الطب التجريبي

والطب الكلِّي

 

نبيل محسن

 

منذ سنواتي الأولى تلقيت كماً من الآراء الخاطئة على أنها حقيقية وكان عليّ أن أبدأ بالتخلص من كل تلك الآراء التي تلقيتها حتى الآن إذا كنت أريد تأسيس شيء صلب وثابت في العلوم.

ديكارت، التأمُّل الأول

 

مقدمة

في عام 1962 أصدر توماس كون كتابه بنية الثورات العلمية[1] حيث عرّف الثورة العلمية بأنها تغيّر في النظرة إلى العالم، أو إزاحة الشبكة أو الإطار التصوري الذي يرى العلماءُ العالمَ من خلاله وإحلال بديل آخر. وقد اعتبر كون أن المحور الرئيسي لكل ثورة علمية هو الأنموذج paradigm الذي تهيئ دراستُه الباحثَ العلمي للانضمام إلى جماعة علمية لن تثير ممارسته فيها أي خلاف لأن الأشخاص الذين يقوم مجتمعهم على أنموذج مشترك ملزَمون بالقواعد والمقاييس ذاتها. كما يرى كون بأن الأنموذج يجب أن يكون مؤثراً impressive وأن يقدم حلولاً جديدة تشكل أداة مقنعة على قوته وفعاليته.

إن الأنموذج الذي هيمن على ثقافتنا لبضع مئات من السنين هو الأنموذج الديكارتي الذي يتألف من عدد من الأفكار والقيم، من بينها النظرة إلى العالم على أنه آلة، والنظر إلى الحياة في المجتمع على أنها صراع تنافسي من أجل البقاء، والاعتقاد بأن التقدم المادي اللامحدود يتم من خلال استغلال وسائل الإنتاج والمواد الأساسية إلى أقصى حد ممكن، وتطوير التكنولوجيا واحتكارها.

لقد تقدم العلم بشكل متسارع في العقود الأخيرة فازدادت الإشكاليات المطروحة، وازداد الشعور بقصور الأنموذج السابق، وتبيّنت لرجال العلم والمعرفة محدودية تلك الاقتراحات وضرورة إجراء مراجعة جذرية لكل منها وللأنموذج ككل. وعاد الأنموذج الكلي ليتوطد، حاملاً في طيّاته نظرة شمولية للعالم تؤكد على الكل أكثر من الأجزاء، وتصر على الارتباط الأساسي لجميع الظواهر وعلى اندماج الأفراد والمجتمعات في الصيرورات الدورية للطبيعة.

يتأثر الطب، كغيره من العلوم، بالأنموذج السائد، حتى أن المتتبِّع للمسيرة الطبية يستطيع اليوم أن يميز بين فلسفتين أساسيتين للطب: الأولى فلسفة المذهب المادي الآلي التجزيئي التجريبي (الأنموذج الديكارتيالنيوتوني)، والثانية فلسفة المذهب الكلي الحيوي والديناميّ (أبقراط) التي تنظر إلى الإنسان بوصفه كياناً واحداً متكاملاً، إذا اعترى عضو من أعضائه المرض، مرض الكل وتداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمى.

وكما أن ظهور الفيزياء الحديثة أي الميكانيكا الكوانتية ونظرية النسبية لم يلغ الفيزياء الكلاسيكية النيوتونية وإنما حدد مواضع تطبيقها ومواضع القصور فيها، كذلك فإن عودة الطب لتبني النظرة الكلية لا تلغي ما بلغته المسيرة الطبية من تطور وتقدم في العقود الماضية وإنما تعيد للطب أصالته وحكمته، ولا تهدف إلى إظهار طبابات مختلفة يمتلك كل منها أسسه الفلسفية الخاصة. إن وجودنا أمام طريقتين مختلفتين لرؤية العالم تكمِّل إحداهما الأخرى أو تشتمل إحداهما على الأخرى. وسنسعى من خلال بحثنا هذا أن نتبين العلاقة الوثيقة بين الطب والفلسفة والنظرة إلى الإنسان والطبيعة؛ وسنتبيّن أيضاً أن الطب ليس علماً بحتاً ولا علماً دقيقاً وإنما هو حكمة وعلم وفن إنساني من الدرجة الأولى.

المرض

مع البدايات الباكرة للطب الحديث نشأ مفهومان مختلفان ومتعارضان عن المرض. المفهوم الأول يُعرَف بنظرية أفلاطون، وهي يتناول المرض كشيء يهاجم الأصحاء من الناس بطريقة أو بأخرى عشوائياً؛ والمفهوم الثاني يُعرَف بنظرية أبقراط، وهي تتناول المرض على أنه انحراف عن الحالة السوية وليس على أنه قوة خارجية.

وقد ظلت النظرية الأفلاطونية راسخة لفترة طويلة على اعتبار أن الأمراض تهاجم الإنسان من الخارج؛ وكانت الأمراض الجرثومية والأوبئة هي المعنية بشكل خاص بهذه النظرة. إلا أن النظرية الأفلاطونية عجزت عن تفسير تعرض بعض الأشخاص للإصابة دون غيرهم، كما عجزت أيضاً عن تفسير أسباب تحول الإصابة عند بعض الأشخاص إلى شكل مزمن. لقد كان قصور هذه النظرية يعود لإهمالها الاعتبارات الذاتية والبيئية.

أما اليوم فقد بات معلوماً بأن الجراثيم تشكل في أغلب الحالات جزءاً من الزمرة الطبيعية عند الإنسان وبأن الجراثيم ليست مرضاً بحد ذاتها، وهي لا تسبب حالة مرضية إلا إذا تهيأت التربة المناسبة لذلك. وقد أدت هذه الاعتبارات إلى تنحية النظرية الأفلاطونية. وأثبت الأطباء بأن لا وجود للمرض وإنما الوجود الحقيقي هو للمرضى. وفي ذلك عودة إلى المفهوم الأبقراطي وتعزيز له حيث أسباب المرض لا تحدِث الضرر إلا إذا اجتمعت معها قابلية الفرد للإصابة.

لم تغب هذه الفكرة عن الأطباء العرب. إذ يقول ابن سينا بعبارة كثيفة ومقتضبة: "المستعد للشيء يكفيه أضعف أسبابه."[2] كذلك الرازي أدرك أن ثمة اختلافات بين الناس تهيئ بعضهم للإصابة بمرض ما دون غيرهم وأن هذه الاختلافات تحدد خواص المرض ومدى شدته. ويذكر في رسالته في الجدري والحصبة: "إن الأجسام المعرضة للإصابة عموماً تكون رطبة شاحبة ومن المستهدفين أيضاً من يتعرضون كثيراً للحميات الحادة والمستمرة وانهمار إفراز العينين والبثرات الحمر والدمامل."[3] ونسمع صدى ذلك في أوروبا في القرن الثامن عشر إذ يصرح الطبيب كالب باري Caleb Parry بأن معرفة نوع المريض الذي أصابه المرض أهم بكثير من معرفة نوع المرض الذي أصاب المريض.[4]

ويورد د. فيليب عطية تعريفاً للمرض يشتمل على عاملين أساسيين: الاستعداد الداخلي والبيئة. يقول: "إن المرض يعكس بالمعنى العام للكلمة اختلالاً في البيئة الداخلية للإنسان أو تكوينه العضوي، وغالباً ما يعكس اختلالاً في العلاقة المتبادلة بين الإنسان وبيئته الخارجية التي تهيّء له مختلف مسببات الأمراض، كسوء التغذية أو الجراثيم المعدية أو العوامل الفيزيائية والكيميائية الضارة وغيرها من المسببات."[5]

أما د. رونيه فيجان René Féjan، رئيس قسم المعالجة الطبيعية في كلية طب بوبينيي بباريس، فقد عرّف بالمرض من وجهتي نظر نشوئية مرضية pathogenic وسريرية. فالمرض، من وجهة نظر نشوئية، هو نتيجة اختلالات في سيلان الطاقة الحيوية عبر العضوية؛ أما من وجهة نظر سريرية، فالمرض ليس إلا ترجمة للعملية الداخلية التي ينفِّذها الجسم للقضاء على السموم وطردها بغية التنقية والتجدد.[6] إن المرض يشكل عقوبة على المخالفات المرتكَبة بحق القوانين الطبيعية، وهو استحقاق طبيعي وليس حادثاً كما أنه يعبر عن جهد التنقية والحفظ، ولا يمكن اعتباره عملاً تخريبياً للصحة.

إن الجذور العميقة لهذه النظرة تمتد إلى فترة سابقة لأبقراط عندما كان الفيثاغوريون يعرّفون المرض بكونه اختلالاً في التناسب، إفراطاً أو تفريطاً، وكان أنباذوقليس يعتبر المرض اختلالاً بين الحرارة والبرودة واليبوسة والرطوبة بفعل عامل الكراهية، وكان حكماء الصين ينظرون إلى المرض على أنه اختلال بين الـين والـينغ، أي الطاقة السالبة الأرضية والطاقة الموجبة السماوية.

إن عودة الأطباء للقبول بالنظرة الحيوية والإيكولوجية تعني تحول الأطباء عن طريقتهم المعهودة في قمع الأعراض وتحميل العضوية المدافعة عن نفسها أعباءً إضافية، والسعي، عوضاً عن ذلك، لاتباع طريقة في العلاج تقوم أساساً على مساعدة العضوية في الدفاع عن نفسها واسترجاع توازنها الحيوي.

الطب

الطب هو ذلك الفرع من العلوم الذي يهدف إلى دراسة المرض ودراسة ما هو باثولوجي. والباثولوجيا تعرَّف بكونها علم أسباب وأعراض الأمراض. وإضافة إلى المعرفة فالطب هو فن الاحتفاظ بالصحة واستقصاء سبل إعادة التوازن إلى هذه الصحة عند اللزوم. وهكذا يمكننا أن نقول إن الطب هو المعرفة والفعل. وهكذا فإن فهمنا الفلسفي للطب يدفعنا إلى طرح الأسئلة التالية: كيف نشأت معارفنا الطبية، وما هي الأسس التي تحكم مسيرة هذه المعارف؟ ثم ما هو مدى معارفنا الطبية اليوم، وما قيمة كل ما نعرف؟ وما هي طرق التدخل والأساليب التي تحدد فعالية العمل الطبي؟

إذا كانت دراستنا للمعرفة الطبية لا تتم إلا من خلال مراجعة البنى النظرية - التجزيئية التجريبية أو الكلية - التي تبناها العلماء بحسب معطياتهم العلمية والنفسية والاجتماعية من أجل تنسيق المعلومات البيولوجية والطبية وإعطائها معنى، كذلك فإن التدخل الطبي يمكن حصره بطريقتين أساسيتين: إما التدخل النشيط الخارجي، وإما مساعدة الجسم على استرجاع طاقاته الحيوية ومراقبته ريثما يستعيد توازنه.

1. الطب التجريبي

لقد هيمن المنهج الميكانيكي النيوتوني على الفكر العلمي كله طوال فترة تمتد من النصف الثاني للقرن السابع عشر حتى بدايات هذا القرن، الأمر الذي جعل العلوم الطبيعية والإنسانية تعدِّل نفسها وفق الأنموذج النيوتوني. وقد تأثر كلود برنار بديكارت ونيوتن، لكنه تأثر أيضاً بفرنسيس بيكون، أول فيلسوف أعطى الدعم الفلسفي للعلم التجاربي empirical. إذ يحدد بيكون رسالة العلم بوصفها استنباط القدرة والسيطرة على الطبيعة.[7] أما برنار فيذهب إلى اعتبار الطب التجريبي الطب الذي يطمح إلى معرفة قوانين الأجساد السليمة والمريضة بحيث لا نتمكن من توقع الظواهر فقط بل كذلك من تنظيمها وتغييرها في حدود معينة.[8] ويقول برنار عن المنهج التجريبي: "إن خاصية المنهج التجريبي هو أنه لا يرتبط إلا بذاته وذلك لأنه يحتوي على مقياسه الخاص وهو التجربة. فهو لا يعترف بأي سلطة غير سلطة الأحداث وهو متحرر من السلطة الشخصية."[9] وقد بات معلوماً أن ظهور الفيزياء الحديثة وانهيار الأنموذج الديكارتي أثبت العلاقة الوثيقة بين المجرِّب والتجربة وسُلَّم القياس ولم يعد القول بأن العلم متحرر من السلطة الشخصية مقبولاً.

إن النظرة إلى الطبيعة التي قال بها بيكون وديكارت وبرنار شكلت منعطفاً خطيراً في علوم الحياة من جهة وفي صلة الإنسان بالطبيعة من جهة أخرى. فبعد أن كانت هذه الصلة قائمة على المودة والمحبة والاقتداء بالطبيعة ومحاكاتها، غدت مستندة إلى التملك والسيطرة والاستغلال.

يعتبر بعضهم أن برنار هو نيوتن الجسم الحي. وفي كتابه المدخل إلى الطب التجريبي يعتبر أن الطب التجريبي هو الطب العملي معتقداً بأنه بذلك يخلِّص الطب من الفلسفة ويجعل منه علماً بحتاً. ولكن الاطلاع على الكتاب يظهر لنا أن برنار، كغيره من الأطباء التجريبيين، قد اتبع مذهباً فلسفياً يقوم على:

أ. الإقرار بمبدأ الحتمية والاستناد إلى النزعة الآلية في تفسير العالم.

ب. الاعتماد على التحليل analysis الذي يشكل أحد قواعد المنهج الديكارتي.

ج. تبني مبدأ الاختزال reductionism أي رد الظواهر البيولوجية إلى تفسيرات فيزيائية وكيميائية.

د. الاعتماد على التجربة واستخدام الاستقراء.

أ. الحتمية

يحتاج رجل العلم للتسليم بمبدأ الحتمية قبل الشروع في عمله، بحيث أن ما يصير في مكان ما يصير في كل مكان وكل زمان. ومبدأ الحتمية نفسه يفترض أن ثمة نظاماً في الطبيعة، أن هذا النظام متكرر الوقوع في اطراد، وأن هذا الاطراد محكوم بالعلاقة العِلِّية بين السبب والنتيجة.

وإشارات كلود برنار إلى اعتقاده بالحتمية كثيرة في كتابه إذ يقول: "أي حادث عندما يتقدم إلينا لا يكتسب قيمة علمية إلا بمعرفة حتمية." وهو يعتبر أن "تلقائية الأجسام ليست إلا تلقائية ظاهرة وهي نتيجة آلية أوساط محددة تحديداً كاملاً بحيث يكون من السهل أن نبرهن على أن تظاهرات الأجسام كتظاهرات الأجرام الجامدة الخاضعة لحتمية تربطها بشروط فيزيوكيميائية."[10] ويعتقد برنار أن الظواهر الحيوية تختلف من حيث مظهرها ودرجة تعقدها عن الأجسام الجامدة، لكن القوانين ثابتة، سواء في الأجسام الحية أو الجامدة. والحق أن من الخطل الاعتقاد بسريان القوانين ذاتها على الجماد والحياة لأن الاختلاف بين الكائنات الحية والجماد اختلاف أساسي في الطبيعة والنوع وليس في الدرجة. ويدعم هذا الرأي ما يذكره الفيزيائي نيلز بوهر: "يجب علينا أن ندرك أن أي عضو حي له صفة من الكلية ومثل هذه الصفة لا يمكن أن يأخذها أي نظام مكون من لبنات ذرية كثيرة وفقاً للفيزياء الكلاسيكية."[11] من جهة أخرى، إن استناد الطب إلى مبدأ الحتمية يلزم عنه أن علاجاً واحداً لمريضين بمرض واحد لابد أن تلزم عنه نتيجتان متماثلتان. وقد تبين أن في ذلك تجاهلاً للعوامل الفردية والبيئية، إذ إن الحالة النفسية والروح المعنوية لكل مريض قد تؤدي إلى شفاء أحدهما وموت الآخر.

إن إنكار أية تلقائية راجعة إلى قوة الحياة في الكائنات الحية واستبعاد أي تفرد وخصوصية للأفراد بدعوى أن الاستثناء مناقض للعلم يعتبر أمراً منافياً لما بات يؤكده الطب الذي اعترف اعترافاً نهائياً بتفرُّد كل كائن حي شكلاً ومضموناً، جسمانياً ونفسياً وبيئياً.

ب. التحليل والتشريح

التحليل من أهم مبادئ الفلسفة الديكارتية من حيث إنه يقسم كلاً من الصعوبات موضع الدراسة إلى أكبر عدد ممكن أو مطلوب من الأجزاء تسهيلاً لدراستها. وقد اعتبر ديكارت أن من يطلب حقيقة شيء دون تحليل هو كمن يحاول الوصول إلى قمة برج عال من غير أن يصعد إليها بدرج. أما كلود برنار فيقول: "لا يمكن الوصول إلى معرفة الشروط الأساسية والمحددة للظواهر إلا بطريقة واحدة هي التحليل التجريبي وهذا التحليل يفكك شيئاً فشيئاً كل الظواهر المعقدة إلى ظواهر أكثر بساطة كذلك فإنه على عالم الحياة أن يحلل الأجسام المعقدة وأن يرجع ظواهر الحياة إلى شروط أولية في الحالة الراهنة للعلم. وليس للفسيولوجيا والطب التجريبي من هدف غير هذا."[12]

وقد نشأ عن ذلك الاهتمام بعلم التشريح واعتماد الطب على الفسيولوجيا وتقسيم جسد الإنسان إلى أجهزة وأعضاء وأنسجة. لقد شكَّل اللجوء إلى التحليل محاولة الباحثين للكشف عن عمليات الحياة وفهم أسرارها. لكن هذا الأسلوب زودهم بصورة مجتزأة ومحدودة عن الحقيقة لم تكن لتكتمل بغياب مفهوم التركيب الذي يفترض وجود منظومة فكرية قادرة على دمج المعلومات في إطار إنساني شامل ودينامي مفيد.

لا سبيل إلى إنكار ما توصلت إليه علوم الحياة والطب من معرفة دقيقة لكل عضو من الأعضاء وما يمكن أن يعتريه من علل وأمراض، لكن ذلك لم يمكِّن الأطباء من فهم الوحدة والتناغم القائم بين كل وظائف الجسم لأن الكل لا يمكن أن يفهم على أنه مجرد ترتيب للأجزاء. فالكل يختلف عن أجزائه وهو أعظم من مجموعها أو حصيلتها. ويكفي أن نذكر أن جزيء الماء يختلف عن العنصرين اللذين يتألف منهما، أي ذرتي الهيدروجين وذرة الأوكسيجين.

إن كل وظيفة من وظائف الجسم تخدم نفسها وتخدم الوظائف الأخرى وكل أجهزة الجسم وأعضائه، متلاحمة ومتماسكة ضمن الكل مؤلِّفة وحدة-في-تنوع دينامية.

ج. الاختزال

هو المبدأ الذي يسعى إلى تبسيط التعقيد من خلال شروح تقوم على وجود الظواهر في مستوى أدنى. وإن إحالة الظواهر البيولوجية إلى عوامل فيزيائية يعني التسليم بأن جسم الإنسان آلة حية. وقد ساهم في تشكيل هذه الصورة إضافة إلى ديموقريطس، صاحب النظرية الذرية، كل من ديكارت ولامتري. وقد سار علماء القرن الماضي وفق هذا الأنموذج، إذ أخذت الكيمياء الحيوية تردّ المواد العضوية إلى مواد غير عضوية، كما ترد الميكانيكا الحيوية حركات أعضاء الكائن الحي إلى قوانين الميكانيكا، ويرد علم النفس الفسيولوجي الظواهر النفسية إلى عوامل عضوية. ويقول كلود برنار: "إن كل خاصيات المادة الحية تعود في الحقيقة إما إلى خاصيات محددة ومعروفة نسميها خصائص فيزيوكيميائية وإما إلى خاصيات غير معروفة وغير محددة نسميها خصائص حيوية القوة الحيوية هي إذاً قوة منظمة ومغذية ولكنها لا تحدد بأي شكل من الأشكال بروز خاصيات المادة الحية. وبكلمة واحدة فإنه على الطبيب والفسيولوجي أن يحاولا إرجاع الخاصيات الحيوية إلى خاصيات فيزيوكيميائية وليس إرجاع الخاصيات الفيزيوكيميائية إلى خاصيات حيوية."[13]

لقد ساهمت هذه الطريقة بشكل فعال في إعطائنا المزيد من المعلومات عن سير الظواهر الحيوية. ولكن هذا لا يعني نجاح مشروع برنار المتعلق بتفسير ظواهر الحياة من خلال الفيزياء والكيمياء. فقد عرفت هذه النظرية فيما بعد بالنظرة الرديئة إذ هي تستطيع أن تتحدث عن الموجات الضوئية والتغيرات الكيميائية والنبضات الكهربائية في الأعصاب ونشاط الخلايا، ولكنها لا تستطيع أن تفسر عمليات الإبصار والشم والذوق والسمع واللمس.

د. التجربة والاستقراء

إن التجربة التي يعتمدها المنهج التجريبي ليست تلك التجربة اللاواعية التي تؤدي إلى مجرد تراكم الأحداث. إن التجربة هنا تدرس كيفية تحول الموضوع باختلاف الظروف المحيطة وتشرح الآليات وتحول الأفكار البَدَرية a priori، حصيلة الملاحظة والتفكير، إلى أفكار دَبَرية a posteriori. ثم يأتي الاستقراء ليقوم بدوره. والاستقراء سلوك فكري ينطلق من الخاص إلى العام، عرّفه جون ستيوارت مِلّ بأنه الاستدلال من عدد محدد من الأمثلة المرصودة لظاهرة ما على معلومة بحيث إنها تحدث دائماً في أمثلة الفئة المعينة التي تشبه الفئة المرصودة.[14]

إن مصدر مبدأ الاستقراء هو القول باطراد الطبيعة وانتظام وقوع الحوادث واستمرارها. وفكرة اطراد الطبيعة فكرة لا يمكن أن توضع بحد ذاتها موضع تجريب. فعلينا، بالتالي، اعتبارها مسلّمة يتم العمل على أساسها. وقد قال برنار بأن الاستقراء مبدأ بَدَري لا تزودنا به التجربة.[15] وقد ربط بعض المفكرين الاستقراء بمقدمات كبرى لا يمكن إثباتها من خلال التجريب وليست حصيلة استقراء سابق. أما رسّل فقد اعتبر الاستقراء مشكلة منطقية يكتنفها الشك، بغير حل أو يقين، ولكنه يقبل العمل بها.[16]

2. الطب الكلي

لقد عادت العلوم الحديثة للأخذ بالنظرة الكلية. وهي نظرة شديدة القدم عميقة الرسوخ في الإنسان تعود إلى عهد لم يكن فيه يميز نفسه عن الطبيعة، بل كان جزءاً أساسياً منها، متماهياً معها. وكان الوعي الإنساني يقتصر على محاذاة الطبيعة ومحاكاتها. وكل محاولة لمقاربة الطبيعة كانت تقوم بشكل رئيسي على الحدس والقياس. وعلى الرغم من الخصوصية التي تميزت بها كل من الحضارات القديمة فقد تشابهت جميعاً بنظرتها إلى الكون والإنسان. إن نظرية الأخلاط التي وضعها أبقراط اعتمدها ابن سينا في كتاب القانون واستهل بها الفصل الأول المخصص للكليات في الطب كما أننا نجد نظريات مماثلة في الهند والصين.

النظرة الكلية، في مقابل النظرة التجزيئية الميكانيكية، تعني أن الكون ليس مجرد آلة مؤلفة من تعدد أو موضوعات كثيرة، بل عملية عضوية وظيفية، متحدة، متناسقة، غير قابلة للانفصام والتقسيم في أساسها وجوهرها.[17] وقد رأى أينشتاين أن النظر إلى العالم بوصفه كلاً متوافقاً مفرداً whole أساسي حتى يتمتع المفهوم الفيزيائي بالكمال الداخلي.[18] ويذكر فريتيوف كابرا عن النظرة الكلية: "عندما نتوغل في أعماق المادة لا تكشف لنا الطبيعة عن كتل بناء أساسية، بل على غير ذلك تظهر وكأنها نسيج معقد من العلاقات بين الأقسام المتنوعة لكل وتشتمل هذه العلاقات على الراصِد وهو الإنسان."[19]

الموقف الكلي في علوم الحياة والمعروف بالعضوانية organicism يشدد على أن العضوية يجب أن تُدرَس ككل، حيث الكل يختلف عن مجموع أعضائه وحيث الإنسان جزء من كل أعظم وأشمل. إن كل خلية في جسم الإنسان تشكل بحد ذاتها مخلوقاً ذكياً يتمتع بحيوية خاصة، وكل نسيج يتألف بدوره من مجموعة من الخلايا تسبغ عليه خصوصيته النسيجية. وهكذا تشكل الخلايا عنصراً أساسياً على المستوى النسيجي الذي يصبح بدوره عنصراً أساسياً للمستويات الأعلى. إذاً فالوضع الكلي ليس حصيلة أجهزة تعمل منفردة، لأنه لا دارات آلية مغلقة في جسد الإنسان. الوضع الكلي يتميز بمنظومات أو مجموعات دينامية تتفاعل على نحو متبادل ضمن منظومة دينامية يصح وصفها بأنها تراتبية من مستويات التنظيم.[20] ويمكن أن نلخص المبادئ الأساسية التي تشتمل عليها النظرة الكلية في مقابل النظرة التجزيئية بالأفكار التالي:

أ. الفارق بين الكائن العضوي وغير العضوي هو فرق في الطبيعة لا في الدرجة.

ب. النظر إلى الإنسان بوصفه كياناً كاملاً أو بنية متكاملة.

ج. خصائص الكل هي التي تحدد وظيفة الجزء وليس العكس.

د. لا يمكن اختزال ما هو أعلى إلى ما هو أدنى. فلا تُرَدُّ صفات العضويات إلى صفات الجماد ولا تفسَّر الظواهر البيولوجية بالعوامل الفيزيائية والكيميائية وحدها.

ويتفرع عن النظرة الكلية القول بدينامية الأجسام الحية (التلقائية)، وكذلك القول بالتناغم والتوازن والغائية. وسنقوم بدراسة كل من هذه المبادئ على حدة.

أ. التلقائية

يقول حكماء الهند بوجود طاقة اتحادية لا يمكن بغيرها أن تبنى أية عضوية، ويقولون إن شكتي، زوج شيفا، هي التي تولد حيوية الجسم وحواسه وكل ما يتعلق به ووجود النسمات الحية أو فايو. والـسوشروتا سمهيتا، وهي من النصوص الطبية الفيداوية (الحكمية) الهندية، تحدد بأن ما هو طبي يتعلق ببوروشا Purusha، أي الكائن العضوي الذاتي الوعي الذي يتشكل من اتحاد الروح مع العناصر الخمسة.[21] أما في الصين فقد أطلق الحكماء اسم تشي على الطاقة السارية في الجسد. واليابانيون أطلقوا عليها اسم كي ki. واليونان أيضاً كانوا يعتقدون أن أداء كل عنصر لوظيفته يتعلق بوجود طاقة سارية في الجسم أطلقوا عليها اسم بنيفما pneuma أي "النَفَس".

ويشدد العلماء اليوم على كلية الإنسان ووحدته وتفرُّده ويشيرون إلى وجود مفهوم حيوي في الكائنات الحية جميعاً لا يمكن تفسيره عن طريق وصف الظواهر الفيزيائية والكيميائية في الجسم؛ إذ تميل الكائنات الحية جميعاً إلى تأكيد ذواتها باعتبار كل منها كلاً أو وحدة عضوية تتألف من وحدات أصغر في تفاعل دينامي مستمر.

ويقول فريتيوف كابرا بأن خصائص الكائنات الحية تتضمن جملة من الصيرورات والظواهر المتنوعة التي تشكل مظاهر مختلفة للمبدأ الدينامي ذاته مبدأ التنظيم الذاتي self-organization - الذي يتضمن العمليات الاستقلابية والتجديد الذاتي للخلايا والأنسجة والشفاء الذاتي. إن التنظيم الذاتي يعني أن نظام الكائن الحي ليس مفروضاً من المحيط، وإنما هو من وضع الجهاز ذاته. كما أن تمتع الكائنات الحية باستقلالية autonomy لا يعني أن الكائنات الحية معزولة عن المحيط، إذ إنها تتفاعل معه باستمرار؛ ولكن هذا التفاعل لا يحدد تنظيمها.[22] وتتميز العضوية أيضاً بإمكانية المحافظة (ذاتياً) على التوازن في التمثيل العضوي تحت ضغط بيئة متغيرة. وهذا ما يسمى بـ"الحفاظ على السواء" homeostasis. وسنقوم بدراسة هذا المفهوم عند دراستنا لمبدأ التوازن.

لقد بنى أبقراط تعاليمه الطبية معتمداً على القوة الطبيعية للشفاء التي أدركها من خلال الملاحظة والرصد والترقُّب. وقد أثبت الطب الحديث، مزوداً بكل وسائله، صحة هذه النظرية. ويعلم الأطباء اليوم بأن الجسم له قدراته الخاصة؛ فهو يسعى ذاتياً لإكمال التئام الجروح ومقاومة الجراثيم من خلال توليد الأضداد والنظام الذاتي المناعي وارتفاع الحرارة وطرح المفرزات إلخ. كما يمتلك الجسم القدرة على تعويض الوظائف التي تتوقف بعض الأعضاء عن أدائها أو تؤديها بصورة سيئة، فتقوم إحدى الكليتين بتأدية وظيفة الكليتين معاً إذا أصيبت إحداهما أو توقفت عن العمل. ونذكر أيضاً عمليتي الهدم والبناء وعملية الإفراز الأنزيمي والهرموني ووجود مبدأ التلقيم الراجع أو كفّ التغذية المرتدة feed-back inhibition، بمعنى أن إنتاج عنصر معين يتوقف عندما يصل تركيزه إلى حد معين في بعض الخلايا. إن الأمثلة أكثر من أن تحصى؛ ويمكن القول بأن جميع الوظائف تؤكد وحدة العضوية وديناميّتها.

ب. التناغم

تعتمد نظرية الأخلاط أو الكليات في الطب التي قال بها أبقراط وجود أربعة عناصر (الماء والنار والتراب والهواء) وأربع طبائع (اليبوسة والرطوبة والحرارة والبرودة) تحدد نتيجة التركيب فيما بينها تشكل الأخلاط (الدم والبلغم والمرة السوداء والمرة الصفراء). وقد استكمل هذا الهرم من الرباعيات بنظرية الأمزجة الأربعة التي شرحها جالينوس للمرة الأولى. إن كليات الطب اليوناني وليدة نظرية فيثاغوراس الخاصة بالرقم 4 الذي اعتبره، كما اعتبره البابليون، رقماً متكاملاً. كما أن نظرية العناصر والأركان الأربعة التي يعتبر أفلاطون أول من أدخلها في المصطلح العلمي تعود إلى الحضارة المصرية القديمة.[23] ونستطيع القول إن هذه النظريات تمثل الرغبة الملحة للفلاسفة والعلماء في تحقيق التناغم والانسجام. وقد اعتمد ابن سينا نظرية الأخلاط اليونانية. أما الطب الهندي فقد ذكر ثلاثة أخلاط هي بيتا الصفراء وكافا البلغم، وفايو الهواء،[24] يوجد ما يقابلها في الطب الصيني. وخصوصية الجسم يشكلها طغيان أحد الأخلاط عليه إلى جانب الخلطين الآخرين.

يشكل التناغم أحد الأفكار الرئيسية التي قالت بها الفلسفة اليونانية. فالتناغم بين الأجزاء هو المثال الأعلى الذي ينشده الفنان وعالم الرياضيات والطبيب اليوناني. ويعود ذلك بشكل رئيسي لنظرة الإغريق إلى الوجود، إذ كانوا يرون أن الصلة بين الطبيعة الخارجية والطبيعة الإنسانية هي صلة التناغم،[25] في حين لم يكن لدى الشرقيين أي تمييز بين الطبيعتين. ويقول حكماء الهند: "نستطيع أن نرى تنوع الأجزاء والتناغم في عملها من أجل المنفعة المتبادلة ولكن الوحدة تتجاوز كل إدراك، وحسبها أن تكون ماثلة."[26] ويُعتبر التناغم في الهند ممثَّلاً بالإله فشنو.

تشدد اليوم كل العلوم الحديثة على فكرة التناغم، إذ يؤكد أينشتاين أن لا علم من غير الاعتقاد بوجود تناسق داخلي في الكون. أما هايزنبرغ فيصف التناغم بأنه انسجام الأجزاء بعضها مع بعض ومع الكل.[27] ونذكر عن التناغم داخل جسم الإنسان قيام كل عضو أو خلية بعملها بحيث تخدم كل وظيفة نفسها وتخدم كل الوظائف الأخرى. فالقلب مثلاً يحوِّل لحسابه 5% من الصبيب القلبي الكلي؛ كذلك الجهاز الرئوي مع القلب يأخذ 15% من الأكسجين الذي يقدمه لخدمة الأنسجة. وهذا أحد مظاهر اندماج الأجزاء في الكل وتعاملها في انسجام كامل.

ج. التوازن

التوازن في فلسفة أنباذوقليس الفيلسوف والطبيب هو التوازن بين العناصر الأربعة بفعل عامل المحبة، والمرض هو اختلال التوازن بفعل عامل الكراهية. وعند الفيثاغوريين أن الحياة والصحة هي التوازن، أما المرض فهو اختلال التوازن؛ وعمل الطبيب يقوم على إعادة التوازن بين حرارة الجسم وبرودة الهواء. أما التوازن في فلسفة الطاو الصينية فهو توازن بين الـين والـينغ، أي الطاقة السالبة والطاقة الموجبة.

وتعتبر قدرة العضوية في المحافظة على السواء homeostasis أحد خصائص التنظيم الذاتي. فما هي خصائص المحافظة على السواء؟ إن الأنظمة الحية تتشكل من تغيرات يرتبط بعضها ببعض وتتأرجح ضمن حدود معينة، مما يعطي الوظائف الحيوية مرونة كبيرة (الإيقاع الجيبي المنتظم للقلب والأمعاء). وهذا يسمح بإعادة أي متغيِّر فسيولوجي إلى حالته العادية المنتظمة عند تعرضه لأي اضطراب بفعل ضغط البيئة أو غير ذلك.[28] وهكذا فإن المحافظة على السواء يعني ميل الأجهزة الفسيولوجية إلى تقليل التباين والتغير للحفاظ على ثبات الوظائف الداخلية.[29] ويساعد على تحقيق هذا الميل التلقيم الراجع الذي يثبط تشكل الهرمونات أو الإفرازات عند ارتفاعها عن حدها الطبيعي. هكذا تبقى حركة القلب منتظمة، ويبقى الكوليسترول والسكر والشوارد والهرمونات ضمن حدود معينة فما إن يميل سكر الدم إلى الارتفاع حتى تنشط وظيفة البنكرياس في إفراز الأنسولين لتحويل السكر إلى غليكوجين وادخاره في الكبد والعضلات والأنسجة الأخرى. وفي ذلك مثال رائع على التناغم التام بين وظائف الامتصاص الذاتي وحفاظه على توازناته الداخلية.

د. الغائية

إن الصيغة الحقيقية لمذهب الغائية، كما ورد عند أرسطو، هو أن الطبيعة لاتعمل شيئاً عبثاً. وكلمة ’’طبيعة‘‘ هنا تشير إلى مبدأ الحركة في الشيء المتحرك، الذات.[30] وقد أثرت النظرية الغائية التي جاء بها أرسطو في أفكار الأطباء الإغريق كما أثرت أيضاً في الأطباء العرب الذين استطابوها واتخذوها البرهان الأكبر على وجود الخالق وعظمته وقدرته. ويذكر ابن سينا العديد من الأمثلة على الغائية: "يقع القلب بين العضوين الرئيسيين الدماغ والكبد ليمد كل منهما بما يحتاج من الدم والروح وخلق القلب من لحم صلب، ليكون بعيداً عن الآفات."[31] لقد وجد كل عضو من الأعضاء لتأدية وظيفته وبكلمة أخرى نستطيع القول بأن تمام الصحة هو في كمال تأدية الأعضاء لوظائفها.

وعلى الرغم من تضاؤل أهمية المعطيات العلمية لابن سينا أو غيره من الأطباء القدماء، فإن العديد من الظواهر الفسيولوجية التي نعرفها اليوم يرتبط بمبدأ الغائية؛ إذ لا يمكن مثلاً تفسير المناعة ضد ما يؤذي الجسم دون التسليم بمبدأ غائي يستفيد منه الكائن العضوي لحماية نفسه من خلال تكوين الأجسام الضدية antibodies التي تلتقي بالعناصر الغريبة الدخيلة على الجسم كالجراثيم، وتعطل مفعولها من بعد. كما أن المرض يجب أن يفهم وفقاً لغائيته؛ فهو عملية دفاع حيوي ومتماسك ضد الاعتداء الداخلي أو الخارجي.

التشخيص

لقد كان التشخيص في الطب الصيني يعتمد على النظر فقط. وفي بعض الحالات كان الطبيب الصيني يتعرف على نوع المرض ما إن يلج غرفة المريض ويشم رائحة مفرزاته. وهذه الطريقة تستند بلاشك إلى خبرة تجاربية يرفدها نفاذ بصيرة الطبيب وقوة حدسه.[32]

أما كلاسيكيات الأيورفيدا (النصوص الطبية الهندية القديمة) فتشدد على الطرق الواجب على الطبيب احترامها والأساسية منها الركون إلى المراقبة والاستنتاج والاعتماد على أقوال المعلمين للاستئناس بها والاستفادة منها.[33]

أما التشخيص بحسب الطب الأبقراطي فكان يتم أحياناً من خلال سماع القصة المرضية فقط وحتى دون رؤية المريض.[34] وكذلك الأطباء العرب أشاروا إلى الحدس على أنه الفراسة واعتبروا أنه الاستدلال على الباطن بالظاهر مباشرة ودون واسطة خاصة. ثم اهتموا باستجواب المريض لتقصي تاريخه الطبي ومعرفة قصته المرضية. فكان الرازي يسأل المريض عن كل ما يمكن أن تتولّد عنه علته من داخل وخارج ثم يقضي بالأقوى.[35] وقد لجأ الأطباء العرب إلى مساءلة المريض وتأمل حالته عن كثب وفحص الأعضاء الباطنة والظاهرة والاهتمام بحالته العصبية والنفسية. ويعتبر الرازي أول من ساهم في وضع أسس التشخيص التفريقي الذي يساعد على التفريق بين الأمراض من خلال الأمراض، وإن تشابهت.

أما في القرن التاسع عشر فقد ظهرت طرق جمع المعلومات الموضوعية، من سماعة طبية وأجهزة تنظير وتصوير شعاعي (نهاية القرن التاسع عشر) فتضاءلت أهمية القصة المرضية، إلى أن جاء الطبيب الفرنسي بيار لويس وأعاد لاستجواب المريض أهميته ومكانته.

والطريقة المتبعة اليوم تقوم على بناء الثقة بين الطبيب والمريض والحصول على أكبر عدد من المعلومات يساهم في تحديد الفحوص المكمِّلة الضرورية. ويميل الأطباء إلى تصنيف المسألة الطبية ضمن متلازمة هي مجموعة العلامات والأعراض التي تشير إلى مكان الآفة وطبيعتها. ونذكر مثلاً أن الزلة التنفسية والزرقة والوذمة وانتباج الأوردة الوداجية وضخامة الكبد كلها تظاهرات لآلية أمراضية واحدة هي قصور القلب. ولكن المتلازمة لا تقطع بسبب الآفة وإنما تحدد إمكانياتها، وتوجِّه نحو عدد من الفحوص المكمِّلة لتأكيد المعطيات. وكلما ابتعدت تظاهرات المرض عن المتلازمات المحددة اتسع التشخيص التفريقي وازدادت الفحوص المكمِّلة المطلوبة. فضلاً عن أن المريض لا يتظاهر بالضرورة بالأمراض ذاتها، وأن كل عرض لا يتجلى دائماً بالدرجة ذاتها. ومن هنا خطورة التعميم والإطلاق.

على الطبيب أن يتعامل مع كل حالة مرضية على أنها حالة فردية مستقلة، مع تكريس المزيد من الوقت لدراسة تاريخ المريض وأوضاعه النفسية والجسمانية والبيئية. وإن المنهج المعرفي في تشخيص المرض وتحديد أسلوب العلاج يتلاءم مع البناء التصوري السائد، كما أن طريقة التشخيص ودقته لها دور كبير في تحديد طبيعة تدخل الطبيب ودرجة هذا التدخل.

التدخل الطبي

أوضحنا أن دراسة المعرفة الطبية تتم من خلال مراجعة البنى النظرية التجزيئية أو الكلية. والحق أن التدخل الطبي (المعالجة) يستند بالضرورة إلى أحد هذين المذهبين، فيعتمد إما على التدخل الخارجي أو على تنشيط القوة الطبيعية للشفاء.

وإذا كان المرض حسب الطب التجريبي وجوداً خارجياً يجتاح الجسم فإن دور الطبيب ينحصر، وفق هذه النظرة، في التدخل جراحياً وكيميائياً، فيعالج الجزء المبتلى، ويترك ما تبقى لاختصاصيين آخرين. وهكذا تساهم الجراحة الحديثة مزودة بكل البدلات الاصطناعية prothses (الورك الاصطناعي، الكلية الاصطناعية، القلب الاصطناعي، إلخ) بتثبيت الصورة الميكانيكية عن الإنسان وبثها. أما الفارماكولوجيا الحديثة، بكل مُسَكِّناتها ومهدئاتها ومضاداتها الحيوية، فتعطي تصوراً عن جسم إنساني أشبه بمخبر الكيميائيين. وبات الكثير من الناس ينظرون إلى الطبيب على أنه مهندس مختص ما عليه إلا إصلاح بعض الآليات المعطلة في حال المرض أو استئصال موضع الإصابة. والحق أن هذا الموقف الذي اتفق الكثيرون على تسميته بالموقف العلمي يكاد يكون بعيداً عن العلمية نظراً لما أسبغه المرضى والأطباء على السواء من روح خرافية على العلم الحديث ولذلك المفعول السحري الذي بات المريض ينتظره من الدواء.

إن استعمال الأدوية ينطوي على محاذير عديدة، بدءاً بمضادات الاستطباب، فالآثار الجانبية وضرورة الانتباه إلى عملية التداخل الدوائي عند المعالجة بأكثر من دواء. وكذلك تتسبب بعض العلاجات بأمراض "كسبية" طبية المنشأ iatrogenic، وهي الأمراض التي يتسبب بها الطبيب لمريضه من خلال تسبب الدواء المستعمل لمعالجة آفة ما بمرض آخر غير الذي أعطي الدواء من أجله.

إن طرق العلاج التي يتبعها الطب التجريبي لا تأخذ بعين الاعتبار قدرات العضوية في الدفاع عن نفسها، بل هي يمكن أن تلحق الضرر بهذه القدرات. يقول د. سكويفلر: "إن التدخل بيد قاسية وبأدوية مكثفة يعني الإهمال التام لقدرة العضوية على الشفاء الذاتي والخنق الجذري للفطرة القادرة على كشف هذه القدرة واستخدامها."[36] أما طريقة التدخل في الطب الكلي فتتم بشكل لطيف لتساعد الجسم على استرجاع وتفعيل طاقاته الحيوية واجتياز مرحلة المرض بسلام. وتدعى هذه الطريقة بالمعالجة الطبيعية لأنها تقوم على محاكاة الطبيعة وتقليدها. ويقول الدكتور رونيه فيجان: "المعالجة الطبيعية تصور كلي للباثولوجيا العضوية ترمي من خلال دراسة العناصر الأمراضية المتعددة إلى الاستيفاء التام لكل الخصائص الشخصية للفرد والشروط الخاصة بمكان حياته."[37] وكذلك الدكتور أندريه باسبيك الذي يذكر أن الطبابة الطبيعية طبابة شاملة وأن أصولها الأبقراطية الرائعة والخبرة الدقيقة والمتنوعة للمشاكل الجسمانية النفسية والنفسية الاجتماعية تشكل الضمانات الأكيدة لها،[38] وتتمتع المعالجة الطبيعية بخاصيتين هامتين: النجوع efficiency والأمان innocuousness. وهي تسعى مبدئياً إلى:

أ. توسيع وتنويع طرق التدخل.

ب. استعمال الطريقة الأكثر ملاءمة لكل مريض مع أخذ كل ما تقدم بعين الاعتبار.

لابد على كل حال من أن نذكر بأن أي نوع يُتَّبع من العلاج ترتبط فعاليته بالثقة القائمة بين المريض والطبيب وإيمان المريض بالعلاج المقترح.

إننا لا ندعو إلى رفض ما قدمه لنا الطب حتى يومنا هذا، ولا إلى اتباع نمط وحيد في الطبابة. لقد تزامنت في الماضي أنماط مختلفة من العلاجات في الطب القديم، بينما الطب التجريبي رفض أن يكون معه في العلاج شريك. الطبابة الكلية الطبيعية تشتمل على مجموعة واسعة من الطبابات والتقنيات نذكر منها: الطب التجانسي homeopathy، التأبير acupuncture، الطبابة المغايرة allopathy، العلاج بأشعة الشمس heliotherapy، باستخدام المياه المعدنية الحارة hydrotherapy، مياه البحر thalassotherapy، اللجوء إلى التدليك وتقنياته الشرقية مثل الـdo-in والـ shiatsu، العلاج بالأعشاب والنباتات phytotherapy، إلخ. ويطلق بعضهم على هذه الطبابات اسم الطبابات اللطيفة أو الإيكولوجية، ويسميها بعضهم الآخر الطبابة الموازية أو المساعدة، على اعتبار أن اللجوء إليها يشكل رديفاً للطب التجريبي.

إشكاليات في آداب الطب

إن الجوانب الرئيسية المثيرة للإشكاليات الأخلاقية في الممارسة الطبية هي مجالات الأبحاث الطبية وعلاقة الطبيب بمريضه وعلاقة المجموعة الطبية بالمجتمع ككل deontology.

أ. الأبحاث الطبية

قد يتساءل الباحث عن أهمية الأبحاث الحيوية الطبية؟ عن فائدتها؟ عن انعكاساتها السلبية؟ والحق إن وجهات النظر حول هذه التساؤلات تتفق مع أحد الأنموذجين الكلي أو التجريبي. ينادي أصحاب النظرة الكلية بوجوب تطبيق معارفنا الحيوية والطبية التي نمتلكها قبل البحث عن أخرى جديدة، بينما يصر أصحاب الموقف الثاني على ضرورة الاستمرار في الأبحاث والتجارب لما يرونه من نقص في وسائل الوقاية والتشخيص والعلاج ولاعتبار التجربة الوسيلة الوحيدة لتقدم العلم وتصويب النظريات.

ويختلف الباحث الطبي عن الباحث العلمي في كونه يسعى وراء الحقيقة التي تحقق فائدة مباشرة للإنسان. وتدرك مجتمعات اليوم هذه الحقيقة. وهذا ما يدفعها إلى رصد المبالغ الضخمة من أجل الاستمرار بالأبحاث، أي الاستمرار بإجراء التجارب من أجل زيادة المعلومات وتحسين الإمكانيات. لكن تحقيق هذا الهدف يطرح العديد من الإشكاليات التي ترتبط بعاملين أساسيين: المنطق والشعور. هكذا نتساءل: ما هي مشروعية التجريب؟ كيف يجب أن يتم التجريب؟ ما هي مصداقية التجريب على الحيوان من أجل معرفة ما يجري في الإنسان؟ وهل يمكن في المستقبل القريب إيجاد ما يحل محل التجريب على الحيوان؟

يكتفي المناصرون للتجارب بتحديد شروط إجراء التجارب والاهتمام بحياة الحيوانات المخبرية، ولاسيما أن استعمال المواد المسكنة والمخدرة بات شائعاً ولم تعد التجارب تتم على طريقة القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. أما الفريق الذي يرفض التجريب على الحيوان فيرفع شعار حقوق الحيوان رافضاً ما يتعرض له الحيوان من تعذيب تحت التجربة، معتبراً أن التضحية بالحيوان من أجل التجربة منافٍ لقوانين الطبيعة. ويضعنا هذا التفكير أمام إشكالية على درجة كبيرة من الأهمية: هل التجريب على الحيوان أمر مناف للطبيعة، بينما قتله من أجل لحمه وجلده أمر معقول ومنسجم مع قوانين الطبيعة؟!

إن رفض إجراء التجارب على الحيوان يتطلب تبني نظرية إيكولوجية حقيقية وشاملة تطرح الإشكاليات وتناقشها في إطار فكري كلي ومتماسك، تأخذ فيه كل الكائنات مكانها على السلّم الكوني.

ب. العلاقة بين المريض والطبيب

إن مقاربة الطبيب للمريض تتم على مراحل متعددة، تبدأ بأخذ المريض على عاتقه، ثم وضع التشخيص الصحيح واقتراح العلاج الأنسب، ومن بعد التوقع ومراقبة تطور حالة المريض. وقد أشارت الدراسات مؤخراً إلى وجود أكثر من منطق يحكم القرار الطبي في كل مرحلة من مراحله، حيث يمكن أن يكون قرار الطبيب نهائياً قاطعاً، أو يمكن أن يكون إحصائياً أو احتمالياً أو مبهماً.[39] وتشكل القصة المرضية التي يحصل عليها الطبيب من المريض مفتاح العلاقة بينهما. ويحافظ الطب اليوم على مكانة خاصة للقصة المرضية، بينما ركز طب القرن التاسع عشر على جمع المعلومات موضوعياً عن طريق السماعة وأجهزة التنظير والأشعة إلخ. ومن أهم أسس العلاقة بين الطبيب والمريض المصارحة في الاتجاهين. وعلى الطبيب مصارحة المريض بحقيقة حالته إلا في حالة المرض الخطير أو المميت، حيث تحدد طبيعة المرض ودرجة تطوره حالة المريض النفسية والجسمانية وأهمية تعاونه وما إذا كان على الطبيب مصارحته واختيار وقت هذه المصارحة وكيفيتها. ويتطلب هذا النوع من الحالات البحث عن طرق المساندة الروحية والنفسية لهؤلاء المرضى وكيفية مساعدتهم في مواجهة مصيرهم. وتلعب الطبابات اللطيفة والطبيعية هنا دوراً هاماً لأنها تتعامل مع المريض على أنه جسم وروح، ولارتباطها بالعديد من المنقولات الروحية.

ج. العلاقة بين المجتمع والأطباء

على الجماعة الطبية تنمية ثقافة طبية قابلة للتعميم تؤدي إلى اكتساب المجتمع فهماً معاصراً للتفكير الطبي ولطبيعة الإشكاليات الطبية والبحث الطبي ينمي عنده الحكم والحس النقدي؛ كما يجب الاهتمام بأساليب الوقاية جنباً إلى جنب مع العلاجات، ولاسيما أن الوقاية الشاملة الفاعلة يمكن أن توفر مبالغ طائلة تنفقها المجتمعات والدول ثمناً للأدوية والعلاجات المختلفة. إن المجتمعات ببنيانها وسياساتها القائمة اليوم توفر الاهتمام والرعاية للمؤسسات والأجهزة الطبية أكثر من اهتمامها بالأفراد وبالصحة العامة. إن حق الصحة والطبابة لم يصر إلى اليوم حقاً عاماً أو حقاً أساسياً من حقوق الإنسان تضمنه شرعتها المعلنة، وما زال الكثيرون عاجزين ليس عن تأمين طبابتهم فقط بل عن تأمين لقمة عيشهم وصون كرامتهم الإنسانية.

تتضمن هذه الفروع من الأخلاق الطبية قضايا هامة مازالت موضع أخذ ورد في العديد من دول العالم، حيث يلعب التراث الديني والاجتماعي دوراً هاماً في تحديد موقف المجتمعات منها. من هذه القضايا: تيسير الموت euthanasia في الحالات المرضية اليائسة، الإجهاض، التلقيح الصناعي، العزل والحَجْر في حالة الأمراض السارية والأمراض النفسية، وموضوع الهندسة الوراثية (ظاهرة الاستنساخ مثلاً) وما قد يتيحه من قدرة على التحكم بمصير الإنسان، إلخ.

إن الطب اليوم لا يتوقف عند طرح الإشكاليات على المستويين العلمي والفكري، بل ماتزال هناك العديد من الإشكاليات التي تنتظر التأمل والدراسة والحل على المستويات الروحية والأخلاقية والتشريعية.

المعالجة الطبيعية

من الطبابات الطبيعية الهامة التي، بالإضافة لقبولها في الأوساط العامة، أصبحت معترفاً بها رسمياً، وتتم ممارستها في كثير من البلدان بعد حيازة شهادات جامعية رسمية تعطى للأطباء حصراً، نذكر الطب التجانسي والعلاج بالإبر الصينية.

الطب التجانسي homeopathy

الغاية منه ترميم دفاعات الجسم تدريجياً. ويقوم على مبدأين هامين: مبدأ التشابه ومبدأ الاعتماد على الجرعات شديدة الصغر.[40]

* مبدأ التشابه: كل مادة قادرة على إثارة بعض الأعراض عند الإنسان السليم قادرة على إزالة الأعراض المماثلة عند إنسان مريض.

* أما الاعتماد على الجرعات شديدة الصغر فيتم بالمرور من الجرعات ذات الوزن إلى الجرعات الأخف وزناً بطريقة ترفع نسبياً مدى تأثير المادة مع تخفيض آثارها الجانبية. ويمكن اللجوء إلى التمديد بالماء من أجل ذلك.

"لا توجد أمراض وإنما يوجد مرضى." قائل هذه العبارة هو صموئيل هاهنمان الذي أدخل الطب التجانسي إلى فرنسا. وهذه الفكرة يعتمد عليها الطب التجانسي كما بات يعتمد عليها الطب عموماً. يقول بيير داكو: "من المؤكد أن معظم الناس قد تقبلوا فكرة الإنسان الكلي حيث لم تعد التربة الشخصية تجريداً مبهماً بل واقعاً يومياً."[41]

يتم التشخيص اعتماداً على دراسة التربة، أي طبيعة الشخص ومزاجه والسموم الموجودة في جسمه وبيئته، إضافة إلى دراسة العنصر المهاجم أي الجرثوم أو الفيروس أو الكَرَب stress وبعض الأعراض التي تسمى الأعراض المفاتيح key-symptoms التي تتعلق بتصرف المريض وطبعه. أما بالنسبة للعلاج، فيمكن استعمال دواء واحد أو عدة أدوية. ويُلجأ أحياناً للبزل على اعتبار أنه يسهل طرح بعض السموم والمفرزات. ويتألف الدواء عادة من مادة أساسية معدنية أو نباتية أو حيوانية، تضاف إلى مادة ممدَّدة سواء بالماء المقطر أو الكحول أو بودرة اللاكتوز أو السكاروز.

وتحضر الأدوية التجانسية بتمديد المادة الفعالة على عدة مراحل حتى نحصل على مستحضر تركيز هذه المادة فيه شديد الضآلة. وللعلاج تُستعمل بضع قطرات يحدَّد عددها وفقاً لسن المريض. وقد أكدت جمعية الأبحاث الألمانية النجوع النوعي للمستحضرات الطبية التجانسية، حيث قام عدد من الباحثين بوضع قطرات من مستحضر طبي تجانسي مستخرج من بعض الحبوب في طور الإنتاش في محلول كلوريد النحاس في طور التبلور، فلوحظ حدوث تبدل في شكل التبلّر، مما سمح بالاستنتاج أن لهذه المستحضرات الدوائية تأثيراً لاريب فيه.

يقوم الطبيب التجانسي، إذن، بتوزيع المقادير العلاجية بدقة على مراحل زمنية، وتستغرق العلاجات مدة طويلة تتخللها فترات من الراحة. ويمنع لمس الأدوية بالأصابع، ويحظر استعمال الأدوية المغايرة والمواد الدوائية التي قد تبطل مفعول العلاج، كما يكرس الطبيب التجانسي الكثير من الوقت للمريض، وبالتالي فالشفاء بحسب الطب التجانسي لا يقوم على إزالة العارض وإنما على إقامة التوازن الجسماني والعاطفي. بذلك تنقلب حالة عدم العافية إلى حالة موجِبة للعافية، وتمنح العضوية شروطاً جوهرية للدفاع الذاتي.

ولابد من ذكر واحد من أشهر الأطباء التجانسيين، ليون فانييه، ممن يعود لهم الفضل في تطوير الطب التجانسي المعاصر؛ كما تجدر الإشارة إلى أنه يوجد اليوم أكثر من ثمانية آلاف طبيب يمارسون الطب التجانسي في فرنسا اليوم.[42]

الوخز بالإبر الصينية acupuncture

تشكل عقيدة الطاو Tao الكونية القاعدة التي يقوم عليها الطب الصيني. وهي تميز بين شكلين متكاملين من الطاقة: الـينغ، الطاقة المذكرة السماوية، والـين، الطاقة المؤنثة الأرضية.[43]

والوخز بالإبر الصينية يُسقِط الكون على الإنسان. فكل ما يوجد في الكون يوجد ما يقابله في الإنسان. وهذه الطريقة لا تقارب الإنسان من زاوية تشريحية، بل تدرس بالأحرى حركة طاقاته، التحولات التي تتم داخله، وظائف الحياة، تلك الوظائف التي تؤمن استمرارها ونقلها، كما تدرس النظم الحيوية. المسالك méridiens هي قنوات الطاقة التي تتصادى فيها كل وظائف الجسم. وتتمركز هذه الوظائف في نقاط تشكل وسيلة تنظيمها. وإن اضطراب أحد هذه المعايير يؤدي إلى المرض، الذي يمكن أن يكون كمياً (زيادة أو عوز) أو نوعياً: دخول إحدى الطاقات اللامنظمة إلى المجرى (الطاقة الشاذة). هذه الطاقة خارجية (هواء، حرارة، نار، رطوبة، جفاف، برودة) أو داخلية (من طبيعة غذائية أو نفسية).

* الممارسة: يبحث الأطباء على مسار المسالك عن نقاط الوخز التي تسمح بالتدخل من أجل إعادة تنظيم الوظائف والحركات والتحولات ونظم الإنسان الحيوية. يوجد أكثر من ثمانمئة نقطة متوزّعة على أربعة عشر مسلكاً يحمل كل منها اسمه الخاص في الصين. أما في الغرب فقد تم اعتماد نظام رقمي.

ويستخدم اليوم الوخز بالإبر الصينية لتسكين الآلام والتشنجات على نطاق واسع، مما يستفاد منه في معالجة الالتهابات الحادة والمزمنة في نطاق الأنف والأذن والحنجرة والجهاز الهضمي والجهاز البولي، إضافة إلى فائدته في أمراض التحسس والاضطرابات العصبية. كما ثبت نجوعه في عمليات التخدير تحضيراً للعمل الجراحي، وهي طريقة تستعمل في الشرق الأقصى خاصة.

وفي فرنسا يتم اليوم تعليم الوخز بالإبر الصينية في كليات الطب في ليل وبوردو ومرسيليا ومراكز الاستشفاء الجامعية في كريتييْ وبوبينيي وبعض المعاهد الخاصة. وفي عام 1982 كان عدد الممارسين للوخز بالإبر الصينية 8700 شخص كما أن عدد الدارسين وصل إلى 5400 طالب.[44]

خاتمة

على طبيب المستقبل أن يكتسب طريقة علمية في التفكير. لكنه يجب أن يدرك أيضاً أن المعرفة الطبية ليست تراكماً لحقائق نهائية، وإنما هي بنية من التصورات تشتمل على نظرة للإنسان والعالم. كما يجب أن يتوجه تعليم الطب إلى الطبيب روحاً وقالباً، فيعلمه احترام الإنسان والطبيعة والعلاقة بينهما. ويجب أن ينمي لديه الصفات الخاصة بالذكاء، كالمراقبة والتجريد والتفكير المنطقي، إضافة للملكات المتعلقة بالأصالة كالتصور والخيال والإبداع واستقلالية الفكر. تشكل هذه الصفات روح المبادرة والمثابرة والجرأة والإخلاص وهي ضرورية للطبيب.

لقد قال الدكتور ألبرت شفايتسر يوماً إن الألم هو سيد العالم. والحق أن العوامل المسببة للألم تضاعفت في العقود الأخيرة كنتيجة للمدنية الحديثة. وإذا كانت بعض الدراسات تذكر بأن المستوى الصحي للإنسانية قد تحسّن، فلابد من أن نذكّر بالأمراض التي تنجم عن التلوث واختلال التوازن البيئي. كما أن بعض المجتمعات تنوء تحت المجاعات وسوء التغذية، وبعضها الآخر يعاني من مشكلات التدخين والكحول والمخدرات والأمراض السارية إلخ، لدرجة أن طبيب اليوم ما زال يجد نفسه أمام عبء إنساني كبير. والتخطيط الصحي السليم يقتضي التعامل مع هذه المشاكل مباشرة وبشكل كلي بدلاً من التعامل مع نتائجها.

هكذا نستطيع أن نقول إن على الطب في المستقبل أن يعنى بالصحة وليس بالمرض فقط. وهذا يتطلب من الإنسان أن يؤمن أولاً بأن صحته تستحق أن تعاش، وأن حياته جزء من كل أوسع وأشمل يجب المحافظة عليه، ومن ثم أن يضطلع الطبيب بدوره الإنساني والاجتماعي. وعندها لن تكون تسمية الطب بالطبيعي أو الإيكولوجي مستغربة، كما أن التقاء الطب في ماهيته مع العديد من المنقولات الروحية لن يكون مفاجئاً. وحتى ذلك اليوم، نبقى في انتظار أن يتحول الطب من إضافة المزيد من السنوات لحياتنا إلى إضافة المزيد من الحياة إلى سنواتنا.

*** *** ***


 [1]توماس كون، بنية الثورات العلمية، ترجمة شوقي جلال، عالم المعرفة 168، الكويت 1992.

[2] من مؤلفات ابن سينا الطبية رسالة في الأدوية القلبية، دراسة وتحقيق محمد زهير البابا، منشورات معهد التراث العلمي العربي، جامعة حلب والمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، 1984، ص 230.

[3] تُجمِع الكتب التي تبحث في التراث العلمي العربي على أهمية رسالة الجدري والحصبة، ومنها كتاب شمس العرب تسطع على الغرب للمستشرقة زيغريد هونكه، وكتاب روائع من التراث العربي للدكتور أسامة عانوتي.

[4] زولت هارسيناي وريتشارد هتون، التنبؤ الوراثي، ترجمة د. مصطفى ابراهيم فهمي، عالم المعرفة 130، الكويت 1988، ص 23.

[5] د. فيليب عطية، أمراض الفقر، عالم المعرفة 161، الكويت 1992، ص 89.

[6] Dr René FÉJAN, Extrait d’un cours de naturothérapie, Université Paris XIII, Faculté de Médecine, 1982.

[7] ستيوارت هامبشير، عصر العقل، ترجمة د. ناظم طحان، دار الحوار، اللاذقية 1986، ص 22.

[8] كلود برنار، مدخل لدراسة الطب التجريبي، ترجمة عمر الشارني، دار بوسلامة للطباعة والنشر والتوزيع، تونس 1982، ص 194.

[9] المرجع السابق، ص 76.

 [10]المرجع السابق، ص 97.

[11] فيرنر هايزنبرغ، الجزء والكل: حوارات في الفيزياء الذرية، ترجمة وتحقيق د. محمد أسعد عبد الرؤوف، الهيئة العامة المصرية للكتاب، القاهرة 1986، ص 138.

[12] كلود برنار، مدخل لدراسة الطب التجريبي، ص 114.

[13] المرجع السابق، ص 119.

[14] د. صلاح قنصوه، فلسفة العلوم، دار التنوير، بيروت 1983، ص 147.

[15] كلود برنار، المصدر السابق، ص 82.

[16] د. صلاح قنصوه، فلسفة العلوم، ص 150.

[17] ندره اليازجي، المبدأ الكلي، دار الغربال، دمشق المنشورات الجامعية، طرابلس 1984، ص 119.

[18] د. صلاح قنصوه، المرجع السابق، ص 146.

[19] ندره اليازجي، المرجع السابق، ص 64.

[20] المرجع السابق، ص 65.

[21] Lucien TENEMBAUM, “Les cakra : un nécessaire retour aux sources”, 3e millénaire, Nº 18, p. 31.

[22] Fritjof CAPRA, “Wholeness and Health”, in e Medecina, originally published in Fondamenti, Paideia Editrice, Bresica, p. 145.

[23] د. فيصل دبدوب، التراث العربي 5-6، اتحاد الكتاب العرب، دمشق 1981، ص 206.

[24] Gérard EDDÉ, La médecine ayurvédique. Éditions Dangles, Paris.

[25] عبد الرحمن بدوي، ربيع الفكر اليوناني، طب 5، وكالة المطبوعات، الكويت دار القلم، بيروت 1979، ص 41.

[26] إرنست وود، اليوغا فلسفة الانعتاق والاتحاد، ترجمة ديمتري أفييرينوس، دار الغربال، دمشق 1986، ص 255.

[27] روبرت م. أوغروس وجورج ن. ستانسيو، العلم في منظوره الجديد، ترجمة د. كمال خلايلي، عالم المعرفة 134، الكويت 1989، ص 49.

[28] Fritjof CAPRA, opus cit.

[29] مجلة العلوم (الأمريكية)، مجلد 8، عدد 30، الكويت آذار 1992، ص 35.

[30] عبد الرحمن بدوي، خريف الفكر اليوناني، طب 5، وكالة المطبوعات، الكويت دار القلم، بيروت 1979، ص 174.

[31] من مؤلفات ابن سينا الطبية، مرجع سابق، ص 216.

[32] Dr Jacques AMOYEL, Acupuncture: le défi par l’aiguille, Éditions Dangles, Paris.

[33] Lucien TENEMBAUM, 3e millénaire, nº 18, p. 31.

[34] Alexandra PETROVIC, Théories biologiques : Ethique et expérimentation en médecine, Éditions du CNRS, 1988, p. 230.

[35] د. أسامة عانوتي، روائع من التراث العربي، الأهلية للنشر والتوزيع، بيروت 1978، ص 90.

[36] Heinz Herbert SCHÖFLER, Homéopathie, 1987, p. 30.

[37] René FÉJAN, Présentation de l’enseignement de naturothérapie: Séance inaugurale du 2 oct. 1982, Paris XIII, Faculté de Médecine et de Biologie humaine.

[38] André PASSEBECQ, Naturothérapie, op. cit.

[39] FAGOT-LARGEAULT, op. cit.

[40] H. H. SCHÖFLER, op. cit.

[41] بيير داكو، علم النفس الجديد وطرقه المدهشة، ترجمة سامي علام، طب 1، دار الغربال، دمشق 1990، ص 95.

[42] Quid 1984, Éd. Robert Laffont, Paris, 1983, p. 246.

[43] Dr Jacques AMOYEL, Acupuncture, op. cit.

[44] Quid 1984, p. 246.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود