حوار الحضارات من منظور علماء الاجتماع في إيران

 

غسان حمدان

 

بعد انهيار النظام الاشتراكي في الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة، دخل العالم في فضاء جديد، وتغيرت معادلات القوة والعلاقات السياسية بين البلدان. كما انتهى عالم ثنائي الأقطاب، وباتت أمريكا القوة العظمى الوحيدة المسيطرة على العلاقات السياسية في العالم دون منازع؛ ما يحتاج إلى تنظيرات جديدة.

وقد طرح بعض الاستراتيجيين والساسة المعتبرين عدة نظريات جديدة، جرى نشرها بوسائل الإعلام. نشير إلى أهم هذه النظريات: «النظام العالمي الجديد»، «نهاية التاريخ، والنصر النهائي الليبرالي الديمقراطي» و«صدام الحضارات». ووضعت هذه الأفكار بسرعة تحت مجهر التدقيق، والتمحيص في المحافل العلمية، والسياسية والثقافية في أنحاء العالم كافة.

وقد سعى طارحو هذه النظريات إلى اعتبارها نظريات علمية، لكن العلماء والمفكرين المستقلين في العالم، وبالأخص في العالم الثالث، عدُّوها امتدادًا لمصالح الولايات المتحدة، وتهديدًا للسلام، والأمن العالمي، وتحذيرًا لبلدان العالم الثالث.

أنتجت التحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، التي انتشرت منذ بداية الألفية الثالثة، ميلاً واضحًا في الفكر الاجتماعي والسياسي والديني العربي والإسلامي نحو تطوير نظرية حوار الحضارات، وكان للفكر الإيراني في هذا المضمار أهمية كبيرة لما أصبحت تتمتع به إيران في منظومة العلاقات الدولية الراهنة، غير أن هذا الفكر على أهميته لم يتضح بوصفه رؤية متكاملة تستقطب المفكرين في تيار واحد وفلسفة واحدة، ولا يزال حتى الآن مشتتًا في اتجاهاته، متعددًا في أهدافه، وغاياته التي يسعى إليها.

ومع هذا عندما أطلق محمد خاتمي، الرئيس الإيراني السابق، مشروع حوار الحضارات على صعيد الدولي، حظي مشروعه بحفاوة بالغة من قبل منظمة الأمم المتحدة لما يندرج فيه من قيم عليا من قبيل: السلام، الحرية، والمساواة، والسعادة لجميع البشر في العالم. وبعد خطابه التاريخي في جلسة الألفية الثالثة في المجمع العمومي، قامت منظمة الأمم المتحدة بتسمية عام 2001 عام «حوار الحضارات».

بعد مدة وجيزة من إعلان عام 2001 عام حوار الحضارات، وفي حين أضاء قبسًا من الأمل للمجتمعات بأن المشكلات الموجودة بين البلدان والحضارات سوف يجري حلها عن طريق تبادل الآراء وفي ظل الحوار، حدثت واقعة 11 من أيلول في نيويورك، وباتت بداية لمجموعة من القرارات والإجراءات العنيفة في العالم، من جملتها سحق مشروع الحوار بين الشرق والغرب بذريعة الحرب على الإرهاب.

إن مفهوم «صدام الحضارات» إيديولوجية جازمة، ومطلقة، تقسم العالم إلى صديق وعدو، وقريب وبعيد، وفي النهاية تؤدي للعداوة، ونشوء الصراعات بين البلدان والحضارات. وبالطبع نعلم أن هذه الصراعات بسبب السلطة الغربية وقوتها سوف تؤول للإضرار بالبلدان الصغيرة، ودول المنطقة.

لكن مفهوم «حوار الحضارات والثقافات» بعكس ما سبق لا يقسم العالم إلى صديق وعدو، ويرى أن جميع الشعوب هي صاحبة حق واستقلال سياسي، ويريد السلام والسعادة والديمقراطية والمجتمع المدني Civil Society للشعوب كلها، ويدعو الحكومات للتعايش السلمي، والمشاركة في بناء حياة البشر.

من وجهة نظر علم الاجتماع لتحليل الأوضاع والظواهر، نحن بحاجة للتنظير. فبدون النظرية، وامتلاك الاستراتيجية الكلية، لا يمكن رسم مسار الحركة للوضع الموجود. لذلك فإنه بعد انتهاء الحرب الباردة قام المفكرون بصياغة المفاهيم والتنظير ليظهروا نمط الرؤية، وكيفية التحرك، والسياسات الكلية للحكام والسياسيين. ونحن نعتقد أن طرح "حوار الحضارات" يمكن أن يلعب هذا الدور على صعيد العلاقات الدولية، والعلاقات السليمة بين شعوب العالم.

ولعل البعض يعتقد أن طرح موضوع «حوار الحضارات» اليوم لا محل له من الإعراب. لكن لا توجد حتى الآن نظرية أخرى أو مشروع يستطيع أن يحل مسار الأمور بشكل جيد ويعطي حلولاً مناسبة وواعدة. وإذا جرى قبول هذا المشروع من قبل السياسيين المؤثرين في العالم، يُرجى أن تهدي البشرية بالسلام، والحياة المسالمة. حيث إن مشروع «حوار الحضارات» ما زال حديث العهد، ويحتاج للإصلاح، والترميم في مواجهة الأسئلة المطروحة، والإشكاليات المثارة حوله؛ لذلك يهدف هذا البحث إلى عرض آراء عدد من العلماء الإيرانيين في هذا المجال، ليقوم الباحثون الآخرون، والمفكرون، والمتصدون للأمور الثقافية، والعلوم الاجتماعية، والسياسية بتحليل أعمق لعوامل القوة والضعف هذه، ليساعدوا في تطوير رؤية متكاملة لمفهوم الحوار وتكميلها، تمهيدًا للأرضية المناسبة لتقديمها كنظرية علمية، أو تقديم أيَّة نظرية أخرى لمعالجة الأزمة الراهنة.

هل يمكن عد «حوار الحضارات» نظرية علمية؟

في العلوم الإنسانية عندما يجد أحد العلماء علاقة بين ظاهرتين أو أكثر، أو عندما يعرض تحليلاً عن وضع ظاهرةٍ ما، يربطها بمجموعة من الدلائل، والشواهد الحقيقية، ويقولون؛ إنه قدم "فرضية". وعندما تشاهد هذه الفرضية ضمن التيار الحقيقي لأمور الحياة البشرية، وتؤيد صحتها بشكل عملي على يد مجموعة كبيرة من العارفين، وإذا لم يشاهد موارد نقض مهمة تتبدل تلك الفرضية إلى نظرية علمية. وبالطبع فإن عدد النظريات التي تنطبق عليها هذه الحالة قليلة جدًا، إلا إذا لم يجر الاعتناء بموارد النقض، وتم التعامل معها بتسامح.

يقول عالم الاجتماع الإيراني د. حسين سليمي في هذا الصدد:

الحقيقة أن حوار الحضارات قبل أن تكون نظرية علمية، هي مفهوم وتوصية سياسية وثقافية ودولية. ولقد قدم هذا المفهوم السيد خاتمي في مواقف عدة، ومحاضرات مختلفة. لكن لا يمكن حتى الآن اعتبارها تحتوي على خصائص "نظرية علمية"[1].

وفي الحقيقة، إن حوار الحضارات هو مؤشر لرؤية جديدة، وسياسية حديثة قدمها السيد خاتمي أمام المؤشرات الأخرى لصراع الحضارات، والنظام الأحادي الغربي، وعدم الاهتمام بحقوق الشعوب. لكن هذا المشروع يشتمل على عدة فرضيات نظرية محدودة، وهي:

1.    القبول بمفهوم "الثقافة" و"الحضارة" كعوامل أساسية، ومحدِّدة في العالم الفعلي.

2.    القبول بالتنوع، والتغاير، والتمايز الموجود بين الحضارات، والثقافات. يعني أنه علينا أن نقبل وجود ثقافات، وحضارات متنوعة في العالم. بالطبع يجب تحديد التعريف الدقيق للثقافة، والحضارة، وأن تُحدد أيضًا خصائصهما في العالم، وعددهما.

3.    القبول بنموذج أسلوب المصالحة والتفاهم مكان النموذج التعارضي. بمعنى أنه يوجد ثقافات مختلفة، لكن مغايرتها لا تعني صراعها، ونزاعها؛ بل علاقاتها يمكن أن تكون مبنية على الحوار، والتفاهم.

ومن ناحية تطابق الفرضيات مع الحقائق، مع أننا لا نريد هنا أن نطيل الحديث، لكن يمكن القول: إن نظريات "نهاية التاريخ"، "صراع الحضارات"، و"العولمة"، وهي المنافسة الأقوى لمشروع "حوار الحضارات"، برغم امتلاكها لبعض الشواهد المثبتة، لكنها تمتلك موارد نقض مهمة (عدم تطبيق النظرية مع الواقع) على المستوى العالمي أيضًا، بحيث شكك الكثير من العلماء في الغرب والشرق بصحتها. ومن جهة أخرى لم يستطع أحد إلى الآن أن يعد حوار الحضارات أمرًا غير حقيقي، وغير قابل للتحقيق، وأن يدلِّل على ذلك ببراهين علمية، وعملية قاطعة.

وبعكس ذلك هناك شواهد وبراهين غير قابلة للإنكار في العصور الماضية، والعصور الحالية، تشير إلى أن تفعيل هذا المشروع عمليًا يبدو ممكنًا، ومفيدًا. وإن التطرق لهذا الموضوع يحتاج إلى مقال آخر. نشير كمثال على ذلك أنه هناك نماذج في عصرنا هذا من العناصر الثقافية والحضارية مثل: الفن، والآداب، واللغة، و... إلخ تنتقل وتتبادل يدًا بيد على المستوى العالمي، وبين الشعوب أيضًا. وإثر تعرف الشعوب إلى الثقافات الأخرى سوف نشهد أنواعًا من التقاليد، والاتباع الفكري، والعقائدي، والسلوك العملي للأفراد بالنسبة لبلاد أخرى. يستفيد الشرقيون، والمسلمون، من بعض المظاهر الثقافية والحضارية الغربية. وفي الغرب أيضًا توجد اتجاهات قوية بين الأفراد بالنسبة للمظاهر الثقافية والحضارية للشرق والإسلام.

على أيَّة حال، ليس خافيًا على أحد أن الوجهة البارزة للغرب هي الصناعة، والتكنولوجيا، ويتجلى في الشرق الإنسانية، والدين، والأخلاق، والعائلة، و... إلخ بشكل أكبر. ذلك ما نحتاج إليه، وهذا ما يحتاجونه؛ فَلِمَ لا نتعامل مع بعضنا لطي مسار التكامل، وإعلاء مقام الإنسان، وإيصال البشر للسعادة والرفاه؟

ضرورات الحوار

لقد عرض عالم الاجتماع د. علي أصغر صباغ پور احتياجات الحوار وضروراته على الصورة التالية:

1.      الاحتياجات الحضارية: كل حضارة تحتاج إلى التعامل مع البيئات التي تحيط بها لأجل بقائها، وتفاعلها... وفي هذه الحالة يبدو أن النظرة الدينامية Dynamic إلى جانب النظرة الساكنة Static تساعدنا على تقوية الحضارة الخاصة بنا. ففي النظرة الساكنة نعد الحضارة بمثابة بناء، ونظام ميكانيكي كحد أعلى، في حين أنها في الحالة الدينامية تبدو كعضو حيٍّ، ونظام مفتوح له حياة، ووجود حيٌّ، ولديه القابلية للنمو. وفي عالمنا اليوم تتعلق دينامية الحضارات وبقائها بارتباطها ببعضها البعض.

2.      الاحتياجات الدولية: إن كل حكومة ونظام سياسي يجران وراءهما جذورهما الحضارية. وإن نظرة الحكومات إلى السلام العالمي، والدبلوماسية والحرب، و... إلخ تتأثر بالمضامين الفكرية والثقافية والحركية للحكومات. ويتيح حوار الحضارات هذه الفرصة للحكومات بأن تعرض خلاصة حضارتها للأخرى ليصلوا إلى ميثاق عالمي، ولتنخفض الحوادث المرة، وغير المستساغة التي حصلت في الماضي (كالحروب) إلى حدها الأدنى، لتصل الشعوب إلى حالة من الثبات والاستقرار في قالب من السلام العالمي.

3.      مجموعة الاحتياجات الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية: لا بد لكل بلد من أجل الوصول إلى المصالح الوطنية National interests من تحقيق صيانة الذات Self preservation، والاستقلال Independence، ووحدة الأرض Territorial integrity، والأمن القومي National Security، والأوضاع الاقتصادية الجيدة Well – Being Economic. وقد تساعد فكرة حوار الحضارات في الوصول إلى المصالح الوطنية، وما يليها، عبر عمليات معقدة تارة، وواضحة وجلية تارة أخرى[2].

وقد أشار عالم الاجتماع د. مسعود چلبي إلى هذه الضروريات:

أولاً؛ الإرث السلبي للحداثة مثل: تلوث البيئة، وازدياد عدد السكان، وتبديد المنابع التي لا تعوض (ليس لها بديل)، والحوادث الدولية، ووجود أسلحة الدمار الشامل، كلها ترسم المصير المشترك (أو الحظ المشترك) لجميع ساكني هذه الكرة الترابية، بصرف النظر عن المكان، والجنسية، واللغة، والدين. إن الحظ المشترك الذي حصل عن طريق الإرث السلبي للحداثة على المستوى العالمي يتطلب بالضرورة تحركًا مشتركًا على المستوى العالمي أيضًا. ولا يتيسر ذلك إلا بالتعاون، والتعاضد، والحوار الدولي.

ثانيًا؛ إن عولمة الاقتصاد المتفاقمة، وازدياد عملية الارتباط المتقابل للحكومات والشعوب بالنسبة لبعضها البعض – مع أن هذا الارتباط غير متقارن – أدى إلى عدم بقاء أي أحد مصانًا من رد الفعل المتسلسل والدوري في النظام العالمي. ويمكن القول: إن ازدياد الحظ المشترك، وازدياد التعقيدات في النظام العالمي، وازدياد التعلق المقابل، وازدياد الفوضى العالمية، وفي الوقت نفسه انهزام الأيديولوجيات المختلفة في القرن العشرين، هيأ الأرضية المناسبة للحوار بين الثقافات. كما أن الإمكان العلمي لهذه الحوارات قد ازداد من الناحية الفنية[3].

يقول خاتمي في قسم من خطابه في الجلسة الخاصة لحوارالحضارات في منظمة الأمم المتحدة:

يبدو أنه حان الوقت لرواية ديكارت – فاوست للحضارة الغربية أن تصيخ السمع لروايات النطاقات الفكرية والثقافية البشرية الأخرى. إن تخريب الطبيعة اللامتناهي الناتج عن النظرة المريضة للطبيعة في القرون الأخيرة هددت حياة النوع البشري، ولو لم يكن هناك أي دليل فلسفي، واجتماعي، وسياسي وإنساني لضرورة الحوار إلا هذا الوضع المؤسف بين الإنسان والطبيعة للزم الأمر أن يضع مفكرو ومصلحو العالم جميعهم وأصدقاء الإنسان مسألة الحوار على رأس جميع أعمالهم[4].

فوائد الحوار

لقد قال خاتمي في جزء من حديثه في لقائه مع قادة المنظمات والمراكز الإسلامية في أمريكا، عام 2000:

إن نتيجة الاقتراح الذي نقدمه هي نوع من الديمقراطية الدولية. بمعنى أن عالمًا يستند إلى نظام ديمقراطي. الشعوب والمواطنون جميعًا لديهم حقوق متساوية، ويشاركون بآرائهم، وينتخبون الحكومة ويراقبونها؛ لو أدير حوار الحضارات كما يجب فسوف ينتج عنه نوع من ديمقراطية الدولية، أعضاؤه الديمقراطية والشعوب والحكومات؛ بمعنى الحقوق المتساوية للحكومات والشعوب بالنسبة لبعضها البعض، وإزالة التمييز[5].

يقول د. إبراهيم يزدي (أستاذ جامعي ووزير الخارجية الإيرانية سابقًا):

إن الحوار يزيل جدران المخاوف الحقيقية الناتجة عن التجارب التاريخية أو الذهنية الوهمية. عندما تنهار المخاوف سوف يمهد الطريق لتوزيع الثقافات، وتلاقحها الطبيعي. وفي تلك الحالة سوف تؤثر كل ثقافة في الثقافات الأخرى بحسب محتوياتها، وفاعليتها، وعلو درجاتها. وعندئذٍ لو اعتقد أحد بفيضان الإسلام في مقابل الثقافات الأخرى فسوف يحصل ذلك الأمر المهم تلقائيًا... إن نظرية حوار الحضارات تستطيع، وينبغي عليها، أن تؤدي دورًا مؤثرًا ومفيدًا في مواجهة الخوف الوهمي من الإسلام، وتخفف من الخطر الحقيقي والتشنجات ضد المسلمين أو تنفيها على الإطلاق. علينا أن نقبل أن الإسلام والمسلمين يطويان مسارًا حرجًا تاريخيًا هذه الأيام. إن إطلاق نظرة عابرة على وضع المسلمين في شتى أنحاء العالم يشير بوضوح أنه لا يوجد بلاد مسلمة نامية، وماليزيا هي وحدها البلد الإسلامي القابع على شُرُف التنمية تواجهه مشكلات صعبة جدًا. في هذا الزمن الحساس تحتاج هذه البلدان إلى السلام والهدوء نظرًا لما تمتلكه من منابع عظيمة طبيعية وإنسانية في هذه البلاد، وبلدان الشرق الأقصى. إن أي نوع من العنف والصراع سوف يمنع النمو والتنمية الطبيعية لهذه البلدان[6].

وهو يستمر في كلامه في هذا الشأن، ويعتقد بأن المسلمين اليوم بحاجة ماسة للسلام الحقيقي:

لو قبلنا أن بلدان العالم الثالث بشكل عام، والمسلمين بشكل خاص محتاجون في هذا الزمن إلى إعادة بناء، وإعادة نظر، وتجديد سياسي، واجتماعي، واقتصادي، وثقافي؛ ينبغي القبول بأن أي نوع من الصراعات والعنف – وخاصة ما يأتي من الخارج – سوف يؤدي إلى توقف الحركة الاعتيادية والطبيعية للتغيرات والتحولات. نحن بحاجة للسلام لكن ليس السلام المسلح. وعلى البلدان في القسم الجنوبي من الكرة الأرضية، أعم من المسلمين، وغير المسلمين، ألا يقبلوا بفرض السلام المسلح عليهم. لقد استنزف السلام المسلح اقتصاد الاتحاد السوفييتي. إن القراءة الجديدة لرسالة صلح الحديبية بين النبي ومعارضيه تبدو ضرورية. يستطيع حوار الحضارات إضافة لما قيل أن يكون ترياقًا للخوف من الإسلام، والسلام المسلح المفروض[7].

إحدى الفوائد الأخرى لحوار الحضارات، بالإضافة إلى التعرف إلى الثقافات والحضارات الأخرى، هو الإدراك الأفضل لحضارتنا. وهذه هي النقطة التي أشار إليها خاتمي في محاضرته في الجلسة الخاصة لحوار الحضارات في منظمة الأمم المتحدة:

أحد المكاسب الأخرى للحوار بين الثقافات والحضارات ليس التعرف إلى الثقافة والحضارة الأخرى – وهو نتاج طبيعي –، بل التعرف على ثقافتنا وحضارتنا. ينبغي أن نبتعد عن أنفسنا قليلاً لكي نراها بشكل أفضل[8].

أهداف الحوار

الأهداف التي يمكن النظر إليها من خلال تيار الحوار بين الثقافات والحضارات تظهر من خلال الأبحاث التي قدمت سابقًا، يعني الضرورات، والفوائد. لكن يمكن أيضًا تصنيف الأهداف لحوارالحضارات المستقاة من أبحاث المفكرين الإيرانيين على هذا النحو:

1.    الإدراك المتقابل، والتعرف إلى آراء باقي الأقوام، وأفكارهم، والتأثير فى الآخرين.

2.    معرفة الذات بشكل أفضل، وإعادة بناء الذات والهوية.

3.    معرفة المشكلات المختلفة على المستوى العالمي، وحلها.

4.    المشاركة في تحديد مصير البشر، والمواجهة المشتركة للأخطار التي تهدد البشرية من جراء تأثيرات الأبعاد المختلفة للحداثة، والصناعة، والتكنولوجيا.

5.    تقليل المنازعات والصراعات الدولية، وإلغائها (الحوار وراء الطاولات بدلاً من القتال في الساحات).

6.    إزالة سوء الظن، والشبهات، والخوف المتوهم الناشئ عن عدم الإدراك الحقيقي لبعضنا البعض، وسوء التفاهم، و... إلخ.

7.    تأمين السلام، والأمن، والتفاهم، والهدوء على المستوى العالمي.

وفي النتيجة يمكن تحديد الهدف الأصلي كما يلي: إحلال نموذج جديد مبني على الأخلاق، والثقافة، والتعاون في العلاقات الدولية مكان العلاقات العدائية ونظام السلطة العالمية. ويقول خاتمي في هذا الصدد:

يواجه اقتراح "حوار الحضارات" أسئلة كثيرة نظرية وعلمية. أنا لا أريد أن أقلل من أهمية التساؤلات الأساسية حول الحضارة، والثقافة، والانشغالات الفكرية، والعلمية في هذا المجال. لكنني أريد أن أصرح بأن الهدف الأصلي لإيران من اقتراح "حوار الحضارات" في الحقيقة هو تقديم نموذج جديد في العلاقات الدولية. يتضح هذا الكلام عند مقارنته مع باقي النماذج الأخرى المطروحة في العصر الحديث التي باتت أساس العلاقات الدولية. ويمكننا أن ندلل على الحاجة إلى المشروع الجديد، بعد توجيه الانتقادات الأصلية التي تُخِل في بنية النموذج السابق. إننا من دون أخذ العبر من الماضي السياسي للعالم وبدون البحث والتمحيص في أسباب بروز المآسي العظمى في العالم في القرن العشرين، وخلاصة الأمر من دون نقد النموذج الحاكم على العلاقات الدولية المستندة على حوار القوة، وتقديس وتفخيم السلطات، لن نستطيع أن ندعو الحكومات، وشعوب العالم، لنموذج حوار الحضارات والثقافات. إذا نظرنا إلى نموذج حوار الحضارات والثقافات من وجهة النظر الأخلاقية نراها في الحقيقة ترك الإرادة المتعلقة بالقوة، والتمسك، والسعي نحو الإرادة المتعلقة بالعشق، والمحبة. وهكذا سوف تكون النتيجة النهائية لحوار الحضارات ليس تحاورًا فقط بل المحبة، والمودة أيضًا[9].

أرضيات وشروط الحوار

للقيام بحوار مفيد يلزم وجود شروط وأرضيات مسبقة نشير إليها اختصارًا:

أ: الأرضيات المسبقة:

د. محمد منصور نژاد، باحث اجتماعي، يعتقد بضرورة الأرضيات التالية:

1.      وضوح الهدف لطرفي الحوار.

2.      القبول بمساواة موقف الطرفين.

3.      معرفة الطرفين للموضوع، وأبعاد الحوار وشروطه.

4.      وضوح قواعد الحوار، والقبول بها (كالقبول بحجية العقل، ووجود حسن النية، ومراعاة الأخلاق، و...).

5.      الإيمان بالكثرة الحضارية.

6.      الإيمان بفائدة الحوار[10].

يمكن أيضًا الإشارة إلى الفرضيات التي يطرحها الباحث الاجتماعي أردشير سنايي، وهي:

1.      مساواة الطرفين في النقد، وقبول الموضوعات.

2.      إدراك هوية أي حضارة، وخصائصها.

3.      اتخاذ أسلوب حيادي بالنسبة للاختلافات، والاستناد إلى المشتركات.

4.      حاكمية العقلانية، واتباع الأسلوب المنطقي.

5.      تحديد لغة الحوار، والموافقة عليها.

6.      أن تكون البيئة الخارجية والعملية مناسبة (الابتعاد عن التسلط والإرهاب و... )[11].

ب: شروط الحوار:

يذكر العلماء الذين بحثوا في هذا الموضوع الكثير منها، نذكر خلاصة عنها:

يطرح العالم الاجتماعي والسياسي د. سعيد حجاريان الشروط التالية:

1.      أن يتمكن الطرفان من التحدث بشكل حر، ومريح، ودون أي مانع.

2.      أن لا ينوي أي من الطرفين السيطرة على الحوار.

3.      امتلاك الطرفين لمنطق مشترك، ولغة مشتركة للحوار.

4.      الاستناد إلى القيم، والإرث المشترك.

5.      أن يقللوا من الوسائط.

6.      في البداية، التنسيق داخل الحضارة الواحدة، ومن ثم الانتقال للتنسيق بين الحضارات[12].

وفي هذا المجال ذكر البعض شروطًا أخرى للقيام بالحوار، لكن كثرتها يؤدي إلى التردد في إمكان إجراء الحوار. لكن الموافقين على مشروع "حوار الحضارات" يعدون أن الشرط الأساس للحوار هو القبول بالحقوق المتساوية للطرفين. ويظنون أن الشروط الأخرى ليست مشكلة في حال القبول بهذا الشرط.

يقول خاتمي:

بالطبع للحوار ضوابط، وشروط، أول شرط هو القبول بمساواة جميع الشعوب؛ ليس أن الشعوب التي تمتلك دخلاً غير صافٍ ومرتفعًا، وإنتاجهم الصناعي وإمكاناتهم الفنية كثيرة، بسبب قوتها، لها حق أكبر. يجب حذف هذه الأمور من الساحة الدولية، ليصبح صدام الحوارات حوار الحضارات[13].

أطراف الحوار، وأبعاده

يعد بعض المنظرين أن طرفي الحوار هما العلماء المثقفون والفنانون حصرًا. ويمنعون انضمام جميع الأفراد أو المنظمات الرسمية والحكومية. في حين أن أفرادًا آخرين يعدون الحوار في جميع المجالات لازمًا ومفيدًا. يقول د. إبراهيم يزدي:

هذا الحوار يستطيع أن يحمل أبعادًا متنوعة. من الممكن أن يقوم على مستوى الحكومات؛ لأن الثقافة، والحضارات الفعلية تتجلى في أغلب الحكومات الوطنية، لكن هذا الحوار يمكن أن يحصل بين مستوى أوسع بين العلماء يتعلق بالثقافات المختلفة. يمكن أن تتسع هذه المداولات ليصبح حوارًا، ويصل إلى مستوى العالمي، أو أن يبقى في مستوى تخصصي–جامعي. يمكن أن يكون على شاكلة حوار بين ممثلي ثقافتين حول موضوع أو عدة موضوعات، أو أن يكون تحت إشراف منظمات دولية، مثل منظمة الأمم المتحدة، وبشكل متعدد الجوانب حول مسائل ما وراء الحدود، كالحفاظ على البيئة، والبيئة الخضراء، أو التساهل والتسامح الديني[14].

أما إذا جرى الحوار على مستوى الثقافات والحضارات، فإن علماء الثقافات وحدهم يستطيعون أن يمارسوا دورًا في ذلك. وإذا كان الحوار بين حضارتي الغرب والإسلام، فالمتنورون الدينيون هم الخيار الأنسب لتمثيل الثقافة الإسلامية.

يقول خاتمي:

حوارالحضارات يمكن تحققه بشكلين:

أ) تأثير وتأثر مصاديق الثقافات والحضارات المختلفة بالنسبة لبعضها إثر عوامل متنوعة على طول الزمان، يمكن التعبير عنه بحوار الحضارات، والثقافات، ومن الواضح أن هذا النوع من الحوار لا يسبقه قرار، ومعرفة، وليس اختياريًا وإراديًا، بل هو محكوم بالحوادث الاجتماعية أو الأوضاع الإقليمية والتاريخية.

ب) الشكل الآخر للحوار بين الحضارات هو الحوار بين ممثلي تلك الحضارات، أمثال العلماء والفنانين، والفلاسفة. وفي هذه الحالة الحوار: هو نشاط مبني على الإدراك، والقرار، ولا يكون مقهورًا للعوامل التاريخية أو الجغرافية. إن عدم الحوار في الأسس، والتطرق للظواهر، والبنى الفوقية لا يطور عمل الحوار، لأن الأمور الظاهرية التي توصف عادة بالأمور "الواقعية"، "الضرورية" و"العاجزة"، إذا لم تكن مستندة إلى التوافق أو الإدراك الدقيق للمحاورين في الموضوعات الأساسية على الأقل، عادة ما تنجر بهم إلى توسعة رقعة سوء التفاهم بينهم... أما العالم المحكوم اليوم بالأحكام السياسية، والعسكرية، والاقتصادية هو عالم يُفضي في النهاية إلى تخريب البيئة المستمرة، والتخريب غير المتناهي للساحات المعنوية – الفنية، والشاعرية للإنسان. ولأجل التغلب على هذه الأزمة لا تكفي أفكار الفلاسفة، ولغة العلماء، ومساعي المصلحين الاجتماعيين. ذلك هو الفنان والشاعر الذي يستطيع بقدرته السحرية أن يَسْتَلَّ الحياة أو جزءًا منها من قبضة الموت ويجعل استمرار الحياة، والطبيعة، والإنسان ممكنًا... وبالإضافة إلى التجارب الفنية، والشاعرية، يبدو العرفان واحدًا من اللغات اللطيفة، والعميقة، والعالمية، والعمومية أيضًا[15].

أما في مسألة موضوعات الحوار، فقد اقترح عالم الاجتماع د. مسعود چلبي عناوين الموضوعات التالية كنموذج حول الحوار:

أ) في بعد الحوار الاقتصادي:

1.      بحث الآراء وتبادلها حول الحفاظ على البيئة، وإحياء البيئة في العالم.

2.      الحوار حول دور الشركات متعددة الجنسيات ومكانتها وكيفية تحديد صلاحياتها، والرقابة الدولية عليها.

3.      البحث والحوار حول طرق مواجهة الفقر المزمن على المستوى الدولي.

4.      الحوار حول أنسنة الاقتصاد، وأساليب تحسين أربعة أنواع من الخيرات الاقتصادية، وهي: الخير الفردي، الخير الجماعي (المؤسساتي)، الخير العمومي، والخير الإنساني، في مستويات مختلفة: المستوى الوطني، والمحلي، والمناطقي، وما وراء الحدود.

ب) في بُعد الحوار السياسي:

1.      البحث والحوار بشأن الحقوق الرفاهية للإنسان.

2.      البحث والحوار حول حقوق السياسية للإنسان.

3.      البحث والحوار حول حقوق المواطنة، وحقوق العالمية.

ج) في بعد الحوار الاجتماعي:

1.      البحث والحوار حول واجبات الإنسان تجاه الإنسان.

2.      البحث والحوار بالنسبة لواجبات الحكومات تجاه البشر.

3.      البحث والحوار حول واجبات البشر تجاه المجتمعات الإنسانية.

4.      البحث والحوار حول الموضوعات الأخلاقية المتنوعة.

د) في بعد الحوار الثقافي:

1.      البحث والحوار حول إعادة صياغة العلوم والمعارف المحلية في مختلف نواحي الحياة، وأسلوب جذبها، ودمجها في العلوم العالمية.

2.      الحوار، وتبادل الفنون السبعة.

3.      الحوار، وتبادل التجارب العرفانية، والدينية.

4.      البحث، والحوار الفلسفي[16].

مشكلات الحوار، وموانعه

الحقيقة هي أن المشكلات والموانع التي تواجه حوار الحضارات والثقافات تبدو كثيرة في بادىء الأمر، بحيث إذا قام شخص ما بعدِّها لانصرف عن أمر الحوار. لهذا السبب فإن أغلب من يعارض مشروع الحوار يعده غير ممكن بسبب المشكلات الموجودة. بالطبع تبدو بعض المشكلات المطروحة لا حل لها أو أنها أصبحت تاريخية إثر مرور وقت طويل عليها، ويحتاج حلها إلى زمن طويل.

مع هذا فإن أصحاب الإرادات الحديدية الذين يقومون باتخاذ قرارات صعبة للقيام بأعمال تاريخية، وصانعة للتاريخ، رغم اعترافهم بالمشكلات والموانع ليسوا يائسين بالنسبة لإزالتها، ويعتقدون أن مزايا نجاح هذا المشروع عظيمة جدًا بحيث يهيئون أنفسهم لبذل ما لديهم لتحقيق هذا الأمر.

هنا نشير إلى المشكلات والموانع المطروحة باختصار، من وجهة نظر صباغ پور: من حيث النوع، تقسم الموانع إلى موانع إنسانية، وموانع بنيوية، وموانع فنية.

الموانع الإنسانية: مثل اختلاف الطرفين في التصورات الذهنية، والإدراكية، والقدرة على التعبير، وتفسير الظواهر، والموضوعات، وأسلوب الحكم، ونسبة العلم والمعلومات. ولأجل الاحتراز من النتائج الحاصلة عن هذه الاختلافات سوف تضطر كل حضارة للاعتراف بالحضارة المقابلة لها بشكل رسمي، وأن تبحث بدقة بمعتقداتها، وأسسها بشكل جيد وأن تخفف من العصبيات الحضارية، وأن تبحث عن الحق المطلق عندها، وعند الحضارة المقابلة.

الموانع البنيوية: يجب إدراك أنه في العقود الماضية قد تحاور وتناقش المفكرون وعلماء الحضارات المتنوعة بعضهم مع بعض دائمًا. لكن التأسيس للحوار Institutionalization، هو ما يلزم لكل فعل ارتباطي مؤثر، ونافذ. ينبغي أن تؤسس المؤسسات الخاصة بحوار الحضارات بشكل تستطيع ضمن تهيئتها للأرضية المشتركة والشروط المساوية أن تمنع أي نوع من تحميل الآراء السياسية، وتدخلات الأقطاب العالمية في عملية الحوار، والدبلوماسية الأحادية.

الموانع الفنية: يتعلق قسم من الموانع بمحتوى الحوار، والقسم الآخر بطرفي الحوار. إن اختيار الموضوعات غير المفيدة وغير المؤثرة، وانخفاض مستوى الحوار الحضاري إلى الحوار السياسي مكان الحوار الفكري، وتقديم السياسيين على المفكرين، ومقاومة حضارة ما في مقابلة حضارات مجاورة، جميعها تقود عملية الحوار نحو الفشل[17].

أما من حيث مستوى الموانع والمشكلات، وإحاطتها، يشير چلبی إلى ما يلي:

1.      على المستوى العالمي: وجود علاقات دولية غير ندية تملك خصال التسلط، والاستغلال، وهي المانع الأساس للحوار الثقافي. ومسؤولية ذلك تعود إلى البلدان النامية الفعلية.

2.      على المستوى الوطني: وجود بعض الحكومات الاستبدادية.

3.      على المستوى الثقافي: القومية الثقافية، والتوجه القومي الخاص.

4.      ينشأ هذا العامل من تركيب العوامل السابقة بمعنى عدم الثقة اللازمة، وعدم قبول الثقة اللازمة في الحوار، كما أن عدم الثقة اللازمة هي حصيلة تاريخية للاستعمار، والاستبداد، والتمركز القومي Ethnocentrism (التحيز العنصري)[18].

هنا يمكن الإشارة إلى موانع الحوار بين الحضارة الإسلامية والغربية بشكل خاص:

1.    الإعلان المسبق عن وجود تعارض ذاتي بين حضارة الغرب والإسلام.

2.    الإعلان المسبق بأن الحضارة الإسلامية لا تعترف بالحرية، والديمقراطية، وحق الانتخاب.

3.    الإيمان بأن علاقة حضارة الغرب والحضارة الإسلامية هي علاقة الثقافة العظمى مع الثقافة الدنيا.

4.    عدم وجود انسجام وتعاون لازم بين البلدان المسلمة، بحيث يشارك في الحوار، بالنيابة عنها، مؤسسة ثقافية. وهذه المشكلة ذاتها موجودة في الغرب أيضًا.

5.    وجود قراءات وتفاسير مختلفة عن الإسلام. وبالشكل نفسه تعاني الحضارة الغربية أيضًا من عدم التنسيق، والاختلافات، والتفرق في داخلها.

ويشير خاتمي في قسم آخر من محاضرته في الجلسة الخاصة لحوار الحضارات في منظمة الأمم المتحدة إلى مانع آخر:

أحد أكبر المشكلات التي تعيق حوار الثقافات عندما تكون لغة أحد أطراف الحوار علمانيةً بشدة – والمقصود من العلمانية هنا معناها العام والواسع الذي يشمل أي نوع من إنكار الأفكار الغيبية، والتجارب الشهودية، والاعتقاد بالغيب – والآخر يريد أن يكون وفيًّا لأمانة الساحة المقدسة والمعنوية للإنسان. هذا الحوار ليس من المستحيلات، لأن الإنسان أكبر وأوسع من لغته الذاتية، وللسبب نفسه يعني التفوق الوجودي لحقيقة الإنسان على اللسان التعلق بالحوار[19].

المواقف المختلفة تجاه حوار الثقافات والحضارات

لقد عرضنا من خلال الموضوعات المذكورة أعلاه، وجهات نظر بعض المفكرين الإيرانيين حول مسألة حوار الحضارات، حيث تجلت مواقفهم إلى حد ما. هنا نطرح، باختصار، آراء عدد آخر منهم، من المتخصصين في العلوم الإنسانية. وقد جرى اختيار هؤلاء الأشخاص كنموذج من تيارات مختلفة: معارضين، مؤيدين، ومؤيدين بشروط.

بشكل عام، يرى المؤيدون أن الحوار هو الحل الوحيد أو أحد الحلول الأساسية والمهمة للمشكلات العالمية، أو يعدونه لازمًا لتقوية الثقافة والحضارة الذاتية واستمرارها، أو للحد من تسلط الثقافة الغربية. حتى ولو تعددت المشكلات والموانع السياسية.

أما المعارضون يرون عدم إمكان الحوار في الأوضاع الفعلية غير الندية، وعدم فائدة ذلك الأمر، أو عدم تهيئة الشروط اللازمة للحوار، وهذا هو السبب في معارضتهم. ويوجد أشخاص أيضًا يرون أن الحوار لازم لكن بشرط أن تهيأ الأرضية المناسبة له.

أ) التيار المعارض:

يسعى العالم السياسي د. مهرداد ميرعرب من خلال عرضه لأسئلة معينة أن يثبت وجود نواقص في مفهوم حوار الحضارات تجعله غير ممكن التحقق.

السؤال الأول: ما هي الحضارات التي عرفناها؟ لأن مفردة الحضارة ما يزال تعريفها غير دقيق. وليس للحضارات حدود معينة، وكانت ممتزجة ببعضها على طول التاريخ. ولا يوجد لدينا اليوم حضارة نقية خالصة. وكل تمدن تموضع في بلاد شتى. وهي ذات أنظمة سياسية متنوعة مع اتجاهات مختلفة، والبعض منها معارض. وبالإضافة إلى ذلك، مع فرض أنه يمكن تحديد الحضارات، لكن يبقى السؤال التالي: من هم القائمون على هذا الحوار؟ هل كل عناصر مجموعة الحضارة A مع كل عناصر مجموعة الحضارة B؟ أم ممثلين عن كل منهما؟ وفي هذا الحال، من هو ممثل الحضارة الإسلامية في هذا الحوار؟ هل المفكرون في حضارةٍ ما لهم قراءة واحدة عن حضارتهم، وعلاقتها بسائر الحضارات؟ وكيف للحوار أن يؤمن مصالح الوحدات الأخرى دون امتلاكه للقدرة الكافية؟

وإذا تركنا كل هذه الموضوعات، فإن مفهومي "الحضارة" civilizatiom و"التطور" Development مفهومان متلازمان، وأصولاً كانت تميَّز المجتمعات المتحضرة عن المجتمعات غير المتحضرة في العصور الغابرة من خلال نسبة تطورها في العلوم، والفنون، والثقافة، والأدب، والمؤسسات، والعلاقات الاجتماعية، والاستخدام العقلاني للطبيعة. وإذا كان التطور هو المؤشر المحدد للحضارات في العصر الفعلي، يمكن ألا نستطيع الاستفادة بشكل جيد من المفهوم التقليدي للحضارة الناظر للمفهوم التقليدي للتطور. إن العالم يواجه "الحضارات العظمى" مع التطور والتقدم الملاحظ للبشر في مجال العلوم، والفنون و... حيث يتم التوجه لتكامل الارتباطات الخاصة بـ"التنمية العالمية" بدل جرِّ التطورات الماضية. وعلى هذا الفرض يبدو من الصعب العثور على "الحضارات العظمى" التي تجلس إلى طاولة الحوار، وفي هذا الفرض لا نعد "نحن" في هذا العالم "حضارة عظمى"[20].

السؤال الثاني: ما المقصود من الحوار؟ يوجد هنا بعض الإشكاليات أيضًا، من بينها:

ما موضوع الحوار؟ هل البحث يجري حول تفوق واحد على الآخر؟ هل هو بحث الامتزاج، وتشكيل حضارة واحدة؟ أم أننا نريد أن نتحاور حول الاستفادة من العلوم والفنون، والمنتجات الحضارية؟ هل البحث حول إنقاذ البشرية؟ أم نريد تأسيس قرية عالمية؟ أم أننا نسعى للسلام والأمن الدولي؟ أم نريد تحديد نموذج جديد للنظام العالمي World Order؟ هل نحن من صناع الحضارة أم ممن يتقبلونها؟ هل نريد إعطاء شيء وأخذ شيء آخر؟ أم نريد صياغة قيم مشتركة؟ هل لدينا قدرة، وضمانة تنفيذية؟ هل نفترض أن الحضارات الأخرى محبة للبشرية، وتريد الإصلاح، لتكون جاهزة لهذا النوع من الحوارات؟

وللحوارعدة شروط، مثل: الحاجة المشتركة، واللغة المشتركة، والقدرة الكافية، واحتمال الحصول على نتيجة، وتحديد موضوع الحوار، وقدرة الطرفين على تنفيذ ما اتفق عليه.

والآن السؤال هو: في مشروع حوار الحضارات "نحن" نمثل أي حضارة؟ الحضارة الإيرانية، أم الحضارة الإسلامية، أو الاثنين معًا؟ وما المكاسب التي حققتها حضارتنا والتي نريد أن نتفاوض حولها؟ هل الشروط المذكورة محققة أعلاه؟

والسؤال الثالث: ما الذي نبحث عنه في الحوار؟ يعني ما النتيجة التي نحن بصددها من خلال هذا الحوار؟ وفي النهاية يعرض ميرعرب رأيه النهائي في هذا الشأن على هذا النحو:

إن حوار الحضارات استنادًا لما جرى بحثه ونقاشه مفهوم غامض، وغير واضح. وفي حين لم تتم الإجابة عن الأسئلة المطروحة في هذا المقال، لا يمكن إجراء بحث ودراسة علمية حول هذه النظرية. إن العبارات الجميلة تحتاج إلى محتوى أجمل ليحفظ ترشحاتها طراوة الموضوع في مقطع زمني أكبر من تاريخ البشرية؛ لذا أقترح كباحث أن توضح الأسئلة أعلاه كورقة عمل للفئات الفاعلة ليتضح في المستقبل القريب على الأقل عن ماذا نتكلم؟ وماذا نريد؟[21].

هنا يلزم أن نذكر أن هناك في إيران من يعد حوار الحضارات مشروعًا لا طائل منه وغير عملي، وفي حال أصبح عمليًا لا يرون منه نتيجة مهمة للعالم الإسلامي. ويوجد أيضًا من الإسلاميين من يقبل بالحوار في حال كان هدفه تعريف الآخرين بقيم الدين الإسلامي، ومناهجه، ومزاياه.

ب) التيار المؤيد بشروط:

د. سيد هاشم آقاجري، أستاذ التاريخ، ضمن قبوله بلزوم الحوار، يعد أن ظروفها غير موجودة، ويقسم الحضارات بشكل عام إلى: حضارة ميتة، وحضارة حية، وحضارة نصف حية. الحضارات الميتة، مثل: حضارة مصر القديمة، أو اليونان، أو إيران القديمة. الحضارات الحية موجودة فعليًا، وجميع عناصرها تقريبًا موجودة. والحضارات نصف الحية تقع بين هاتين الحضارتين. يعتقد آقاجري أن الحضارة الإسلامية نصف حية، ولأجل المشاركة في حوار الحضارات ينبغي إحياؤها وتفعيلها.

كانت الحضارة الإسلامية في يوم من الأيام حضارة حية وفاعلة، لكن بعد التحولات والصراعات مع الحضارات الأخرى، فقدت قدرتها فعليًا على مواجهة الغرب. ويرى أننا نحن المسلمين نقبع في حالة من الضياع بين إرث حضاري ماضوي والحداثة الغربية. وما لم نحدد موقفنا تجاه هاتين النظريتين لن نكون جاهزين للحوار.

يضيف أيضًا أن الشروط اللازمة للحوار غير متوفرة. والإمكانات الإعلامية هي بيد الغرب بشكل تام، وليس لدينا حظ منها. والقدرة السياسية، والعسكرية، والإمكانات المتساوية لا توجد أيضًا. والسلطة بيد الغرب من جميع النواحي. وهم ليسوا جاهزين للدخول في عملية حوار مع أوضاع متساوية. ضمنيًا يجب أن نرى "نحن" ما الجزء الحضاري الذي نريد أن نبينه للغرب؟

ينبغي على الهوية أن تجدد بناء ذاتها، وأن تتكيف مع الوضع الموجود. والحضارة الإسلامية فقدت هذه الخصلة التكيفية لعلل شتى. وحاليًا إذا أردنا أن نستفيد من تلك الحضارة والميراث لبناء حياة العالم الفعلي، فإننا بحاجة لعرض أسئلة جديدة، كما قال السيد خاتمي، لنستطيع الإجابة عن الأسئلة الجديدة نظرًا للإرث الحضاري والتاريخي الذي نملكه؛ لأن الهوية تصبح محدثة للحضارة إذا لم تصب بحالة من الانقطاع[22].

كما يؤمن آقاجري بأنه لو أردنا إعادة بناء هويتنا، وإحياء الحضارة الإسلامية الماضية، ينبغي علينا أن نَنْقد "الأصالة" و"الحداثة". وفي الوقت ذاته يرى، نظرًا للأخطار التي تهدد كل العالم، بلزوم البحث المشترك لإيجاد الحلول، وأن تحقق حوار الحضارات حركة أساسية مناسبة ولازمة.

الحضارة الفعلية، مع ما لها من مكاسب، إيجابية للبشرية. ونحن جميعًا شاهدنا ذلك. ولكن أصيبت بمشكلات أيضًا، وظهرت أزمات لو تعمقت وتوسعت لن تميز بين مسلم وكافر. إن ثقب طبقة الأوزون أو تلوث البيئة يؤثر على الطفل الإيراني المسلم، والشيخ، ويهدد فلان الأوربي، والأفريقي أيضًا. وبناءً عليه، فإن حوار الحضارات يعني أننا نستطيع أن يكون لنا حضور في إنقاذ البشرية، وإيجاد طرق للخروج من هذه المآزق البشرية، وأن نشارك في ذلك[23].

وفي طرفي الحوار، يقول:

ولو تقرر حصول هذا الحوار ينبغي مشاركة النخب الثقافية، يعني الفنانين، والكتَّاب، وأصحاب الصحف، والأساتذة الأكاديميين، والباحثين، والمفكرين والمثقفين، ممن يملك الشروط والخصائص اللازمة كممثلين للحضارات حصريًا[24].

وأما البروفيسور حميد مولانا، الأستاذ الإيراني في الجامعات الأميركية وأحد المفكرين والباحثين المميزين على المستوى العالمي، يرى ما يلي:

هناك ثلاثة تحولات حصلت في العقود الثلاثة الأخيرة، وأدت إلى استخدام مفهوم "الحضارة" بين علماء العلوم السياسية بشكل واسع: 1. الثورة الإسلامية في إيران، وقيام المسلمين؛ 2. وانهيار الاتحاد السوفييتي والنظام الشيوعي؛ 3. وزوال وانتهاء الأيديولوجية، ومدرسة الحداثة. وبرغم هذا الاستخدام لمفردة الحضارة وبرغم ما جرى من مساعٍ لعرض موضوع حوار الحضارات في السنوات الأخيرة، لكن بسبب تسلط الغرب على النظم الأمنية في العالم بقي هذا البحث هامشيًا بشكل كامل، ولم يتمتع بقبول كبير. إن حوار الحضارات هو كالمصطلحات الأخرى أصبح ذريعة للقوة، ونظرت إليه المجتمعات بمنظار إيديولوجي. كما أن عدم حضور شروط الحوار، وعدم المساواة فيها، كان من العوامل الأخرى التي منعت تحقق هذه الفكرة[25].

وقد قوَّم د. مولانا مساعي المنظمات الدولية كاليونسكو بأنها لم تصب النجاح بسبب سلطة القوى الكبرى. ويصل إلى هذه النتيجة في هذا المجال مع ذكره لمثالين:

لقد أخلت الأفكار الثنائية الأقطاب للحرب الباردة حتى في المنظمات العلمية والثقافية مكانها للقومية والوطنية. إن النماذج والأطر القديمة جرى إحياؤها بأسماء جديدة. هذان المثالان يظهران أن نموذج الحرب الباردة لم يخرج من أذهان الكثيرين، وهو يظهر نفسه بأشكال وأنواع مختلفة من بينها صراع الحضارات، وما شابهه. والآخر أنه لا يوجد في أوروبا وأمريكا نظرية واحدة حول التحولات العالمية في الأعوام الأخيرة[26].

وقد أجاب مولانا في معرض إجابته عن سؤال مفاده: هل يمكن التنظير Theorization لمشروع حوار الحضارات؟ أو ما الإطار النظري الذي يمكن أن يوجهنا في حوار الحضارات؟:

برأيي نظرية "العلاقات بعنوان الإيكولوجيا الثقافية" (بحدود حياتية) التي سعيت مرات عدة إلى تعريفها، وعرضها ضمن كتابات، تستطيع أن تساعدنا إلى حدٍ ما في هذا الشأن[27].

ويستدل على عدم تحقق نظرية حوار الحضارات على هذا النحو:

إن حوار الحضارات ليس إلا ظاهرة ارتباطية، وهذه الظاهرة وطبيعتها لا ُتدرك إلا عندما نوضح ونحلل: 1. الرؤية الكونية، والنظرة الحضارية؛ 2. نوع العلاقات، وأسلوبها؛ 3. الأوضاع الموجودة في هذا النوع من الحركة. أحد شروط الحوار في شيء أن تكون البيئة والحاجة للطرفين طبيعية وواحدة. إن فضاء العالم اليوم مهيأ للتسلط، وإعمال القوة، وليس للحوار. إن التقاء الحضارات على مستوى الأفراد والشعوب هو أفضل نافذة للأمل. لو كان هناك ظاهرة مثل حوار الحضارات، فإن الحكومات، والمنظمات التابعة، يجب أن تكون آخر من يرشح لهذه الحركة[28].

ويشير في قسم آخر من مقاله نظرية حوار الحضارات حول الوضع الفعلي للحضارة في الغرب استنادًا إلى مقولات مفكرين كأسوالد اسينكلي وفرناندو برودال الذين يعتقدون كابن خلدون بدائرية حركة التاريخ والحضارة؛ بأن الحضارة الغربية ليست حضارة استثنائية، بل كما يقول اشبنغلر في كتاب أفول الغرب: إن هذه الحضارة سوف تطوي مراحل الولادة، والنمو، والانحطاط، لأن اشبنغلر في هذا الكتاب الذي نشر قبل الحرب العالمية الأولى، يشير إلى أن الغرب قد دخل في عصر انحطاطه. وعلى العكس، أنه اتخذ حالة دفاعية ومقاومة في مواجهة الحضارات الشرقية.

أما بالنسبة إلى الحضارة الإسلامية، واختلافها الأساسي مع الحضارة الغربية، يقول مولانا:

إن الحضارة الإسلامية، بجميع خصائلها، ليس لديها أي تعصب في إدراك الحضارات الأخرى. الحضارة الإسلامية التي امتدت في الشرق الأوسط، وآسيا، وأوربا هي دليل على هذا الأمر، كما أن التشكلات الثقافية والاقتصادية العظيمة لدنيا الإسلام في الصين، والهند، والبحر الأبيض المتوسط، وأفريقيا حتى القرن الثالث عشر تظهر هذا النوع من الحركية والتمازج. إن حركية الحضارة الإسلامية تنبع من أصل التوحيد ونظرية التوجه الوحدوي لمفهوم المجتمع العالمي. وعلى هذا النحو نتجت عنه العلاقات ما بين ثقافات الأمم. هناك في حضارة الغرب جرى عكس ذلك، وتأسست تلك الحضارة على أساس الصراعات والقوميات والإثنيات. في حضارة الغرب جرى التأكيد على التوجه الفردي، والنزوع نحو الماديات في حين أنه في الحضارة الإسلامية جرى التأكيد على اجتماعية المجتمع، والنزوع الأساسي للمعنويات. لو طالعنا الاختلافات، والنزاعات، والحروب التي جرت في القرون الخمسة المنصرمة، نرى أغلب هذه الصراعات والمواجهات كانت بين الدول الغربية[29].

وبالالتفات إلى الأبحاث المذكورة يقدم مولانا نظرته حول مشروع حوار الحضارات:

وأخيرًا يمكن أن يتم التفاهم الحقيقي عندما لا يكون الطرفان في حال هجوم ودفاع. وأن يكون هناك آمال أعلى لحدوث هذا النوع من الحوار، وتبادل الآراء... في العالم الذي تنحصر القوة بيد فئة محددة، كيف يمكن أن نتوقع حدوث حوار الحضارات؟ إن الأهداف الاقتصادية، والعسكرية، والسياسية، والثقافية الفعلية في العالم غير متطابقة، وتلخص صراع النظم اليوم[30].

جـ) التيار المؤيد:

ربما يمكن اعتبار محمد خاتمي من أبرز المؤيدين لحوار الحضارات في إيران، وأشرنا إلى مواقفه سابقًا.

تعتقد الدكتورة  زهرا رَهْنَوَرْد، أستاذة الجامعة ومن الباحثين في الثقافة والفن والأدب، أن حوار الحضارات كان جاريًا على طول التاريخ، وترى أنه يمكن تقسيم الحوار إلى ثلاثة أنواع:

1.    حوار مشرِّف: حيث تتمتع كلتا الحضارتين بالقوة، والغنى. ويمكن الإشارة إلى هذا النوع من العلاقات، إلى علاقة الحضارة الإيرانية مع روما، والإسلام، حيث تمَخَّض عنها الحضارة الإسلامية.

2.    حوار ذليل: وهو التعامل الذي تسلكه حضارة ضعيفة مع حضارة مهاجمة. ونموذجها اليوم علاقة الحضارة الإسلامية مع الحضارة الغربية (الحداثة)، والتي بدأت منذ حدود قرنين، وما زالت مستمرة.

3.    حوار بينية: حوار حضاري لحالة الممكن، تواجهها حضارتان قويتان، وفعالتان بعضهما مع البعض، وأن تهاجم ظاهريًا واحدة منهما. ونموذجها هو مرحلة الحضارة الإغريقية (كما يقول الغربيون) حيث ظهر من حوار هذه الحضارات ثقافة جديدة إثر هجمات الإسكندر المقدوني على إيران، ومصر، والهند. وتعد رَهْنَوَرد أن مشروع "حوار الحضارات" لا يمكن تحقيقه بين الحكومات، والدول؛ بل يبدو ممكنًا، وضروريًا بشدة، بين المفكرين، والعلماء، والفنانين، ضمن الأوضاع والظروف الفعلية برغم التسلط السياسي، والعسكري، والاقتصادي، والإعلامي للغرب، والموانع المتعددة في طريق حوار الحضارات والثقافات.

أنا أؤمن أن هذا الحوار برغم الأرضيات الموجودة التي تظهر مُرة وحالكة بعض الشيء، لكنها امتداد للتيار الهادئ الذي كان موجودًا دائمًا، وبالطبع يمكن إعطاؤه الوجهة المناسبة، وتحسينه بدراية المفكرين (بعيدًا عن الحكومات)، وبتأسيس المؤسسات الثقافية والفاعلة. إذن التأسيس لأنواع المؤسسات، والتشكلات الوطنية، والمشتركة آنفة الذكر. وتناول المفكرين والفنانين والعلاقات بين الجامعات، والتبادل بينها، يمكن أن يؤدي دورًا مهمًا في هذا الحوار. إن المؤسسات، والتشكلات القائمة على العقل، والفن، والثقافة، ومفكري العالم بعيدًا عن المنظمات السياسية، وبعيدًا عن أيدي الحكام، ودون أي اتجاهات سياسية، تستطيع أن ترفد الحوار بشكل مفيد[31].

د. أحمد نقيب زاده، عالم سياسي، من الذين ينظرون إلى الحوار نظرة مليئة بالتفاؤل والأمل:

هناك سؤالان منذ بدء الخليقة إلى الآن ما زالا يشغلان ذهن الإنسان: ما سبب الحروب؟ وما مصير الحياة؟ كما يسعى حوار الحضارات ليحدد مصير البشر بشكل سلمي بإحلاله الحوار محل الصدام والمواجهة. وعلى الحضارة الغربية أن تدرك هذا الأمر التاريخي بشكل جيد، أنه في نهاية أي حرب هناك طرف مغلوب دائمًا. لكن الحوار والتعامل ترافق مع استمرار حضاري، ومع اتباعه للسنن التاريخية والثقافية لدوركهايم وماكس فيبر هيأ لإمكانية عقل جماعي[32].

واستنتج بعد دراسته لأسباب الحروب، والتعاملات البشرية على مرِّ التاريخ، بأنه يوجد شيئان غير قابلين للإنكار: الأول: الخصائص، والحدود المشتركة لحياة البشر؛ والآخر: هو التعامل، والاختلاط الذي لا مفر منه في الحضارات، والثقافات.

في الحقيقة، إن وجود أيَّة حضارة ما هو إلا حصيلة الحوار في معناه الواسع. يجري هذا الحوار في البداية بين الأفراد ومن ثم بين المجتمعات والحقول الثقافية. كما يثير الحوار علامات مشتركة حيث يهيئ لإمكان عقل جمعي من جهة، ومن جهة أخرى يضمن استمراره. إن الحرب هي نوع غير مرغوب فيه من الحوار، ولعله حسب مقولة "كانط" يخلي مكانه للحوار السلمي بعد نمو العقول ونضجها. دائمًا يجري نسيان الحوار، والمبادلات القائمة على هامش الحروب. وعلى هذا الأساس، لا يمكننا أن نعد الحروب ظاهرة أصيلة، وحرب الحضارات أمر لا بد منه. كما أنه في عالم السياسة حلَّت النزاعات المُلَطَّفة الحزبية مكان العنف القومي والقبلي في المجتمعات البدائية. ولذلك فإن الحوار سيحل مكان الحرب على المستوى العالمي[33].

يعتقد نقيب زاده أن الحضارات الكبيرة السابقة هي حصيلة حوار الحضارات الصغيرة. ويذكر هنا الحضارة الإسلامية مع تقديمه لنماذج وشواهد تاريخية:

إن عهد الازدهار، وعظمة المسلمين، يتعلق بزمان اتحدت فيه الملل والنحل على ضوء الاعتقادات الدينية. وأرسوا قواعد الحوار على أساس الجوهر الواحد للبشر. ونتيجة لذلك تحولت النظرات الضيقة إلى آفاق كبيرة، وتطورت العلوم، والتجارب في بوتقة التبادل، وظهر علماء كالفارابي، وابن سينا، والرازي، والبيروني من أكناف البلاد الإسلامية[34].

كما يستند نقيب زاده على أفكار "كانط" و"هيغل" حول التوجه العقلاني للإنسان وروح الأمم، وروح العالمية، وكما على أساس المذهب التاريخي – الثقافي، وأفكار دوركهايم وماكس فيبر حول الروح الجماعي والنظم الثقافية، يعتقد أنه في نهاية الأمر سوف يتشكل من حوار الحضارات الفعلي حضارة عالمية مع المحافظة على الطبقات الوسطى، حيث تستطيع أن تقع في نطاق نظرية العولمة. وكما قيل سابقًا هو يعد أن حوار الحضارات أمر ضروري وممكن:

وفي المجموع، الحوار يعني احترام الذات، واحترام الآخرين؛ يعني استقلال الذات، واحترام استقلال الآخرين؛ يعني الشجاعة، والاستعداد لقبول الحقيقة؛ يعني "يستمعون القول فيتبعون أحسنه". الحوار هو الوقوف على الحق، والحصة للذات، وإرغام الطرف المقابل على قبول ذلك. بالطبع يخاف من الحوار من يخشى ويرهب من انكشاف أمره[35].

نختم هذا الكلام بقول من خاتمي:

إن للغرب وجهان: أحدهما، سياسي، وهو الوجه الظاهر للحضارة الغربية – طبعًا بما يوافق شمولية هذه الحضارة –؛ والآخر، فكري، يمثل قاعدة الحضارة. ولابد من الفصل بين هذين الجنبين، والتفريق بينهما بدقة وموضوعية، لتحديد طريق المواجهة الفعالة مع الغرب بما يتناسب وطبيعة الموضوع، ومستلزمات كل واحد منهما. فرغم أن الغرب قد هرم إلا أنه ما زال قويًا في المجالات السياسية، والاقتصادية، والعسكرية، والاجتماعية، وبما يملك من وسائل الحياة علاوة على القدرة الإعلامية التي يتمتع بها، وتمنحه قوة التأثير والتضليل. ولا يتوانى الغرب السياسي الذي يعمل لبسط سيطرته على العالم، وللتحكم في إدارة شؤونه، عن مواجهتنا له بإمكاناته الهائلة، عن ارتكاب أي عمل في سبيل تأمين مصالحه. ومن هنا، فإن صراعنا معه هو صراع موت أو حياة... وفي الجهة المقابلة، فللسياسة نظام فكر، وقيم لا بد من معرفتها أيضًا، واكتشاف أسلوب التعامل معها، ودحضها. وفي هذا المضمار تجد الحضارة الإسلامية نفسها في مواجهة ندٍّ فلسفي، وفكري، وأخلاقي، وليس مناهضًا سياسيًا. وفي هذا الميدان تظهر الحاجة إلى وسيلة مناسبة تتمثل في المنطق والحوار[36].

*** *** ***


 

horizontal rule

[1] حسين سليمي، بررسى مقايسه اى مبانى نظرى گفتگوى تمدنها، (= دراسة مقارنة لأصول حوار الحضارات النظرية)، مجلة گفتمان، العدد 3، ص 133.

[2] علي اصغر صباغ پور، گفتگوى تمدنها در جهان متغير، (= حوار الحضارات في عالم متغير)، مجلة گفتمان، العدد 3، طهران، 1999، ص 173 – 175.

[3] مسعود چلبي، مقابلة مع مجلة گفتمان، العدد 3، طهران، 1999، ص 297 – 298.

[4] محمد خاتمي، جهان فردا وگفتگوى تمدنها، (= عالم الغد وحوار الحضارات)، دار باز للنشر، طهران، 2001، ص 71 – 72.

[5] محمد خاتمي، المرجع السابق، ص 119.

[6] إبراهيم يزدي، گفتگوى تمدنها، (= حوار الحضارات)، مجلة گفتمان، العدد 6، طهران، 2002، ص 249.

[7] إبراهيم يزدي، المرجع نفسه، ص 250.

[8] محمد خاتمي، المرجع السابق، ص 72.

[9] محمد خاتمي، المرجع السابق، ص 69 – 70.

[10] محمد منصور نژاد، گفتگوى تمدنها، (= حوار الحضارات)، دار جهاد دانشگاهى للنشر، طهران، 2002، ص 54.

[11] اردشير سنايي، گفتگوى تمدنها وچگونگى تئوريزه كردن آن در روابط بين الملل، (= حوار الحضارات وكيفية تنظيرها في العلاقات الدولية)، مجلة گفتمان، العدد 6، السنة 2002، ص 91 – 92.

[12] د. سعيد حجاريان، مجلة گفتمان، العدد 6، ص 281 – 282.

[13] محمد خاتمى، جهان فردا وگفتگوى تمدنها، (= عالم الغد وحوار الحضارات)، مرجع سابق، ص 119.

[14] ابراهيم يزدى، المرجع السابق، ص 230.

[15] محمد خاتمى، المرجع السابق، ص 70 – 73.

[16] مسعود چلبى، المرجع السابق، ص 296 – 297.

[17] على اصغر صباغ پور، المرجع السابق، ص 177- 178.

[18] مسعود چلبى، المرجع السابق، ص 298.

[19] محمد خاتمى، المرجع السابق، ص 71.

[20] مهرداد ميرعرب، گفتگوى تمدنها، مفهومى توسعه نيافته، (= حوار الحضارات، مفهوم غير متطور)، مجلة گفتمان، العدد 3، ص 239 – 240.

[21] مهرداد ميرعرب، المرجع السابق، ص 242.

[22] هاشم آقاجرى، مقابلة مع محمد منصورنژاد، گفتگوى تمدنها از منظر انديشمندان ايرانى، (= حوار الحضارات من وجة نظر المفكرين الإيرانيين)، دار جهاد دانشگاهي للنشر، طهران، 2002، ص 13.

[23] هاشم آقاجرى، المرجع نفسه، ص 15.

[24] هاشم آقاجرى، المرجع نفسه، ص 17.

[25] حميد مولانا، نظريه گفتگوى تمدنها، (= نظرية حوار الحضارات)، مجلة گفتمان، العدد 6، ص 197.

[26] حميد مولانا، المرجع نفسه، ص 202.

[27] حميد مولانا، المرجع نفسه، ص 203.

[28] حميد مولانا، المرجع نفسه، ص 203.

[29] حميد مولانا، المرجع نفسه، ص 204 .

[30] حميد مولانا، المرجع نفسه، ص 205.

[31] زهرا رهنورد، گفتگوى تمدنها، مجلة گفتمان، العدد 3، ص 327.

[32] احمد نقيب زاده، گفتگوى تمدنها، عنوانى درست براى واقعيتى تاريخى، (= حوار الحضارت، عنوان صحيح لواقع تاريخي)، مجلة گفتمان، العدد 3، ص 243.

[33] احمد نقيب زاده، المرجع نفسه، ص 243.

[34] احمد نقيب زاده، المرجع نفسه، ص 246.

[35] احمد نقيب زاده، المرجع نفسه، ص 249.

[36] محمد خاتمي، المشهد الثقافي في إيران: مخاوف وآمال، المرجع السابق، ص 154 – 155 و157. نقلاً عن: باكينام الشرقاوي، حوار الحضارات من منظور إيراني، ص 321.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود