بنية الشكل الفني في "خشبة" الإماراتي عبدالله صقر

 

أحمد عزيز الحسين*

 

تشكِّل القصة عند القاص الإماراتي عبدالله صقر لحظة أو ومضة، ويتميز شريطها اللغوي بالقصر أو القصر الشديد، كما أنها تخلو من الترهل والحشو، وتتميز بالاقتصاد اللغوي والتكثيف، وليس في المتن الحكائي للقصة أي حضور مباشر للكاتب، ولا هيمنة له على السيرورة الجمالية للقصة، أو على حركة السرد، إلا في قصة الزوبعة حيث يحرص الراوي المشارك في هذه القصة على إثبات ملحوظة في الهامش تفيد أن ما حدث في القصة واقعي[1]؛ فيضع يدي القارئ على عكاز تواصلي يشي بالتعامل مع المادة المقروءة على أنها حقيقية، وبذلك يفصل الوقائع التي يصورها عن بنيتها السردية التي تتعالق معها، ويلحقها ببنية المرجع الخارجي الذي يوهم به.

كما أن القصة، عند عبدالله صقر، تحافظ على العمود السردي عمومًا، وتحرص على خلق صراع بين طرفين متقاطبين بغية دفع الفعل الصاعد إلى الأمام، ماعدا قصة واحدة هي السقوط انتهك فيها الكاتب السرد الخطي، فبدأ قصته من لحظة التنوير ثم عاد بلقطة (فلاش باك) إلى الافتتاحية السردية، ولاحق بعد ذلك تنامي الحبكة التقليدي، وانتهى إلى الخاتمة السردية التي جعلها بداية لقصته، وقد سمَّى الدكتور يوسف حطيني هذه التقنية من القص بـ"البنية الدائرية"؛ لأن الكاتب ربط فيها أول السرد بآخره عن طريق إعادة بنية لغوية أو حدثية[2].

وقصص الخشبة لا تصور الشخصية المحورية في حالة الفعل، بل تصورها عنصرًا سرديًا منفعلاً يتلقى نتائج ما يجترحه الآخرون من أفعال، وهي تحرص على تغييب المكان، وتعويم الزمان، والتكتم على الدلالة، وتهمل، عند رسمها للشخصية، اسمها وملامحها الإنسانية المشخصة، إلا أنها تنثر في النسيج السردي، أحيانًا، بعض الملفوظات اللسانية التي تحدد منبتها الاجتماعي، والحافز السردي الذي يحركها في المتن الحكائي.

والشخصية المحورية في الخشبة لا تنهض بفعل مؤثر في تطور الحبكة، وتنامي السيرورة الجمالية، ودفع الفعل الصاعد، بل هي دريئة تتلقى ردود فعل الآخرين عليها من خلال تنامي الفعل الدرامي، إنها في هذا تشبه الشخصية المحورية لدى كافكا أو زكريا تامر، إذ لا يتاح لها أن تقف حتى تسقط بشكلٍ مدوٍّ، وإذا نهضت فإنها تتلقى الصفعات والركلات والسياط المستمرة من قبل رجال الشرطة، أو تقابَل بالإهمال والحقد واللامبالاة من القطيع؛ بل إن القطيع هو من يقف لها بالمرصاد؛ فيدمرها، أو يجهض فعلها، أو يتشفى منها عندما تلقى عقابًا دمويًا؛ محمِّلاً إيَّاها مسؤولية ما حصل، متبرئًا من مسؤوليته تجاه ذلك[3].

تنتهي الشخصية المحورية عند عبدالله صقر إلى مصير دراميٍّ فاجع دومًا، لكن فجائعية المصير الذي تلقاه ليس مملىً عليها من قوة مفارقة للكون، كما هو الحال في المسرح اليوناني، أو من عطب داخلي كامن فيها، كما هو الحال في القصة الرومانتيكية، بل إن المسؤول عن فجائعية مصيرها، في البنية النصية، هو سلطة قامعة كابحة للرغائب، أو قطيع اجتماعي أميٍّ يهيمن عليه الجهل واللامبالاة والحقد والكبت، وهاتان القوتان تحولان دائمًا بينها وبين ما تحلم به، و تقفان لها بالمرصاد.

واللافت للنظر أن علاقة التقاطب السياسي التي تقوم بين البطل وبين السلطة تفتقر إلى الوضوح، فليس في قصص المجموعة وقائع ملموسة أو ملفوظات لسانية تسوِّغ علاقة التنافر والتضاد بين الطرفين، إذ لا تعتنق الشخصية المحورية، في هذه القصص، أفكارًا مناهضة للسلطة، ولا تبشر بأيديولوجيا مناوئة لها، ولا تقوم بأفعال شرسة تشي بعدائها لهذه السلطة، أو برغبتها في تغيير الواقع إلا على استحياء.

إن الشخصية المحورية تتحرك في الفضاء القصصي حركة عادية، وتعيش حياة عادية، وهي تنتقل من مكان إلى آخر محكومة بالاستجابة لحاجاتها الحيوية اليومية، ولا تفلح خلال هذا الانتقال في إقامة علاقات اجتماعية سوية مع الشريحة التي تنتمي إليها، يمكن أن تكون موضع ريبة أو شك من قبل رجال السلطة؛ ولذلك يُفاجَأ القارئ حين يجد هذه الشخصية مُلاحَقة من قبل رجال السلطة، أو رهن الاعتقال، أو قيد التحقيق، ويبدو الاعتقال الذي تتعرض له هذه الشخصية مفتقرًا إلى الإقناع في البنية النصية نفسها، وفيما عدا قصة واحدة هي في الناحية الأخرى كانوا يشعلون النار أقدمت فيها الشخصية على تقطيب جبينها وحاجبيها، وسمحت لنفسها أن تتطلع برغبة مريبة نحو الأشياء[4]، وقصة أخرى لجأ فيها البطل إلى الصمت دون ترخيص بعد أن اعتاد الثرثرة[5]، وصاح في الناس: "اخلعوا كل تفاهات هذا العالم، اخلعوا ما ترتدون"[6]، فقامت الشرطة باعتقاله بتهمة الصمت من دون ترخيص[7]؛ لا نجد متنًا حكائيًا يدفع بالشرطة إلى قمع البطل، أو اعتقاله، أو ضربه بالسياط أو بالأحذية الثقيلة.

كذلك تفتقر علاقة التقاطب الاجتماعي بين الفرد الصغير المهمَّش والقطيع إلى الوضوح؛ فليس مفهومًا تمامًا لماذا يقابِل القطيع هذا الفرد المسحوق بهذه العدائية إلا في قصة الحفلة التي حدث فيها نوع من التنازع على ملكية الجسد بين القطيع والجارية / بطلة القصة.

في هذه القصة يصور الكاتب القطيع على أنه كتلة هلامية تتحكم بها غرائزها وشهواتها، كما يصور سلبيته وكبته وازدواجيته في النظر إلى جسد المرأة الجارية، والتعامل معها بوصفها سلعة قابلة للبيع والشراء، وحين تتمرد المرأة على هذه النظرة وتمنح جسدَها لمن عاملها كإنسانة يتدخل القطيع مدفوعًا من قبل الغريب (الذي يرمز إلى دور العامل الخارجي في تحريك القطيع) فينتقم منها ومن الشاب الذي ناصرها في مشهد دموي فاجع[8].

ومع أن الفرد الصغير المهمش، في هذه القصص، ينتمي إلى الشريحة نفسها التي ينتمي إليها القطيع، وأن الطرفين معًا يلقيَان الاضطهاد والقمع من سلطة واحدة في النصوص (ممثلة بالشرطة)، إلا أن القطيع يقيم علاقة عداء دائمة مع هذا الفرد الصغير المهمش؛ ففي قصة نشوة وسط اضطراب لعالم يموت يصف لنا الكاتب الأحذية التي ينتعلها الطرفان بأنها "بالية"[9]، وكذلك يشير إلى أن الكتب والأوراق، التي يحملها الفرد المهمش، ذات واجهات ممزقة مهترئة[10]، ومع ذلك يقابل القطيع هذا الفرد بعدائية غير مفهومة، وغير مسوَّغة نصيًا، إلا إذا اعتبرنا حمل البطل للأوراق والكتب ملمحًا يميزه من أفراد القطيع، ويجعلهم يحقدون عليه، وهذا في الواقع حافـزٌ غير كافٍ وغير مقنع فنيًا؛ لأن الكاتب لم يشر في قصته إلى محتوى الكتب التي يحملها البطل، والتي يمكن أن تقيم تنافرًا بينه وبين أفراد القطيع أنفسهم.

إن القصة تشير إلى سلبية القطيع تجاه مصير البطل، وتصور لنا البطل وهو يشرع في الصعود إلى العربة، لكن الحشد الموجود فيها يمنعه من الصعود، ويشترط عليه في المرة الثانية أن يرمي بكتبه وأوراقه (التي تميزه منهم) كي يصبح واحدًا منهم ويندمج فيهم، بعد أن كان منفصلاً عنهم، متعاليًا عليهم، وحين يستجيب لرغبتهم المتوحشة يتخلَّون عنه؛ فيقع رأسه تحت عجلات العربة المليئة بالركاب، ويتهشم، وتتناثر دماؤه على أرض الشارع؛ فيكتفي الركاب عندئذٍ بإغماض أعينهم تحت الذقون كثيفة الشعر، بينما تتابع العربة مسيرها دون أن تتوقف في اتزان آلي؛ ومع ذلك لم يشعر الركاب بالأسف لما حدث، أو بالندم لتخليهم عنه، واكتفوا بأن حمَّلوه مسؤولية ما حصل هاتفين: "جنون بعينه. لم ينظر إلى نفسه. كان ضحية نفسه"[11].

كذلك يقدم الكاتب في قصة لحظة التفاوت الزمني حلقات سردية متتالية يربط بينها راوٍ واحد، ويركز النص، هنا كما في نصوص أخرى، على انسياق القطيع وراء شهواته، ومتعه الغريزية، وسلبيته في مواجهة واقع موَّار من حوله، ونرى الشخصية هنا تفلح في اختراق الحيز المكاني الذي ينفتح أمامها، وتجترح فعلاً غرائبيًا مثيرًا للدهشة والتساؤل. والملاحظ أن العنوان نفسه يتضمن عجائبية المتن الحكائي وغرائبية الوقائع المتضمنة فيه وتحوله إلى أسطورة.

واللافت للنظر أنه ليس للسلطة في قصة في الناحية الأخرى كانوا يشعون النار ملامح إنسانية مشخَّصة أيضًا، بل لها فعل قامع فقط، ومع أن الفضاء القصصي يفتقر إلى تصويرها الحسي المشخص، إلا أنها تملأ هذا الفضاء بأفعالها القامعة، ولا يتجلى منها في هذا الفضاء، إلا ما يدل على القمع، فليس للسلطة في هذه القصة ملامح بشرية عادية، أو وجوه إنسانية تنبض بالحياة، أو عيون تشي بالتعاطف مع الآخرين، بل لها أقدام تركل البطون، وأحذية ترفس الوجوه، وبنادق تهرس الأضلع، ومن الملاحظة أن الكاتب لا يصور من هذه السلطة إلا الأقدام والأيدي (التي ترمز إلى القمع)، أما الوجوه فلا نعرف عنها شيئًا، فالسلطة عنده مُختزلَة في هذه القصة إلى أقدام وأيدٍ وحسب.

أما في قصة السقوط فإن الكاتب يصور، فضلاً عن الأيدي والأرجل التي تجيد الرفس والركل والإدماء، وجوهَ رجال السلطة بأنها "عابسة"، ويضيف إلى ذلك بأنها تختفي "خلف كثافة شعر الذقن"[12]، (مع أن هذه صفة مشتركة تجمع رجال السلطة بالقطيع في كثير من القصص)، ويجعل لهؤلاء الرجال لباسًا مميزًا هو "اللون الكاكي"[13]، ولكنه لا يخرج، عند تصويره لهم، عن أنهم رموز للقمع، ويجعلهم جميعًا يحتلون الفضاء القصصي، ويصادرون من يتحرك فيه، ويخرجون عند اختراقهم لهذا الفضاء من دهاليز تحت الأرض (مع ما لهذا من دلالة على القهر والكراهية والانسلاخ عن حياة البشر العاديين)؛ مثيرين الغبار والضوضاء الشديدة التي توحي بالرعب وتوقف الحياة:

وسط حشد من الطريق أحاط بي جمع. وشعرت بالأخطار تحدق بي. سياط، وأعقبة بنادق، وأحذية ثقيلة تطرق الأرض طرقًا، قبضات متشابكة تبغي القضاء عليَّ، تريد دق عنقي[14].

ومن اللافت للنظر أن عبدالله صقر لم يخفْ من مغبة المطابقة بين النصوص التي أنتجها والواقع الذي يحيل إليه، أو بين المؤلف وسارده، أو بين دلالة القصة وفكر كاتبها، مع أن سبعينات القرن الماضي شهدت ذروة هذه المطابقة، وكان شجاعًا في مقاربة ثيمات سردية تعد من المحرَّمات في المجتمع العربي عمومًا والخليجي خصوصًا، في مقدمتها: الجنس والسلطة، ومع أنه قام بمراوغات احترازية ليخفي دلالته في ثنايا النسيج السردي؛ فعمَّى المكان، وعوَّم الزمان، وأهمل الوقوف على التفاصيل، وجعل لغته تميل إلى التعميم وتفتقر إلى المحسوسية والتشخيص، ولجأ إلى الرمز والقناع؛ وتكتم على الدلالة، إلا أن الرقيب الأخلاقي والأمني وقف له بالمرصاد، فقرأ نصوصه على أنها وثائق اجتماعية أو سياسية لا تخيلية، وطابق بينها وبين الواقع المرجعي الذي تحيل إليه؛ معتمدًا، في ذلك، على إشارات سردية مبثوثة في ثنايا النسيج اللغوي للنصوص، من السهل على الرقيب المتحامل أن يقبض عليها، ويُجيِّـرها لقراءته، مع أنها ملمح عربي مشترك، وليست مقصورة على فضاء اجتماعي عربي واحد، وأفضت هذه القراءة المطابقة إلى تغييب المجموعة عن قارئها ربع قرنٍ؛ إلى أن أفـرج عنها بتدخل مباشر من قبل سمو الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان، وقد جعلت هذه التجربة المرة كاتبنا يتجرع المر، وينصرف عن الكتابة بعد أن تيقن من صعوبة الإفراج عن نصوصه المشعة المكتنزة بالدلالات؛ وهكذا خسرنا مبدعًا كبيرًا لم يُتحْ له أن يكمل رحلة الخلق الباهرة التي بدأها، مع أنه ترك بصمة مهمة في مسيرة القصة الإماراتية لا يمكن أن تزول.

*** *** ***


 

horizontal rule

* كاتب سوري مقيم في الإمارات.

[1] عبدالله صقر أحمد، الخشبة، دار الفارابي، بيروت، 1999، ص 63.

[2] يوسف حطيني، إيقاع الخشبة.. إيقاع الحياة، من أوراق الندوة التي أقامها اتحاد كتاب وأدباء الإمارات، فرع أبوظبي حول مجموعة "الخشبة" لعبدالله صقر أحمد، بتاريخ 12/5/2008، وشارك فيها: د. الرشيد بوشعير، وعبدالفتاح صبري، ومحمد محيي الدين مينو، ود. يوسف حطيني، وأحمد عزيز الحسين.

[3] عبدالله صقر أحمد، الخشبة، المصدر السابق نفسه، ص 29.

[4] المصدر السابق، ص 14.

[5] المصدر السابق ، ص 46.

[6] المصدر السابق ، ص 48.

[7] المصدر السابق، ص 46.

[8] المصدر السابق، ص 40.

[9] المصدر السابق، ص 26.

[10] المصدر السابق، ص 26 .

[11] المصدر السابق، ص 29.

[12] المصدر السابق، ص 20.

[13] المصدر السابق، ص 19.

[14] المصدر السابق، ص 21.

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني