قراءة حوارية لبحث السيد محمد علي عبد الجليل المعَنوَن: [الأخطاء اللُّغويَّة والإنشائيَّة في القُرآن]

 

محمود حميداني

 

أوَّلاً: تمهيد عام

إنَّ قيمةَ أيِّ مُنتَجٍ بشريٍّ يتعلَّق حتمًا بمدى ما يُحدثُه لدى الآخرين من فعل إيجابيٍّ يُسعدُ وينفع ويدفع إلى ماهو أعلى وأسمى. ولعلَّ معضلةَ الإنسانيَّة الكُبرى تتجلَّى في الإلغائيَّة القاتلة، والتّطَرُّف البغيض.

قرأتُ بحثك الذي استغرق منك وقتًا وجهدًا لهما التقدير في حاليْ الاختلاف والموافقة. وكما كان لك الحقُّ في عرض رؤيتِك أجد من حقِّي أيضًا عرض رؤيتي وللنَّاس في ما يعشقون مذاهبُ. إنَّ ما أرغبه موضوعيَّة الحوار لا المناكفة ومزيد الاختلاف وما ينتج عنهما من كراهية وبُغض لسنا في حاجة إليه. كفى البشريّة ضيقًا وتمزُّقًا إذ تحوَّلت الأديان والمذاهب عن غرضها الرئيس إلى المشاحنات والاقتتال وكأنَّها لم تُغادرْ بعدُ بداوتَها. ولئن ظهرت بعض القوى العالميَّة بمظهر التَّمدُّن فإنَّ في سلوكها لمثالبَ ومعايبَ تلغي ادِّعاءاتها. ولنسمِّ الأمور بمسمَّياتها فالكاذب والغشَّاشُ والمخادع المنافق المراوغ المعتدي القاتل... إلخ كلٌّ يشكِّل لعنةً على البشريَّة. والعالم الصَّادق الأمين المحبُّ العادلُ السويُّ... إلخ كلٌّ يستأهل الاحترام ويمثِّل قيمة عالية تضيء مسالك الإنسان.

أحبُّ المسلم اليهودي المسيحيَّ البوذي اللامنتمي مادام خيِّرًا معطاءً سمْحًا منتجًا وأشفق على كلِّ من يشكِّل خطَرًا أو اعتداءً أو قهرًا... وأنأى بنفسي عن البُغض لأنَّه منقصَةٌ وسبَّةٌ، إلاَّ أن يُفرَضَ فرضًا حين لا ينفع الإشفاق ومحاولاتُ العلاج. ومن عتبي على بعض مدِّعي العلمانيَّة تمحورٌ على مواقف مسبَّقة تُلغي صراحةً كلَّ من يختلف مع توجُّهاتها لتلتقي التَّطرُّف وتفرط فيه. وسأظلُّ أعشق الدَّرويش ونجمًا مع احتفاظي بخلاف ليس يسيرًا في موضوعات كثيرة.

ثانيًا: قبيل الحوار... المعيار والأرضيَّة

مّقًدَّمَة: لا بدَّ من المعيار والأرضيَّة. لذلك أجدُ في العَلْمانيَّة مُتَّسَعًا للعرض والحوار. أمَّا الأرضيَّة فستكون موضع خلاف وللحوار دورُه في الارتكاز. وعليه فأنا أفهم العَلمانيَّة رَحابَةً لا يحدُّها تمذهُب ولا تعصُّبٌ ولا تضليل. قُوامُها الانفتاحُ على الآخَر لا إلغاؤه أو الاعتداء على حقوقه في الاعتقاد أو التَّعبير. ولها من الموضوعيَّة وعدم التَّحيُّز المقصود أو النَّاتج عن الانفعال، ومُسَلَّمات العلوم التطبيقيَّة المَعينُ الثَرُّ. وهي تنأى بنفسها عن الانفلات والإسفاف والاستلاب والهَذر والتَّلاعُب والشَّطَط والسُّوقيّةِ والتأزيم والمواقف المُسَبَّقة المرتكزة على التَّطَرُّف المنبوذ أو الأحقاد والانفعالات العاطفيَّة غير المُبَرَّرة. كما أفهم التَّطرَّفَ تحجُّرًا وعَمايَة بصَر وبصيرة قُوامُه الانفعالاتُ العاطفيَّة والحدَّةُ المؤذية لبعدها عن المعقول والمعيار والمفهوم، يتَّخذ من المواقف المُسَبَّقة غير المُحقَّقة ولا المسؤولة ولا الموضوعيَّة مسلَكًا قهريًّا لا جدوى وراءه. ولعلَّ الإلغائيَّة إحدى أهمِّ سَوْءاته، مضافًا إليها حماقةٌ وجهالةٌ في زيِّ ادِّعاءات مُفْرغَةٍ من المضامين، مع استسلاميَّة نظريَّة تستند إلى المخاوف المُصطَنَعة والغيبيَّات القُصوى دون محاولة تماهٍ مع توجُّهاتها. وأشدُّ مخاطِر التَّطرُّف أن يحلَّ المُتَّبِعُ محلَّ المُتَّبَعِ فيسقط عليه ما ليس منه ولا ينتمي إليه. "أرأيْتَ إلى الذي اتَّخذَ إلهه هواه فأضَلَّه" (الجاثية، 23). كما يستبعد من معطَيات العلوم ما لا يجده مناسبًا لآرائه لا لعقيدته "وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ" (هود، 20). وثمَّة فرقٌ شاسعٌ بين التَّولِّي والتَّعرُّف.

أمَّا الأرضيَّة فلا بدَّ أنْ تكون معياريَّةً تتوافقُ وطبيعة الأفكار المطروحة للنِّقاش أو البحث. وللتَّوضيح أطرح على الباحث سؤالاً: هل من حقِّ أحدِ دراسةُ نظريَّة علميَّة رياضيَّة أو بحثُها والحكمُ عليها من خلال ميتافيزيقية التفكير أو علوم الغيب المُختَلَفِ عليها؟ وهل للطبيب المتخصِّص اليوم أن يعتمد الرُّقى والتَّعويذات في معالجة الأمراض بدلاً من الأدوية وطُرق العلاج المرتكزة على نتائج تجريبية؟ أو لطبيب مُسلم مثلاً أن يصف دواءً قاتلاً ليهوديٍّ لأنَّه عدوٌّ له... أو العكس؟

لهذا أجد الأرضيَّة الفكريَّة والبحثيَّة التي اعتمدها السيد عبد الجليل تنطلقُ من موقفٍ عدائيٍّ لا بحثيٍّ. إذ إنَّ القرآن بكليَّته كتابٌ يرتكز على الإيمان بالغيب منطلَقًا لفهمه والاهتداء إلى تعاليمه وطبيعته. يؤكِّد هذا ما أعلنه صراحةٌ في الآية الأولى من سورة البَقَرة: "الم. ذلك الكتابُ لا ريبَ فيه هُدىً للمُتَّقين. الذين (يؤمنون بالغيب) ويقيمون الصَّلاة ومِّما رزقناهم يُنفقون والذين يؤمنون بما اُنزِل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون. أولئك على هُدىً من ربِّهم وأولئك هم المُفْلحون". ولعلَّ استبعاد الإيمان بالغيب وإخضاعَ البحث لما هو وضْعيٌّ فيه من التَّجنِّي الكثير. وسأتوقَّف هنا عند أربع مُفرَدات للإيضاح: [هدىً للمتَّقين. يؤمنون. بالغيب. يوقنون]. سابقًا كنت أظنُّ المتَّقين هم المتديِّنون. وبمراجعة أصول الكلمة: وفعلُها اتَّقى، (أصلُه وقى الذي حدث فيه إبدالٌ صرفيٌّ وإدغام لدى نقله إلى صيغة "افتعل" فأصبح اتّقى، أو تقى، اتْتَقى، اتَّقى)؛ تبين لي أنَّ المتَّقي هو الباحثُ عن وقاية المُتَجنَّبُ الخوضَ اعتداءً لا اهتداءً... فنحن نقي أنفسَنا البرد بما يجلب الدِّفء، والحرَّ بما يهبُ الاسترواح بالظلِّ أو ما شابه. وعليه فالمتَّقون هم الباحثون عن الوقاية. ويصرِّح القرآن بأنَّ هدايتَه موجَّهةٌ إلى الباحثين عن الوقاية ليس غيرُ. فلا غروَ أنْ يرفضَ المنطقُ القرآنيُّ السيد الباحث كما رفضه هو نفسه فاعتبره مؤلَّفًا بشريًّا وهي معادلةٌ موضوعية تمَّ توضيحُها.

أمَّا (يؤمنون بالغيب) ففيها طرفان كبيرا الأهميَّة في السِّياق: الإيمان، الغيب. والإيمان من الفعل آمَنَ وهو على صيغة (فاعَلَ) وهذه الصيغة لا تكون إلا من حدِّين: باحثَ محمودٌ عليًّا، وهو غير الفعل أمِنَ ذي الحدِّ الواحد. حتَّى في ما يخرجُ على الحدَّين من هذه الصيغة ظاهرًا (سافر) فإنِّنا نلحظ أثرهما الخفيَّ والاختلاف واضحٌ بين: سافرَ وسَفَر. وعليه فعمليَّة الإيمان يُعْوزُها طرفان ولمعرفتنا الطَّرفَ الثّاني (المخلوق) فمن هو الآخَر؟ وبما أنَّ القضيَّةَ ترتبط بالغيب فَلْنلجأ إليه... "فإمَّا يأتينَّكم منِّي هُدى" (البقرة، 38). حدثَ هذا بعد أن عصى آدمُ ربَّه وتبع عدوَّه (إبليس) والقصَّة معروفةٌ لا يصعب التَّأكُّدُ منها بالعودة إلى القرآن. ولي منها ما يُوضح الطَّرف الآخر (منِّي) لتكتمل معادلةُ الصِّيغة (آمَن - فاعَل). ولقد جاء الوعدُ محمولاً برسالة مع رسول من جنس المُرسَلِ إليهم "يعلِّمهم الكتابَ والحكمة" هذا من جانب الغيب أمَّا الجانبُ العقليُّ فالإيمان يتعلَّق بإله خالقِ يأمر وعبد مخلوقٍ له الحريَّةُ في الاستجابة أو عدمِها. فإذا تمَّت الاستجابة كان لنا أنْ نتساءل: من هو الله. هل هو مطلَقٌ أم محدود؟ ما حجمُ قٌدٌراته؟ هل لنا قياسُه؟ وبعيدًا عن الاختلاف في طبيعة الأفهام وتنوُّع الإجابات نفترض ما يُسهّل المسألة، ولا يزيدها تعقيدًا. لا شكَّ أنَّ شركةَ صناعة السَّيارات أكبرُ حجمًا واتّساعًا ومعرفةً وقُدرةً من مجموع ما أنتجته لعام واحد على سبيل المثال من السَّيارات ومُتَعَلَّقاتها. وعليه فليس لسيَّارة واحدة أن تتسع للشَّركة كاملةً. ومع سطحيَّة وبساطة التَّوضيح يحقُّ لنا القول: إنَّ الخالق أكبر حجمًا وقُدرةً واستيعابًا ومعرفةً من المخلوقات التي أنتجها ولحقبة واحدة على أقرب تصوُّر ممكن. فكيف إذن لفنجان قهوةٍ أن يستوعب البحر؟!! أمرٌ غير معقول. ولو ضغطنا (صفيحةً منه بآلة ما) فلسوف يتمزَّق ولن يحتمل. من ههنا يصبح الغيب ضرورةً والإيمانُ أخرى [بسبب عدم قدرة الجُزَيئة على استيعاب الكليَّة والمثال تقريبيٌّ وبسيط]. وما دونهما غيرُ موضوعيٍّ ولا هو بعقلانيٍّ. ثمَّ إنَّ الإيمان يعني الثِّقة وبدونها يضطربُ المعيار. ولبناء هذه الثِّقة لابدَّ من علائم (آيات) ومنهج (كتاب) وتواصُل (صلاة) وإثبات (صَدقات وزكاة)... لذلك جاءت المفردة (يوقنون) من الفعل أيقن أصلُه وقَن من اليقين أي كمال التَّصديق المتعلِّق بالآخرة والحساب ومتعلَّقاته لتكون مناط الإيمان بالمغيَّبات على صعوبة تماهيها مع العقل غير المتجاوب مع الرِّسالة ومسألة الإيمان برمَّتها. فمن يوقن بحتميَّة الامتحان لابدَّ أن يتحضَّر ويجتهد ويتهيَّب.

وأنا أجدُ في هذا كمال الموضوعيَّة والإقناع في ما يتعلَّق بالإيمان والغيب. وأعتبره دليلاً عقليًّا على أنَّ القرآن ليس مؤلَّفًا بشريًّا وضْعيًّا. ولو أنَّه كان كذلك لربط الأمور بعبثيَّة مؤقَّتة تزول بزواله ويجني منها ما يرمي إليه من مكاسبَ مدَّة حياته. أمَّا التَّشابُه بين الأديان فمردُّه إلى أنَّ الأديان كلَّها - ما أجمعوا على أنَّه سماويٌّ أو اعتبروه منها وثنيًا - أديانٌ سماويَّةٌ لحق بعضَها تغييراتٌ وإضافاتٌ إمَّا بفعل التَّقادُم والنِّسيان وإمَّا نتيجة عبَث وتلاعُبٍ وغايات... فأصبحت الأوثانُ رموزًا لها. ودليلي من القرآن نفسه "وإنْ من أمَّةٍ إلا خلا فيها نذير" ولعلَّ الاختلاف الآكَد بين ما أصابه التَّغيير أو الانحراف يعود إلى إرادة خالقة جعلت رسالاتها مرحليَّةً متماهيةً مع التطُّور البشري. مُفسحةً المجال لما حدث ويحدث من بابيْ المعرفة الأزليَّة والعدالة الخالقة التي سبق وصرَّحت عن كُنهها حال مكَّنتْ إبليس العاصي من إكمال دوره حتى السَّاعة. ولم تصرِّح بحفظ واحدة منها إلا في القرآن وحده "إنَّا نحن نزَّلنا الذِّكرَ وإنا له لحافظون" باعتباره كما أنبأ عن نفسِه آخرَها وتمامها. وفي هذا منطقيَّةُ وعافيةُ قول.

ثالثًا: وقد أوضحت معياري والأرضيَّة التي أجدها مناسبة للموضوع. نبدأ معًا الحوار إذْ أراك ماثلاً في ما ذهبت إليه.

-       تقول: (ثمَّ إن كشفَ أخطاء القرآن في بداية ظهوره لم يكن ممكنًا....). أرى أنَّ الحقيقة تُشير إلى أهميَّةٍ لا حدود لها عند مناوئي الرسالة المحمديَّة آنذاك تنصبُّ على ملاحقة أيَّة هَنَة أو لحن أو غلط (وسرُ تسمية المحسوسات بالغلط لأنَّ الخطأ يكون في الجوارح) ولو وجدوا من ذلك شيئًا لقامت دنياهم ولم تقعُد. فهو غضٌّ وأتباعٌه من الضَّعف والفقر وانعدام السَّطوة بمكان. ثمَّ كيف لمن لا يثق بالرُّوايات الشَّفويَّة أن يعتمد بعضَها مستَنَدًا له؟ أعجبُ لهذا.

-       تقول: (إنَّ أهم أهداف التَّفاسير وكتب النَّحو... تبرير تناقُضات القرآن و"أغلاطه" أخطائه وتغطية عيوبه). هل هذه حياديَّة، أم قهريَّةُ موقف؟! أليس هذا إلغاءً متعمَّدًا لشريحة عقَديَّةٍ طويلة وعريضة، أم هذا هو أسلوبُ حوار! كانت المجتمعات آنئذٍ أمِّية على فطرتها لا علومَ لها ولا قواعد علم. وقد خاطبها القرآن من خلال رجل أميٍّ منها. وما إنْ قُعِّدت القواعد حتى كان القرآن منهلَها الأساس. يرفده شعرٌ فصيحٌ حفظوه شفاهيةً - لم يكن هو الآخر مُدوَّنًا ولا مكتوبًا غير المعلَّقات المُختَلَف على قضيَّة تسميتها وتعليقها أصلاً. وهذا لا ينفي وجود بعضٍ من الكتَبَة في مكَّة تحديدًا كونها عاصمة التَّبادل الثَّقافي (عكاظ). وسيكون الردُّ على هذه التَّهمة عند عرض ما تهيَّأ للباحث الكريم أنَّه غلط حرصًا على الاختصار فالبحث ذو أبعاد.

-       تقول: (يحاول مروِّجو "سراب" الإعجاز العلمي فيه ليَّ عنُق النَّص ليبدو منسجمًا مع العلم...). سأعرض ما توصَّلتُ إليه (أنا) من ورثَ دينه عن أسرته ثمَّ تشكَّك طويلاً ودرس القرآن فوجد فيه الكفاية فأقرَّ. في سورة الكهف "وترى الشَّمسَ إذا طلَعَتْ تزاورُ عن كهفهم ذات اليمين. وإذا غَرَبتْ تقرضُهم ذات الشَّمال وهم في فجوةٍ منه. ذلك من آيات الله". هل كان محمَّد ضليعًا بعلوم عصرنا هذا؟ كيف كانت الشَّمس تبدو للعِيان؟ وما حقيقةُ حجمها اعتمادًا على ما توصَّل إليه علماءُ عصرنا هذا؟ في زمن البعثة كان النَّظَّارةُ يرون الشَّمس قُرصًا صغيرًا يشرق ويغرُب، ويسهل عليهم تصديق الآية (تتزاور... تقرضهم) أي تميل عن الكهف فلا تغطِّيه. فما ضرورة أنْ يقول (محمد) ذلك من آيات الله، وهم يرونها كذلك! ولم تبدُ لهم علامةَ إعجاز خارق آنذاك؟ أليس لأنَّ القرآن، بسابق علم الخالق يدرك أنَّ علماء عصرنا سيكتشفون الحجم الكبير للشَّمس والذي لا يمكن لعقل بشريٍّ استيعابُ ميلانِ هذا الجُرم الضَّخم الذي يكبرُ حجمَ الأرض بمليون مرَّة (بهجة المعرفة. الكون) عن كهف لا يكاد يشكِّل جزيئةً في مقياس هذا الحجم. أليس هذا دليلاً يعتمد نتائج العلم على أنَّ القرآن ليس مؤلَّفًا بشريًّا؟ "سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتَّى يتبيَّن لهم أنَّه الحقُّ". وهل هذا لَيٌّ لعنق النَّص ليبدو منسجمًا مع العلم! وخشية أن يطول البحثُ كنت لأعرض الكثير مما توصَّلتُ إليه في أثناء قراءتي التشكُّكيّة للقرآن.

-       تقول: (عدمُ معرفة أبي بكر وعمر وابن عبَّاس... لمعاني بعض مفردات في القرآن... وأبّا... غِسْلين... الرّقيم...). وهل هذا سبب مقنعٌ للتَّشكُّك! ماذا عليَّ لو سألتُك عن مفردة لم تعرفْها وأنت صاحب تخصُّص عالٍ في هذا المضمار؟ أاتهمك بالجهل؟ أم أتّهم المفردة بالغرابة؟ أم أتَّهم المصدر الذي جاءت فيه. ولو اتَّسع المجال لأوردتُ لك موقف عليٍّ عندما سأله أعرابيٌّ عن الآية "أولم يَرَ الذين كفروا أنَّ السَّموات والأرضَ كانتا رَتْقًا ففتقناهُما وجعلنا من الماء كلّ شيء حيٍّ أفلا يؤمنون" وأكتفي بما فيها من الإشارات المستقبليَّة، حالَما يكتشف العلماءْ حقيقة بدء الحياة على الأرض، وأنَّه لا حياة على أيِّ جُرم مالم يكن الماءْ موجودًا عليه لأنَّه أول أسباب الحياة. لعلَّ محمَّدًا كان عالم جيولوجيا وفيزياء وفلك... ووو!

-       يقول السيد عبد الجليل بوجود ثلاثة أنواع من الأخطاء "الأغلاط":
1- الإملائيَّة غير المقصودة (سهوًا) أو النَّاتجة عن التَّدوين). (إنَّ هذان لَساحران) يردها إلى خطأ النَّاسخ، إذ يفترضُ (هو) أن تكون تِبعًا لقواعد النَّحو: إنَّ هذين... متناسيًا وجود ضمير الشَّأن في النَّحو بل معتبرًا وجوده إنَّما وجد ليبرِّر هذا الغلط؟ وكيف له هذا؟ وهل ننسف علم النَّحو كلَّه لأنَّه اعتمد على القرآن أساسًا لتقعيد القواعد؟ ولْنقف عند هذه المسألة. فهي تصوِّر حال فرعون الذي صعقته المفاجأة أمام الملأ من حوله في مواجهة عصا موسى. ولكأنِّي به من الاضطراب ما جعل كلامه هذا غائمًا بين الحكم على الموقف والهزيمة والاستكبار... "إنَّه... إنَّ هذان...". ولمَّا كان القرآن هنا ناقلاً مصوِّرًا دقيقًا لحقيقة الموقف فقد أخفى ضمير الشَّأن وترك للتَّقدير مهمَّة إيضاح الصُّورة وإلا ففي القرآن آياتٌ وآيات لم تعتمد ضمير الشَّأن بل باشرت العمل في اسم إنَّ حيث لا ضرورة لذلك. كما وإنَّه لفيه الكثير من الآيات التي اعتمدت ضمير الشَّأن ليكون اسمًا للحرف النَّاسخ وتكون الجملة بعده خبرًا له. وأسأله لمَ لمْ يتوقَّفْ عند آية أخرى كانت لتخدم بحثه أكثرَ "لكنَّا هو اللهُ ربي"، أين ذهبت الهمزة من (أنا)، ولعل الحذف البديع يجيبُنا: لكن أنا هو الله ربِّي... فللقرآن خصوصيَّته في الحذف والزِّيادة والتَّقديم والتَّأخير والإطناب والإيجاز والالتفات والتَّشخيص والتَّغريب... ليتماهى مع صدقيَّته وسموِّه وتعادله العقلي العاطفيِّ وسيرورته. وكلُّ هذا له ميزاتٌ وليس مثالبَ. لذلك كان ولا يزال وسيبقى مصدرًا لحقائق النَّحو وجماليَّات البلاغة. وأسوق على هذا مثلاً واحدًا وقفتُ عليه بنفسي: "طلعُها كأنّه رؤوسُ الشَّياطين" (الصافات، 65). إنَّ معهودًا ذهنيًّا للشيطان يرسمه بأعتم ألوان البشاعة... ولكنني استغربت أن يلوذ أحدٌ ما من بشاعة وشدَّة العذاب في الجحيم بشجرة لها ثمارٌ شديدةُ البشاعة كرؤوس الشَّياطين ليأكلوا منها بشراهة كالهائمين. وهل يُلفتنا ما هو بشعٌ في حماة بشاعة وحمم ولظى وسعير؟ أليس من الأقرب إلى العقل أن تكون رؤوسُ الشَّياطين من الفتنة والإثارة بمكان فتتشابه معها تلك الثِّمار الجاذبة التي تستبي المُعَذَّبين ليقعوا في فخِّها فيزدادوا وجعًا وعذابًا وسوءَ حال؟ إنَّ التَّغريب هنا يجعل التَّأثير أشدَّ وقعًا وأكثر انفساحًا وانفتاحًا على المعنى. وهل من حقِّي أن أتهم المُفسِّرين الذين لم يتوصَّلوا إلى هذا المعنى بما لا يليق؟
2 - ومَّما يعتبرَه سهوًا من قبل مدوِّني الكتاب: "ولا يزال الَّذين كفروا في مِرْيَةٍ منه حتَّى تأتيهم السَّاعةُ بغتَةً أو يأتيَهم عذابُ يومٍ عقيم" إذ افترض أنَّ الأولى أن يقول بدلاً من "يوم عقيم" "يوم عظيم" لورودها كثيرًا (أي كلمة عظيم) وصفًا لليوم في غير موضع من القرآن. لن أكرِّر ما مهَّدتْ به الآيةُ نفسُها من وصف حال المشكِّكين به ودوام حالهم على الرِّيبة والشَّك حتى يوم القيامة. ولعلَّ الفاحص يدرك وبيُسر ما للعُقم هنا من دلالة لا تحقِّقها العظمة. فدوام حال الكافرين من الاستمرار على الريبة لن ينتهي حتَّى يأتيهم يوم لا يلد يومًا آخر لمزيد شكٍّ. فليس ذلك اليوم عظيمًا لشدَّة هوله وما يصاحبه كما ورد في مواضعَ أخرى فحسبُ وإنّما هو نهايةٌ عقيمةٌ لا تجدُّد لحياة الكافرين فيها. صحيحٌ أنَّ هناك حياةً أخرى ولكنَّها خاصَّةٌ بأهل النَّعيم، أمَّا الكافرون فهم في وضع أشبه ما يكون بالعُقم حيث لا حياة ولا موت، في عذاب متجدِّد أبديٍّ "لا يُقضى عليهم فيموتوا"...

-       ويدَّعي الباحثُ أنَّ من أخطاء القرآن مجيءُ (عاقبة) مؤنَّثة بعد كان غير المؤنَّثة "فانظُر كيف كان عاقبةُ المُنْذَرين" والتي تكرَّرت أربعًا وعشرين مرَّة. وبالعودة إلى مبحث [تذكير الفعل مع الفاعل وتأنيثُه وجوبًا وجوازًا] نجد أنَّ (عاقبة) التي هي اسم كان النَّاقصة ويعادلها الفاعل مع الفعل التَّام وأنَّ الفاعلَ المجازيَّ الذي لا يمتاز مذكَّرُه من مؤنَّثه – يجوز لفعله التَّذكير والتَّأنيث. فنقول: طلعت الشَّمس وطلع الشَّمس. كان الشَّمسُ وكانت الشَّمسُ مشرقةً. والعاقبة مؤنَّثٌ مجازيٌّ فليس هنالك عاقبةٌ مذكَّر وعاقبةٌ مؤنَّث لذلك يستوي معها الأمران. مضافًا إلى هذا أنَّ الفاعلَ المُضافَ إلى مذكَّر يغني فيه المضاف عن المُضاف إليه حال حذفه (كيف كان المُنْذَرون) بحذف المضاف إليه (عاقبةُ) يُرجَّح معه التذكير مع المذكَّر والتأنيثُ مع المؤنث. هذا وبتدقيق معنى الآية أيضًا نخلُصُ إلى أنَّ كان هنا جاءت لإفادة المُضِيِّ وكأنَّها زائدة معنىً: فانظر كيف عاقبةٌ: أي الحال التي آل إليها المُنْذَرون.

-       أمَّا إرجاعُه المفردة إلى الآراميَّة أو العبريَّة فيبعث على الاستغراب حقًّا، إذ كيف أجاز لنفسِه رفضَ المصدر العربيِّ واعتماد ما هو أقدم وليس مُحقَّقًا حسب ادِّعائه. وساق بعد هذا ما اعتبره خطأً سجعيًّا أو موسيقيًّا: (فكيف كان نكير)، (لكم دينُكم ولي دين)، وهو يفترض أنَّ الواجبَ أن يقول: نكيري وديني بإثبات ياء المتكلِّم، وقد تمَّ حذفُها حسبَ ادِّعائه تماهيًا مع الفاصلة القرآنية لغرض موسيقيٍّ سجعيٍّ. وحتى لو كان الأمر كما ذهب فلا أرى فيه بأسًا، فالقرآنُ يهتمُّ بإيقاع المفردة في غير موضعٍ. وبإنعام النَّظر في المفردتين نجد الدَّلالةَ جليَّةً مع الياء وبدونها، فلا يخفى المعنى في كلا الحالين. ولعلَّ الحذفَ أشدُّ وقعًا على السَّمع من الإثبات. لاحظ معي: "فكيفَ كان نكيري" و"فكيف كان نكير". كما أنَّ انفتاح النَّكرة المؤذنة بالتَّعريف أقوى لأنَّها تفيد المطلَقَ العامَّ لا الخاصَّ. ما يبعثُ على التَّأمُّل وتصوُّر شدَّة الأثر: وليَ دين... أمَّا (دينٌكم) فمعروفٌ لكم، و(لي دين) مُنْكَرٌ من قبَلِكم وفيه من البلاغة ما لا يخفى تماهيًا مع حال المُنكرين. ولمعرفتي بجماليَّات اللغة أجد الحذْفَ أبلغ وأدقَّ. وكما أسلفتُ فأين البأسُ حالَ مراعاة القافية. فلم يُعَب على شاعرٍ مراعاةُ القافية ولا على ناثرٍ التزامُ السَّجع، فلماذا نخَطِّئ القرآن في مراعاة الفاصلة التي تُسَهِّل الحفظَ وتتماهى مع موسيقا العرض؟!

-       ويأتي بعدها على ما هو أغربُ، فيعتبرُ وجود كان النَّاقصة في بعض الآيات مدعاةً لاعتبارها خطأً كونها حُذِفتْ في آياتٍ مماثلة: "إنَّ الله كان عليًّا كبيرًا" "وأنَّ الله هو العليُّ الكبير"، وبإنعام النَّظر نجدُ أثرَ الاعتداء على اللفظ والمعنى حالَ ذكر (كان) على هوى الباحث المحتَرم: "وأنَّ الله كان هو العليُّ الكبير" وضعان مختلفان الاختلاف الواضح. أليس من الرّكاكة إضافة (كان) على الآية الثَّانية! كما وأنَّ إثباتَها في الآية الأولى لا غرابةَ أو عيبَ فيه. وعلى المنوال نفسِه الآياتُ الأخرى التي ساقَها اعتداءً لا تمحيصًا.

-       وهو إذ يعتبر زيادةَ حرف الجرِّ (من) في الآية الآتية: "ما جعل الله عليكم في الدِّين (من) حَرَج" خطأً إنشائيًّا، وبالنَّظر والتَّدقيق نلحظُ ما لزيادة حرف الجرِّ في الآية من علاقة بالمعنى الأكمل. وقارنْ معي بين: "جعل [...] حرَجًا" وبين "من حرج". أليست الزِّيادة تقويَةً لتمام المعنى من دونها؟ فعهدنا بالحرف الزَّائد في اللغة العربيَّة (تقوية) المعنى والتَّشديد عليه: "أليس الله بأحكم الحاكمين" والباء حرف جرٍّ زائد وأحكمِ مجرورٌ لفظًا منصوبٌ محلاًّ على أنه خبرُ ليس. كما ألاحظُ أيضًا في (من حرج) إفادةَ أخرى في (من) أي حتَّى بعض الحرج، ومن معاني (من) التَّبعيض: أكلتُ من التَّفاح أي بعضًا منه، والآيةُ تنفي الحرَجَ بجزئيَّته وكلِّيَّته.

-       ثمَّ جاء على تهمة أخرى تعتبر حذفَ ما هو جليٌّ مذكورُ واضحُ لا لبسَ فيه: "من كان يظنُّ أنْ لن ينصُرَه اللهُ [...] فلْيمدُدْ بسبب إلى السَّماء ثُّمَّ لْيقْطَعْ فلينظُرْ هل يُذهبَنَّ كيدُه ما يَغيظ" فيظنُّ واهمًا أنَّ الأولى القول: فليقطع حبلاً. وهو يُقيِّد ما ليس مقيَّدًا فما تشير إليه الآية هو قطْعُ السَّبب الذي يختاره من يريد التَّأكُّد وهذا السَّبب مفتوحٌ على المستقبل لا مقيَّدٌ بالحال والأسباب (الوسائط) متعدِّدة هي في عصرنا (طائرات، صواريخ، أقمار صناعيَّة... الخ) لذلك تمَّ حذفُ المفعول ليتَّسع المعنى عمَّا ضاق عنه فَهمُ باحثنا الكريم. كذلك ينظر إلى زيادة (من) في الآية "كلَّما أرادوا أن يخرجوا منها من غَمٍّ أُعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق" ولأنَّ كلمة (غمَّ) وردت في آياتِ أخرى بمعنى الحزن الشَّديد فهي (في نظره) هنا لا تفيد هذا. إذ هم في عذاب يحترقون ويُصهرون وهذا أكبرُ من الغمِّ كما ظنَّ. وحقيقة المعنى الذي يتَّسع له (الغمُّ) تختصر تلك الأمور كلَّها لأنها جلبت لهم الغمَّ والكربَ ما حدا بهم إلى محاولة الخروج من الجحيم المُحدِثِ ذلك كلَّه، ليُجبروا على العودة. ولننظر إلى حال الأسير الذي يُعاني العذاب كيف يحلُم ولو بقليل من الرَّاحة من وطأة الكرب الذي يُعانيه فيحاول الهروب أو الاستجداء أو أو... ولْيَعُد إلى حقائق اللغة ليجد أنَّ الغمَّ أشد تعبيرًا عمَّا لا يُحتملُ أو يُطاق، وأنَّ للمفردة دائمًا في لُغتنا معنيان أحدهما معجميٌّ والآخر سياقيّ. ويلعبُ السِّياقُ دورًا لا يخفى على ذي ذائقة لغويَّة في توجيه المعنى حدَّةً أو خفَّةً على وفق الحاجة.

أمَّا الألسنيَّةٌ واعتمادها حجَّةُ على عدم الثَّبات لاتِّهام حفظ القرآن بعدم الإمكان، فهي حجَّةٌ واهية يدحضُها مؤلَّفاتُ وصلت إلينا من عُمق العصور السَّالفة، ولولا أن يطول البحثُ (دون جدوى مؤكَّدة) لولجت معه هذه القضيَّة المعقَّدة بالآراء ووجهات النَّظر الوضعيَّة ولكن الأساس الإيمانيَّ الغيبيَّ (لمن يريد أن يؤمن) يردُّ حفظ القرآن إلى الله الذي تعهَّد بهذا، وهاهو ذا محفوظٌ إلى يومنا وسيبقى هكذا إلى أن يقضي الله برفعه من أيدي غير المؤمنين به قُبيل السَّاعة. ولعلّ ظواهر رفعه قد بدأتْ بالظُّهور لما نجده من بعد عن تعاليمه حتَّى من قبَل كثير من المسلمين. وما أبلَغها من آية تصوِّر الحالَ أيَّما تصوير: "وقال الرَّسول يا ربُّ إنَّ قومي اتَّخذوا هذا القُرآنَ مهجورا" (الفرقان، 30) فهم وياللعجب قد اتَّخذوه شعارًا أو ليُعلَّق على الجدران أو يوضع لحماية السيَّارة أو أو... تاركين تعاليمه مهاجرين فحواه.

هذا ولعلَّ هنالك من يعرف أكثر، وللحوار مقارباتُه ومفارقاتُه ولكلٍّ ماله وما عليه. لكلِّ جهد مخلص أيًّا كان تقديرٌ كبير واحترام. هذا ما لديَّ أعرضُه ولا غرَضَ وراءه إلا البيان على قدْر الإمكان من منطلَقِ يتماهى وحقيقة الدِّين التي أرى فيها من الحريَّة ما يفوق العلمانيَّة إن فُهمتْ بصدقيَّة الإيمان: "لا إكْــــــــــــــــــراهَ في الدِّيـــــــــــــــــــــــــــن قد تبيَّــــــــــــــــن الرُّشـــــــــــــــْدُ من الغَــــــــــــــــــيِّ" (البقرة، 256).

والله من وراء القصْد.

*** *** ***

راجع مقال محمد علي عبد الجليل على الرابط: http://www.maaber.org/issue_june14/spotlights1_a.htm

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني