، بينما السلبي مرتبطًا بالضعف والجبن والمرض والسوء. بالحقيقة القطب السلبي للبطارية هو المسؤول عن توليد الشحنات، لذلك استبدل لفظ القطب السلبي بالكاتود (المصدر من فعل يوناني بمعنى النزول)، كذلك الالكترونات سلبية الشحنة هي المصدر الرئيسي لكثير من الطاقات المستعملة، وهي تبحث عن الجزيئات السلبية لتلتحم بها وتشكل أنماطًا جديدة من المادَّة من كلِّ ظواهر الضوء والحرارة و الكهرباء والمغناطيسية والانجذاب والنبوذ والتفاعلات الكيماوية... الخ.

نجد غالبًا أن الشحنات السلبية هي التي تلعب الدور الأكبر، بينما تكون مهمَّة الشحنات الإيجابية توجيه طاقة معينة نحو المبدأ الأنثوي. مبدأ الجنس يلعب على كل المستويات وليس فقط المستوى العضوي، حتى في التجاذب والتنابذ أو الحب والكره الحاصلين بين الذرات.

عبَّر الصينيون عن نفس المبادئ بطريقة مشابهة، بأنه يوجد هناك مصدر أو طاقة إلهية بدئية والتي هي مصدر كل شيء مرئي وغير مرئي في هذا الكون. عبر عنها الصينيون من خلال الـ TAO، فهم يقولون عنه وبالذات لاوتسو بأنه المبدأ الذي لا بداية له ولا نهاية له ولا يمكن تعريفه. عندما تبدأ هذه الطاقة الخلَّاقة بأخذ طابع ما، يظهر قطبان تعبيريان واللذان يعطيان كل الثنائيات الموجودة في العالم. يطلق على هذين القطبين أو الثنائية أسماء مختلفة فقد نسميهما: 1) الروح أو الأب. 2) المادة Matter أو الأم Mother. من اجتماعهما ينشأ الابن أو النفس (الصورة 5). من الواحد نشأ الاثنان ومن الاثنين نشأ الثلاثة، والثلاثة معًا تمثل الواحد. إن جوهر الأب أو الروح أو اليانغ يتظاهر بالإيجابية والذكورة والسيطرة والحركة النابذة والمنطق ويعبر عن رغبة التكوين وبالتالي النمو؛ بينما يتظاهر جوهر الأم أو المادة أو الين بالسلبية والأنوثة والاستقبال والحركة الجاذبة والإرهاف في الإحساس والرعاية، وتعبر عن حكمة التركيز وجلب الأضداد معًا من أجل رعاية بذور الخالق من أجل ولادة جديدة واستمرار الحياة. يحصل اتحادهما من خلال قوة الانجذاب أو المحبة وينجم الابن أو النفس، والمحبة توحِّد وتؤدي إلى زوال العزلة. إن طاقة الإرادة طاقة كهربائية إيجابية أو سلبية، أما المحبة فهي طاقة مغناطيسية تجذب الأب نحو الأم، أو الذكورة نحو الأنوثة، أو اليانغ نحو الين وبالعكس؛ ومن اجتماع المحبة مع الإرادة تتولد طاقة كهرطيسية. كما نرى من خلال الصورة، أن تزايد أحدهما يؤدي إلى بدء ظهور الآخر، وتظهر الدوائر الصغيرة إمكانية تحول الواحد للآخر.

عبَّرت الكابالا عن هذا بطريقة مشابهة من خلال العمود الأيمن والأيسر والأوسط (الصورة أعلاه). نفس الشيء نراه في الهندوسية واليوغا من خلال أقنية الـ Ida، Pingala وقناة الـ Sushumna الوسطى.

المبدأ المادي يأخذ فقط من اليانغ ومن الفرع الأول من الكابالا، المبدأ الروحي الصرف الذي ينكر كل شيء مادي يأخذ فقط من الين ومن الفرع الثاني من الكابالا. الاتزان هو النظر نحو الجانبين وهو الفلسفة الحقيقية. إذا يمكن القول إن الفلسفة هي الفرع الأوسط في الكابالا وهي التاو في الحضارة الصينية، هي الطريق المتزن الأوسط في البوذية، الذي يجمع بين المبادئ المادية الأرضية وبين المبادئ الروحية.

جاء أحد الأشخاص المتدينين بشدة والذي يذكر اسم الله في كل شيء نحو غوتاما بوذا وسأله: "هل الله موجود؟" فأجابه بوذا: "لا". فصار الناس يحتفلون لأنهم ألغوا كثيرًا من قيودهم وشعروا بالحرية، ثم جاء شخص ماديٌّ لا يؤمن إلا بما يراه ويسمعه وسأل الغوتاما: "هل الله موجود؟"، فأجابه بوذا: "نعم هو موجود"، فارتبك الناس من جديد، وسألوه ما هذا التناقض؟ فأجابهم بكل بساطة: "إن الإنسان العظيم هو من يسعى دائمًا للفهم والإدراك وتطوير نفسه بكل تواضع، أما من يدعي أنه يعرف على وجه اليقين أن الله موجود أو غير موجود هو إنسان متكبر لن يحاول أن يسعى أكثر ويفهم أكثر ويدرك أكثر. تكمن العظمة في الطريق وليس في الوصول".

الجنس العقلي mental Gender

لقد تحدثت الهرمسية عن فكرة ثنائية العقل آلاف السنين قبل نظريات علم النفس الحديث، والمشكلة في نظريات علم النفس الحديث أنها تناقض بعضها باستمرار وتعطي أهمية لمركَّب نفسي معيَّن أكثر من الآخر. بينما نجد أن هذا المبدأ يتوافق مع مبادئ الهرمسية الأخرى بشكل منسجم. يمكن القول إن المبدأ الذكري للعقل هو العقل الموضوعي، العقل الواعي الإرادي، بينما المبدأ الإنثوي للعقل هو العقل الشخصي، العقل اللاواعي أو غير الإرادي.

الكلُّ واحد دائمًا كما ذكرنا، ولكن من خلال التكوينات العقلية بمستوياتها المختلفة، تخضع هذه التكوينات للمبادئ والقوانين المختلفة ومنها مبدأ الجنس. في الحقيقة في المضمون لا يوجد ثنائية، إنها فقط تظاهرات عقلية؛ فالإرادة التكوينية أو المبدأ الذكري، تعطي رغباتها نحو المبدأ الأنثوي الذي نسميه الطبيعة، وتبدأ عملية التكوين، إلى حد ما مشابه لفكرة أنا أو I أو Je (سأسميها الأنا الفاعلة)، عندما تقف بعيدة وتتأمل ما يحدث في جسدنا وعقلنا ومشاعرنا أو الـ ني المفعول به Me أو Moi (سأسميها الأنا المفعولة). كذلك بشكل مشابه لما يحدث عندنا عندما نفكر بالله عز جلاله، تأتينا الصورة الذكرية غالبًا، بينما عندما نفكر بالطبيعة والأرض تأتينا صورة الأم الحنون؟ يتمُّ تمييز الأنا الفاعلة تدريجيًا عن الأنا المفعولة. في البداية، نجد الناس الذين يربطون كل ذاتهم بممتلكاتهم وملابسهم ومظهرهم الخارجي، وهذا ما جعل أحد الكتَّاب المتهكِّمين يقول: "يتألف الإنسان من 3 أجزاء: النفس، الجسد والملابس"، فهؤلاء الناس سيفقدون شخصيتهم إن فقدوا ملابسهم. بالتدريج، يتطور الإنسان ويبدأ بالتمييز بين الملابس والأنا، ولكن يظل وعي الأنا عنده مرتبطا بالجسد، ثم تدريجيا، يشعر بأن الأنا تستطيع تمييز الجسد عن العقل، ويشعر بالأنا من خلال المشاعر والأفكار، إلى أن يصل تدريجيًا إلى الإحساس بان المشاعر والأفكار والعواطف والحالات الذهنية تنشأ من بوتقة معينة هي الأنا المفعولة Me، وأنها تستمد طاقة معينة من الأنا الفاعلة I. هنا يظهر لنا أهمية التفكير في اللحظة الحاضرة، والتأمل والصلاة والتركيز على شيء معين بشكل كامل، أو الدخول في المنطقة Entering the Zone، لأنه عندما نعطي تركيزًا وانتباهًا لشيء واحد فقط لمدة كافية، نكون قد استعملنا المبدأ الأنثوي في تكوين الفكرة، مع المبدأ الذكري في تحريض وإعطاء طاقة لعملية التفكير. تقوم عملية التخاطر على إطلاق طاقة ذكرية اهتزازية، نحو المبدأ الأنثوي العقلي لشخص آخر. للأسف، كثير من الناس بليدون بشأن استعمال الطاقة الفكرية الذكرية أو الإرادة العقلية، ويجعلون غيرهم يفرض عليهم آراءهم وأفكارهم، وبالتالي يكونون ظلالاً لغيرهم ممَّن عندهم إرادة أقوى، ويظلون فقط يستعملون الأنا المفعولة غير مدركين وجود الأنا الفاعلة.

الكلُّ في كلِّ شيء وكلُّ شيء في الكلِّ:

يقول الكيباليون: "كما أن الكلَّ موجود في كلِّ شيء، كذلك فكلُّ شيء موجود في الكلِّ. من يدرك هذا، يمتلك معرفة كبيرة".

لنعطي مثالاً مبسَّطًا – وإن كان بعيدًا عن عظمة الكلِّ. عندما قام شكسبير بكتابة هملت أو عطيل أو الملك لير، كانت مجرَّد أفكار في ذهن شكسبير، ولكن أليس شكسبير موجود أيضًا في هذه الشخصيات ويعطيها حيويتها وأفعالها وروحها؟ هل الموناليزا موجودة في فكر دافنشي، أم أن روح وفكر دافنشي موجودة في الموناليزا؟ أليس الجانبان موجودان في الوقت نفسه؟ يكمن الفرق طبعًا عن الكون بأنَّ هذه الأمثلة تمثِّل الصور العقليَّة لعقول فانية، بينما الكون هو تمثيل عقلي لعقل أزليٍّ.

الكلُّ من خلال طبيعته الكينونيَّة، يوجِّه رغبته من خلال طبيعته التكوينيَّة، وتبدأ عمليَّة الخلق، وتبدأ الاهتزازات بالانخفاض تدريجيًّا إلى أن تصل إلى درجة اهتزازيَّة منخفضة وتتشكَّل المادَّة القاسية. هذه العمليَّة تسمَّى التقوقع أو الالتفاف أو التطوُّر نحو الداخل Involution، بمعنى أن الطاقة والعقل بالاهتزازات العليا تزداد تكثُّفًا وانغلاقًا، كالكاتب أو الرسَّام الذي يستغرق بعمله وإلهامه لدرجة ينسى نفسه. يكون هناك بنفس الوقت رغبة للعودة إلى المصدر تمامًا كالقوة الجاذبة والنابذة، أو اليانغ والين أو طرفا الميزان. عندما تصل هذه العمليَّة إلى أقصاها، تصل الرغبة إلى أقصاها، ولهذا السبب تؤمِّن لنا الحياة الأرضيَّة الفرصة الذهبيَّة للإدراك والاستيعاب. تبدأ عمليَّة زيادة الاهتزازات رويدًا رويدًا من المادَّة باتجاه الروح. هذه العمليَّة تسمَّى بالتطوُّر الصاعد Evolution أو قوانين السحب نحو المركز laws of indrawing. هاتان العمليَّتان تستغرقان مليارات من السنين الأرضيَّة، ولكنَّها تشكِّل غمضة عين للكلِّ.

سأل السائلون: "ولماذا كل هذا العناء، وماذا يستفيد الكلُّ من كلِّ هذا، وعنده كلُّ شيء؟". البعض أجاب بأنَّ الكلَّ رغب بإيجاد شيء ما يحبُّه، أو أنه يشعر بالسعادة من فعل هذا، أو ليشعر بعظمته، أو لشعوره بالوحدة. كل هذه الأجوبة فارغة طبعًا، لأن طبيعة الكلِّ الكاملة السعادة، الكاملة القوَّة، الكاملة العظمة لا ينقصها شيء ولا تحتاج إلى شيء يملؤها. البعض قال بأنَّ الطبيعة الداخليَّة للكلِّ تفرض هذه الانبثاقات. في النهاية، علينا أن نتذكَّر أن قولنا بوجود سبب، معناه وجود نتيجة، والكلُّ أعلى من مبدأ السبب والنتيجة، والأمر الآخر أنَّنا مهما حاولنا فنحن نحاول بعقل فان لن يستطيع استيعاب العقل الأزلي.

سئل هذا السؤال لهرمس – كما يقال، فكان جوابه أنَّه أطبق شفتيه بشدَّة ولم يقل شيئًا. البعض قال لأنَّه لا يملك الجواب، وآخرون قالوا أنَّه كان يعني الحكمة الهرمسيَّة القائلة: "شفاه الحكمة مغلقة إلا لآذان الإدراك والفهم".

الشفاء بأمواج ثيتا Theta healing

العلاج بأمواج ثيتا هي إحدى الطرق الحديثة بالعلاج النفسي وأحيانًا الجسدي، التي تعتمد على وضع الشخص بحالة استرخاء والوصول بأمواج الدماغ إلى أقل من تسعة أو ثمانية ونصف بالثانية (مشابهة تقريبًا لدرجات النوم السطحي)، من أجل الاتصال بطاقة كل ما هو موجود – حسب تعبير هذه الطريقة – وهي الطاقة الخلَّاقة الموجودة في كلِّ شيء، من أجل إحداث عملية الشفاء. مؤلفة هذه الطريقة بالعلاج تسمَّى بـ Vianna Stibal، ومن خلال شرح طريقتها ومبادئها، يبدو أنها استقت بشكل واضح من مبادئ الهرمسيَّة بشكل عمليٍّ. تؤمن هذه الطريقة بوجود 7 مستويات أساسية (تقسم أيضًا إلى مستويات ثانويَّة):

-       المستوى الأول: مستوى المعادن، الحجارة، الكريستالات، التراب وكل العناصر الأساسيَّة لبناء الأرض في وضعها الخام.

-       المستوى الثاني: بداية الحياة العضويَّة من فيتامينات ونباتات وأشجار والكائنات البسيطة الأخرى.

-       المستوى الثالث: الحياة العضوية الأكثر تعقيدًا من حيوانات وإنسان.

-       المستوى الرابع: مستوى الأرواح والحياة بعد الموت.

-       المستوى الخامس: مستوى الملائكة والأرواح العليا.

-       المستوى السادس: مستوى المبادئ والقوانين الأساسية التي تشكِّل دعائم الكون (وكما ذكرت سابقًا فإن كل الكائنات تخضع لهذه القوانين بمستويات مختلفة، باستثناء الكلِّ).

-       المستوى السابع: مستوى الطاقة العظمى لكلِّ ما هو موجود.

هدف الحياة حسب الهرمسيَّة:

قد يتساءل السائل في النهاية: "هذه فلسفة جميلة أو قبيحة، ولكن في النهاية ماذا تهمُّني وماذا تؤثِّر على حياتي، وأصلاً ما هدف الحياة ولماذا كل هذا العناء والتعقيد؟ هذا السرُّ أقلق جلجاميش ومعظم أبطال الأساطير الإغريقيَّة والفرعونيَّة وما بين الرافدين والهند والصين والهنود الحمر وغيرها.

تجيب الهرمسيَّة والعلاج بأمواج ثيتا وكثير من العقائد والمدارس على هذا السؤال بالشكل التالي تقريبًا:

-       أولاً: إن تكوُّن الحياة الماديَّة هو مسرى طبيعي لانخفاض الطاقة الكونيَّة وتكثُّفها المستمرِّ وانخفاض اهتزازها.

-       ثانيًا: إن الحياة الأرضيَّة تعطي – على ما يبدو– فرصة ذهبيَّة للارتقاء بالطاقة والنفس والعقل والمستويات الأخرى إلى مستويات أعلى من خلال قوَّة الإرادة ومن خلال هذا الالتقاء بين الروح والجسد وتشكيل النفس، فمن خلال التحام الإرادة مع المحبَّة – كما ذكرت سابقًا – تنجم طاقة كهرطيسية كبيرة، تستطيع توجيه الفكر إلى عوالم وعوالم أعلى، لا يمكن أن تؤمِّنه المستويات العليا والتي يصعب الانتقال منها إلى مستويات أعلى بسبب عدم وجود الوسائل اللازمة ومنها قوَّة الإرادة.

-       ثالثًا: لقد أعطى كتابي الموتى التيبيتي والمصري شبه مخطَّط طريق للحياة بعد الموت، وإن العمل على هذا خلال حياتنا الأرضيَّة وبقوَّة الإرادة يساعد – حسب زعمهم– على كيفيَّة توجُّه الروح بعد الوفاة إلى المستويات العليا.

-       رابعًا: إن قصَّة النبي آدم لها دلالة كبيرة، فهو حاول - متأثِّرا بإبليس – أن يحصل على الحكمة مباشرة من أجل الأنا فقط، بدون محاولته القيام بالمراحل والتطوُّرات التدريجيَّة الروحيَّة المطلوبة، أو القيام بالتزاوجات بين فرعي الكابالا بين القسوة والرقَّة، التواضع والفخر، العقل والحكمة، بل أراد فقط أن يصل بسرعة وينافس الله عزَّ جلاله، كما فعل إبليس.

يقول عمر الخيَّام: "كن سعيدًا من أجل هذه اللحظة، فهذه اللحظة هي حياتك بأكملها"، ويقول أيضًا: "كان هناك الباب الذي لا مفتاح له، وكان هناك الحجاب الذي لا أستطيع الرؤية من خلاله". ويقول جلال الدين الرومي: "دع الصمت يأخذك إلى لبِّ الحياة، فكلُّ كلامك لا قيمة له عند مقارنته بهمسة من همسات الحبيب"، ويقول حافظ الشيرازي: "إبق قريبًا من كل شيء، يجعلك سعيدًا أن تكون حيًّا"، وأيضًا: "منذ سمع الفرح اسمك، ركض في الشوارع باحثًا عنك"، وأيضًا: "الخوف هو أقذر الغرف في البيت، أتمنَّى أن أستطيع رؤيتك تعيش في غرفة أفضل". يقول السيِّد المسيح:" أن تكونوا في هذا العالم ولكنّكم لستم من هذا العالم".

*** *** ***

المراجع:

The Emerald tablet of Hermes: edited by Dr. Jane Ma’ati Smith .

 the Kybalion: edited by Dr. Jane Ma’ati Smith.

Seven Planes of existence: Vianna Stibal

The ancient secret of the flower of life: Drunvalo melchizedek

Theta Healing: Vianna Stibal

 

 

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني