صحوة دينية أم أزمة هوية؟

 

مناف الحمد

 

الصحوة الدينية التي أصبحت موضة العصر في الثمانينيات في العالم الإسلامي وغيره والتي صدع بها علماء الدين رؤوسنا آنذاك والتي تمثل التيارات الجهادية المتطرفة اليوم في مجتمعاتنا أحد مفرزاتها ليست ظاهرة سببتها عودة الناس إلى الهدى بعد الضلال ولا انبلاج نور الحق وتغلبه على المنظومات الفكرية المناوئة له. فهذه الظاهرة لا يمكن فصلها عن التحولات الاقتصادية في مركز العالم وعن التغيرات في مفهوم المكان والزمان والتي انفعلت بها مجتمعات الأطراف على شكل نكوص إلى المقدس نكوصًا وظيفيًا يحقق مطلبين:

-       الأول تأكيد الهوية التي يهددها بالضياع ما يتمخض من نتائج عن النظام الرأسمالي لا تقتصر على الاقتصاد وإنما تتعداه إلى النواحي الأدبية والفنية والجمالية.

-       والثاني تحويل الفصل بين ثقافتين ورؤيتين يمكن أن يسبب تداخلهما إلى غلبة من يمتلك مقدرات أكبر إلى انفصال بين داخل متقوقع ضمن منظومته ومكانه الإقليدي المطلق-الحاوي ككل مكان، كما يقول فوكو، على سلطة اجتماعية والذي حطمته التغيرات في عالم الاتصالات والمواصلات وحولته إلى أمكنة نسبية متغيرة وصار منظورًا إليه كنتاج للأصل الاجتماعي ما يجعل مقاربته متعددة بتعدد زوايا النظر المتنوعة - وبين خارج مغاير تتم شيطنته على اعتبار أنه القطب المتعارض جوهريًا مع نقاء الداخل المحتوي على كل ما هو مقدس.

يتزايد السعي للبحث عن حقيقة ثابتة طردًا مع زيادة هيمنة الصورة التي تعبر عن الراهنية والسرعة وقابلية التبدل السريع، وهذه القابلية بدورها لم تخلق بدون علل فاعلة سببتها وحولتها إلى إحدى مظاهر العالم المعاصر.

كلمة السر في هذا التغير هو التحول من النظام الفوردي إلى نظام التراكم المرن. فبعد أن دخل النظام الفوردي في أزمة لم يستطع حلها - سبببتها تناقضاته الداخلية التي تمثلت في الاستثمارات الثابتة في الإنتاج الكثيف التي كانت تتميز بخاصتي طول المدة وكبر الحجم الأمر الذي أعاق مرونة التخطيط، وحال دون النمو الثابت في أسواق العمل وفي توزيع العمالة وهو ما حشر هذا النظام الذي كان يشبه بالمنطاد الساخن (قلة ثرية، قلة فقيرة، كثرة في الوسط) في الزاوية ولم يترك أمامه من مخرج إلا طباعة كميات جديدة من النقود أدت إلى موجة تضخم فاقمها ارتفاع أسعار النفط بعد قرار دول أوبك في بداية السبعينيات.

هذا المأزق الكبير تمخض عن ظهور شكل جديد للتراكم هو التراكم المرن وقد سمي كذلك بسبب ما تميز به من:

1.    خاصية إمران الأجور والتخفيض المطرد في ضمانات التأمين ضد البطالة.

2.    والمرونة حيال إجراءات العمل.

3.    ونشوء طرائق جديدة في توفير الخدمات المالية.

4.    وأسواق جديدة مكنت من الابتكار التجاري والتنظيمي والمالي مما زاد في الأرباح وزاد في أجور كبار المدراء والمشرفين.

5.    كما سمح النظام الجديد بنشوء المؤسسات التجارية المصغرة التي نتجت عن التحول من عقود العمل الدائمة للموظفين إلى عقود العمل الجزئية.

6.    والإنتاج بكميات صغيرة وفق الطلب وهو ما خفض وقت العائد للإنتاج ووقت العائد للاستهلاك وهو ما غير مفهوم الزمن الروتيني السائد في المرحلة السابقة.

كما ترافق التراكم المرن مع نشوء مواز للمنشآت الصغيرة المذكورة آنفًا تمثل في أنظمة الاتصالات الجديدة المتطورة التي اعتمدت على العناصر الالكترونية بالغة الصغر ليكون التصغير سمة مهيمنة على عالمي الاقتصاد والتكنولوجيا المرافقة له.

يهدف هذا العرض لظاهرة التراكم المرن إلى تبيان علاقته بالبحث عن الحقيقة الثابتة، فقد كان من نتائجه السرعة في تحول الأزياء والمنتوجات وتقنيات الإنتاج وحتى الإيديولوجيات والأفكار تحت وطأة ثقافة الاستهلاك السريع وانضغاط الزمان-المكان.

من هنا يمكن القول إن ما سمي بالصحوة الدينية كان نتاجًا لاطراد ظاهرة التبدل السريع وقابلية الزوال وهيمنة الصورة، فلم يكن أمام المنفعلين بالتطورات الجارية في العالم الذي تمثل الدول الرأسمالية مركزه ويمثلون هم أطرافه إلا العودة إلى الأصالة المتعالية على الاستحالة من شكل إلى آخر وإلى حقائق الدين التي لا تخضع للتجريب والتي تفرض على أنها مطلقة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها.

ولأن اللاهثين وراء ملجأ يحتمون به من ظاهرة التبدل السريع ويطلقون على لهاثهم هذا اسم الصحوة الدينية ليسوا فاعلين حقيقيين كما يتوهمون وإنما مجرد مفعول بهم يتصرفون بفعل فعل انعكاسي فإن ظاهرة التصغير التي تمخض عنها النظام الرأسمالي قد صبغت نشاط الغلاة منهم فباتوا ينظمون أنفسهم في جماعات متناثرة في أماكن عديدة وصار مفهوم الأمكنة النسبية الذي حل محل المكان المطلق والموقع المطلق - الذي لا يزالون يعيشون فيه في أوهامهم - أيضًا مفهومًا حاكمًا لهم دون إرادتهم، ولعل هذه المفارقة بين الواقع وبين الصورة الذهنية التي يحملونها له تسهم في تفسير بعض سلوكياتهم التي تعد بالغة الغرابة لمن لا يدرك خلفيات الظاهرة.

إن العودة إلى المقدس لتأكيد الهوية أيًا كان هذا المقدس لا يمكن أن يكون إلا عملية انتقائية تتناول بها أشياء من الواقع ويتم رفعها إلى مصاف المقدس واعتبار ما يغايرها مدنسًا وفرضها على الآخرين، وهي انتقائية بحكم كونها طريقة في الفهم لما يعتبر مقدسًا وبالتالي فهي منتوج بشري. للبحث عن الهوية مسوغاته ولكن على ألا تكون بمنأى عما يجري في العالم وأن تكون فضاء منبسطًا قادرًا على استيعاب ما يشترك فيه الناس وليس باختراع قوقعة منتقاة من وراء سجف القرون باعتماد منهج الاختيار الانتقائي وفقًا للأهواء والانتماءات أو على منهج الاختيار على أساس حكم قيمة لأزهى العصور في تاريخ الأمة، وهما منهجان يفضيان إلى تعريف الذات بدلالة وجود جوهري ثابت موجود في لحظة من لحظات التاريخ وهو ما يحول الأصالة إلى قيمة إيجابية تقاس بمدى تطابقها مع هذا الجوهر.

ومن البديهي أن يفرز هذا استقطابًا حادًا بين الحق والباطل وينذر بخطر الإفضاء إلى العنصرية والانتماء إلى الماضي زمانيًا في مناحرة للزمن السريع المنطلق إلى الأمام.

إن مفهومًا للهوية تاريخيًا وصائرًا وقابلاً للنمو والانبساط في العالم والتاريخ يموضعها ضمن بنية المجتمع السياسية أي بين ما يشترك به أفراد المجتمع بصورة عمومية كجماعة وليس ما هو مشترك بينهم كأفراد هو الكفيل بجعلها هوية تعترف بالجميع بدون إقصاء لأحد وتقبل الجميع كأعضاء متساوين في القيمة والشرعية.

ولا يمكن صياغة هذا المفهوم إلا باتباع المنهج العلمي التحليلي للاختبار الذي يعتمد على تحليل المواصفات العامة والملامح الثقافية المشتركة للأمة في عصورها المتعاقبة من واقع خطابها الثقافي وأدائها العملي وأسلوب حياتها، وطرق استجابتها لمتغيرات كل عصر، وتحديد الملامح الأصلية، وتتبع فعاليتها عبر العصور، وعزل الملامح الدخيلة، وبحث تأثيراتها سلبًا وإيجابًا.

*** *** ***

الأوان، الثلاثاء 18 آذار (مارس) 2014

 

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني