كأن الشعر جثة ميتة!

 

يوسف سامي اليوسف

 

ابتداءً، لا يجوز البتة أن يناقش المرء أزمة الشعر العربي الحديث بمعزل عن أزمة الثقافة العربية بوجه عام، بل حتى بمعزل عن أزمة الوجود العربي كله. فنحن العرب نعيش اليوم على هامش التاريخ العالمي، نعيش عالة على الحضارة البشرية، ويبدو أن لا مسوِّغ لوجودنا إلا لنلعب الدور السلبي في لعبة الكون التي لابد لها من وجهين، أحدهما فاعل وثانيهما منفعل.

ثم إننا نُحكَم بأعتى قمع يعرفه العالم المعاصر كله. والأنكى من ذلك أننا محكومون لأناس لا يرقون البتة إلى مستوى الأتابكة والانكشارية؛ إذ إن حقهم الطبيعي أن يُزَجَّ بهم في المصحات النفسية بغية تلقي العلاج اللازم، إن كان في الميسور أن يفلح العلاج في تخليص هؤلاء المزوِّرين من أمراضهم المستعصية.

وبإيجاز، نحن في زمن عربي كل ما فيه زائف ومزوَّر، لا وظيفة لنا سوى التصفيق وإقامة أعراس لأناس مصابين بالعنانة والعجز الكامل عن الإنجاب. أعراس لخصي؟ أليست هذه مفارقة ما بعدها مفارقة؟

***

وأياً ما كان الأمر في جوهره، فإنني أعتقد جازماً بأن الشعر العربي يكابد اليوم أزمة خانقة لا أحسب أن له سبيلاً إلى الشفاء منها، اللهم إلا أن يُستقلَب العالم العربي، فتتم فيه تبدلات جذرية عميقة تقذف بالإنسان العربي من هامش التاريخ إلى قلب مجراه الحي. وما من عاقل يملك أن يرى أية إشارة تؤشر، ولو من بعيد، إلى أي تحول من هذا القبيل، أقلَّه على المدى القريب أو المنظور. ويبدو أن الزمن قد أكل العالم العربي وانتهى الأمر. فأينما وجدت وهناً بشرياً ففكِّر بالزمن، إذ الإنسان لا يعدو كونه فلذة افتُلِذَت من كبد الزمان وطُوِّح بها في هذا الفراغ اللامتناهي. فأنا أومن بمبدأ ابن خلدون القائل بأن الهرم إذا نزل بالكائن الحي فإنه لا يرتفع. فالشيخوخة داء لا برء منه، ولو عَنَتَ أمهر الأطباء وأبرعهم بإطلاق.

***

عند منتصف القرن العشرين، ومع استفحال المدِّ القومي، نهض الشعر العربي فتياً يانعاً مبشراً بمستقبل زاهر، وذلك مع "جيل الرواد"، ولا سيما مع السياب وأدونيس وخليل حاوي وسواهم من الأفذاذ الذين صنعوا شرفاً جديداً للُّغة العربية من شأنه أن يذكِّر بالشرف الذي أنجزه شعراء المعلقات قبل أربعة عشر قرناً.

بيد أن الأمر قد استُقلِب من جذوره بعد بضعة عشر عاماً وحسب. ففي أواسط العقد السابع توفي السياب، وصمت الحاوي، وتخلى أدونيس عن نعناعيَّته واخضلال لغته البهيَّة وهيف صوره الموحية الشديدة الجدة، ودخل في شكلانية عجفاء لا تخلو من الفجاجة والركاكة في كثير من الأحيان.

وخير شاهد على ذلك قصيدة عنوانها "قبر من أجل نيويورك"، كتبها في أوائل العقد الثامن. ولدى مقارنة هذه القصيدة بديوان كتبه لوركا عنوانه شاعر في نيويورك سوف يتبدى الفرق جلياً بين الأصلي والزائف، بين الشعري والشكلاني.

وإثر إفلاس السياسة العربية وتفسخ القصيدة العربية في أواسط العقد السابع (وما من علاقة سببية بين ذلك الإفلاس وذلك التفسخ)، نهض الشعر الفلسطيني المقاوم ممتلئاً باليُنْع والغضارة ومبشراً بتغطية النقص الآخذ بالاستفحال في العالم العربي. واستطاعت بعض الأصوات القادمة من داخل الأرض المحتلة، ولاسيما محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد، أن تملأ الفراغ الشعري الذي أخذ يستتب في العالم العربي منذ أواسط العقد السابع نفسه، مثلما حاولت الحركة السياسية الفلسطينية أن تملأ الفراغ السياسي الذي فضحته نكسة حزيران المشينة.

بيد أن الفلسطينيين لم يتمكنوا، على الصعيدين السياسي والثقافي، أن يمثلوا الرافعة التاريخية للعالم العربي المنخور، الخاوي من أي محتوى حضاري ذي بال. (والحقيقة أن خليل حاوي قد كان أقدر الشعراء العرب على استيعاب الوهن العربي، حتى لكأنه تلميذ ممتاز لابن خلدون).

إن بين الزمن الفلسطيني والزمن العربي لفرقاً شاسع البون. ولهذا فإن الأول لا يملك أية قدرة على أن يملأ خواء الثاني، ولا أن يرقى به إلى الأفق المنشود. والذي حدث فعلاً هو العكس تماماً. فقد أخذ الزمن العربي الهابط يشد الزمن الفلسطيني الصاعد صوب الأسفل. فكان أن استنقعت الثقافة الفلسطينية وأُجهِض المشروع الأدبي الفلسطيني قبل أن يترعرع، فأخذ يتخثَّر ويتصفَّر، شأنه في ذلك شأن أي شيء آخر في العالم العربي. ففي الحق أن الإنسان العربي الراهن كائن مغمى عليه، ولا تملك حجارة الفلسطينيين، ولا حتى راجماتهم الصاروخية، أن تؤوب بهذا الكائن من الغفلة إلى اليقظة. فهو يصرُّ على الغوص في غيبوبته المريحة المسترخية. وكل من لم يقرأ ابن خلدون سوف يظل عاجزاً عن استيعاء جوهر الأمور في العالم العربي الراهن.

ولا يجوز للنزيه أن يكتفي بتعنيف العرب وتنزيه الفلسطينيين. ففي صلب الحق أن المؤسسات الفلسطينية خمجة مذرة. فهي لا تسمح البتة بأي نقد جذري يتغلغل حتى صميمها المنخور. وكل نقد مسموح به لا يجوز له أبداً أن يتعدى اللحاء الخارجي لهذه المؤسسات المتآكلة من الداخل. وأهم ما في أمرها أنها مباءة للانتهازيين والمتعيِّشين والمرتزقة، فضلاً عن أنها تقع تحت هيمنة أناس أغبياء وجهلة لايَفْضُلون الأميين إلا قليلاً. وفي هذا المناخ الموبوء سوف يتعذر أي نمو ثقافي ذي بال، اللهم إلا على ندرة وحسب.

ومع أن الفلسطينيين هم المسؤولون الأوائل عن خراب مؤسساتهم الثقافية وغير الثقافية، فإن على العاقل ألا يتغافل عن المقاومة الحادة التي تمارسها القبائل العربية على الفلسطينيين. فالعرب يرفضون الفلسطينيين مثلما يفعل الصهاينة تماماً.

ولعله من الواضح هذه الأيام أنه ما من شيء نفيس يمكن إنجازه خارج المؤسسات الاجتماعية والثقافية والسياسية. فنحن في عصر تهيمن عليه القوى التوتاليتارية. وما دامت هذه المؤسسات منخورة إلى هذا الحد المزري لن يعرف شيء ذو بال دربه إلى النور.

وهكذا اتَّخذت المؤسسات الثقافية في العالم العربي استراتيجية شديدة الوضوح: إما أن يتعلَّب المثقف داخل المؤسسة بحيث يصير برغياً في آلتها الكلِّية الساحقة؛ وإما أن يُركَل ليعتكف في زاوية من زوايا النسيان ليكابد أوصابه وفقره، بل حتى حاجته إلى الكتاب الذي أصبح أغلى من الذهب الأصفر.

ولا يعدو هذا كله أن يكون سبباً واحداً من أسباب أزمة الشعر العربي. وثمة أسباب أخرى:

أين الديموقراطية وحرية التعبير عن الرأي؟ وأين الدعم الخاص الذي ينبغي أن تقدِّمه الدولة للمجيدين من الشعراء وسواهم من المثقفين؟ وأين المكتبات العامة التي توفر الكتاب للقارئ دون كلفة أو عناء؟

وكيف ننسى الوضع المادي للشاعر العربي بوجه عام؟

ففي حمأة اللهاث وراء المال، في ظل التضخم النقدي، لا يبقى أمام الشاعر إلا أن يكتب بسرعة، نظراً لأن كثرة القصائد تعني دخلاً مادياً يؤمِّن للمرء الكفاف، أو يسهم في ذلك. ثم أنَّى للمواطن العادي أن يهتم بالشعر، حتى الشديد الجودة منه، مادام مضطراً إلى الركض طوال يومه من أجل الحصول على لقمة عيشه.

إن جملة هذه الشروط المعيشية قد حصرت الشعر في فئة قليلة من الناس تحاول أن ترفض التلوث بالفسق النفطي الذي أحال الإنسان العربي إلى مجرد عبد لحاجاته اليومية. أما الطبقة التي تخوِّض في أفياء الترف، فلا حاجة بها إلى شعر، ولا إلى أي إيقاع ثقافي آخر. وحسبها أفلام الجنس وما شابه ذلك من مجون!

إننا حقاً نعيش في مجتمع قد أدمن على تحجُّره أو تخثُّره. وعندي أن المحكَّ الأول لكل انحطاط حضاري هو طغيان النثر على الشعر، بل هو حصراً ذبول روح الشعر في أي مجتمع يتفاقم فيه الانحطاط. ولست لأزعم بأن ذبول الشعر هو سبب الانحطاط، بل هو نتيجته، من جهة، ودليل عليه، من جهة أخرى.

وقد يقال بأن انتشار أجهزة التلفزيون والفيديو والسينما هو واحد من أسباب انحطاط الثقافة. وعندي أن هذا الزعم مرفوض دون تحفظ. وفي مطلق قناعتي أن هذا الانتشار هو نتيجة وليس سبباً. إنه الانحطاط بأمِّ عينه؛ وعلينا أن لا نخلط بين الظاهرة وبين وأسبابها. أما السبب الجوهري لكل انحطاط على الإطلاق، فهو الزمن، تماماً كما بيَّن ابن خلدون، أحكم حكيم عرفته البشرية طوال تاريخها.

إن منطقتنا التي بنت أول مدينة (أريحا) في الألف الثامن قبل الميلاد قد آن لها أن تشيخ. ولقد حبلت منطقتنا بالكثير وأنجبت الكثير. وفي صلب الحق أن هذه المنطقة التي نحن فيها قد اخترعت الإنسان. ولذلك لا يجوز لأي نزيه إلا أن يقول لها "الله يعطيك العافية".

***

وإني لأستغرب أن يقال ما فحواه أن أزمة الشعر العربي "لا تواجهها أجناس أدبية أخرى، كالقصة والرواية والمسرحية". فأنا لا أعرف أيَّ قاص عربي جدير بهذا اللقب في العقد الراهن. والحقيقة أن كبار القاصين العرب قد ماتوا أو صمتوا منذ عشر سنوات على الأقل: غسان كنفاني، سميرة عزام، يوسف إدريس، زكريا تامر.

أما المسرح العربي فإني أرتاب في أنه قد وُلِد على الإطلاق حتى الآن. وأما الرواية العربية فهي تجاهد لكي تثبت حضورها في هذه الآونة الأخيرة. وأما حركة النقد الأدبي – وحالها أفضل من حال القصة والمسرح والرواية – فتفتقر تمام الافتقار إلى فذاذة رجل كالجرجاني أو إليوت.

ولابد من التنويه بأن وضع الثقافة في العالم كله آخذ بالانحسار. فنحن في زمن يُعطِب جذور الأشياء، ويرمِّد كل ما أنجزه الإنسان طوال القرون السبعين الأخيرة: الدين، الفلسفة، النحت، الرسم، الموسيقى، الخ.

ولو تسامح الناس مع الفكر الحر لقلت بأن انحسار الدين هو الذي أفضى إلى تخثر الثقافة العالمية برمتها، ولاسيما الفلسفة والنحت والموسيقى والشعر. إذ إن من شأن هذه الإيقاعات الثقافية ألا تزدهر إلا في ظلال الدين؛ بل الحق أنها لم تزدهر طوال التاريخ إلا بفعل الرعش الديني الراخم في النواة الصميمية للروح البشرية.

يقيناً، ما من شيء أنتج الإنسان واستخلصه من الوحش إلا الدين. وكلما تطور الدين في التاريخ تطور الإنسان نحو الأسمى والأنبل. وباندثار الدين سوف يندثر الإنسان، وسوف يتقهقر عائداً باتجاه الحيوان الذي كانه ذات يوم.

وأبرز ما في أمر إنسان الدين أنه يعشق أكثر مما يشبق. أما إنسان عصرنا – عصر العلم والتكنولوجيا وفن الطبخ – فكائن يشبق ولا يعشق. وهل تتوقع شعراً، أو أيَّما شيء نبيل رفيع، من إنسان لا يعشق؟ وهل من رعش سوى العشق والوَلَه قد بنى تاج محل وقصر الحمراء والجامع الأموي؟

فإما الروحانية، وإما التحجُّر بين الجمادات، وما من خيار ثالث!

***

لعل من الإجحاف أن يقال بأن إقلاع الناس عن الشعر المعاصر، هذه الأيام، يمكن ردُّه إلى "هيمنة ثقافة لا تستسيغ أشكالاً فنية غير مألوفة". والأقرب إلى السداد أن يقال بأن الأشكال الجديدة قد رفضها الناس نظراً لعجزها عن التعبير الموفَّق عن إيقاعات الحياة. فمما يدحض الرأي القائل بأن الناس قد أقلعوا عن الشعر الراهن لأنهم لا يسوِّغون أشكالاً فنية غير مألوفة أن الناس قد استجابوا على نحو موفَّق للأشكال الجديدة التي لم يكونوا يألفونها من قبل، وذلك في غضون العقد السادس من هذا القرن العشرين؛ وإلا فكيف يملك المرء أن يفسِّر ازدهار السياب والحاوي وأدونيس الشاب؟

ومادام الأمر على ما هو عليه، فلا يبقى سوى عنصرين اثنين: أما أولهما فإن العصر الراهن ليس عصراً شعرياً، ولاسيما بعد ازدهار الإيديولوجيا وطرائق التفكير النظري شبه العلمي، وجنوح الناس إلى استيعاب واقعهم كما هو، أي بمعزل عن التخيُّل والتخييل، فضلاً عن رغبتهم في تحويله نحو الأفضل. والحقيقة أن الخيال البشري آخذ بالتقهقر أو بالضمور أمام هذه الواقعية الصارمة الشديدة الجنوح صوب الموضوعية والمادية المتطرفة.

وأما ثانيهما فيتلخص في أن "العيب يكمن في عطاء الشعراء أنفسهم". فمهما يُمعِن الخيال البشري في الضمور، أو حتى في التصفُّر (أي الاتجاه صوب الصفر)، فإن العقل (الروح) في الإنسان سوف يظل يستسيغ الأخيلة النبيلة الموحية، ولو نسبياً. والحقيقة أن الشعر العربي الراهن لا يجهل شيئاً بقدر ما يجهل مفهوم التخيُّل النبيل الشديد القدرة على إيقاظ الغافيات في الراقة التحتانية للنفس البشرية.

لماذا استطاع المجتمع العربي أن يستسيغ الأشكال الشعرية التي أنتجها جيل الرواد في العقد السادس من القرن العشرين؟

لأن تلك الأشكال الجديدة قد جاءت أقرب إلى طبيعة الواقع المعيش منها إلى ذبذبة التهويم وطرائق الاستشعار المغمى عليها – وهي الطرائق التي سادت الشعر العربي في العقد التاسع، أقصد في هذه الآونة التي امتدت طوال السنوات العشر الأخيرة. والأهم من ذلك أن الأشكال الجديدة التي ابتكرها جيل الرواد (ولاسيما شكل الانبعاث التموزي) هي من النمط التصعيدي النهوضي الذي يملأ الروح بالفتاء واليُنْع ويشحنه بجرعة كثيفة من الأمل والحيوية. إنها أشكال نبيلة حقاً من شأنها أن تحرِّض المرء على أن يعيش، بل على أن يثق بالعالم والمستقبل. أما اليوم فالروح الذي يسود الشعر الراهن هو روح انهباطي يجنح إلى الحشرجة والتوجع الكئيب.

وما هذا بالمصادفة أبداً. فلقد صدق الناقد الفرنسي غولدمان حينما قال بأن "بنية النص الأدبي هي بنية المجتمع نفسها". وهو قول لا جدة فيه إلا من حيث الصياغة، إذ قال النقد العربي التراثي: "الأدب ابن بيئته".

المجتمع العربي يحشرج، والشعر العربي يحشرج أيضاً. ولهذا أقلع الناس عما فيه من كآبة رومانسية هابطة تفتقر إلى روح النبل. إن مفهوم النبل (والعليان وجرعة البسالة والظفر) ينبغي أن يصير معياراً كبيراً من معايير النقد الأدبي الجديد. وإلا فإن النقد سوف يظل محبوساً في أُطُر ضيقة لا تفي بأغراض حكم القيمة الذي هو آخر هدف لأي ناقد أدبي جدير بهذا اللقب.

لقد استطاع الشعر العربي في العقد السادس أن يقف في منتصف الطريق بين النثر الواقعي وبين التخييل الشعري غير الجامح إلى التهويم. ولا مراء في أن السياب والحاوي وعبد الصبور قد رسَّخوا ما يمكن أن نسميه الشكل المعتدل؛ وهو شكل نصف شعري ونصف نثري، نصف واقعي ونصف خيالي؛ بل قل إنه قدرة فذَّة على معانقة الواقع بطرائق خيالية نأى عنها الجموح التهويمي الخاوي. فلقد وُفِّقوا أيَّما توفيق في ابتكار ملغمة فنية تجمع المعيش وما فوق المعيش في تركيبة واحدة تندغم عناصرها المتباينة على نحو حميمي أصيل.

أما الشعر في هذه الأيام الراهنة فتهويم وجنوح إلى الغيبوبة، وتتسلط عليه أشكال خوائية تفتقر إلى نبضة الحياة وأنفاسها الدافئة، حتى لكأنه جثة ميتة تعجز عن التنفس لفرط ما ينقصها من اليحمور (الهموغلوبين) الذي من شأنه أن يهب الكائن الحي النضارة وتورد الوجنات. ولا ريب في أن كائناً هذا حاله لمما تعافه النفس السوية المعافاة؛ إذ لا يمقت الإنسان شيئاً أكثر مما يمقت الجثمان.

ونظراً لهذا العجز عن معانقة الحياة، بما فيها من تدفق وسيولة وغضارة، فقد أقلع الناس عن قراءته، فراحت مجموعاته المطبوعة – وما أكثرها! – تتكدس في المستودعات دون أن يأبه لها أحد، اللهم إلا أن يكون ذلك لماماً أو على ندرة.

ولا أكتمكم أنني قلما أملك القدرة على أن أقرأ مجموعة واحدة مما يُكتَب من شعر في هذه الأيام العجاف.

***

لست أرتاب البتة في أن مفهوم الحداثة قد بات مصطلحاً خاوياً في الشعر العربي الراهن، إذ هي تفتقر إلى أي مضمون جوهري على الإطلاق. وليس بخافٍ على أي قارئ خبير بماهية الشعر أن الشاعر العربي الراهن لا يفهم الحداثة إلا بوصفها الشَّكلانية، أقصد عبادة الشكل لذاته، لا لقدرته على الإيحاء والتعبير. ومع أن همَّ الشكل ديمومي في المشروع البشري منذ حضارة نياندرتال (أي قبل مائة ألف سنة من الآن)، فإن النزوع صوب الشكل من أجل الشكل هو الاتِّضاع بأمِّ عينه. إن تخثر أية ثقافة على الأرض، وطوال التاريخ العالمي كله، هو تخثر أشكالها التعبيرية؛ بل قل هو تعبُّدها للشكل من أجل الشكل، لا من أجل محتوياته وطاقاته التعبيرية. والحقيقة أننا اليوم أمام أشكال فنية عجماء، لا تقول شيئاً، لأنها خاوية، أو قلَّ أن تحتقب أية قيمة ذات بال.

والأشكال الفنية ثلاثة أصناف: شكل يُعلِن ويُبطِن، وهذا هو فن الشرق القديم؛ وشكل يعلن ولا يُبطِن، وهذا هو الفن اليوناني، بل الفن الأوروبي كله، منذ اليونان حتى اليوم، أو قل منذ فيدياس وحتى رودان؛ وشكل لا يعلن ولا يبطن، وهذا هو الشكل الأصم الأعجم الذي تتورط فيه كل ثقافة تزمع على الانحلال. والنمط الأول من الأشكال هو الحداثة، سواء أنتجته العصور الحديثة أم القديمة. غير أن مما هو جدير بالتنويه أن الشعر الأوروبي قد استطاع أن يحقق وثبة نوعية لم يحققها الفن في أوروبا (أقصد النحت والعمارة والرسم)؛ إذ لقد استطاع بالفعل أن ينتج الشكل الشعري الذي يُعلِن ويُبطِن في آن واحد.

ما هي الحداثة الشعرية في رأيي؟

إنها مبدآن اثنان: الموحي والرامز. وفي الحق أن الشيئين، لدى النظر من برهة الكثب، وجهان لورقة واحدة.

أما الموحي فهو ذاك الذي يلوِّح ولا يصرِّح، ولكن من دون أن يسجنك في التعمية بعدما يحيل القول إلى ضرب من الأحاجي. يقول عبد القاهر الجرجاني: "إن أنَس النفوس موقوف على أن تخرجها من خفيٍّ إلى جليٍّ، وتأتيها بصريح بعد مكنيٍّ." فالموحي هو الخروج من الظلام إلى النور، أو قول هو توليف بين الظلام والنور ودغم لهما في وحدة أرقى. وإذ يفهم الجرجاني الموحي على هذا النحو، فإنه يقوم بفعل افتداء يسوعي، لأن التنافر هو داء البشر، والتناغم هو الخلاص. وههنا بالضبط يلتقي النص الأدبي والنقد الأدبي في نقطة ازدلاف واحدة توحِّد بينهما على نحو تحتاني خفي.

وأما الرامز فهو ما لا تستهلكه التفاسير على الإطلاق. إنه نداء البعيد والعميق. فالإنسان كائن ينادي على الدوام، ولا يملك القدرة على التخلص من نداءاته إلا يوم يَضْمُر خياله ويتقهقر صوب الصُّفورة الروحية. وقد لا أبالغ إذا قلت بأن في ميسور المتأمِّل المستأني، ذي الطاقة الاستبصارية، أن يدبج سفراً من ألف صفحة حول رمزية الهرم الفرعوني، لأن الهرم هو الاحتقاب النهائي لجميع نداءات الإنسان ورعوشه، بل خلاصة رموزه، أو تكثيفها الذي لا تكثيف بعده على الإطلاق.

إذن، يومذاك، حينما كانت الروح البشرية في أوج اكتهالها (اكتمالها)، استطاع الناس أن يطبِّقوا مفهوم الحداثة على أفضل وجه ممكن، وإن هم لم يقدموا أيَّما تعبير نظري عن هذا المفهوم. فمن أفحش الأغلاط الظن بأن الحداثة هي شيء من مبتكرات العصور الحديثة.

وأهم ما في أمر الرامز أنه يتوجه إلى الروح البشري بجملته الكاملة؛ أو قل إنه الطاقة التي تملك أن تنتشر في النفس البشرية كما ينتشر الجهاز العصبي في جسم الإنسان، حتى ليمكن وصفه بقول الشاعر التراثي: "حال في النفس مجال النفس."

وبإيجاز، فإن الرامز طاقة انتشارية واختراقية في الوقت نفسه، لها القدرة على التغوُّر في الذات حتى تصل إلى ما أسماه الصوفيون "نقطة العقل"، حيث يرخم الله بكامل جلاله وجماله (وفقاً للمعتقد الصوفي).

ومن هو الشاعر الحديث؟

هو ذاك الذي يفهم الحداثة من حيث هو الموحي والرامز، أو الشكل الذي لا يُعلِن إلا بمقدار ما يُبطِن. ومن لم يكن هذا حاله فليس بشاعر حديث، بل هو في أحسن أحواله فنان من الدرجة الثانية، حتى ولو تَفَيْهَق وتلمَّظ بكلام يحاول أن يوهم المرء بأنه يجيء بأشكال لم يألفها الناس. إن في الإنسان ضرباً من البارومتر القادر على فرز الأصيل عن النغيل؛ بل إن في الروح المعافى بوصلة من شأن إبرتها أن تؤشر صوب الحقيقة على نحو غرزي.

ولعل أدونيس الشاب، أقصد أدونيس مهيار والتحولات، أن يكون أقرب الشعراء إلى مفهوم الحداثة الذي لخَّصتُه للتو. ولعل نتاجات بودلير ومالارميه ورامبو أن تكون أحسن نماذج الحداثة في هذه العصور الأخيرة.

لقد اعتدت أن أصف شعر نزار قباني وسعيد عقل وسواهما بصفة أُلخِّصها بهاتين الكلمتين: "الخواء الأنيق". أما شاعر العقد التاسع من القرن العشرين، وهو من يزعم أنه شاعر حديث، فأملك أن أصفه بأنه منتج "الخواء المهذار". إنه شاعر مزوَّر، تماماً مثل سياستنا المزوَّرة، بل حتى مثل وجودنا العربي المزوَّر.

ولكن، لابد من التوكيد على أن ثمة استثناءات تستحق شيئاً من الاحترام؛ إذ لا ريب في أن ناموس الاستثناء دائم الفاعلية في الحياة البشرية.

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود