أبو رزّوق

 

فادي أبو ديب

 

(1)

في السنة الرابعة من إقامتي في حلب انتقلت للسكن في أحد الأحياء الأكثر قربًا من قلب المدينة النابض بالحياة. مللتُ حيَّ الكواكبي الشديد الهدوء وجوَّه السكنيَّ المحض وقررت أن أعيش المدينة كما هي، حتى لو كلَّف الأمر السكن في أحياء أقدم وأقل نظافةً وجمالاً معماريًا وأكثر ازدحامًا.

في هذه السنة تعرَّفت على أمين؛ تعرَّفت عليه عن طريق صديق آخر في مقهى كان فريدًا من نوعه في ذلك الوقت، حيث يحتوي على مكتبة للمطالعة ويمكن للزائر أن يقضي فيه اليوم كله لقاء شراء بعض "السناكات" المرتفعة الثمن. كان أمين مديد القامة يكبرني بنحو ستة أعوام، أما طبعه فكان اجتماعيًا جدًا... ينسج العلاقات مع الناس بسرعة كبيرة. وهذا بالضبط ما كنت أحتاجه في المدينة حينها. كان أمين شديد الولع أيضًا بالأفكار الكبرى والغريبة، ولكنه في ذات الوقت لم يكن مولعًا بقراءة الكتب والتوسُّع في الأفكار، ولهذا فقد كان دائم الانفعال، انفجاريّ الطروحات، سريع التعلُّق بأفكار معينة لا تنسجم مع بعضها أكثر الأحيان، سريعًا في نبذها والتشهير بها وبأصحابها، من غير النادر أن يندفع إلى إلقاء خطب نارية حالمة على محدِّثيه (أو بالأحرى الصامتين المستمعين إليه!)، غالبًا ما ينهيها بقهقهة عالية وحماسة شديدة تدفعه إلى فرك كفَّيه ببعضهما وكأنَّه حصل على جائزة عظيمة للتوّ. هذه الخصيصة السلبية في نظر بعض الناس، كانت هي الشيء الذي كان يجعله قادرًا على التعرُّف على الناس بسرعة فائقة وإقامة الأواصر مع البشر من مختلف الأعمار والمشارب والطباع.

من خلال أمين إذن تعرَّفت على أبي رزّوق؛ رجل يبلغ حوالي الثانية والخمسين من عمره، ولو أنَّه يعطي الانطباع أحيانًا بأنَّه أكبر بعشر سنوات من عمره الحقيقي، أصلع الرأس، ذو لحية خفيفة مربَّعة، تبدو على وجهه ابتسامة ماكرة بشكل ساذج، كمن يخبِّئ عن الناس سرًّا تافهًا أو مقلبًا ينتظر فرصة مؤاتية لتنفيذه. كان أبو رزّوق قليل الكلام، بارعًا في استعمال الإيماء ولغة الوجه. والأغرب من كل هذا أنَّ لا أحد يعلم من أين أتى اسمه، فهو غير متزوِّج وليس لديه ابن اسمه رزّوق أو رزق أو ما شابه من الأسماء، لا بل كان في الأصل أرمني اسمه هاروت. أما كيف ومتى أصبح هاروت أبا رزّوق، فالله وأبو رزّوق وحدهما يعلمان!

أما سبب تعرُّفي على هاروت أو أبي رزّوق فهو أنَّ أمين أخبرني بأنَّ صاحبنا هذا كان قد تطوَّع بأن يجلب لبعض جيرانه ومعارفه، وأغلبهم من المتقدمين في السنِّ، بمؤونة المنزل وحاجيَّاته الأخرى مرَّتين أو ثلاث مرَّات في الشهر. ولأنَّ عدد العائلات زاد على قائمته خمسًا فقد أصبح بحاجة إلى شخص إضافيٍّ يذهب معه في جولاته تلك. لم يكن أبو رزّوق يذهب إلى السوق القريب بل اختار حيًّا أبعد قليلاً ويشكِّل جزءًا من المدينة القديمة. كما أنَّه لم يكن يذهب إليه إلا سيرًا على الأقدام بحجَّة أنَّ السيارة في مثل تلك الشوارع والأزقة الضيقة ستجعل الأمر أصعب وأقلَّ متعةً. وفي حال كانت الأغراض كثيرة ولا يمكن لنا أن نحملها لمسافة طويلة، يقول أبو رزّوق، يمكن أن نحملها من الحيِّ القديم حتى الشارع الرئيسي ومن ثم يمكننا أنا وأمين إيقاف "تاكسي" والعودة به، أما هو فليس بحاجة لسيارة. لا بأس... بدا الأمر منطقيًا بالنسبة لي!

كان يصرُّ على أن نبدأ رحلتنا كل يوم سبت في الساعة الثامنة صباحًا. لماذا يا أبو رزوق؟؟  كثير من الدكاكين لا تفتح في مثل هذا الوقت... على الأقل ليس الدكاكين التي نريدها! لم تنفع حملات البلدية ولا اللافتات التي تحمل الآيات والأحاديث النبوية أن تقنع تجار المدينة ببدء العمل باكرًا، هل يريد أبو رزوق أن يقنعهم بطوافه بين دكاكينهم المغلقة؟! سألت أمين، فقهقه وفرك يديه بحماسة، وقال: "هذا أبو رزّوق... مو حيالله!".

المهم أنني بدأت مع صاحبيَّ جولاتهما الصباحية التي كانت تستمرُّ حتى بعد الظهر. لم نكن نتوقف من أجل الغداء... على اعتبار أننا كنا نجلس معًا ونتناول غداءً متأخرًا بعد الانتهاء من كل شيء. كنَّا أحيانًا ونحن نمشي مسرعين قريبًا من ساحة السبع بحرات نمرُّ بسرعة على أحد الأفران فنشتري كومة من الخبز الإفرنجي الطازج ثم نجد محلاً يبيع بعض الزعتر الحلبي، ثم نمشي أنا وأمين خلف أبي رزّوق الذي يحمل كيسًا أسود كبيرًا يسنده على كتفه وظهره... ونحن نفتح الخبز الإفرنجي بأصابعنا ونرش فيه الزعتر بسرعة كيفما اتفق ونأكل ونحن نلهث خلف صاحبنا النشيط الدائم الأناقة التي لا تتناسب مع غرض جولاتنا (أو هكذا كنت أظنُّ وقتها!)، وأمين بطوله الفارع يهتز كبندول الساعة إلى الجانبين وهو يأكل ويمشي بسرعة. بين الفينة والأخرى كان أبو رزّوق يلتفت إلينا بنظرته الماكرة الساذجة ويحرك حاجبيه بسخرية وكأنه يقول "كيف هالطلعة معكن. أكيد مكيّفين؟!"

بين الحين والآخر كان يستوقفنا ليمرَّ على بعض الفنادق الشعبية ذات السلالم القديمة الشديدة الارتفاع، فننتظره لمدة لا تتجاوز الدقائق الخمس بعد أن يترك كيسه معنا، قبل أن يعود نازلاً بسرعة، ثم نستكمل المسير. لم أكن أعرف ماذا يفعل هناك. سألته مرة واحدة فقط فلم يجب، بل نظر إليَّ بنظرته المعهودة ومعها كمية مضافة من الخبث البريء. وحين سألته مرة أخرى، ردَّ عليَّ بسؤال: "كم عدد أبواب حلب؟ إذا عرفت بقلك!" قلت له "على علمي تسعة!" فأجاب سريعًا: "لا يا فهمان، عشرة. شفت شلون؟!" وقهقه أمين من الخلف: "السؤال التقليدي اللي ما حدا بيعرف جوابو!"

عرفت فيما بعد ماذا كان يفعل، ولكنني آثرت على نفسي أن أحتفظ بسرِّه ولا أبوح به، ليس لخطورة الأمر ولكن لخصوصيته الشخصية.

كنا نجتمع إذن بعد كل جولة في أحد المطاعم الشعبية على الزاوية بين اثنين من أزقَّة حيِّ الجديّدة، وهو حيٌّ عريق يُقال إن نسبة مهمة من اليهود كانت تسكنه قبل مغادرتهم المدينة نهائيًا في تسعينيات القرن الماضي، وقد تحوَّلت بعض بيوته القديمة الجميلة إلى مطاعم وفنادق فاخرة. في ذلك الوقت لم أكن أستطيع تفسير الارتباك الذي كان يتملَّك أبو رزّوق؛ فالرجل "الماكر" والواثق والسريع يتحوَّل إلى كتلة من الارتباك. لقد كان يحاول جاهدًا ألا يظهر ارتباكه، فكان يختلق الأحاديث معنا ويلكز هذا أو ذاك من عمال المطعم ويتكلَّم معهم؛ ولكن هذه المحاولات بالذات هي التي كانت تشي بارتباكه، فهو عادةً قليل الكلام، وليس بوَّاحًا أو من محبِّي المحادثات الطويلة والمزاح المستمرِّ بلا داعٍ. وحين كنت أسأل أمين عن هذا التشوُّش عند صاحبنا، كان يقول "لله في خلقه شؤون بقا! فيك تفهم على أب رزّوق؟!" كنت أشعر أن أمين يعرف ولكنه لا يريد أن يخبرني.

استمرَّ الأمر على ما هو عليه حتى الأسبوع الذي يسبق عيد الميلاد. كان الطقس باردًا، الأمر الذي لم يدفع أبا رزّوق على أية حال لتغيير رصانته المعهودة وبذلته الأنيقة، بل أضاف إليها قبعة صوفية سميكة من ذلك الصنف الذي يستعمله سكان المناطق الجليدية. لم نغيِّر من روتيننا، فجلسنا هذه المرة في نفس المطعم المطلِّ بواجهاته الزجاجية الواسعة على الزقاق البازلتيِّ الضيِّق والمندَّى ببعض المطر الذي كانت يهطل خفيفًا بين الحين والآخر.

هذه المرة كان هناك شيء مختلف؛ فبعد جلوسنا بعشرة دقائق، وكنا قد اعتدنا على صخب أبي رزّوق في مثل هذه الحالات، أطبق الصمت على الرجل، وخالط ارتباكه بعض الابتسام الذي كان يأبى الظهور بكامل عدَّته على محيَّاه. كان ينظر من الزجاج ثم يتصنَّع الانشغال معنا. أما أمين فانتبه ولكزني بقدمه من تحت الطاولة مشيرًا بعينيه إلى الزقاق.

(2)

كانت ربما في حوالي الأربعين من العمر أو أكثر قليلاً...من أولئك السيدات اللاتي ينهزم الزمن دائمًا أمام وجوههنَّ، وكأنَّ علامات السنِّ إذا أرادت أن تغزو وجهها لم تفلح إلا بعد تعد سلطان الزمان بأن تزيده رقَّة وفتنة. كانت تمشي بحذر على حجارة الزقاق القديم المبتلَّة. وخلال تقدمها نحونا كنت أكتشف تدريجيًا أنَّ وجهها مزيجًا من الجرأة التي تميِّز فتيات الجامعات، والارتباك (ويبدو أنها كانت تعلم بوجوده قبل أن تصل بمسافة لا بأس بها)، والترفُّع عن الانغماس الكامل بما يحيط بها؛ كنت قادرًا على قراءة ملامح التحفُّظ والمبادرة في عينيها وفمها. فمها؟ نعم، الفم يقول الكثير، كالعيون تمامًا، لا بل وأكثر بكثير! خُيِّل إليَّ من لباسها ومشيتها أنَّها من بنات تلك العائلات العريقة التي أطاح الدهر بجاهها وعزِّها فلم يُبقِ لها إلا بعض النُّبل وبعضًا مما يعين على الاحتفاظ بالقليل الباقي من شرفٍ ومكانة معنوية بين المعارف القدامى. هذا ما خُيِّل إليَّ فحسب، فأنا لم أفلح حتى بعد كل هذه السنوات بمعرفة اسمها أو التوصُّل إلى عائلة تنتمي. أبو رزّوق لم يقل عنها أيَّ شيء ذي قيمة فيما يخصُّ معرفة المزيد عنها شخصيًا، حتى بعد أن صادفناها أربع أو خمس مرات متفرقة على امتداد فترة طويلة نسبيًا، وذلك قبل أن تمنعني المشاغل من الاستمرار بالخروج الدائم معه.

كانت عيناها تلقيان نظرات خاطفة إلى الواجهة الزجاجية للمطعم وهي تتابع مسيرها الحثيث المتأنِّي منصرفةً إلى النظر إلى حجارة طريقها. وكنت أتساءل ماذا ستفعل أو ماذا سيفعل أبو رزوق حين سيلتقيان وجهًا لوجه، هذا إذا كانت ستواجه عينيه! أما أبو رزّوق فقد نهض ببطء، باذلاً كل ما بوسعه ليبدو الأمر طبيعيًا وغير مستعجل، ووقف في باب المحلِّ. أما هي فحين وصلت... لم تخذلني البتة... لقد كانت مُبادرة بحقٍّ... (كنت أكره سلوك النساء المتغافلات أمام الناس عن أحبائهنَّ القدماء أو الجدد، واللواتي يبخلن ولو بنظرة سرية تطمئن الحبيب إلى مكانته... كنت في الحقيقة أحتقر هذا السلوك، إلا في حالات ضرورية نادرة).

وببساطة... التفتت إليه وتبسَّمت ثم عادت لتتابع حديث الزقاق الطويل... وكأنّ الشمس ضحكت لي أنا وليس له... كأنّه كان انتصاري أنا وليس انتصاره. لا أنكر أنني لم أفهم بسمتها تمامًا... كانت هي الأخرى مزيجًا بين البشاشة المتحفِّظة والحزن الدفين والنظرة التي تسرع وهي في عزِّ إشراقها إلى تغيير وجهتها... أو ربما فهمتها... أو بالأحرى قرأتها كمن يقرأ كتابًا مفتوحًا... كانت تسأله... كانت تسأله "لإيمَت؟!" إلى متى سيبقى هكذا يطارد الشهور والسنوات لأجل نظرة... ولأجل وميض عيدٍ يأتيه في مواعيد متباعدة لا يمكن التنبؤ بها. لقد ضاع زمانه وزمانها... هذا ما قرأته في عينيها اللتين يسكنهما ذلك السَّقم الفاتن الذي تغزَّل به ألف شاعرٍ عربيٍّ ولم يحسنوا وصفه بالتمام.

على أية حال، كان لوجه أبي رزّوق قصة أخرى، فقد التفت إلينا في المحلِّ، وعاد إلى صخبه السابق، ولكنه صخبٌ مختلف هذه المرة... ليس صخب الارتباك... بل صخب الفرح... لم أره أبدًا في حالة كهذه بعد ذلك (ولا قبل ذلك بطبيعة الحال)، إلا في المرات القليلة التي تلت لقاءنا بها بعد هذه المرة. طلب لنا كمية مضاعفة من الطعام، لا بل وعرض أن يدفع عن الزبائن الموجودين في المحل، ولكن صاحب المطعم، والذي يبدو أنه حفظ أبا رزّوق عن ظهر قلب، وهو يعرفه من أيام الطفولة على ما علمت لاحقًا، زجره قائلاً: "خلص هاروت، مشي الحال هلأ!"

جلسنا نأكل بصمت متقطِّع، بعد أن حيَّا أمين الوجبة المضاعفة التي وضعها عامل المطعم الصغير أمامنا، وهو يقول: "أحلى سفرة على باب حلب العاشر!"  فضحك أبو رزّوق، وقال ببطء: "كل مدينة ندخلها من باب معيّن... و... وهي بابي الوحيد!"

تساءلت فيما بعد عن حقيقة ما قاله في ذلك اليوم. تساءلت كثيرًا أيضًا إذا ما كانت لكل المدن أبوابٌ كثيرة، أم أنَّ بعضها ليس له إلا باب واحد فقط. فكَّرت في بعض المرَّات أن بعض المدن بلا أبواب... هكذا تكون مقفلة... يولَد فيها الناس ويموتون فلا يرون العالم ولا هو يراهم!

أما سؤالي الأكبر الذي بقي معي منذ ذلك الحين فهو عن سبب سعي أبي رزوق إلى كل هذا السيناريو الطويل لكي يرى صاحبة الوجه الحبيب. ألم يكن باستطاعته أن يذهب في أي وقت يشاء لقضاء الوقت عند صديقه في المطعم وانتظارها؟ سألتُ أمين مرة هذا السؤال، فنظر إليَّ وقلب شفته، ثم رنا بعيدًا وغمغم: "ربما هو الضمير... بعض البشر لا يستطيعون أن يفرحوا مجانًا... لا يستطيعون أن ينالوا ما يمكنهم نواله بسهولة... عليهم أن يقدِّموا شيئًا للعالم... أن يُتلِفوا شيئًا من أجسادهم ونفوسهم لكي يشعروا بالاستحقاق... أبو رزّوق من هذا النوع... حين يتعب في الشوارع كلَّ هذه الساعات الطويلة يشعر بأنَّه يستحقها... ويشعر بأنّها ليست فرحة عادية يمكنه الحصول عليها في أيِّ وقت...أو ربَّما يشعر بأنَّه لا يسيء إلى..."، ثم توقف عن الكلام وغيَّر الموضوع بإلحاح وسخافة مصطنعة.

من المؤكَّد أنَّ أبا رزّوق لم يكن ناسكًا من أيِّ نوع من الأنواع... ولا بأيِّ معنى من المعاني... يقولون عنه أشياء كثيرة لست بصدد تردادها الآن... لكنه كان يعلم أنَّ الضمير بحاجة أحيانًا إلى خدعة بسيطة لكي يصمت أو يعمل بشكل مريح.  كانت هذه الجولة الطويلة خُدعَته... قربانَه...

وكانت "هي" فردوسه المستحقّ وفرحه المضاعَف...

*** *** ***

 

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

info@maaber.50megs.com  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود