العلم ومبدأ الريبة

 

معاذ قنبر

 

قد يريح الناس تصور الكون كآلة والجسم كمحرك والطبيعة كبناء هندسي منجز، لكن تاريخ العلم يعلمنا أننا جزء من الكون لا الكون جزء منا. فلماذا يجب أن يكون الكون مصنوعًا فقط من المكونات التي دوزنت عيوننا لرؤيتها بمساعدة آلاتنا؟ ولماذا يجب أن يكون الكون بسبب تلك المادة مفهومًا لنا بأية حال؟ هل نحن نقوم فقط بملء الثغرات في نظريتنا الناقصة مدفوعين بإيماننا بقدرة الدماغ إلى النظر إلى جوهر الخلق؟ وهل الكواركات والمادة المظلمة هي مكتشفات أم اختراعات، مصنوعات جوع دماغنا إلى التناسق؟ وهل العالم عقلاني وإذا كان الأمر كذلك فما مدى عقلانيته؟

لقد قام العلم على أمل أن العالم عقلاني في كل جوانبه التي يمكن ملاحظتها، ويحتمل أن تكون هناك بعض الجوانب للواقع تقع فوق قدرة الاستدلال الإنساني، ولكننا لا نقصد بهذا القول إن هذه الجوانب هي بالضرورة غير عقلانية بالمعنى المطلق، فسكان النجوم النيوترونية أو الحواسيب الفائقة يمكن أن يفهموا الأشياء التي لا يمكننا فهمها بالطبيعة المجردة لأدمغتنا، لهذا يجب أن ندرك احتمال أنه قد يكون هناك بعض الأشياء التي لا يمكن أبدًا أن نُلمَّ بتفسيراتها، وربما تكون هناك بعض الأشياء الأخرى لا تفسير لها على الاطلاق[1].

إن الحدس المستند إلى الخبرة العادية في الأمور اليومية هو الذي أوحى بالتفاسير المعقولة للوقائع، وذلك في أول عهد الإنسان بالملاحظات التجريبية أو أية ملاحظات علمية أخرى، لكننا كلما أمعنَّا في محاولاتنا لتوسيع دائرة ملاحظاتنا وربط أجزائها بعضها ببعض، أي كلما ازدادت الظواهر التي نوليها اهتمامنا، فإن هذه التفاسير لا تبقى مجرد تفاسير، بل تصبح ما نسميه القوانين، ولهذه القوانين سمة غريبة غالبًا ما تبدو أقل فأقل معقولية، أكثر فأكثر ابتعادًا عن الحدس الواضح. مثلاً إذا أخذنا في نظرية النسبية هذه الفكرة، إذا رصدتم حادثين متزامنين فإن هذا التزامن خاص بكم، ويمكن لراصد آخر أن يكون قد رأى أحد الحادثين قبل الآخر، فالتزامن إذًا ليس سوى انطباع ذاتي[2]. هذا القصور في العلم وعجزه عن تفسير وحدانية الوقائع وتفردها ليس عيبًا أو صدعًا في نظرية مؤقتة أو مشروطة، وإنما هو على العكس، علاقة ساطعة لنصر لم يسبق له مثيل، لم يحدث أبدًا من قبل أن وصل الإنسان إلى هذا الحد من الظفر بمبادئ متغلغلة في قلب الأشياء وماهيتها، رغم أنها ليست الأشياء ذاتها[3]. لأننا عندما دخلنا – نحن البشر – في مسرح الأحداث أحدثنا خللاً في مسيرة الطبيعة، أي في الحركة الاستمرارية التي تقوم بها الأشياء نحو أماكنها الخاصة ضمن عمليات الرصد الحيادي، نتعرف دون شك بعض أسرار الطبيعة، ولكننا عندما نمسها لا بد أن نزعزعها فلا نعلم عما كانت عليه شيئًا[4].

والآن كيف يمكن أن يكون العالم الذي نعيش فيه مختلفًا جدًا عن العالم الذي يقع تحته؟ حتى هنا في العالم الكلاسيكي تبدو الأشياء مختلفة من وجهات نظر مختلفة، ولكن نحن كالعميان الذين يستكشفون فيلاً، يمكن أن نسوي خلافاتنا ونتفق على شكل ما هو موجود أمامنا. غير أن نظرية الكم تحمل هذه الذاتية نهاية غريبة: ليس هناك فيل، بل عميان فقط[5].

حتمية أم ريبية

لقد كان نيوتن رجلاً طموحًا، فقد استهدف حصرًا نظامًا كاملاً للكون، ونظرية تنطبق على كل شيء، وبالنسبة إلى عصره فقد تجاوز أكثر أحلامه تطرفًا، واعتبرت قوانين نيوتن وصفًا كاملاً للطبيعة لأكثر من قرنين من الزمن، واليوم يتطلع الفيزيائيون مرة أخرى إلى العطاء المقدس - نظرية كل شيء - فيتحدثون عن الجاذبية الفائقة، والأوتار الفائقة، والكواركات، والكرموديناميك الكمومي، ونظرية التوحيد الكبير، كلها ما زالت تنظر نظرة غاليليو بأن الطبيعة أساسها القوانين الرياضية. لذلك كانت قوانين نيوتن هي القوانين العليا السائدة في هذا العالم. لكنها في أعماقها كانت تنطوي على افتراض خفي، الراصد لا يشوش شيئًا، ويرصد ما هو كائن، أصبح العالم آلة عملاقة تعمل كميقاتية منضبطة، آلة يمكن أن تُدرس جميع أجزاؤها وأن تُضم معًا من جديد، فتعمل بالطريقة ذاتها. كانت قوانين نيوتن تتنبأ بنوع عجيب من التناظر، وكانت الآلة الميقاتية قادرة على أن تعمل في هذا الاتجاه أو ذاك سواء بسواء، وكان المستقبل الآتي، بعد أية لحظة معينة من لحظات الحاضر معينًا بتمامه، ويمكن التنبؤ به باتباع التوصيف الرياضي الاستمراري الذي تقدمه قوانين نيوتن[6]. هذا المشروع النيوتوني وقبله المشروع الديكارتي أصبح عقيدة سائدة بين العلماء، حيث يقوم على دعوى مفادها أن الطبيعة تطبع بعض المبادئ العمومية التي يمكن التعبير عنها بالوسائل المنطقية والرياضية، وإذا ألقينا نظرة باردة على هذه الفكرة، لا مندوحة لنا من الاعتراف بأن فيها عنصرًا من عناصر الجنون، كيف يمكن للمرء أن يسلِّم بأن الكثرة المتكثرة من الأشياء والظواهر في الطبيعة يمكن أن تخضع جميعها لنظام صارم تفرضه قبضة حديدية؟ لا شك أن هذا يعود إلى الثقل المتراكم لاكتشافات عديدة، ولما تحقق عبر التاريخ من تطور للعقول، وتأثير التشرب لمعتقدات نسقية، حتى أن هذه الفكرة باتت شيئًا فشيئًا عرفًا راسخًا، يعبر عن اعتقاد راسخ ذا أسس بديهية لا مجال لمناقشته[7]. وكمثال بسيط نجد أن إليوت ناشر السجل السنوي الانكليزي في زمن الانتقال من الميكانيك التقليدي إلى ميكانيك الكم، يعبر عن أفكار المذهب الميكانيكي وفق ثلاثة مبادئ:

1.    إن قوانين العالم منتظمة ولئن ظهر العالم أحيانًا بمظهر فوضوي فإن البحث العلمي الدقيق ينبئ بأن هذه القوانين الشاملة لا بد أن تُطاع.

2.    إن الغائية خرافة لأنه لا يوجد شيء يمكن أن يعتبر غاية مقصودة بهذا العالم، وكل ما يحدث فيه ناجم عن تفاعل المادة مع الحركة.

3.    إن كل أشكال الوجود يجب أن تتمتع بنوع من الخصائص والصفات المادية الملموسة[8].

لكن ما الذي حدث إذًا وغير تصوراتنا جذريًا؟ بالنسبة إلى نيوتن، فإنه من الممكن التنبؤ بكل ما سيحدث في المستقبل إذا ما عرفنا موقع وكمية حركة كل جسيم في الكون، أما الفيزيائيون المحدثون، قد اضطروا للاعتراف بأن فكرة هذا التنبؤ المثالي لا معنى لها، حيث إننا لا نستطيع أن نعرف الموقع وكمية الحركة بالضبط حتى لجسيمة واحدة، فوفقًا للمعادلات الأساسية لميكانيكا الكم، لا يمكن أن يكون للإلكترون كمية حركة دقيقة وموقع دقيق بالوقت نفسه[9]. وفي فيزياء نيوتن يمكننا أن نبدأ بقياس موضع وسرعة الكواكب إذا كنا بصدد دراسة حركتها، وتترجم نتيجة الملاحظة إلى رياضيات عن طريق استخراج أعداد للإحداثيات لحظة وجود الكواكب من الملاحظة، ونستخدم عندها معادلات الحركة لنستخرج منها قيم هذه الإحداثيات أو أي خواص أخرى للنسق في زمن متأخر، وفي هذه الطريقة يمكن للفلكي أن يتنبأ بخواص النسق في وقت متأخر، فيمكنه مثلاً أن يتنبأ بالزمن الدقيق لخسوف القمر، أما في الكوانتم، فقد اضطر الفيزيائيون المحدثون للاعتراف أن هذا الإجراء مختلف، فنحن على سبيل المثال نهتم بحركة إلكترون خلال غرفة مظلمة، وأن نقرر بناء على بعض أنواع الملاحظة الموضع والسرعة الأولية للإلكترون، ولكن هذا القرار لن يكون دقيقًا، ومن المحتمل أن يحوي على أخطاء تؤدي إلى صعوبة التجربة، ووظيفة الاحتمال هي تدوين ما يدل عليه الموقف التجريبي في زمن القياس، فيمكننا مثلاً التنبؤ بوجود إلكترون في أي وقت متأخر لنقطة معطاة في حجرة مظلمة، ويمكننا من ربط الحقيقة إذا تحققت حالة رئيسية، فإذا ما تم عمل مقياس جديد لتقدير حالة معينة في النسق، فإن الاحتمال حينئذ يسمح لنا أن نعد نتيجة محتملة لمقياس جديد، وستكون نتيجة هذا القياس مرة أخرى حالة في حدود الفيزياء الكلاسيكية، وعلى هذا الأساس فإن السببية لا تختفي تمامًا في العالم البعيد عن تناولنا، لكن يقيناتنا تتغير[10].

وبالتالي حيثما يمكن استعمال مفاهيم ميكانيك نيوتن لتوصيف ظواهر الطبيعة، تكون صيغ قوانينه صحيحة تمامًا ولا لزوم لتعديلها، لكن الظواهر الكهرطيسية لا يمكن توصيفها بشكل ملائم بواسطة مفاهيم ميكانيك نيوتن، فالتجارب التي تتناول الحقول الكهرطيسية، والأمواج الضوئية، وكذلك تحليلها النظري لدى مكسويل ولورنتز وأينشتاين، تقود إلى منظومة مغلقة جديدة من التعاريف والمقولات والمفاهيم التي يمكن تمثيلها برموز رياضية. منظومة متماسكة بالأسلوب نفسه الذي كان في منظومة ميكانيك نيوتن، لكنهما يختلفان في الجوهر[11].

وإذا ما أمعنا النظر في مختلف التعريفات التي تناولت مفهوم الضرورة، وجدنا أنها تتفق بوجه عام على تأكيد أن الضرورة هي صفة تطلق على الشيء الذي يتميز بأنه واجب الحدوث أو ممتنع الحدوث، يحدث أو لا يحدث بموجب شروط معينة تحتم ذلك، كما أن الضرورة نابعة من قلب الظواهر ذاتها، لتضفي عليها نوعًا من الانتظام والترتيب والاتساق في البناء[12]. هذا التصور يقود بشكل ما إلى مقولة الحتمية، التي تنطلق من أن كل الحوادث والاختبارات تكون محتَّمة بشكل كامل عن طريق أسباب كافية، وعكسها اللاحتمية، التي يمكن تقسيمها إلى لاحتمية ذاتية، تقوم على الاعتقاد بأن العقل عاجز عن التنبؤ بحوادث الطبيعة، لعجزه عن الإحاطة بأسبابها ونتائجها، وبالتالي يؤمن هذا الاتجاه بخضوع الطبيعة لنظام ثابت لكنه يعترف بالوقت نفسه بتعذر الوصول إلى معرفة هذا النظام، أما اللاحتمية الموضوعية فتقوم على أساس نفي الحتمية في الظواهر الطبيعية نفيًا مطلقًا، فإذا كان العقل عاجزًا عن التنبؤ، فإن مرد ذلك إلى أسباب موضوعية تتعلق بالظواهر نفسها، وبشكل مجمل فإن القائلين باللاحتمية الذاتية يرون أن عجز العقل عن الإحاطة هو سبب عجزه عن التنبؤ، أما القائلون باللاحتمية الموضوعية، فيرون أن العجز على التنبؤ ناشئ عن طبائع الأشياء، لأن حركات الذرات غير مقيدة بنظام ثابت[13].

واعتراف العلماء المحدثون بالنوع الثاني من اللاحتمية لم يأت من فراغ. فقد بين العلم الحديث أن الطبيعة غير خطية، فإذا رسمت خطًا ما بصورة عشوائية، فإنك لن تحصل على مستقيم، ولو بحثت كذلك في كيس الحظ المليء بالمعادلات التفاضلية، فلن تحصل على معادلة خطية. وفي الواقع أنه حتى قبل نشوء نظرية الكوانتم أدى ظهور الشواش الرياضي إلى السقوط المفاجئ لإله لابلاس. وتعلمنا أنه حتى الأنظمة الحتمية البسيطة يمكن أن تحكمها جواذب غريبة. إن أدنى تغيير في الشروط الابتدائية، أي الأعداد التي ندسها في المعادلات البريئة، يمكن أن تسبب ترجحات ضخمة في النتائج لا يمكن التنبؤ بها بصورة جوهرية. ويتضخم جهلنا أسيًا حتى ضمن مدى اللحظات التي يشمل فيها كل شيء. إن عدم الدقة حتى وإن كان طفيفًا جدًا في قياس موضع جسيم وحيد، سيتضاعف بسرعة حتى يتغير مجرى التاريخ الكوني. وفي النظرية، إن سلوك نظام كهذا حتمي تمامًا – في الشروط الابتدائية – ولكن فقط إذا كانت معروفة بدقة لامتناهية. ومع ذلك نستطيع أن نتخيل شيطان لابلاس، ولكن يجب أن نمنحه قدرات لامتناهية. بالتعريف إن كائنًا قويًا إلى مالا نهاية، يستطيع أن يفعل كل شيء، وهكذا تتضاءل رؤية لابلاس اللانهائية إلى حشو. الكون قابل تمامًا للتنبؤ، ولكن فقط إذا كان المتنبئ إلهًا[14].

هناك إذًا عشوائيات وليس عشوائية واحدة اثنتين منهما على الأقل كانتا قبل وجود الكوانتم، فهناك عشوائية تعزى إلى التعقيد (هناك الكثير من العوامل التي تتطلب فهمًا من أدمغتنا) وهي العشوائية القابلة للاختراق التي تمسكت فيها الفيزياء الكلاسيكية. وعشوائية تعزى إلى الشواش (النظام المستبطن بسيط ولكنه محكوم بجاذب غريب) وهي عشوائية رياضية أكثر منها فيزيائية. أما الثالثة فهي العشوائية التي تعزى إلى اللايقينية الكمومية، وهي التي لا يمكن أبدًا التغلب عليها.

تلك الصورة لم تكن مريحة للكثيرين، وقد كان أينشتاين وكثير من العلماء الآخرين، يجدون أنه من المريح أن يعتقدوا أن معادلات ميكانيكا الكوانتم تمثل ببساطة نوعًا من الحيل الرياضية، التي تعطينا سبيلاً معقولاً يرشدنا إلى سلوك الذرات والجسيمات تحت الذرية، لكنه يخفي بعض الحقائق الدفينة التي تتواءم بصورة أقرب مع إحساسنا العادي بالواقعية[15]. إذ يقول أينشتاين:

إن غاية ما يصبو إليه الفيزيائي هو أن يصل إلى تلك القوانين الأولية العامة التي يمكن أن يبنى على أساسها صورة الكون عن طريق الاستدلال البحت، وليس هناك طريق منطقي إلى هذه القوانين، إن الحدس وحده الذي يرتكز على الفهم المتعاطف مع التجربة هو الذي يستطيع أن يصل إليها[16].

فقد ظل أينشتاين وفيًا لفكرة الواقعية التي يمكن اكتشافها رياضيًا قائلاً أن تجاربنا حتى اليوم تبرز إيماننا بأن الطبيعة هي تحقيق لأبسط ما يمكن أن نتخيله من الأفكار الرياضية، وأننا بواسطة إنشاءات رياضية بحتة نستطيع أن نكتشف التصورات، وكذلك القوانين التي تربط هذه التصورات معًا، والتي تمدنا بالوسيلة لفهم الظواهر الطبيعية[17]. وفي معرض اعتراضه على النتائج التي توصلت إليها نظرية الكوانتم يقول:

لا يصدِّق بعض العلماء وأنا واحد منهم، أننا يجب أن نتخلى فعلاً وإلى الأبد عن فكرة التمثيل المباشر للحقيقة الفيزيائية في الزمان والمكان، وأننا يجب أن نقبل الرأي القائل بأن الحوادث في الطبيعة تشبه لعبة الحظ، كل منا حر في أن يختار قبلته، وكل منا قد يستمد لنفسه من قول ليسينغ: إن البحث عن الصدق أثمن من امتلاكه[18].

وحتى اليوم ما يزال بضعة علماء يدفعهم الجوع إلى كون حتمي، يعقدون الآمال على أن عشوائية نظرية الكوانتم ستنتهي إلى وهم، وعلى أن هناك نظامًا يتسكع في الأسفل. ففي نهاية محاضرة رعاها معهد سينتافي عام 1992، ارتجل العالم الرياضي الفيزيائي كرنشفيلد ملاحظة حول المشكلات التي تنشأ مع نظرية الكم، قاطعه موري جل مان بقوله "ما المشكلات مع نظرية الكم؟"، فأجاب كرتشفيلد: "حسنًا أظن أنني مجرد جبري عنيد" لقد اعترف كرتشفيلد بسرعة بأنه من الصعب على المرء أن يراوغ بشأن النجاح الساحق الذي حققته نظرية الكم في شرح نتيجة تجارب الجسيمات[19].

لماذا لم تفلح تلك الرغبات في العودة إلى فردوس الحتمية المريحة؟ قد يكون السبب هو عدم التمييز الحاسم بين رؤية العالمين الكمومي الكلاسيكي وفكرة اليقين بينهما. ذلك أن جزءًا من الصعوبة التي تحكم فهمنا الفيزيائي للكون هو الاختلاف الحاسم بين الجهل الكلاسيكي والكمومي، وبين احتمال الديناميكا الحرارية احتمال الموجة الكمومي، ففي الديناميكا الحرارية نفترض أن كل جزيئات الغاز التي تسبب ذبذباتها ما نسميه حرارة، التي تسبب بدورها ما نسميه ضغطًا، تمتلك في الواقع مسارات دقيقة نحن نجهلها تمامًا. أما تفسير كوبنهاجن لنظرية الكم - وهنا يجب أن نتوقف – فيقول إن جسيمًا دون ذريًا لا يُقاس لأنه لا يمتلك مسارًا[20].

وقد تساءل إدنغتون في كتابه فلسفة العلوم الفيزيائية عما نلاحظه حقيقة، فذهب إلى أن النظرية النسبية قد أحالتنا إلى إجابة أننا فقط نلاحظ علاقات، أما النظرية الكوانتية فقد أحالتنا إلى إجابة أخرى، وهي أننا نلاحظ فقط احتمالات، وإذا ما كانت نظرية الكم صحيحة فالحقائق الصعبة الملاحظة احتمالات، وما تعنيه هو أن النتيجة الملاحظة بالرغم من أنها بلا شك حقيقية بحد ذاتها، فهي ذات قيمة علمية وحسب، لأنها تبلغنا عن احتمال لجزء من حقيقة أخرى، هذه الحقائق الثانوية معروفة لنا فقط من خلال الاحتمال عن المادة التي تعطي لنا تعميمات للشواهد الفيزيائية، وبالتالي فإن الحتمية في الفيزياء الحديثة ليست حقيقية في العالم، وإنما هي محاولة للتمسك بالعالم المهجور للفيزياء التقليدية[21]. ولو حاولت تصور صورة فيزيائية لما يحدث في عالم الكوانتم، فستجد الصورة الفيزيائية تذوب في عالم من الأشباح تبدو فيه الجسيمات حقيقية فقط عندما ننظر إليها، وحتى خصائص مثل كمية الحركة والموقع هي أشياء من صنع المشاهدة، لذلك ليس من العجيب أن نجد بعضًا من كبار الفيزيائيين منهم أينشتاين يقضون العقود من السنوات، لمحاولة إيجاد طرق تدور حول هذا التفسير لميكانيكا الكوانتم دون نجاح يذكر[22].

وطبقًا لدوهيم توجد علاقة وثيقة بين الواقعية والتفسير، ففي العالم القديم كان الفيزيائيون يعرفون بأنهم أولئك الذين يحاولون أن يعرفون الأشياء ويوضحونها بما هي عليه في الواقع كما تراها عيوننا. إن تفسير هذه الظواهر بواسطة الفيزيائيين عندئذ يكمن في تكوين صورة في الذهن للأشياء كما هي، فالذريون مثلاً فسروا الظواهر البصرية بواسطة ذرات الضوء القادم من الشمس والمرتد عن الأجسام المضيئة لتدخل عيوننا، أي أن هناك تكوين واقعي لذرات صغيرة جدًا تماثل حبيبات الرمل، ومن ثم يمكن استعادة تكوين الصورة ذاتها في ذهن إنسان آخر بواسطة الكلمات، وبالتالي الواقعية الكلاسيكية المنطلقة من الفيزياء تفترض أن كل شيء واقعي يمكن أن يفهم ويُرى بعين التبصر ويسهل تناوله بقدرة العقل[23]. تصور العالم وفقًا لذلك هو نتاج جدلي لعلاقة الذات بالموضوع، دون أن يعبر ذلك عن حقيقة الموضوع المستقلة عن الذات.

ولفهم معنى الارتياب والحقيقة علينا أن نغير قليلاً من نظرتنا المتكونة تقليديًا، التي تتصور البنية المادية الجسيمية بصورة تسابق الحس العام والمألوف، وبالتالي فإن علينا عند تصورنا للذرات، أن نحاول نسيان فكرة أن الإلكترونات كواكب صغيرة تدور حول النواة، فالإلكترون هو شيء ما يقبع خارج النواة، ويملك كمية معينة من الطاقة وبعض الصفات الأخرى، ويتحرك بصورة غامضة[24].

وقد اقترح الفيلسوف الانكليزي جون لوك قديمًا اقتراح يبدو أنه اليوم أكثر إقناعًا، ملخصه أن إدراكاتنا الحسية حتى لو كان مصدرها العالم الخارجي، إنما هي إعادة تركيب، إن الإدراكات الحسية أبعد ما تكون عن الوضوح أو البساطة، وحينما يصحبنا العلم في خضم أشياء غير عادية تحيد بنا من كل حدب وصوب - مثلاً في خضم الالكترونات أو الكون ككل - تغدو الإدراكات الحسية مثيرة للجدل، وعلى هذا قد يندهش المرء حول ما إذا كان الوضوح هو قبل كل شيء ليس مسألة اعتياد وألفة، وخارج نطاق تلك المحيطات المألوفة ليس الوضوح مجرد سمة[25].

إن عالم الإنانة الكمومي ينطوي على بعض الشبه لمقولة ديكارت "أنا أفكر فأنا موجود" والأناني الكمومي يقول:

أنا الحقيقة الوحيدة، كل شيء خارجي هناك كامن في عقلي، وبمقدار ما أستطيع أن أفعل ذلك، يتغير مظهر العالم في عيني، وربما كان فشلي في فعل أشياء مذهلة كالطيران في الفراغ أو السفر نحو الماضي والمستقبل في الزمان كما أسافر بسهولة في المكان، ناجمًا عن قصور خيالي[26].

هنا نجد أن الموضوعي في الخارج مندمج تمامًا بما هو ذاتي عند الرصد، فميكانيك الكم محا الحد الفاصل بين فلسفة الوجود وفلسفة المعرفة. إننا نتعامل مع العالم بطريقتنا لأننا نختار أن نتعامل معه بتلك الطريقة. مع نظرية الكوانتم، مفهوم الواقع في الفيزياء قد تغير، فلم تعد الاحتمالية تفسر بوصفها قياسًا للمعرفة البشرية أو الجهل، وإنما باعتبارها جوهرًا أو محتوى لظواهر العالم المجهري. الاختلاف بين الاحتمالية باعتبارها ميزة للمواضيع الفردية وأسلوب إدراك هذه المواضيع قد جرى حسابه هنا أيضًا[27].

هناك إذًا تطابق بين الذاتي والموضوعي لدرجة أن مجرد ملاحظة الشيء تغير من طبيعته، فالعالم ليس كالساعة التي تسير بدقة، سواء لاحظنا ذلك أم لا. إننا نحن الملاحظون جزء حقيقي من التجربة وكل ما نعرفه هو نتاج التجربة، يقول إدينغتون بأن الاكتشاف لا يزيد عن الموجات التي تمثل المعرفة التي لدينا عن النواة، فنواة الذرة لم يرها أحد أبدًا، وما نراه هو ناتج التجارب التي تؤدي إلى مدلول النواة، لم يجد - أي الإنسان - البوزيترون إلى أن اقترح ديراك احتمال وجوده.

هل من الممكن أخذ قول إدينغتون مأخذ الجد؟ وهل من الممكن أن النواة والبوزيترون والنيوترينون لم تكن موجودة إلى أن اكتشف التجريبيون نوع الإزميل المناسب لكشف أشكالها؟ تضرب مثل هذه التخمينات على جذور صحة ما تتوصل إليه عقولنا، علاوة على مفهومنا عن الواقعية، لكنها أسئلة معقولة ويمكن طرحها في عالم الكوانتم[28].

وحتى في التجربة الأكثر بساطة، هناك تشويشات عشوائية نسميها ضجيجًا، وعلى المرء أن يتخذ قرارًا حول متى يتوجب عليه أن يبذل جهدًا كبيرًا لتخفيفه، ولتسجيل ناتج الحوادث النادرة الصغيرة إلى درجة التلاشي التي تستمر أجزاء أجزاء من الثواني، يجب أن يكون الكاشف حساسًا بقدر الإمكان، ولكن كلما كانت المعدات أكثر حساسية كانت أكثر عرضة للضجيج، فهناك توازن ثابت بين التقاط الإشارة الضعيفة التي نبحث عنها وبين حجبها، وفي النهاية عندما تكون المعطيات في الداخل يتوجب اتخاذ قرار: أيها معطيات، وأيها ضجيج؟ ويثق المجربون بمقدرتهم على تمييز الإشارة من الضجيج، ولكن هناك دائمًا خطر رؤية صور في السحب[29]. إن الشواش، كما سُمِّي، يعلن عن نفسه حتى في المعادلات البسيطة ظاهريًا التي تصف حوادث مألوفة في العالم الميكروسكوبي، وعلى خلاف عشوائية الجهل التي تعود عليها العلماء، فإن الشواش لم يسببه تفاعل الكثير جدًا من المتغيرات ليراقبه عقل بشري. وفي الشروط الصحيحة يبدو أن الأجهزة الأكثر بساطة يمكن أن تولد العشوائية التي هي متأصلة ولا يمكن شطبها. إن أدنى شك في الشروط الابتدائية يتضخم كثيرًا وبسرعة أن يصبح التنبؤ معها مستحيلاً[30]. وبالتالي فإن أساس مبدأ الارتياب أنه لا يمكننا أن نجري تجربة كاملة، وبالدقة الكبيرة التي نريد، أي أنه من المستحيل تصور جهاز، مهما كان - حسب تجربة شقي الالكترون الشهيرة - يسمح بتعيين الثقب الذي يمر منه الالكترون دون أن نشوش في الوقت ذاته هذا الإلكترون لدرجة تكفي لتخريب التداخل[31]، دقق النظر، الإلكترون جسيم، أغمض عينيك وافحص النتيجة، الإلكترون موجة.

إن علاقات الارتياب في نظرية الكوانتم، تضع حدًا معينًا للدقة التي يمكن أن نحصل عليها عندما نقوم بقياسين متزامنين للاندفاع والموقع معًا، أو للزمن والطاقة معًا، ولما كانت الحدود اللامتناهية في الوضوح تعني دقة لامتناهية فيما يخص الموقع في الزمان والمكان، فإن الاندفاعات أو الطاقات، يجب أن تكون غير معينة بتاتًا، أو يجب في الواقع أن تحصل على اندفاعات أو طاقات عالية بقدر ما نريد، باحتمالٍ عال[32]. وعليه فإن التنبؤ في النظرية الكوانتية هو التنبؤ بالاحتمالات أكثر من اليقينيات، وهذا يفتح الباب لأكوان ذات عمر متناه، وجودها لا يتطلب سببًا سابقًا محددًا بصورة جيدة[33]. وقد قال أحد الفلاسفة "لكي يوجد علم ينبغي دومًا أن تؤدي نفس الأسباب إلى نفس النتائج" لكن ليس هذا ما يحدث بعد المبدأ الكمومي، فأنتم تركبون التجربة في الشروط ذاتها، ولا تستطيعون التنبؤ بأي ثقب سترون الإلكترون. لكن العلم يستمر مع ذلك، وبالرغم من أن نفس الأسباب لا تؤدي إلى نفس النتائج، وغالبًا ما يحدث أن الامكانيات الأكثر عقلانية ليست هي التي تحدث فعلاً. والمتطلبات اللازمة لتقدم العلم هي القدرة على التجريب والنزاهة في نقل النتائج، يجب أن لا نعطي كنتائج ما كنا نرغب في أن نجده، بل فيما وجدناه فعلاً[34].

ما نستفيده من هذه الريبية هي أن الرأي المسبق ليس اليقين المطلق، والحقيقة لم تفصل من أجلنا، وتنتظر أن نرفع الستار عنها.

هذه الاحتمالية هي من أكثر سمات ميكانيك الكم إثارة، ومفهوم الاحتمال هنا يختلف كليًا عن الاحتمال المستخدم في الفيزياء الكلاسيكية أيام لابلاس، ففي الفيزياء الكلاسيكية كل شيء يخضع لقوانين الفيزياء، تسقط التفاحة من الشجرة بسبب ضعف ساقها أو هبوب الرياح، لا نستطيع أن نعرف على وجه الدقة متى سيحدث سقوط التفاحة، ولكن ثمة سبب ما ميكانيكي يجري حدوثه، فإذا علمنا حالة الألياف في اتساق، وعرفنا بالضبط تطورها بمرور الزمن، فإنه يمكننا تحديد الوقت الذي ستسقط فيه التفاحة والسبب الذي أدى لسقوطها، لكننا لا نعرف أو لا نهتم بمعرفة ذلك، وهذا هو سبب لجوئنا إلى الاحتمالات التي تعبر عن توقع معقول على الرغم من جهلنا بالتفاصيل الدقيقة الخفية، وبالتالي فإن كل شيء في الفيزياء الكلاسيكية محدد، واستخدام الاحتمالات مجرد بديل عن المعرفة الدقيقة بالأسباب الفاعلة. الأمر في ميكانيك الكوانتم مختلف تمامًا، لأن الأحداث فيها تحدث بصورة عشوائية، لا يوجد سبب يجعل الذرة المُثارة تتحلل بصورة ما في لحظة معينة، هناك بالطبع قوانين تحكم هذه العملية، لكنها تعبر فقط عن احتمال حدوث الحادثة في زمن بعينه وليس في زمن آخر، إن احتماليات الكوانتم ليست بديلاً عن معرفة دقيقة بتفاصيل خفية ذات صلة وإنما مجرد مصادفة خالصة، بعبارة أخرى إن الاحتمال في الفيزياء الكلاسيكية ذاتي، ينطبق على الذات العارفة وطبيعة معرفتها، أما في الفيزياء الكوانتية فإن الاحتمال موضوعي ذاتي، ينطبق على موضوع المعرفة وطبيعته وطريقة تفاعل الذات معه من خلال التجارب[35].

وقد يحبطنا أن نقول إنه ليس في مقدورنا إيجاد تابع فيزيائي يمكننا من فهم ما يحدث داخل الذرات. وإحدى أهم ملامح القطيعة الأبستمولوجية مع الفيزياء الكلاسيكية، هي تصور أن الذرات تسلك وفق تصور ذري ولا شيء آخر، وقد عبَّر إدينغتون عن تصور الذرة قائلاً:

لا يمكن أن يوجد تصور يمكن نبنيه حول الالكترون، وأفضل ما يمكن أن نقوله عن الذرة هو شيء ما مجهول، يعمل ما نجهله[36].

وحقيقة ما يحدث في ظاهرة ذرية هي أن آلية الرصد ونتائجه يمكن التعبير عنها بكلمات المفاهيم التقليدية، لكن ما نجنيه من عملية الرصد هو تابع احتمال، أي عبارة عن تجمع بيان الإمكانيات، أي النزوعات، مع بيان مدى معرفتنا بالوقائع، وبذلك لا نستطيع أن نجعل نتيجة الرصد موضوعية تمامًا. إن تابع الاحتمال – بخلاف ما يجري عادة في ميكانيكا نيوتن – لا يعبر عن الحادث بل عن مجموعة من الحوادث الممكنة الوقوع، على الأقل أثناء عملية الرصد، وعملية الرصد نفسها تغير تابع الاحتمال بشكل متقطع، لأنها تنتخب من بين الحوادث الممكنة الحدث الذي وقع فعلاً، وبما أن معرفتنا إجمالاً من خلال الرصد قد تغيرت بشكل متقطع، فإن الصورة الرياضية ستتغير أيضًا بشكل متقطع، وبذا نتكلم عن القفزة الكمومية. هذا وإن اتخاذ القول المأثور "إن الطبيعة لا تقفز" أساسًا لانتقاد نظرية الكوانتم، يمكن الرد عليه بأن معرفتنا هي التي تتغير بشكل متقطع، وهذا ما يبرر استعمال مصطلح القفزة الكمومية[37]. إن الذرة لا تتصرف مثل ثقل ينوس في طرف نابض، كما أنها لا تتصرف كنموذج مصغر لمجموعة شمسية ذات كواكب صغيرة تدور في مسارات صغيرة، وليس لها مظهر غيمة أو ضباب يحيط بالنواة، إنها لا تشبه شيء آخر رأيتموه[38]. بذلك تغدو الذرة بالتعريف لا تحتوي إلا سلب للمتعارف عليه، أي لا تحتوي إلا ذاتها.

هذا ما انتهى إليه تفسير كوبنهاجن، إن عالم الظواهر هو العالم الوحيد الذي نستطيع أن نعرفه، وبما أن محاولة وصف العالم الكمومي بمصطلحات كلاسيكية يؤدي إلى تناقضات وسخافات فإنه يمكن فقط أن نستنتج أن الواقع يعمل تحت السطح الذي نراه بطرق غامضة بالنسبة إلينا. إن نظرية الكوانتم نوع من التثليث تستخدم فيه أزواج متتامة لمفاهيم ناقصة (موجة، جسيم) (موضع، كمية الحركة). لذلك لم يجد بور وهايزنبرغ معنى للتفكير حول ما إذا كانت الموجة نفسها واقعية بطريقة ما، وعلى مدخل الذرة بلغنا حدود قدرتنا، وكما قال هايزنبرغ:

إن ما تعلمناه حولها لم يكن الطبيعة نفسها، بل الطبيعة التي عُرضَت لطرق استنطاقنا[39].

فأنت يمكنك أن ترصد الالكترون كجسيم له موقع، أو كموجة لها زخم، ولا يمكن أن ترصد الاثنين معًا، و بالتالي فأنت لا يمكن أن تتيقن دائمًا إلا بنصف الحقيقة.

إن مبدأ هايزنبرغ اللاحتمي يؤكد رأي زينون القائل أن الجسم لا يمكن أن يشغل موضعًا محددًا، وأن يكون في الوقت ذاته متحركًا، فبين أن عملية الرصد كما نمارسها فعليًا، لا تتيح لنا أن نواصل تحليل الحركة إلى مالا نهاية، لكننا سنشعر عاجلاً أم آجلاً أن ممارساتنا تدخل تقطعات في كل ما ترصده مهما كان[40]. وبالتالي فإنه يجب التخلي عن كل أفكارنا القديمة عند التحدث عن الجسيمات بالغة الصغر، إن الحركة يجب ألا توصف بلغة المفاهيم التقليدية القائلة بأن الشيء يتحرك استمراريًا من مكان لآخر، فهذه الفكرة غير ذات معنى إلا في حال الأجسام الكبيرة، وبتعبير آخر إن تلك المفاهيم غير عقلانية إلا حين تُعتمد لوصف أرصادنا العلمية، لا في التعبير عن آرائنا بخصوص ما نظن أنه حدث، والذرة بما أنها لا تُرى مفهوم عديم المعنى. إن أردنا وصفه بالمفاهيم التقليدية، وهنا استخدم هايزنبرغ تصورات النظرية النسبية التي تتحدث عن تعدد المقاييس بتعدد أنظمة الرصد والمرصود، فتحدث عن شكل جديد لقياس الحركة في النظام الأصغري معتمدًا على تواترات الضوء المرصود، لا على موقع واندفاع إلكترون لا يمكن رصده ضمن ذرة غير مرئية[41].

ومن نفس المنطلق، يتفق بور مع مفارقات زينون التي تخالف توقعاتنا عن العالم المنتظم، فالجسيم كموجة ليس كل الحقيقة، وهو كجسيم ليس كل الحقيقة أيضًا، إن الحقيقة ليست الحقيقة المطلقة، بل يوجد بدلاً عن ذلك كله تتامية تتخذ مظهر المفارقة بمجرد أن يحاول الرصد تحليلها، فنحن لا نملك سوى أن نشوش العالم عندما نسعى إلى فصل الأشياء بعضها عن بعض، فالموجة لا تتقلص إلا عندما نرصدها، وبذلك لا يُرى أيُّ تقلص. هذا لا يعني طبعًا وجوب أن نرمي كل آلاتنا في سلة المهملات، فنماذجنا الميكانيكية تعمل بشكل رائع في حالة الأجسام الكبيرة، وذلك بسبب صغر ثابت بلانكh) ) الذي تعمل الجسيمات في نطاقه، وإذا كان هذا الثابت أكبر من ذلك بعض الشيء لسادت الفوضى في كل شؤوننا. وهو كونه لهذه الدرجة من الصغر فإننا نملك بالضبط المقدار اللازم من الحرية في عمل كل شيء نريد تقريبًا، أما ما هي حدودنا بالضبط فهي ما تزال مسألة قيد البحث[42].

وقد تحدث بور عن تصورين مختلفين من منطلق منطقي واحد وفق مبدأ التتامية، فكان يشير إلى أن المعرفة المكتسبة باستخدام وسيلتين تجريبيتين مختلفتين. مثلاً: إذا سببت بلورة سيلكون حيودًا لنيوترون، فإنه يجب علينا حينئذ وفقًا لنظرية بور أن نتحدث عن النيوترون بوصفه موجة، بينما نجد أن الكشف عنه بواسطة عداد يجبرنا على أن نفسره كجسيم، يوضح منطق الكوانتم إذًا أن تعددية التمثيل هذه لا تفرضها علينا الأجهزة الخارجية، لكنها في حقيقة الأمر أصيلة ومتضمنة في عالم الكوانتم حتى لو ظلت غير مُلاحظة، وهي علاوة على ذلك ليست مبدأ جديدًا، وإنما هي نتيجة مباشرة للمنطق تم تعيينها هي ذاتها عن طريق القوانين الأخرى[43]. فالتتامية هي الأساس لحجة بور في مواجهة التصورات الساذجة للواقعية، وهو مبدأ يبين أنه من الممكن أخذ بعض خصائص المنظومة المنطقية في الاعتبار والتعامل معها بطريقة متسقة منطقيًا، إلا أنه غالبًا ما توجد تواريخ متسقة مختلفة تمامًا تتعارض مع الأولى، كأن يتم مثلاً إدخال خاصية كمية التحرك للجسيم بدلاً من خاصية الموضع بتفضيل الأولى على الثانية، كلاهما وصفان صحيحان منطقيًا، لكن كل منهما يستبعد الآخر (وفق ارتياب هيزنبرغ) وبناءً على ذلك، لا يمكن التحدث عن خاصية واقعية فيغدو تضمين الرياضيات داخل الواقع نوعًا من الواقعية أكثر رحابة[44].

وفي كتابه Emperor’s New Mind يتخذ روجر بنروز وجهة معاكسه للتصور الارتيابي لمدرسة كوبنهاجن، فينطلق من الذات مفترضًا أن الدماغ و نتاجه الواعي يعمل وفقًا للمبادئ الكمومية، إلى حد أنه عندما نفكر، فإننا نحتفظ بآلاف الإمكانيات في تراكب كمومي، موجة تنهار عندما يصدمنا جواب لمشكلة كصاعقة غير متوقعة. وهكذا يحدد المرء خياره، فنحن نستطيع أن نستخدم غموض الوعي لفهم نظرية الكوانتم، أو غموض نظرية الكوانتم لفهم الوعي[45].

إن التسوية التي اضطر إلى تبنيها أكثر الفيزيائيين تقوم على التخلي عن الأمل بتفسير ميكانيكي للظواهر الكمومية، والنظر إلى كل إلكترون في التجربة ذات الثقبين بوصفه تجريدًا رياضيًا، موجة يمكن اعتبار أنها تمثل كل السبل، وكل تاريخ ممكن يستطيع جسيم أن يسلكه في طريقه إلى الهدف، وعندما يصطدم الجسيم بالهدف فإن هذه الدالة الموجية تنهار ويتخذ الجسيم عشوائيًا واحدًا من المواضيع الممكنة. في هذا التفسير تعبر الموجة الاحتمالية نفسها كلا الثقبين منشطرة إلى موجتين احتماليتين تتداخلان مع بعضهما البعض، منتجين النمط التداخلي على اللوح وهو النمط الموجي، وعندما نضع كاشفًا (وهو يلتقط الإلكترون كجسيم فقط) على كل ثقب، فإننا ببساطة نقوض الموجة الرياضية حالاً، قبل أن تتهيأ لها فرصة الانقسام إلى موجتين وخلق أطياف التداخل، فنرى الإلكترون جسيمًا يمر من أحد الثقبين[46]. بطريقة ما يمكن تخيل الجسيمات تتحسس بطريقة ما طبيعة الجهاز التجريبي وتتعامل على أساس ذلك.

ما الذي ننتهي عنده هنا؟ هل يعني ارتياب الطبيعة على مستوى الصغائر أن العالم كله غير عقلاني؟ لا نجزم تمامًا بذلك، فهناك في الواقع اختلاف بين دور الصدفة في الميكانيكا الكوانتية والشواش اللامحدود في كون لا يحكمه قانون، ومع أنه لا يوجد يقين عادة حول الحالات المستقبلية لنظام كوانتي، فإن الاحتمالات النسبية لمختلف الحالات الممكنة تبقى محددة، حتى وإن كانت النتيجة في حالة خاصة غير معروفة، تشير هذه القانونية الإحصائية ضمنًا إلى أن الطبيعة على المستوى العياني تعمل كما يبدو وفق صيغ قريبة من الحتمية[47]. ففي بناء نظرية للعالم، من المفيد أن تكون رؤية المرء غائمة، وللتذكير كانت الملاحظات الأكثر والأكثر دقة هي التي أجبرت بطليموس على إضافة زخرفات إلى كونه الذي اتخذ من الأرض مركزًا، حيث أفلاك التدوير السيئة الصيت التي احتفظت بأوهام أن كل شيء يتحرك بدوائر تامة (ودوائر ضمن دوائر) حول الأرض. ومن ناحية أخرى كان نوع من قصر البصر الفلكي هو الذي قاد كبلر إلى ابتكار هندسته الإهليلجية الأكثر بساطة، فالكواكب في الواقع لا تتحرك في دوائر ولا في إهليلجات ناقصة. ولو كانت أرقام تيكو براهي أكثر دقة، لما استطاع كبلر أن يرى ما بدا له إشارة وسط الضجيج: الإهليلجات الناقصة التي كانت الكواكب ستتبعها مثاليًا لو لم يشوشها الشدُّ الثقالي لجيرانها التي يشوشها جيرانها، التي يشوشها أيضًا المزيد من الجيران، والتماثلات دائمًا منكفئة قليلاً[48].

ففي النهاية: كل بحوثنا من أجل النظام مقدرًا لها أن تسبر غور العشوائية، ومهما كان مدى نجاحنا في ضغط الإشارات التي تتدفق حولنا، فإنه سيكون هناك دائمًا شيء من اللايقينية الذي يتعذر اختزاله باكتشاف جاذب ضئيل الأبعاد. ومع العشوائية الكمومية لن يكون الكثير من التحكم ممكنًا[49].

إذًا أين نحن، ومن نحن؟ يقول فاينمان:

أنا ... من أنا؟ أنا عالم من الذرات، ذرة في هذا العالم[50].

*** *** ***


 

horizontal rule

[1] بول ديفيز، العلم والبحث عن المعنى الجوهري، ترجمة أحمد رمو، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، 2008، ص 20.

[2] ريتشارد فاينمان، طبيعة قوانين الفيزياء، ترجمة أدهم السمان، وزارة الثقافة، دمشق، 1979، ص 131.

[3] رولان أومينيس، فلسفة الكوانتم، ترجمة د أحمد فؤاد باشا - يمنى طريف الخولي، عالم المعرفة، الكويت، 2008، ص 175.

[4] فريد آلان وولف، مع القفزة الكمومية، ترجمة أدهم السمان، دار طلاس، دمشق، ط1، 1994، ص 23.

[5] جورج جونسون، بحث في نظام الكون، ترجمة أحمد رمو، وزارة الثقافة، دمشق، 2010، ص 195.

[6] فريد آلان وولف، مع القفزة الكمومية، مرجع سابق، ص 37.

[7] رولان أومينيس، فلسفة الكوانتم، مرجع سابق، ص 64.

[8] فريد آلان وولف، مع القفزة الكمومية، مرجع سابق، ص 47.

[9] جون جريبين، البحث عن قطة شرودنغر، ترجمة د فتح الله الشيخ، أحمد عبد الله السماحي، كلمات للترجمة، أبو ظبي، ط1، 2009، ص 179.

[10] السيد نفادي، الضرورة والاحتمال بين العلم والفلسفة، دار التنوير، دمشق، 2009، ص 146.

[11] فيرنر هايزنبرغ، فيزياء وفلسفة، مرجع سابق، ص 123.

[12] السيد نفادي، الضرورة والاحتمال بين العلم والفلسفة، مرجع سابق، ص 11.

[13] السيد نفادي، الضرورة والاحتمال بين العلم والفلسفة، مرجع سابق، ص 13 – 14.

[14] جورج جونسون، بحث في نظام الكون، مرجع سابق، ص 21.

[15] جون جريبين، البحث عن قطة شرودنغر، مرجع سابق، ص 16.

[16] ألبرت أينشتاين، آراء وأفكار، ترجمة رمسيس شحاتة، الهيئة المصرية للكتاب، 1986، ص 10.

[17] ألبرت أينشتاين، آراء وأفكار، مرجع سابق، ص 61.

[18] ألبرت أينشتاين، آراء وأفكار، مرجع سابق، ص 109.

[19] جورج جونسون، بحث في نظام الكون، مرجع سابق، ص 214.

[20] جورج جونسون، بحث في نظام الكون، مرجع سابق، ص 222.

[21] السيد نفادي، الضرورة والاحتمال بين العلم والفلسفة، مرجع سابق، ص 66.

[22] جون جريبين، البحث عن قطة شرودنغر، مرجع سابق، ص 196.

[23] رولان أومينيس، فلسفة الكوانتم، مرجع سابق، ص 279 – 280.

[24] جون جريبين، البحث عن قطة شرودنغر، مرجع سابق، ص 69.

[25] رولان أومينيس، فلسفة الكوانتم، مرجع سابق، ص 107 – 108.

[26] فريد آلان وول، مع القفزة الكمومية، مرجع سابق، ص 188.

[27] رولان أومينيس، فلسفة الكوانتم، مرجع سابق، ص 65.

[28] جون جريبين، البحث عن قطة شرودنغر، مرجع سابق، ص 184.

[29] جورج جونسون، بحث في نظام الكون، مرجع سابق، ص 80.

[30] جورج جونسون، بحث في نظام الكون، مرجع سابق، ص 130.

[31] ريتشارد فاينمان، طبيعة قوانين الفيزياء، مرجع سابق، ص 148.

[32] فيرنر هايزنبرغ، فيزياء وفلسفة، مرجع سابق، ص 193.

[33] بول ديفيز، العلم والبحث عن المعنى الجوهري، مرجع سابق، ص 79.

[34] ريتشارد فاينمان، طبيعة قوانين الفيزياء، مرجع سابق، ص 152.

[35] رولان أومينيس، فلسفة الكوانتم، مرجع سابق، ص 201.

[36] جون جريبين، البحث عن قطة شرودنغر، مرجع سابق، ص 108.

[37] فيرنر هايزنبرغ، فيزياء وفلسفة، ترجمة أدهم السمان، مؤسسة الرسالة، بلا تاريخ، ص 75.

[38] ريتشارد فاينمان، طبيعة قوانين الفيزياء، مرجع سابق، ص 132.

[39] جورج جونسون، بحث في نظام الكون، مرجع سابق، ص 205.

[40] فريد آلان وولف، مع القفزة الكمومية، مرجع سابق، ص 32.

[41] فريد آلان وولف، مع القفزة الكمومية، مرجع سابق، ص 100.

[42] فريد آلان وولف، مع القفزة الكمومية، مرجع سابق، ص 113.

[43] رولان أومينيس، فلسفة الكوانتم، مرجع سابق، ص 238.

[44] رولان أومينيس، فلسفة الكوانتم، مرجع سابق، ص 285.

[45] جورج جونسون، بحث في نظام الكون، مرجع سابق، ص 207.

[46] جورج جونسون، بحث في نظام الكون، مرجع سابق، ص 201.

[47] بول ديفيز، العلم والبحث عن المعنى الجوهري، مرجع سابق، ص 28.

[48] جورج جونسون، بحث في نظام الكون، مرجع سابق، ص 65.

[49] جورج جونسون، بحث في نظام الكون، مرجع سابق، ص 147.

[50] فريد آلان وولف، مع القفزة الكمومية، مرجع سابق، ص 208.

 

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني