بيان العبرمناهجية*

 

هفال يوسف

 

لن يكون من قبيل التواضع إن قلتُ بأن مؤهلاتي العلمية لا تتيح لي القيام بدراسة "نقدية" لكتاب بيان العبرمناهجية. وقد زاد الأستاذ ب. نيكولسكو من صعوبة الأمر، حين ترك الآفاق مفتوحة، غير منغلقٍ على ما يسمَّى عادةً بـ "الحقيقة العلمية" التي يقف المرء حيالها عاجزاً مستسلماً – وخصوصاً الفيزيائية منها. لذا سوف أكتفي بعرض سريع لمحتويات الكتاب، مسلِّطاً الضوء على الجديد فيه، على الرغم من صعوبة المسألة، وذلك لأن هذه القراءة عاجزة عن الإحاطة بمجمل محتوياته بسبب غزارة المعلومات وكثافتها فيه، بحيث يسبب تجاهل أيٍّ منها نقصاً وضموراً. ولذلك يُنصَح بالعودة إلى الكتاب، أولاً وأخيراً.

بدايةً، يجدر بنا الاطِّلاع على جملة الأسئلة العلمية التي يطرحها ب. نيكولسكو، لندرك الدوافع "الأخلاقية" التي دفعته إلى وضع هذا الكتاب–البيان، وندرك أيضاً حجم المسائل التي تواجهنا إذا ما قررنا الاستمرار بالحياة والوجود والتقدم وفق المنحى الذي نسير فيه.

يتساءل نيكولسكو: "ما بالنا كلما ازددنا معرفة بما نحن مصنوعون منه، نقصنا فهماً لمن نحن؟ ما بال الانتشار المتسارع للمناهج يمعن في جعل كل وحدة للمعرفة من قبيل الوهم؟ ما بالنا كلما ازددنا معرفة بالكون الخارجي، دفعنا بمعنى حياتنا وبمعنى موتنا إلى التفاهة، لا بل إلى العبثية؟ أيكون ضمور الكائن الداخلي هو ما يجب دفعه ثمناً للمعرفة العلمية؟" (ص 1). وهو يحذِّر بأننا "إذا عدمنا رؤية جديدة للعالم، فإن هذا الهروب إلى الأمام يكافئ تدميراً ذاتياً بيولوجياً بالإمكان." (ص 15)

وعلى الرغم من أن "ثورتين حقيقيتين [قد] اجتازتا القرن العشرين: الثورة الكوانتية والثورة المعلوماتية... [وأن] من شأن الثورة المعلوماتية... أن تفضي إلى تحرير كبير للوقت... [و] إلى مشاركة في المعارف بين البشر أجمعين" (ص 13)، "لا يحدث شيء، والرؤية القديمة ما فتئت سيدة العالم" (ص 13) – يقول نيكولسكو؛ ثم يتساءل: "فمن أين هذا العمى؟" (ص 13)

لوضع النقاط على الحروف، يبدأ ب. نيكولسكو بنقد العلموية scientisme التي أجازت لنفسها ثلاث مصادرات أساسية "أسهمت في ترسيخ أنموذج البساطة الذي صار مهيمناً على وصيد القرن التاسع عشر" (ص 18)، وهي:

1.    وجود قوانين شاملة ذات طبيعة رياضية.

2.    اكتشاف هذه القوانين بالتجربة العلمية.

3.    القابلية الكاملة لإعادة توليد المعطيات الاختبارية.

هذه المصادرات التي أيدت صوابَها الفتوحاتُ المذهلة للفيزياء الكلاسية، كانت بمثابة دعائم لبناء التوجُّه الكلاسي في الفيزياء، الذي تأسس على فكرة الاتِّصالية continuité، وثيقة الصلة بالسببية المحلية la causalité locale، فكان "بالوسع فهم كل ظاهرة فيزيائية بتسلسل متصل من الأسباب والنتائج" (ص 18)، وبالتالي "أمكن لتصور الحتموية déterminisme أن يدخل تاريخ الأفكار دخول المنتصرين" (ص 19). ولكي تظهر الإيديولوجية العلموية إلى الوجود "كانت ثمة خطوة باقية يجب القيام بها، لم تكن ذات طبيعية علمية، لكنْ ذات طبيعة فلسفية وإيديولوجية: تتويج الفيزياء ملكةً على العلوم." (ص20)

بسيطرة هذه التصورات (الاتصالية، السببية المحلِّية، الحتموية)، سادت النظرة الميكانيكية إلى الكون، وبذلك فَقَد الكون قدسيَّته، وأصبح بالإمكان "تنحية الله إلى منزلة الفرضية" (ص 20)، الأمر الذي أدى إلى ما يمكن تسميته بـ"ديكتاتورية المعرفة العلمية" التي تنفي أية إمكانية لمعرفةٍ مغايرة. وعندما نُصِّبت الموضوعية l’objectivité معياراً أعلى للحقيقة، صار لابد من دفع الثمن: "تحوُّل الذات إلى موضوع" (ص 22)، مما حوَّل الكائن البشري إلى موضوع قابل للتجربة والتشريح والتشكيل والتلاعب والاستغلال. ويؤكِّد نيكولسكو بأن "الإنسان–الإله، إنسان–موضوع، لا مخرج له إلا تدمير ذاته" (ص 22)، مستشهداً بالمجزرتين العالميتين، وسلسلة الحروب المحلية المستمرة حتى الآن.

***

كان كوانتوم quantum بلانك، الذي أسس لفكرة اللااتصالية discontinuité، الشرارة الأولى لانطلاقة الثورة الكوانتية في الفيزياء التي قوَّضت أسس الفيزياء الكلاسية، أو بحسب تعبير نيكولسكو نفسه: "فتح علبة باندورا مخيفة."

ثم ينتقل ب. نيكولسكو إلى بسط نتائج الفيزياء الكوانتية، التي يمكن للقارئ الاطِّلاع عليها في الكتب الاختصاصية لأننا سنقتصر في عرضنا هذا على النقاط الرئيسة.

نتيجةً لنظرية بِلْ وتجارب أخرى "ظهر تصور جديد في الفيزياء: اللاانفصالية la non-séparabilité" (ص 25)، بحيث تم التحول من السببية إلى نمط جديد: السببية الشاملةcausalité globale، مما حدا بالعلماء إلى التشكيك بالسببية المحلية والموضوعية الكلاسية.

ثم جاءت علاقات هايزنبرغ الشهيرة لإبراز مفهوم كوانتي جديد هو اللاتعيُّن indéteminisme الذي هو "لاتعيُّن تكويني، أساسي، غير قابل للاختزال، لا يعني البتة المصادفة أو عدم الدقة" (ص 27)، الأمر الذي قاد إلى نظرية "الشواش" la théorie du chaos، حيث "بات الشواش يتوضع في قلب الحتموية نفسه" (ص 29)، مما أدى إلى حفر قبر الحتموية، ومعها مجمل الإيديولوجيات والمناهج والمدارس التي بُنِيَت بموجبها.

***

ثم ينتقل ب. نيكولسكو إلى نقد مفهوم آخر في العلموية، وهو المتعلق بوجود مستوى واحد للواقع. ويعرِّف الواقع بالمعنيين البراغماتي والأنطولوجي، فيقول: "أقصد بالواقع réalité، أولاً، ما يقاوم تجاربنا وتمثيلاتنا وتوصيفاتنا وصورنا أو تصويراتنا الرياضية" (ص 29)، بحيث صار التجريد "جزءاً لا يتجزأ من الواقع" (ص 29). وبالمعنى الأنطولوجي يغدو الواقع "ليس بناءً اجتماعياً وحسب، ليس إجماع جماعة، اتفاق بينذاتي intersubjective. إذ إن له أيضاً بعداً عبرذاتياً trans-subjective." (ص 30)

أما مستوى الواقع فهو "جملة من المنظومات غير متغيرة، ينتظمها عدد من القوانين العامة" (ص30). ويعود الفضل إلى هسِّرل وبضعة بحاثة آخرين لاكتشاف "وجود مستويات مختلفة لإدراك الذات الراصدة للواقع... واقع متعدد الأبعاد... ومتعدد المراجع." (ص 31)

تكمن المعضلة التي أدخلها المنطق الكوانتي في تعديل مسلَّمة عدم التناقض ذو الزوجين الثنائيين وفق المنطق الكلاسي، إلى عدم تناقض ذو قيم متعددة. يوضِّح ستيفان لوباسكو بأن "منطق الثالث المشمول منطق حقيقي، قابل للتصوير ومصوَّر، متعدد القيم [مثلث القيم: أ، لا–أ، ث] وعديم التناقض" (ص 38). ويشرح ب. نيكولسكو بأن "فهم مسلَّمة الثالث المشمول... يتضح اتضاحاً كاملاً عندما يُدخَل مفهوم مستويات الواقع" (ص 39).

تمت تنحية المنطق الكلاسي، بشكل أكثر جدية، من جراء ظهور عامل ثالث في المعادلة، ألا وهو التعقيد، وذلك لكون "النظريات الموحِّدة قديرة جداً على مستوى المبادئ العامة، لكنها فقيرة نوعاً ما في توصيف تعقيد مستوانا" (ص 46) – التعقيد الذي تجلَّى أيضاً في العلوم الطبيعية والإنسانية، وكذلك في مختلف الفنون، بل ومجالات المعرفة كافة. ثم يسأل ب. نيكولسكو إن كان هذا التعقيد بلا نظام "أم أنه يخفي نظاماً جديداً وبساطة ذات طبيعة جديدة هي على وجه التحديد موضوع المعرفة الجديدة؟" (ص 48)، ويضيف بأن الفيزياء والكوسمولوجيا الكوانتيتين تبيِّنان أن "اتِّساقاً مذهلاً يسود في العلاقة بين اللامتناهي في الصغر واللامتناهي في الكبر. غير أن حداً واحداً غائب في هذا الاتِّساق: هو خواء المتناهي – خواؤنا..." (ص 49).

***

بعد ذلك العرض السريع للفروقات بين المنطقين الكلاسي والكوانتي، ينتقل ب. نيكولسكو إلى عرض الرؤية الجديدة إلى العالم المتمثلة في العبرمناهجية، حيث إنه "ليس في الفكر الكلاسي هناك إلا حلان للخروج من وضع انحطاطي: الثورة الاجتماعية أو العودة إلى "عصر ذهبي" مفترض" (ص 52). وبما أن نتائج الثورة الاجتماعية كانت كارثية، ولم يتم العثور على أي عصر ذهبي في التاريخ الإنساني، يطرح ب. نيكولسكو الحلَّ المتأسِّس على الفكر الكوانتي: العبرمناهجية. فيميز بين ثلاثة مصطلحات متقاربة هي:

1.    تعددية المناهج pluridisciplinarité التي تختص "بدراسة عدة مناهج في آن واحد لموضوع واحد يتعلق بالمنهج الواحد نفسه." (ص 54)

2.    البينمناهجية interdisciplinarité التي "تتعلق بنقل الطرائق من منهج إلى آخر." (ص 55)

3.    العبرمناجية transdisciplinarité التي تختص بـ"ما هو في آن معاً بين المناهج، عبر المناهج المختلفة، وفيما يتعدى كل منهج." (ص 55)

ويميز أيضاً بين البحث المناهجي، الذي "يختص، على الأكثر، بالمستوى الواحد نفسه للواقع..." (ص 56)، في حين أن العبرمناهجية "تهتم بالديناميَّة المتولدة بفعل عدة مستويات للواقع في آن معاً." (ص 56)

تتعين طرائقيَّة البحث العبرمناهجي بأركانها الثلاثة: مستويات الواقع، منطق الثالث المشمول، والتعقيد. ولا يتم بطبيعة الحال نفي طرق البحث الأخرى، بل يؤكد ب. نيكولسكو بأنها تتكامل فيما بينها بقوله إن "المناهجية وتعددية المناهج والبينمناهجية والعبرمناهجية هي السهام الأربعة للقوس الواحد نفسه: ألا وهو قوس المعرفة." (ص 58)

إذاً، فالمنطق الأساسي للعبرمناهجية يكمن في اعتبار أن للواقع مستوياتٍ عدة، قد تكون لامتناهية، بحيث يرتبط كل مستويين متجاورين فيما بينهما بمقتضى منطق الثالث المشمول. ويؤكد ب. نيكولسكو بأن "ثمة بالتأكيد اتِّساق cohérence بين مختلف مستويات الواقع" (ص 62)، وأن "تماسكاً ذاتياً ينتظم تطور الكون" (ص 62). كذلك يبدو الكون "قادراً على التخلُّق الذاتي autocréation بدون أي تدخل خارجي" (ص 63). وفي الحقيقة ، لم أفهم في هذا السياق، ما الذي تعنيه كلمة "خارجي" هنا؟

يؤكد ب. نيكولسكو على تعذر وجود نظرية تامة منغلقة على نفسها، وذلك لأن "فعل الثالث المشمول [يحرِّض] على مختلف مستويات الواقع بنياناً مفتوحاً، غودلياً [نسبة إلى عالم الرياضيات ك. غودل]، لجملة مستويات الواقع" (ص 63)، وبالتالي "يمكننا الكلام على تطور المعرفة، بدون التوصل يوماً إلى عدم تناقض مطلق، ينسحب على كل مستويات الواقع: فالمعرفة مفتوحة أبداً." (ص 64)

تؤكد نظرية غودِل الخاصة بالحساب حقيقة البنيان المفتوح لجملة مستويات الواقع، حيث تقول: "إن منظومة من المسلَّمات غنية بما يكفي تقود حتماً إلى نتائج إما غير قابلة للحسم، وإما متناقضة" (ص 65)، وبالتالي، فإن "الوحدة التي تربط كل مستويات الواقع، إن وُجِدت، يجب بالضرورة أن تكون وحدة مفتوحة" (ص 66). "وحتى تكون هناك وحدة مفتوحة، يجب اعتبار أن جملة مستويات الواقع تستطيل في نطاق عدم مقاومة zone de non-résistance لتجاربنا وتمثيلاتنا وتوصيفاتنا وتصويراتنا الرياضية." (ص 66)

يقابل ب. نيكولسكو نطاق عدم المقاومة – عدم مقاومة نطاق الشفافية المطلقة – بـ"الحجاب"، أي القدسي le Sacré ، أي "ما هو عصيٌّ على كل عَقْلَنَة" (ص 67). وهكذا، فإن "جملة مستويات الواقع ونطاق عدم مقاومته المكمِّل هو الموضوع object العبرمناهجي." (ص 67) ثم يطرح مبدأً مثيراً لنسبيةٍ relativité جديدة تقول: "ما من مستوى للواقع هو مكان ممتاز يمكن اعتباراً منه فهم مستويات الواقع الأخرى." (ص 67) ولست أدري، بالتحديد، إن كان هذا الكلام يتقاطع مع "مبدأ تساوي الأشياء" في حكمة تشوانغ تسُه التاوية، أم مع عقيدة "وحدة الوجود" عند ابن عربي!

***

تالياً، يقودنا ب. نيكولسكو إلى مفهوم آخر جديد، هو وجود مستوياتٍ عدة للإدراك، يقول عنها: "إن مختلف مستويات الواقع هي في متناول المعرفة البشرية بفضل وجود مستويات إدراك niveaux de perception مختلفة، هي على تقابُل متواطئ مثنَّى biunivoque مع مستويات الواقع" (ص 68). وبالتالي فإن "اتِّساق مستويات الإدراك يفترض سلفاً، كما هي حال مستويات الواقع، نطاق عدم مقاومة للإدراك" (ص 68). وعليه، فإن "جملة مستويات الإدراك ونطاق عدم مقاومتها المكمِّل هي الذات sujet العبرمناهجية" (ص 68). وهكذا فالتواطؤ المثنَّى بين الذات والموضوع العبرمناهجيين يعني أن "دفق المعلومات الذي يجتاز اجتيازاً متَّسقاً مختلف مستويات الواقع يقابلُه دفقُ وعي يجتاز اجتيازاً متَّسقاً مختلف مستويات الإدراك" (ص 70). وبالتالي، فإن العبرمناهجية تقترح عوضاً عن شاقولية الوضع القائم على الأرض، شاقوليةً واعية كونية، وتعدُّها أساساً لكل مشروع اجتماعي قابل للحياة.

***

في الفصل التالي، ينتقل ب. نيكولسكو إلى الحديث عن الطبيعة، فيميز ثلاثة أشواط كبرى لصُوَرها: "الطبيعة السحرية، الطبيعة–الآلة، وموت الطبيعة" (ص 73). ففي حين كانت الطبيعة بنظر الفكر السحري عضوية حية تتحلَّى بالفطنة والوعي، فإنها أضحت في الفكر الآلوي méchaniste آلة يمكن معرفتها والظفر بها، مما قاد إلى ظهور فلسفة الطبيعة التي حاولت إعادة الحياة إليها بلا جدوى. لكن، وعلى الرغم من استمرار الموقف الاختزالي الجديد néo-réductionniste تجاه الطبيعة، فإن "موت الطبيعة غير متوافق مع التأويل المتِّسق لنتائج العلم المعاصر" (ص 74) بسبب وجود التعقيد. فالطبيعة، كوانتياً، لم تمتْ، وذلك لأن "الفراغ الفارغ للفيزياء الكلاسية يُستبدَل به الفراغ المليء للفيزياء الكوانتية." (ص 75)

إن تغير مفاهيم الفيزياء – مادة، جوهر، طاقة، معلومات، زمكان... – من الكلاسية إلى الكوانتية، قاد إلى مفهوم جديد لقوانين الطبيعة، قام بصياغتها الفيزيائي فالتر تيرنغ قائلاً إن:

1.    قوانين كل مستوى أدنى لا تتعيَّن تعيناً تاماً بقوانين المستوى الأعلى.

2.    قوانين المستوى الأدنى تتوقف أكثر على ظروف انبثاقها منها على قوانين المستوى الأعلى.

3.    تراتبية القوانين تطورت مع تطور الكون نفسه. (ص ص 77-78)

استناداً إلى ما سبق، يميز ب. نيكولسكو ثلاثة مظاهر للطبيعة:

1.    الطبيعة الموضوعية la nature objective، المتصلة بالخواص الطبيعية للموضوع العبرمناهجي.

2.    الطبيعة الذاتية la nature subjective، المرتبطة بالخواص الطبيعية للذات العبرمناهجية.

3.    العبرطبيعة la trans-nature، المرتبطة بالطبيعة المشتركة بين الموضوع العبرمناهجي والذات العبرمناهجية. (ص ص 78-79)

وهكذا نصل إلى تعريف بالطبيعة الحيَّة la nature vivante، عبر البنيان الثلاثي لمظاهر الطبيعة. وانطلاقاً من قدرة الطبيعة الحيَّة على التوليد والخلق يصل ب. نيكولسكو إلى نتيجة بالغة الروعة، حيث يقول: "كتاب الطبيعة ليس إذن للقراءة بل هو عتيد أن يُكتب." (ص 80)

***

عبر محاولته لتجاوز ذاته، استطاع الإنسان أن "يستطيل" و"يمتد" مخترقاً حدود قدراته البدنية بواسطة التقانة المتطورة بتسارعٍ شديد، وصار بمقدوره تكوين إدراك "خارجي" للعالم – هذا الإدراك الذي سِمَتُه المميزة هي التناقض. فكيف، والحال هذه، يمكن إدراك الوحدة والانسجام في العالم. يدلنا ب. نيكولسكو إلى طريقة عملية، أشبه باليوغا، تمكِّننا من اكتشاف "مستوى للإدراك الطبيعي لوحدة المتناقضات" (ص 86). تعتمد طريقته هذه على تفعيل الخيال الكوانتي imaginaire quantique، وذلك عبر إسكات ثرثرة الفكر المعتاد وصولاً إلى صمتٍ داخلي، حيث يحدث تجلٍّ حقيقي عبر خيال بلا صور. وبالتالي، فإن "فهم العالم الكوانتي يمرُّ إذن بخبرة معيشة..." (ص 86). تعتمد هذه الخبرة على الشهود، التوحُّد، واللاانفصال الطبيعي، حيث "مستوى ما من مستويات الواقع ثنية في جملة مستويات الإدراك، ومستوى ما من مستويات الإدراك ثنية في جملة مستويات الواقع" (ص 87). إن اللاانفصال، أي عندما تكون الذات والموضوع متَّحدين، يبدي نطاق مقاومة مطلقة، يستعصي على الفهم؛ إنه نطاق عدم مقاومة القدسي، الذي "بمقدار ما يكفل التناغم بين الذات والموضوع يشكل جزءاً لا يتجزأ من العقلنيَّة rationalité الجديدة." (ص 88) هذه العقلنيَّة التي جعلت التجاوز الذاتي auto-transcendance أساساً لحريتنا قائمة على "احترام عبرطبيعة transnature الطبيعة البشرية [الذي] ينطوي على التعرف في كل كائن بشري على تجاوزه المزدوج الداخلي والخارجي" (ص 89)، الأمر الذي يقود إلى ربط جدلي بين التطور الفردي والتطور الاجتماعي.

يربط ب. نيكولسكو، بطريقةٍ ثورية، بين كلمتي "تجاوَزَ" و"خَرَقَ"، ثم بين كلمتي "خَرْق" و"عَبْر"، حيث يتم تأويل الأخيرة منها من قبل المشرعين إلى "انتهاك القانون"، ثم يعلن العبرمناهجية خرقاً معمَّماً "يفتح فضاءً غير محدود من الحرية والمعرفة." (ص 91)

***

"لقد تم لتوه خرق آخر حد من حدود جسمنا – حد دماغنا نفسه"(ص 93). بهذه الكلمات يبدأ ب. نيكولسكو بطَرْق موضوع الطبيعة التقنية التي كان من آخر تجلِّياتها المكان السيبري cyberspace، لأن الإشارات تنتشر فيه بسرعة الضوء. ولأن مصطلح المكان السيبري متعدد الدلالات، يفضل ب. نيكولسكو إدخال تسمية جديدة: الزمكان السيبري le Cyber-Espace-Temps (CET)، ويقول: "الـ CET طبيعي لأن مصدره طبيعي: العالم الكوانتي... والـ CET، في الوقت نفسه، لغة مصنوعة" (ص 94)، الأمر الذي يطرح سطحاً بينياً جديداً interface (إنسان–كمبيوتر)، وبالتالي سطحاً ثالثاً يشملهما. ويبيَّن ب. نيكولسكو أن للـCET  بعداً كوسمياً، وذلك لكون الإشارات تسري فيه بسرعة الضوء c. ويسأل: "ما هو عدد أبعاد الـ CET؟" (ص 97). ويجيب: "يتصف العالم الكوانتي – منبع الـ CET – بعدد من الأبعاد يختلف عن أربعة... إن البعد الجزئي [غير التام] للمكان متوافق مع الـ CET. الفراكتالات fractals كيانات طبيعية في الـ CET." (ص 97) ويسأل أيضاً: "ما هو المنطق الذي ينتظم الـ CET؟" (ص 97)، ليوضح بأن ثلاث ملاحظات تبين أن المنطق الكلاسي لا يمكن أن ينتظم الـ CET، وهي:

1.    يجب عدم الخلط بين الترميز والمنطق، (0,1 مثلاً)...

2.    منبع الـ CET هو العالم الكوانتي...

3.    انغمار الجسم البشري في الـ CET يوقظ فيه مستوى للإدراك جديد (ناجم بالدرجة الأولى عن ملاقاة "جدار الضوء"). (ص ص 97-98)

وعلى اعتبار أن للـ CET منطقاً كوانتياً، فإن "ثمة إمكانية لاستدماج المنتهي الذي هو نحن في الوحدة بين اللامتناهي في الصغر واللامتناهي في الكبر" (ص 98)، تلك الإمكانية التي تمكِّننا من شهود "ولادة النمط التاريخي الأول للتفاعلات المثلثة (لامتناهي في الصغر، لامتناهي في الكبر، لامتناهي في الوعي)." (ص 99) لكنه يحذِّر، في الآن نفسه، من مركَّبات الطبيعة التقنية، بما فيها الزمكان السيبري، لكونها تتمتع بخاصية الحركة الذاتية، التي تعني في الطبيعة الخضوع لمبدأ الأقصوية maximalité، الذي يمكن بدوره "أن يقود إلى أسوأ الهمجيات، لكنه ذو كمون إبداعي هائل." (ص 100)

ولتجنُّب الأسوأ، الذي قد يكون مدمراً، يرفض ب. نيكولسكو فكرة إصلاح المنظومة المرجعية الحالية (منظومتنا)، ويطرح، عوضاً عن ذلك، فكرة تغيير المنظومة المرجعية جذرياً، وذلك عن طريق "إدخال طريقة جديدة لفهم الديالكتيك بين البساطة والتعقيد" (ص 101). ويقترح "ضرورة الاعتراف بالـ CET على صعيد القانون الدولي بوصفه مكاناً عبروطنياً espace transnational، مكاناً لا يملكه أحد" (ص 102)، ليكون بوسع قرية القرى أن تصير "مَضَافَة للعبردين transreligion، للعبرثقافة، وللعبرسياسة" (ص 102)، وصولاً إلى ما دعاه بـ"عصر الجوَّالين" كمقابل للطرف الآخر من العصا، وهو "عصر التجار".

***

ينتقل ب. نيكولسكو بعدئذٍ إلى مصطلح آخر من مصطلحات العبرمناهجية، هو الموقف العبرمناهجي l’attitude transdisciplinaire الذي وضعه الشاعر الأرجنتيني روبرتو خوارُّوث، حيث يقول: "الموقف، في المنظور العبرمناهجي، هو القابلية الفردية أو الاجتماعية للحفاظ على توجُّه orientation ثابت، لا يتبدل، مهما كان تعقيد وضع الحياة وصروفها." (ص 103) ويفسِّر ب. نيكولسكو مدى أهمية، بل وضرورة، الحفاظ على موقف ثابت، يكفل فاعلية effectivité متنامية عند اجتياز مستويات الواقع، ووجداناً affectivité عند اجتياز مستويات الإدراك. وأهمية هذا الموقف تكمن في أن "التوافق بين الذات والموضوع يفترض سلفاً المناغمة بين الفضاء الخارجي للفاعلية والفضاء الداخلي للوجدان." (ص 104) وهو يعتبر أن جملة مستويات الواقع تدل على ذكورة masculanité عصرنا، وأن جملة مستويات الإدراك تدل على أنوثة féminité العالم. وبتناغمهما تتم ولادة ثانية.

يعارض ب. نيكولسكو تنامي الذكورة في العالم، ويرى "أن كل مشروع حضاري للمستقبل يمر بالضرورة بالتأنيث الاجتماعي féminisation sociale." (ص 106) وهو يقترح، دفعاً للوقوع في مجانسة تقود إلى الاختزال، اكتشاف روابط اجتماعية جديدة، عن طريق إيجاد معابر passerelles. وبذلك، فإنه يعتبر العبرمناهجية "علم وفن اكتشاف المعابر" (ص 109)، لأن غياب هذه المعابر بين الكائنات والأشياء ينفي إمكانية قيام حوار حقيقي بين أمم الأرض. ولإنشاء معابر كتلك يجب إنجاز ثورة حقيقية للفطنة قادرة على فتح معابر بين الطبيعة والكيان الداخلي، الفطنة التي قوامها الوجدان، مما يوجب إضفاء بعد شعري للوجود.

من تجلِّيات ذكورة العالم ظاهرة عبادة الشخصية (الصورة، القناع). أقنعة عدة لوجهٍ واحد، وأنيَّات كثيرة لشخصية واحدة، بحيث تؤدي تناقضاتها إلى انحلال الكيان الداخلي. يعزو ب. نيكولسكو سُعار الاستهلاك إلى هذه التعددية. وبالتالي، كلما زادت شخصيات الفرد الواحد زاد استهلاكه، وكلما زاد الاستهلاك تقزَّمت كينونته. يقول: "إن واقعاً متعدد الأبعاد ومتعدد المراجع غير متوافق مع عبادة الشخصية... إن مجتمعاً قابلاً للحياة يمر عبر التوافق المتعدد الأصوات بين الذوات، بين مختلف مستويات إدراكها ومختلف مستويات معرفتها." (ص 116)

***

تحولت العلاقة بين العلم والثقافة من الائتلاف إلى القطيعة، بل وتغلغلت هذه القطيعة إلى الثقافة والعلم نفسهما، فظهرت مصطلحات مثل: العلوم الدقيقة، العلوم الإنسانية، العلوم الصلبة، العلوم الرخوة. يعتبر ب. نيكولسكو أن "موت الإنسان يتزامن مع الفصل التام بين العلم والثقافة "(ص 119)، من حيث إنه أدى إلى ظهور ثقافتين: الثقافة العلمية والثقافة الأنَسِيَّة humaniste.

في محاولة للتقريب بين العلم والفن، كانت هناك مساعٍ متعددة المناهج وبينمناهجية أدت إلى بحوث اختبارية لها طابع عبرمناهجي، وخاصةً على الإنترنت، وذلك لكون "اللقاء بين مستويات الواقع المختلفة ومستويات الإدراك المختلفة يولِّد مستويات التمثيل niveaux de représentation المختلفة" (ص 121). ههنا يورد نيكولسكو مصطلحين جديدين هما: العبرإدراك trans-perception الذي يتولد عن عبور إبداع فني حقيقي لعدة مستويات إدراك،

والعبرتمثيل trans-représentation الذي يتولد عن عبور إبداع علمي حقيقي لعدة مستويات تمثيل.

يتم اللقاء بين العبرتمثيل والعبرإدراك، كونياً، في السطح البيني: إنسان–كومبيوتر.

هذا فيما يخص العلم والثقافة، ولكن ماذا بخصوص الثقافات المختلفة للأمم؟

***

يعتبر ب. نيكولسكو أن نقل أو ترجمة ثقافة إلى أخرى أمر غير ممكن لأن "الثقافة ناتجة عن الصمت بين الكلمات وهذا الصمت غير قابل للترجمة" (ص 123). ويبدو الانغلاق، والحال هذه، قدراً حتمياً. لكن الحداثة أدت إلى تقارب ما بين الثقافات المتنوعة، كما أدى التعدد الثقافي pluriculturel إلى اكتشاف ثقافتنا بشكل أفضل. وكذلك شجعت ثورة الاتصالات على ظهور البينثقافي interculturel. يُعدُّ ما سبق مدخلاً إلى العبرثقافي transculturel الذي يعني "انفتاح كافة الثقافات على ما يجتازها ويتخطاها" (ص 127). فالعبرثقافي هو ثقافة المكان بلا مكان، فضاء الصمت أو الجهل النوراني (حسب تعبير ميشيل كامو)، وهكذا فـ"نواة الصمت هذه تبدو لنا وكأنها لامعرفة، لأنها غور المعرفة." (ص 128) لا يمكن التعبير عن الصمت بلغة الكلمات، وإنما بلغةٍ من طبيعة مختلفة، يسميها نيكولسكو عبرلغة trans-langage.

العبرلغة هي لغة تلقائية مباغتة، تنبُّه آني، حَدَث مرتبط باللحظة الحاضرة التي هي الزمن الحي. "اللحظة الحاضرة، بدقيق القول، هي لازمن non-temps، اختبار للعلاقة بين الذات والموضوع، وهي، بهذه المثابة، تنطوي كمونياً على الماضي والمستقبل، كلِّية دفق المعلومات الذي يجتاز مستويات الواقع وكلية دفق الوعي الذي يجتاز مستويات الإدراك." (ص 129-130)

***

نعود إلى سؤال البداية: كيف يمكن تغيير منظومتنا المرجعية الحالية تغييراً جذرياً، وبناء منظومة جديدة وفق المعطيات الجديدة؟

يرى ب. نيكولسكو أن انحرافاً طفيفاً كفيل بالقيام بهذه الطفرة، حيث يقول: "إن منظومة كلِّية القدرة، اجتماعية أو ثقافية، ليست إذن إلا انحرافاً يفلح." (ص 131) ولنجاح هذا الانحراف لابد له من أن يعمل في مستوى للواقع يختلف عن مستوى واقع المنظومة المعتبرة. وهو بذلك يعتبر العبرمناهجية انحرافاً لا انشقاقاً، ويترك تقويم مدى نجاحه للأجيال القادمة؛ ولكنه، في الحين ذاته، يعرِّف العوائق التي قد تعترض طريق العبرمناهجية بالشطط dérives الناجم عن مستويات اللَّبس[1] niveaux de confusion. وهو يحذِّر من أن "اللبس الأكثر أوليةً [هو] عبارة عن نسيان لااتصالية مستويات الواقع ومستويات الإدراك باستبدال الاتصالية بها." (ص 133) كما يمكن "النظر في الاختزال الاعتباطي لكل مستويات الإدراك إلى مستوى الإدراك الواحد نفسه، مع الإقرار بوجود عدة مستويات للواقع" (ص 134)، مما قد يؤدي إلى "علموية جديدة" سمتها الأساسية هي "إنكار قيمة كل بحث عن ميتاخطاب métadiscours أو عن ميتانظرية métathéorie. وبذلك يصير كل شيء لعباً (قتَّالاً بالإمكان) واستمتاعاً (مدمراً بالإمكان)..." (ص 134).

بالإضافة إلى ما تقدَّم، يوجد مستوى آخر للَّبس، هو "عبارة عن الإقرار بوجود عدة مستويات للإدراك مع رفض القبول بوجود عدة مستويات للواقع" (ص 135)، مما قد يؤدي إلى لاعقلانية باطنية رخيصة؛ وكذلك أيضاً مستوى جديد للَّبس يعتمد على "الإقرار بوجود عدة مستويات للواقع وعدة مستويات للإدراك بدون أن يلزم ذلك أخذ تواصلهما الصارم بعين الاعتبار." (ص 136) بيت القصيد في المقولة السابقة تكمن في كلمة "صارم" rigoureux. اللاصرامة من مميزات الـ New Age، الأمر الذي أدى إلى الفوضى.

لمواجهة مستويات اللَّبس سابقة الذكر، يجد ب. نيكولسكو أن من الضروري "صوغ مناقبية عبرمناهجية déontologie transdisciplinaire، نقاط علامها الثلاث الكبرى هي الاعتراف بحقوق الإنسان الباطن التي لا يجوز التصرف بها، وبجدة عصرنا غير القابلة للاختزال، وبالخاصية اللاموضعية a-topique للعبرمناهجية" (ص 138)، لأن السبب الرئيسي لأي شطط هو "افتقار البعد العبرذاتي trans-subjective للكائن" (ص 140).

يتَّسم الموقف العبرمناهجي بصرامة اللغة التي تكفل صفة حضور المرء، والتي بدورها تسمح ببناء علاقة أصيلة مع الآخر قوامها الاحترام، وتجعل إمكانية التواصل communiquer قائمة – التواصل الذي هو أساس الوصال communion الحقيقي. الصرامة هنا تقابل التنبُّه البوذي والموعد العظيم عند الحكيم الهندي كريشنامورتي، الذي هو آنةٌ حاضرة تنفتح على الواقع كما هو، أي: "... القبول بالمجهول وبغير المتوقّع وبما ليس بالحسبان" (ص 142)

إن انفتاح العبرمناهجية يقود إلى سمة جديدة هي التسامح، الذي "ينتج عن تبيُّن وجود أفكار وحقائق معاكسة للمبادئ الأساسية للعبرمناهجية" (ص 143).

يعرِّف ب. نيكولسكو، في هذا السياق، بدرجات العبرمناهجية degrés de transdisdiplinarité، التي تتعلق أولاً بالمناهج نفسها، فيقول: "هناك درجات في العبرمناهجية، ولكن ليس من الممكن أن تكون هناك مناهج ذات خاصية عبرمناهجية" (ص 145)، الأمر الذي "لا ينطوي على ما يجتاز المناهج وحسب، بل وعلى ما يشكِّل بنيانها أيضاً. ففي أساس كل المناهج هناك نظرة عبرمناهجية تضفي عليها المعنى" (ص 145). وبالتالي فإن درجات العبرمناهجية تتعلق بالباحث نفسه، وبطريقة البحث العبرمناهجية.

***

في الفصل اللاحق، يعود بنا ب. نيكولسكو إلى الموقف العبرديني، فيطرح مشكلة القدسيle Sacré، التي "لا يمكن تفاديها في كل مقترب عقلاني للمعرفة." (ص 147) ويستعير تحديد مرشيا إلياده للقدسي، الذي يقول: "إنه... اختبار واقع ومنبع وعي الوجود في العالم" (ص 147). فالقدسي، "بما هو اختبار واقع لا يقبل الاختزال، هو بالفعل العنصر الجوهري في بنيان الوعي، وليس مجرد شوط في تاريخ الوعي." (ص 148) القدسي، عبرمناهجياً، هو نطاق مقاومة مطلقة بالنسبة إلى مستويات الواقع والإدراك، وهو، وإن كان غيباً بالنسبة لها، إلا أنه يربط فيما بينها بوصفه ثالثاً مشمولاً. فالقدسي، باعتباره مسألة مفتوحة على تعددية الإجابات، هو مصدر موقف عبرديني. ويرى ب. نيكولسكو أن "صراع الحضارات لن يقع إذا وجد الموقفان العبرثقافي والعبرديني مكانهما الصحيح في الحداثة." (ص 151)

كيف ذلك؟!

تكمن الإجابة في "البحث عن نمط جديد من التربية يأخذ بالحسبان أبعاد الكائن البشري كلها" (ص 153). يتأسس نمط التربية الجديد على أربعة أركان هي:

1.    تعلُّم المعرفة للتمييز بين الواقعي والوهمي.

2.    تعلُّم الفعل، أي تحصيل مهنة قادرة على التواصل مع المهن الأخرى. وهو يعني عبرمناهجياً تعلم الإبداع.

3.    تعلُّم الحياة سويةً، الأمر الذي يعني الانفتاح والاحترام والتسامح.

4.    تعلُّم الكينونة باكتشاف التناغم والتنافر بين حياتنا الفردية والاجتماعية.

هذه الأركان الأربعة ترتبط فيما بينها، وفق العبرمناهجية، بما يمكن تسميته بالعبرعلاقة trans-relation. ويرى ب. نيكولسكو أن "تربية قابلة للحياة لا يمكن أن تكون إلا تربية متكاملة intégrale للإنسان[2]... تخاطب الكلِّية المفتوحة للكائن البشري، وليس مكوِّناً واحداً من مكوِّناته" (ص 159). فالتربية العبرمناهجية هي تربية دائمة طوال الحياة.

ليس هدف النمط الجديد للتربية هو تجنب صراع الحضارات فحسب، وإنما إجراء تغييرات جذرية في العقلية والمسلك الاجتماعي. وهي مسؤولية كل فرد تجاه ذاته. ولكن "على البنى الاجتماعية أن تخلق الشروط لكي تستطيع هذه المسؤولية أن تنفتح فيها وتُمارَس." (ص 168) وبالتالي تظهر حاجة ماسة إلى شكل جديد للأَنَسية humanisme يمكن أن "يوفر لكل كائن بشري القدرة القصوى على التنمية الثقافية والروحية." (ص 168) يسمي ب. نيكولسكو هذا الشكل الجديد بالعبرأَنَسية transhumanisme. وتختص العبرأنَسية ببحث الحالة الطبيعية للإنسان – الإنسان ذاتي التجاوز، وذلك بالبحث عما هو بين entre، عبر à travers وفيما يتعدى au-delà الكائنات البشرية" (ص 168). يربط ب. نيكولسكو بين كلمات: "أمة"، و"طبيعة"، و"ولادة" من خلال الجذر اللغوي المشترك لها، ليقول: "إن الاعتراف بالأرض كوطن رحمي matricielle هو واحد من إلزامات العبرمناهجية. لكل كائن بشري الحق في جنسية، لكنه في الوقت نفسه كائن عبروطني." (ص 169) يمكن للعبروطني إزالة الأنانية القومية، منع الحروب والاستغلال والاستعباد، وبالتالي، منع انتهاك كرامة الكائن البشري. "على هذا الأمل وعلى هذا الرجاء تنوي العبرمناهجية أن تشهد." (ص 169)

ينتهي هنا بيان العبرمناهجية، ويليه ملحق هو عبارة عن ميثاق العبرمناهجية الذي تبنَّاه المشاركون في المؤتمر العالمي الأول للعبرمناهجية (كُنفِننتو دا أرَّابيدا، البرتغال، 2-7 تشرين الثاني 1994). وهو مؤلف من خمس عشرة مادة، ارتأيت أن أورده كما هو، ووفق الصياغة التي أقرَّتها لجنة الصياغة التي تكونت من كلٍّ من: ليما دِه فريتاس، إدغار موران، بَسَراب نيكولسكو.

مواد ميثاق العبرمناهجية

المادة 1: كل محاولة لاختزال الإنسان إلى مجرد تعريف وإلى تقليصه في بنى صورية، أياً كانت، تتناقض مع رؤية عبرمناهجية.

المادة 2: الإقرار بوجود مستويات مختلفة للواقع، تحكمها أنماط مختلفة من المنطق، ملازم للموقف العبرمناهجي، وكل محاولة لاختزال الواقع إلى مستوى واحد، يحكمه منطق واحد، لا يقع ضمن حقل العبرمناهجية.

المادة 3: العبرمناهجية مكمِّلة للمقترب المناهجي، إذ هي تولِّد من المواجهة بين المناهج معطيات جديدة، تُمَفْصِلُها فيما بينها، وهي تقدم لنا رؤية جديدة للطبيعة وللواقع. العبرمناهجية لا تسعى إلى السيادة على عدة مناهج، بل إلى انفتاح المناهج كافةً على ما يجتازها ويتجاوزها.

المادة 4: حجر الأساس للعبرمناهجية عبارة عن التوحيد الدلالي والفعَّال للمفاهيم عبر المناهج وفيما يتعداها. إنها تفترض مسبقاً ذهنية منفتحة، عبر نظرة جديدة إلى نسبية مفهومي "التعريف" و"الموضوعية". فالغلوُّ في الصورية، وجمود التعريفات، وإضفاء صفة الإطلاق على الموضوعية، بما ينطوي على استبعاد الذات، من شأنها أن تقود إلى الإفقار.

المادة 5: الرؤية العبرمناهجية منفتحة بعزم من حيث إنها تتخطى مجال العلوم الدقيقة، إذ تجعلها تتحاور وتتصالح، ليس مع العلوم الإنسانية وحسب، بل ومع الفن والأدب والشعر والخبرة الداخلية أيضاً.

المادة 6: فيما يتعلق بالبينمناهجية وتعددية المناهج، تتصف العبرمناهجية بتعدد المراجع وتعدد الأبعاد. فهي، إذ تأخذ بالحسبان تصورات عن الزمن والتاريخ، لا تستبعد وجود أفق عبرتاريخي.

المادة 7: العبرمناهجية ليست عبارة عن دين جديد، ولا عن فلسفة جديدة، ولا عن ميتافيزياء جديدة، ولا عن علم للعلوم.

المادة 8: كرامة الإنسان أيضاً ذات بعد كوني وكوكبي في آن معاً. فظهوره على الأرض مرحلة من مراحل تاريخ الكون. والاعتراف بالأرض كوطن من مستلزمات العبرمناهجية. كل إنسان فله الحق في جنسية، لكنه، بما هو من سكان الأرض، كائن عبروطني في الوقت نفسه. واعتراف القانون الدولي بالانتماء المزدوج إلى أمة وإلى الأرض من أهداف العبرمناهجية.

المادة 9: تقود العبرمناهجية إلى موقف منفتح بإزاء الأساطير والأديان ومن يحترمها بروح عبرمناهجية.

المادة 10: ما من مكان ثقافي متميز يمكن اعتباراً منه الحكم على الثقافات الأخرى. فالمقترب عبرالمناهجي بحد ذاته عبرثقافي.

المادة 11: ينبغي على التربية ألا تفضل التجريد على غيره من أشكال المعرفة. عليها بالحري أن تعلِّم وضع الأمور في سياقها وتجسيمها وتشميلها. والتربية العبرمناهجية تعيد إلى الحدس والمخيِّلة والحساسية والجسم مكانتهم في نقل المعارف.

المادة 12: يتأسس صوغ اقتصاد عبرمناهجي على مسلَّمة أن على الاقتصاد أن يكون في خدمة الإنسان وليس العكس.

المادة 13: تستنكر الأخلاق العبرمناهجية كل موقف رافض للحوار وللمناقشة، أكان من منشأ إيديولوجي، علموي، ديني، اقتصادي، سياسي، أم فلسفي. فالمعرفة المشتركة ينبغي أن تفضي إلى فهم مشترك، يتأسس على الاحترام المطلق للتنوُّعات الجماعية والفردية التي تجمع فيما بينها الحياة المشتركة على الأرض الواحدة نفسها.

المادة 14: الصرامة والانفتاح والتسامح هي الخصائص الأساسية للموقف وللرؤية العبرمناهجيين. الصرامة في المحاججة التي تأخذ بالحسبان كل المعطيات هي الحائل دون كل شطط ممكن. الانفتاح يشتمل على القبول بالمجهول وغير المتوقَّع وبما ليس بالحسبان. التسامح هو الاعتراف بحق الآخر في تبني أفكار وحقائق مخالفة لأفكارنا وحقائقنا.

المادة الأخيرة: يتبنى ميثاق العبرمناهجية هذا المشاركون في المؤتمر العالمي الأول للعبرمناهجية، غير مستندين إلى مرجعية غير مرجعية أعمالهم ونشاطاتهم.

وبحسب الإجراءات التي ستُحدَّد بالاتفاق مع الباحثين ذوي العقلية العبرمناهجية، الميثاق مفتوح لتوقيع كل إنسان مهتم بالإجراءات المتدرجة على الأصعدة الوطنية والدولية والعبروطنية لتطبيق هذه المواد في الحياة اليومية.

*** *** ***


[1] مستويات اللَّبس niveaux de confusion – مفهوم عبرمناهجي وضعه فيليب كيو.

[2] الصيغة للشاعر رونيه دومال.


* بيان العبرمناهجية، تأليف: بَسَراب نيكولسكو، تقديم: أدونيس، ترجمة: ديمتري أفييرينوس؛ دار مكتبة إيزيس، سلسلة "آفاق" 2، دمشق 2000، الطبعة الأولى.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود