درس مزدوج في الحرية

هيثم حسين

 

في أحاديث مع والدي أدونيس الصادر عن "دار الساقي"، ترجمة حسن عودة، تقرُّ نينار إسبر بأنها عزمت على إجراء الحوار مع والدها أدونيس لأنها كانت في حاجة إلى معرفته، وإلى تمضية بعض الوقت معه. كانت تودُّ أن يحدِّثها في أمور شتى، وأن يجيب عن أسئلة تطرحها بوصفها ابنته، وليس بوصفها صحافية أو مثقفة أو كاتبة. أن تطرح عليه أسئلة بسيطة، معقدة، وأن تعطي نفسها الحقَّ في توجيه أسئلة من دون أن تتقيَّد بأي رقابة، باحثةً عن الإنسان الأب الشاعر، ومن دون أن تتحرى رؤاه السياسية وتنبش في كتاباته. تشير إلى أن أباها أجاب خلال الحوار بإجابات وبردود أفعال تقليدية لم تكن تتوقعها، محاولاً استثارتها، إما ليتعرَّف إلى أعماق تفكيرها، وإما ليرغمها على اتخاذ موقف أو تحديد موقعها وخياراتها. تؤكِّد أنها التقت أباها هذه المرَّة، بفضل مصادفة مدروسة في نهاية المطاف، وتغلَّبت على غيابه الدائم، بتثبيته والتعرُّف إليه بعيدًا من قيود الأبوَّة والبنوَّة وحدودهما، لأن أدونيس ليس ككل أب، ولا هي ترتضي أن تكون ككل ابنة.

يحتوي الكتاب على عشرة حوارات، بالإضافة إلى المقدمة والخاتمة. تعنون نينار كل مقابلة بعنوان لأغنية شهيرة، منها مثلاً: "شابٌّ إلى الأبد" لفرقة "آلفافيل" 1984، "أنا ما أنا" لغلوريا غينر 1983، "قلبي ينتمي إلى أبي" لماريلين مونرو 1960، "إنه عالم الذكور" لجيمس براون 1966، "أحبك، ولا أنا" لسيرج غينسبرغ وجين بركن 1969، "أبطال" لديفيد بووي1977،... إلخ. تلك العناوين مفاتيح للأحاديث الدائرة على إيقاعات ووتائر منوعة.

تستهل نينار إسبر حديثها مع والدها أدونيس بعبارة مأثورة "لو عرف الشباب، لو قدر الشيوخ"، لتدخل إلى عوالمه، عبر تمهيد يشير إلى العلاقة المتواشجة بين الشباب والشيوخ، وعن ذاك الذي قد يُسمَّى صراعًا بين مرحلتين، أو تكاملاً من نواحٍ أخرى، لتدخل بعدها إلى العتبة الأخيرة في الحياة، عتبة الموت، ليسود الحديث عن الموت، الذي ينظر إليه أدونيس على أنه الحلقة الأخيرة التي تكتمل بها الدائرة. يعود الحديث عن الموت في أكثر من مقابلة، تبدو نينار أثناء ذلك، مندفعة، حماسية، تستفزُّ والدها بإعلان بعض رغباتها، في حين يبدو أدونيس مهادنًا بعض الأحيان، يعلن وصيَّته الأخيرة، وهي دفنه في مسقطه، في القرية التي ولد فيها. لا تخفي نينار، التي تتمتَّع بروح الفكاهة، وهي تسرد لوالدها كيف أن الكثيرين يبدأون بنسج الحكايات والأساطير حوله، حتى أنه يتحوَّل أسطورة حيَّة، وتصارحه بأن الموت سيحوِّله أسطورة، حيث سيغدو لكلِّ شخص قصته الصغيرة عن أدونيس، لأن أدونيس لا يُحتكَر، بل يبقى شخصية عامة تحاك من حولها القصص، وتقول إن العجب تملَّكها وهي تستمع، في أحد المجالس، إلى رجل يتحدَّث عن أدونيس، وينسب إليه أفعالاً وأقوالاً هي أجدر ببطل أسطوري أو شعبي ما عرفه أحد قط.

تتمتَّع نينار بالجرأة والصراحة وهي تحدِّث والدها عن بعض غرامياتها وصداقاتها، تبدو استفزازية حين تعلن أن ذوقها مختلف عن ذوقه في الكثير من المسائل، تفاجئه بأنها لا تقرأ شعره، تبدو اقتحامية، تدفعها طاقة التغيير وحماسة الشباب، في حين يتبدى أدونيس متعقِّلاً مفكِّرًا، وهو الخبير المجرِّب المعاني، لا يني يحاول التغيير والتحديث. تسأل نينار الكثير من الأسئلة المفصلية، وقد نافت أسئلتها على المئة، من دون أن تكل أو تمل، وهي أسئلة لا تخلو من مواقف وآراء جريئة، أسئلة تحمل الفكر والتجديد والموقف، لا أسئلة مجاملة مهادنة، كما أنها لا تخفي حيرتها أحيانًا وهي تتحدَّث عن بعض الشوائن التي تصِم العالم الإسلامي، كحديثها عن التناقض بين القول والفعل، بين السرِّ والعلن: لماذا ظلَّ الجسد اليوم تابو أيضًا... لمَ هذا النزوع إلى التسامي؟! نحن مستغرقون في الاستيهام، في الحلم، في الأمل. كلُّ شيء يبقى حيًّا داخل الرأس، ومن الصعب أن ينتقل إلى الفعل. هل هذا بسبب الثقافة الشفاهية؟ كما لو أن النص أكثر أهمية من الأفعال؟ فنحن نتكلَّم ولكننا لا نفعل. ربما يخشى العرب من قوَّة "شحنتهم الشهوانية" لهذا فهم يخفونها، يتسترون عليها، ممارسين "استئصالات بسيكولوجية"، بالاتكاء على "السور القرآنيّة والتقاليد. ص70.

تُحرج نينار والدها الذي أحرج منظومات بأكملها، تستفزه، محاولة معرفة ما يدور في رؤوس الآباء إزاء بناتهم، تقف إلى جانب التحليل النفسي الفرويدي وهي تطرح أسئلتها التي كان والدها يناور في إجاباته عنها. من تلك الأسئلة مثلاً: "أودُّ أن أعرف ما إذا كان لدى الآباء مصفاة بيولوجية، أودُّ أن أفهم كيف لأب، بسبب كونه أبًا ألا يرى جسد ابنته، جسدها كامرأة؟"، ثم تنبش في معرفة تأثير البنات على الآباء، وحول إمكان غيرة الآباء من عشاق بناتهم. في حين أن أدونيس يصرِّح لابنته بأن لديها ميلاً إلى رؤية الأمور من زاوية التحليل النفسي.

تلفت نينار، في الحوار الخامس، نظره إلى أجوبته التقليدية: "أودُّ أن ألفت نظرك إلى أنك كنت حتى الآن بالغ التحفظ والاحتشام، وكانت أجوبتك "تقليدية" إلى حدٍّ كبير! أنا أجد هذا مضحكًا الأحرى، ففيما أبحث عن أدونيس الإنسان، وقعت على الأب" (ص 105). لكن أدونيس لا يخفي تحفُّظه أحيانًا، ويصرِّح لها بأنه ليس من الميسور الإجابة عن كثير من أسئلتها، لأن أسئلتها نظرية جدًّا، ويصعب أن يعطيها جوابًا يتوخى الدقة والصواب، بل يمكنه إعطاء انطباع، رأي، من دون أن يكون له علاقة جازمة مع الحقيقة الواقعية. نينار تستطلع الإجابات، تود الاطلاع على الدفين والمخبوء، لتقارن بين وجهتي نظر، تقول له مبرِّرة جانبًا من ثورتها: "لو كان لي عمرك وتجربتك، لما طرحت عليك هذه الأسئلة، أنا أطرحها بغية المقارنة بين رؤيتين، وتجربتين..." ص 116.

تبحر نينار بعيدًا في أسئلتها، تسأل عن الطفولة والشباب، عن النزوات والمغامرات، عن الأسفار، عن الصدامات والصعوبات، عن الأديان، الجنس، الجنون، الشهوة، الخلق، الإبداع، الفن، عن الأبوة والبنوة. تتحدث بصراحة عن تهيُّبها الخوض في مغامرة الكتابة، وهي تحمل إرث والد ذي شأن كبير في الثقافة العربية والعالمية. كما أنها تتحدَّث بكثير من المرارة والألم والإيلام و"الحنين" عن أيام الحرب الأهلية اللبنانية، تناقش والدها في المآسي الإنسانية التي تخلِّف صورًا جميلة، تطرح إشكالية جمال المأساة، هي التي توجَّهت صوب الفنِّ كي تعبِّر عن نفسها وأفكارها.

يشدِّد أدونيس في أكثر من إجابة له على دور الذاكرة، التي تكون الينبوع الذي يغذي ذاكرته، ويعتقد أنها جزء أساسي من الحياة، من العقل، من المشاعر. ينتابه شعور بأنه وُلِد داخل الذاكرة وبأن عليه أن يوافي منيته فيها. كما يؤكِّد استحالة تقدُّم مجتمعٍ بوجود بضعة أشخاص متنورين، لأن المجتمع لا يمكن أن يتغير إذا لم تتغير المؤسسة، إذا لم تتغير بنية العائلة، وبنية السلطة أيضًا.

يثرى الكتاب بالكثير من الأفكار، حتى ليصح القول إن كل فقرة فيه تحمل فكرة مختلفة يمكن التوقُّف عندها بالتحليل والمناقشة والتمحيص، ومن الصعب الإحاطة بما ورد فيه من تشعبات وتشظيات، لأنه بالفعل درس مزدوج في الحرية. ابنة حرَّة واعية مسؤولة جريئة، أمام أب مفكِّر واعٍ جريء.

قد يقول القارئ، من باب الاستمتاع والإفادة، وبشيء من المداعبة، بعد انتهائه من قراءة الأحاديث الغنية الصريحة الجريئة بين نينار وأدونيس، إنه لو كان أدونيس نارًا فقد لاقى نينارًا، إعصارًا.

*** *** ***

النهار

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود