خاتم الأولياء

النبوة والولاية في مذهب ابن عربي*

 

سعاد الحكيم**

 

تقف أقدامُنا على شواطئ بِحار الولاية؛ يطول بها مقامُ التردُّد بين المجاهدة والمسالمة؛ ولا يلبث أن يحبسها عن الذهاب خوفُ الفناء والذهاب، وما تسمع عن الغرق في لُجَج التوحيد؛ فتسترخي متعبة على رمال السلامة، ونرضى من العلم بما يلوح عن بُعد. تتلامح في الأفق البعيد أطيافٌ؛ نحدِّق بجهدِ مشتاقٍ، علَّنا نجد وجهًا يعرفنا، وجهًا يُطمئننا على مصير السالكين، وعسانا نعبر – بفضل الله – مسافات الأهوال والقواطع، على طريق النداء المستقيم الواصل من عينيه إلينا.

هذه الوجوه التي تتلامح في آفاق الأزمنة والأمكنة، والتي تُساكِننا، وعيونُها غيابٌ وحضور، وطَرْفُها أحنتْه أثقالُ شهودٍ تخطَّى الوجود، وعلى أبدانها تنطق خِلَعُ الولاية – نراها بالعرفان متنعِّمة ونحن جميعًا بها حيارى. من هو "الولي"؟ ما وظيفته في الكون؟ ولماذا بعد أن خَتَمَ الله – عزَّ وجلَّ – النبوة أوْجَدَ الأولياء؟ ألا يكفي وجود النبي (ص) في حياة الإنسان المسلم؟ فما ضرورة وجود الولي؟ كلُّ هذه الأسئلة يطرحها وجود الولي في مجتمعنا وجمعنا المسلم، ونحن فيها حيارى. نمد أيدينا إلى المكتبة الإسلامية عامة، والصوفية خاصة، ونأمل أن نحظى بجواب يُطَمْئِنُ العقل الحائر والوجدان السائل – ولكن عبثًا! وأسباب ذلك كثيرة. ويمكن تلخيص واقع الولاية بعوالم ثلاثة، نتوقف عندها فيما سيأتي.

إن الولي الذي تبدَّلت أرضُه غير الأرض، واستمر يعيش حياته معنا كأنه هو، صَمَتَ منه اللسان، فكَتَمَ سرَّ ولايته عن الآخرين. فالولاية عنده ليست استعراضية؛ والولي، على عكس الساحر، لا يقدِّم للمشاهد فنون الكرامة. ولكن للقُرب الإلهي وللعطاء الرباني علامات، إنْ كتَمَها اللسان فضحها الوجهُ والبدن. فالأولياء سيماهم في وجوههم، تشهد أيديهم وأرجلهم بما يكتمون من القُرب شهاداتٍ يراها الرفيق والصاحب والعشير. باختصار، الولي باطنُه عبودية وعجز تام كامل، ومظهرُه قدرة تشوِّش الناظرين.

وقد نتج عن سكوت الولي وامتناعه عن تأكيد ولايته – التي هي هويته الروحية بين أهل الله – أن امتنعتْ معرفةُ الولاية من داخل، وأنها محض عبودية. ولكن، حيث إن المراقب والصاحب والسالك لم يمنعه سكوتُ الولي عن ولايته من السؤال، تكاثرت الأسئلة عن الولاية ومعناها وعن الولي وهويته؛ ونظرًا لما يكنُّه الناس من احترام للأولياء، فلم يطرح أحد من الناس على أحد من الأولياء سؤالاً مباشرًا. مثلاً لم يقلْ أحدٌ لولي: هل أنت من أولياء الله؟ واستمر الناس على عقيدتهم في الأولياء، "يولُّون" مَن تتلامح على ظاهره علاماتُ القُرب، ويربطون بين الولاية وبين هذه الوجوه من خارج من المظهر. وأخذت تتكون النظريات من نُتَفِ جُمَلٍ التقطها السائل. ولكن الأهم منها هو كتابات الصوفيين، الذين تكرَّسوا أولياء في نظر محيطهم، عن مشاهداتهم وفتوحاتهم.

وهنا أيضًا تصادفنا مشكلة أخرى: فبالإضافة إلى أن الصوفي يحتاج دائمًا إلى ترجمان ينقل نصَّه من لغة الوجدان إلى لغة الناس، فمفهوم "الولاية" نفسه تعرَّض للذبذبة التي تعرَّض لها مفهوم "الصوفي": فكما عرَّف كلُّ صوفي التصوف بحسب علمه وتجربته، كذلك يعرِّف كلُّ معرِّف الوليَّ والولاية بحسب موقعه ومرتبته.

ذلك كلُّه جعل الولاية الصوفية مشروخة بين ثلاثة عوالم: عالم أهل الله – وهو عالم الأولياء الذين يعيشون الولاية ويُشفِقون من أحمالها؛ وعالم الباحثين والمؤلِّفين والكتبة الحافظين الذين يتتبَّعون مظاهر الولاية في النصوص والأشخاص، ليرسموا منها نظرية يتوافق فيها الفقه والتصوف والعقل الإنساني؛ وعالم العامة الذين علَّقوا عيونهم على وجوه الصالحين وتتبَّعوا أقوالهم وأفعالهم، يرصدون ظهور علامات الولاية عليهم.

وتظل الولاية سرًّا بين الوليِّ وبين مَن ولاَّه – سبحانه: يحتفظ الأولياء بسرِّ الولاية، يعيشون عبوديتهم الخالصة، يضنُّون بهذه المعرفة على غير أهلها؛ ويحتفظ الباحثون بمظاهرها، يلملمون النصوص التي تُثبِت شرعية الخوارق والكرامات والعلوم اللدُنِّية الإلهامية وعقليَّتها، ويتحول الكتَّاب إلى محاولة إقناع بالولاية وبوجود أولياء لله مقرَّبين من دون الكون؛ ويحتفظ العامة بكلِّ الخرافات والأوهام والحقائق التي تزيِّنها لهم عقولُهم عن عالم غيبيٍّ مغيَّب، عالم رجال خوارق تقطع مسافات، تمشي في الهواء وعلى الماء، تنفعل لها الأشياء وتطيعها الحيوانات.

وبين هذه العوالم الثلاثة – عالم الأولياء الحقيقي، وعالم الباحثين النظري، وعالم العوام الموهوم، المزخرف بتقديس الإنسان – تقوم مسافات لا تُقطَع، برازخ لم يلامسها كاتب أو إنسان. وقد جاء كتاب الأستاذ ميشيل شودكيفِتش خاتم الأولياء: النبوة والولاية في مذهب ابن عربي (باريس، 1986) ليردم هذه المسافات بين واقع عبودية الأولياء، وبين تنظير مظاهر الباحثين، وبين خيال العوام وخرافاتهم وتوهُّماتهم. باختصار، كتاب الأستاذ شودكيفِتش يقرِّب أجزاء صورة الولاية بعضها من بعض: يقرِّب ظاهر الولي [= قدرة، علم، الجانب الإلهي من الصورة]، من باطنه [= عبودية، عجز، الجانب الإنساني من الصورة]، حتى تتجلَّى حقيقتُه على مقدارها للباحثين.

 

***

وقبل أن نستعرض كتاب الأستاذ شودكيفِتش فصلاً فصلاً، نقف على امتداد فصوله العشرة، لنلقي عليها نظرة واحدة شاملة جامعة – نظرة ترى المخطَّط غير المكتوب الذي اتَّبعه المؤلِّف.

لقد بدأ في الفصل الأول بدراسة مفرد "ولي" و"ولاية" لغويًّا، ليرى، أولاً، أنه اسم مشترك بين مسمَّيين: أحدهما سلبي، بمعنى الولاء لله، وثانيهما إيجابي، بمعنى الإدارة والإمارة؛ وليرى، ثانيًا، أن اسم "ولي" هو أيضًا مشترك بين الإنسان وبين الله: فالإنسان ولي، والله ولي.

ثم في الفصول الثاني والثالث والرابع والخامس، بيَّن شودكيفِتش أن الولاية معناها القُرْب. ولكن هؤلاء المقرَّبين، أي الأولياء، ليسوا على مظهر واحد، وليست لهم شخصية واحدة؛ بل، على العكس، نرى أن كلَّ وليٍّ يظهر بشخصية وعلم وعمل وحال تختلف عن غيره من الأولياء. ويرجع سبب اختلاف شخصيات الأولياء إلى اختلاف شخصيات الأنبياء: فالولي هو في الحقيقة وارث لنبي من الأنبياء، يَرِثُ عنه نمط العلم والعمل والحال.

ثم في الفصلين السادس والسابع يبيِّن شودكيفِتش أن هؤلاء المقرَّبين الأولياء، الذين ورثوا شخصيتهم في الولاية عن نبي من الأنبياء، لا يعيشون على هامش الكون، بل يأخذ كلٌّ منهم مكانه ومنزله ويباشر منه مهامه. ويعدِّد شودكيفِتش في هذين الفصلين منازل الأولياء وتوزُّعهم على أركان الأرض وأبراج السماء.

وفي الفصلين الثامن والتاسع يبيِّن شودكيفِتش أنه يتبع عن ختم النبوة أن تُختَم الولاية أيضًا، لأنها إرث نبوي. ثم يرسم دوائر الولاية وأختامها: فالولاية المحمدية قد خُتِمَتْ بشخص لم تقطع النصوص في هويته؛ وبقي أن تُختَم الولاية العامة بشخص عيسى (عليه السلام) الذي يظهر في آخر الزمان؛ ويليه ختم ثالث هو خاتم الأولاد، يولد في الصين، وبعده يرتفع الإيمان والعلم من قلوب الناس، وتسرع الدنيا نحو الزوال.

ثم في الفصل العاشر والأخير بيَّن شودكيفِتش للناس طريق الولاية المفتوح: ولاية يحفُّها التعب والمخاطر، بشهادة الواصلين والسالكين. ونقول إنه مهما كان التعب كبيرًا فالولاية هي إنسانية الإنسان، هي استمرار جنسه الراقي واستمرار الدنيا. لذلك نشعر من كتاب شودكيفِتش بأن الولاية هي الأمانة التي على الجنس البشري أن يحملها، طوعًا أو كرهًا، وأن الصوفية هم الذين تقدَّموا ليحملوا أمانة الدنيا واستمرارها.

*

وأحب هنا، قبل أن أبدأ عرضي لكتاب الأستاذ شودكيفِتش، أن أقف عند بعض الملاحظات حول الكاتب والكتاب.

ملاحظات حول الكاتب والكتاب:

1. نبدأ بأن نلفت النظر إلى كمية النصوص الصوفية العربية المترجمة إلى الفرنسية – وهي نصوص تصعب حتى على قارئ العربية؛ فلا نملك إلا أن نعجب بغربي يدخل إلى روح اللغة العربية، يترجم نصوصها ترجمة توضِّح النص الأصلي، المبهم أحيانًا، ويظل أمينًا على النصوص. وليس هذا بمستغرب من إنسان متصوِّف، تثقَّفتْ أعماقُه وارتقتْ مداركُه مع معلِّم كبير هو الشيخ محيي الدين بن عربي.

2. سيطر على طرح الولاية عند الأقدمين والمحدثين بعض المواضيع التي أخذت تتكرر في كلِّ بحث عن الولاية. فكلُّ من أراد أن يؤلِّف في الولاية يبدأ بفصل عن الولي وقواه الخارقة؛ ثم يثنِّي بالدفاع عن إمكانية وجود وليٍّ، شرعًا ثم عقلاً؛ ويرجع إلى القرآن والحديث والصحابة، ليبيِّن أن الولاية موجودة منذ البدايات، وأن الكرامات غير مستبعَدة، شرعًا وعقلاً. باختصار، كلُّ الدراسات التي اهتمت بالولاية انحصرت تقريبًا في الدفاع عنها أو في مهاجمتها، وفي كلِّ الأحوال، ظلت تنظر إلى الولاية من خارج، تعتبرها مظاهر تظهر في علم لدُنِّي وفي كرامات وخوارق. لذلك فهذه هي المرة الأولى التي نجد فيها بحثًا في الولاية يفارق هذا الطرح الذي أضحى تقليدًا، ويدخل إلى عمق هذا المفهوم: يحلِّل معناه، يبيِّن هوية الولي ودوره في الكون، ويرتِّب عالم الروح والفعل. ونسجِّل هنا إكبارنا لإنسان خرج بطرح الولاية عن التقليد الذي سيطر عليه قرونًا طويلة. قد يقول الأستاذ شودكيفِتش – تواضُعًا – إنه ليس هو الذي خرج بطرح الولاية عن التقليد المتَّبع، بل ابن عربي هو الذي خرج عن التقليد. نعم، قد يكون هذا صحيحًا؛ ولكن قرونًا سبعة تفصلنا عن ابن عربي، ولم يرَ أحدٌ الولاية عنده على هذا الكمال، ولم يفكِّر باحث أن يخرج بنظرته إلى ابن عربي عن التقليد المتَّبع في طرح الولاية.

3. تتبَّع الأستاذ شودكيفِتش مفهوم الولاية عبر تحقُّقه في الأولياء، وحاول أن يخلِّص معنى الولاية من تجربة الأولياء الشخصية، فرجع إلى النصوص الأصلية التي سجَّلت مشاهداتهم وأحوالهم وعلومهم – كلُّ ذلك يجعل الكتاب جديدًا في نمطه. إذ جرى التقليد أن يتبع الباحث مفهوم الولاية عبر التنظير السابق؛ ولكن شودكيفِتش هنا ترك التنظير وما كُتِبَ عن الولاية، ليتلمَّس نظرية يؤلِّفها بنفسه ويستقيها من حياة الأولياء. فتجربة الولي الشخصية، وإن كانت لا تتكرر أبدًا، إلا أنها تضيف ملامح جديدة إلى صورة الولي – هذه الصورة التي كانت تتحدد تقاطيعُها مع نصوص الأولياء.

4. إن كان الولي عند الكلاباذي في التعرُّف "محفوظًا من النظر إلى نفسه، ومن آفات البشرية"، فقد توسَّع الباحثون في دائرة هذا "الحفظ"، وتفنَّنوا في إخراج الولي ليس من آفات البشرية، بل من البشرية نفسها! وكانت النتيجة أنه كلما انقطع الولي عن علائقه الدنيوية وفارق دائرة عواطفه البشرية تكرَّس وليًّا في نظر الباحثين والناس. والولي – في نظر السوى – هو إنسان بدنُه أرضي وروحُه سماوية، أباح جسمَه لِمَن أراد مجالسته، وحبيبُ قلبه في الفؤاد أنيسه؛ إنسان يعيش دون عواطف إنسانية ودون مشاعر بشرية، لأن عواطفه ومشاعره كلَّها مستلَبة بالحبِّ الإلهي؛ إنسان فوق الحبِّ الإنساني، فوق مشاعر الأبوَّة والحنان. ولعلنا هنا – ولأول مرة – نقف متعاطفين مع صورة الولي كما ترسمها النصوص التي اختارها شودكيفِتش، ووظَّفها أحسن توظيف: فالولي هو إنسان، أولاً وآخرًا، إنسان يشعر، يحب؛ وهو في أعلى درجات القرب يتقطَّع قلبه على طفله المحموم. وشودكيفِتش هو أول من ألقى الضوء على إنسانية الولي؛ إذ كلُّ من سبقه من الدارسين اهتم بخوارق الولي وبمظاهر الألوهية المتجلِّية فيه، وجعله مفارقًا لعالم البشرية، وكأن كلَّ شعور بشري هو نقص وعلائق وسقوط يجرح علوَّه ومقامه. ونحن هنا نتابع شودكيفِتش في نظرته إلى إنسانية الولي: فالفرق كبير بين أن يرقى الإنسان بمشاعره وعواطفه من آفات البشرية إلى آفاق الإنسانية، وبين أن يفارقها بالكلِّية. فالولي، كما يؤكد شودكيفِتش بحق في آخر كتابه، هو القريب من الله، القريب من الناس.

إن الولي هو القريب من الله، القريب من الناس. وهذا القرب من الناس هو امتداد لقرب الأنبياء من الناس، على علوِّ مكانتهم عند الله. فالأنبياء – وهم السلالة المختارة من الجنس البشري – عاشت مع الناس، وظلت قريبة منهم، تحقِّق الوصل بين الأرض والسماء. وليس للنبي وللولي، من بعد أن يعتزل قومه، أن يفارق الجمع، لما له من دور ووظيفة. فموسى (ع)، حين خلَّف قومه وراءه، وترك فيهم أخاه هارون، وعَجِل إلى ربِّه ليرضى، أضلَّ السامريُّ قومَه. فالنبي يكون من الناس قريبًا، والولي يتابع هذا الدور، لأنه الوريث والنائب، يحمل أعباء شريعة النبي، ويعيش مع الناس قريبًا منهم، ليحقِّق اتصال الأرض بالسماء، واتصال التابعين بالمتبوع. ويبيِّن شودكيفِتش أن الولي يؤكِّد النبوة، ويتابع دوره في البنية الدينية للمجتمع المؤمن.

5. نحن في زمن يتعرَّض فيه وجهُ الإسلام للكثير من التحريف والتشويه. لقد أمسك أعداء الإسلام بمرآة مقعَّرة الأعماق والجوانب، تعكس الوجه على أبشع صورة. وتتوالى التُّهم: الإسلام دموي، إرهابي، صِدامي، تطرُّف، تعصب، إلخ. شودكيفِتش هنا يصحِّح الرؤية، ويكشف عن انفتاح الدين الإسلامي على الأديان الأخرى، مؤكدًا أن الدين الإسلامي هو الشريعة الكاملة والنهائية التي أفسحت فيها مكانًا لكلِّ الشرائع السابقة، وأن النبي (ص) هو النموذج الإنساني الكامل، صاحب الرسالة العامة، أُرسِلَ رحمةً للعالمين، وجمع في شخصه كلَّ ما يطلبه إنسانٌ من نبي.

أخيرًا، نقول، إن كتاب خاتم الأولياء يعرِّف العالم الغربي على وجه من الإسلام تغيِّبه وسائلُ الإعلام والأغراض، وإن الروح تحقِّق لقاءً كونيًّا فوق مصالح المادة وتنازُع السياسة. ومن المفيد جدًّا أن يطَّلع قرَّاءُ العربية على نتاج الغرب في الإسلاميات، وخاصة على الدراسات الموثوقة والموضوعية، التي تشهد كلَّ يوم أكثر على كمال الإسلام ومقدرته على تلبيته التحديات الحياتية.

***

عرض الكتاب

قسَّم الأستاذ شودكيفِتش كتابه إلى مقدمة وعشرة فصول؛ نتناول كلَّ قسم بما يتناسب من التفصيل:

المقدمة (ص 13-27)

بدأ شودكيفِتش مقدمته مع مطالع ابن عربي على العالم الغربي. وكانت البداية مع كتابه اصطلاحات الصوفية، بترجمة غوستاف فلوغِل. وبعدها ترجم له نيكلسون ديوان ترجمان الأشواق. وتوالت بعد ذلك أعمال نيبرغ وآسين بالاثيوس. ثم جاءت سنوات ما بعد الحرب حاملة المزيد من النشر والترجمة والدراسة. وبرزت أسماء أمثال هنري كوربان وتوشِهيكو إيزوتسو. ويشير شودكيفِتش إلى التضارُب الذي برز حول شخصية ابن عربي في العالم الغربي، وذلك كما ورد في كتابات ماسينيون وكليمان هُوار وكارَّا دُهْ فو.

ولكن ابن عربي، الذي جمع في شخصه الولاية إلى العبقرية، وجمع في مؤلَّفاته العلوم المتنوعة إلى ضروب أشكالها، يفوق في نتاجه وشخصه ما كُتِبَ عنه. وقد ظلت الدراسات كلُّها جزئية وغير قادرة على الإحاطة به؛ فلم يحصره كاتب، ولم يعرف حقيقةَ وجهه باحث.

ثم ينتقل شودكيفِتش إلى الكلام على حياة ابن عربي، وعلى أهميته الشخصية كصوفي، وعلى أهمية صوفيَّته كذلك وأثرها على الأعمال التي وضعها، وخاصة الفتوحات. ثم تكلَّم على موقف العالم الإسلامي من الولاية والأولياء، ومن مظاهر تقديس العوام لهم، ليخلص إلى أن التصوف والولاية لا يفترقان: فالتصوف يوجد ويتغذى ويستمر في حياة الناس من مفهوم الولاية ومن وجود الأولياء؛ بل وظيفة التصوف تكمن في أنه يساعد على ظهور الأولياء، وأنه السماء التي يرتفع فيها نجمُ هداية الأولياء. والصوفي يشعر بأن عليه أن يعطي صورة الولي، ويعكس جميع كمالات التُّقى للناس. ومن جهة ثانية، فإن بنية المجتمع الإسلامي، أو بالأحرى التجمُّع الديني، تقوم على "خاصة"، هم الأولياء العلماء الحقيقيون، وعلى "عامة"، هم شعب يستقطبهم قطبُ الولي.

وعلى الرغم من أن ابن عربي كان مسبوقًا بكتَّاب وصوفية تناولوا موضوع الولاية، فهو أول من قدَّم فيها نظرية شاملة، وتتبَّع صورها الموروثة من شخصيات أنبياء الأديان كافة: ولي موسوي، ولي عيسوي، ولي إبراهيمي، إلخ.

وحيث إن العمل في ابن عربي شامل وصعب، يرى شودكيفِتش أنه من الأفضل أن يرتكز على نصوصه خطوة خطوة، وبطريقة مخلصة، حتى يصل إلى توضيح رؤيته.

الفصل الأول: "اسم مشترك" (ص 29-39)

يبدأ الأستاذ شودكيفِتش الفصل الأول بإيراد بعض رؤى منامية لابن عربي، يرى فيها الأنبياء (ع) بمفردهم أو هم وأتباعهم. ومن هذه الرؤى تظهر مكانة ابن عربي الروحية؛ ويظهر له كذلك أن ابن عربي يرى، منذ البداية، أن الأولياء لا ينفصلون عن الأنبياء مطلقًا، وأن الولاية لا تستقل أبدًا عن النبوة، بل تتبعها دائمًا. فالولي هو "على قَدَم" نبي، يتبعه في العلم والعمل والحال. وهذه الرؤى يؤيِّدها كلامُ تلميذه صدر الدين القونوي، الذي كان يقول إنه في طاقة أستاذه أن يجتمع بروح من يشاء من الأولياء السابقين الراحلين: وهذا كتاب التجلِّيات لابن عربي شاهدٌ على مثل هذه اللقاءات.

ينتج من كلِّ ما تقدَّم أن رؤية ابن عربي ليست نظرية تقوم على عدم التناقض الفكري، وليست أيضًا مستقاة من النصوص الإسلامية، كأية نظرية دينية أخرى، بل هي تدوين لواقع معيش، يجد مصدره في تجربة شخصية وذوق وعيان.

هذه "الفتوحات الربانية" التي ألهمت ابن عربي مباشرةٌ وغير مباشرة: الإملاء الإلهي، وتَوالي شهادات الغيب على صفحة كتبه، ثم صعوبة التقاط مذهبه بكلِّ تدرُّجاته وشموله – ذلك كلُّه يفسِّر جزئيًّا الهجوم العنيف الذي تعرَّض له ابن عربي ونظريته في الولاية؛ والباقي أكمله الظنُّ السيئ والفهم المغلوط.

يخصِّص شودكيفِتش هذا الفصل لبحث معنى "ولي"، كما وَرَدَتْ في معاجم اللغة: يرجع إلى الجذر، ويرى أن "ولي" تُطلَق على معنيين: الولي هو الصديق والقريب والتابع والمحب، والموالاة ضد المعاداة؛ والولي أيضًا هو المدبِّر والنصير من الإدارة والإمارة والحكم والخلافة. فبالمعنى الأول، الولاية هي الولاء لله؛ وبالمعنى الثاني، الولي هو الذي يتولَّى أمورًا، ويأخذ على عاتقه شريعة. مثلاً، الولي المحمدي لا يعطي شريعة، ولكن يأخذ على عاتقه الشريعة المحمدية، وهكذا دواليك.

ثم يبيِّن شودكيفِتش أن الأصل العربي "ولي" لا يمكن ترجمته بكلمة مناسبة في الديانات الأخرى، وبالتالي، في اللغات الأخرى، لأن شكل القداسة في كلِّ ديانة يباين شكلَها في الفكر الإسلامي – واللغة تدوين للفكر ليس إلا. فالقديس le Saint، مثلاً، من الأصل العربي قدَسَ، يعبِّر عن فكرة "الطهارة"، ولا يعطى معنى الولاية، وهكذا.

ومن حيث الوزن، تُقرأ "ولاية" بفتح الواو وبكسرها. الولاية بالكسر، على وزن فِعالة، وِلاية، بمعنى عمل الولي أي إمارته (وكل ما كان من جنس الصناعة فهو مكسور، كخِياطة وقِصارة)، وعلى وزن فَعالة بالفتح، وَلاية، وهي حال الولي، ولاؤه لله. ولكن كثيرًا من الكتابات الصوفية تتردد بين وَلاية بالفتح ووِلاية بالكسر؛ واللغة المحكية تجنح إلى الكسر، وِلاية. أما الكاتب فيتابع ابن عربي في تفضيل وَلاية (بالفتح)، لانسجامها مع اللغة القرآنية. وهكذا يتقرَّر لديه أن الولاية هي اسم مشترك بين مسمَّيين: بين مَن له حال الولاية، وبين من له وظيفة الولاية.

والولي كذلك هو اسم مشترك بين الله وبين الإنسان: فـ"الولي" هو أحد الأسماء الإلهية؛ وهو أيضًا اسم يُطلَق على الإنسان: "الله ولي المؤمنين" (آل عمران 68)، "الله ولي الذين آمنوا يُخرِجهم من الظلمات إلى النور" (البقرة 257)، "ألا إن أولياء الله لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون" (يونس 62). ويحصر اللغويون المسلمون أمر هذا الاشتراك بوجهين: "اسم مفعول"، يتبع مفهوم النسب والولاء، و"اسم فاعل" يتبع مفهوم الخلافة والإمارة.

هذا وينبِّه شودكيفِتش إلى أن كلَّ مفردات الولي والولاية ومعانيهما تنبع من القرآن وترجع إليه، وأنها تجد بيانها في أحاديث مشهورة، لعل أهمها: "من آذى لي وليًّا فقد آذنتُه بالحرب. وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أفضل من أداء ما افترضتُ عليه. وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه. فإذا أحببتُه كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصره به، ويده التي يبطش بها" و"رُبَّ أشعث أغبر ذي طمرين، لو أقسم على الله لأبرَّه".

ولعل من المفيد هنا أن أعقِّب على هذا الاشتقاق الاسمي بأفضل ما سمعت في هذا الموضوع؛ وهو، على إيجازه الصوفي، يرضي اللغويين. سألت مرة سيدي الفضل بن العباس، أمير الأسرة الدندراوية: "من هو الولي؟" فقال: "اسمٌ يُطلَق على من تولاَّه الله، وعلى من ولاَّه الله."

الفصل الثاني: "من يراك يراني" (ص 41-64)

في هذا الفصل يرجع شودكيفِتش إلى بدايات ظهور الولاية كمفرد وكمفهوم في النصوص الصوفية، ويتتبَّع تاريخ هذه الفكرة وتطوُّرها عند المسلمين، وصولاً إلى ابن عربي: متى ظهر مفرد "ولي"؛ كيف تحدَّد معنى "الولاية" عند المؤيِّدين والمعارضين؛ ما حدود الإضافة التي شارك بها كلُّ مفكر أو باحث أو ولي في صورة الولاية. ويتأكد لديه أن مسمَّى "الولي" الذي يتشاطره الاشتراكُ المبيَّن في الفصل الأول أدى إلى شطر تاريخ الولاية بأكمله نصفين، كلُّ نصف قيَّد معنى الولاية بمفهوم وحصره فيه: فبعض الدارسين الإسلاميين – ومن بينهم أئمة – حصروا معنى الولاية في المسمَّى الأول: أي أن الولي هو المؤمن عامة، وكلُّ مؤمن ولي، ولم يرتضوا معنى "التولية" – وإن لم يحاربوا أو يناهضوا الكرامات وخرق العادة والعلوم الإلهامية؛ والبعض الثاني، وإن قبل معنى الولاية في المسمَّى الأول، إلا أنه اعتبر أن صفة الإيمان التي تعمُّ كلَّ المؤمنين لا ينطبق عليها التخصيصُ المراد بالولاية والمشار إليه في الأحاديث المشهورة من نحو "من آذى لي وليًّا..." و"ربَّ أشعث أغبر...". وهكذا يستعرض شودكيفِتش تاريخ فكرة الولاية، وقبلةُ أنظاره هذا الانقسام. وأنا أسمِّيها مجازًا: الولاية السلفية والولاية الصوفية.

يبدأ بابن تيمية، الذي يرى أن الأولياء هم المقرَّبون فقط، أي ينظر إلى الولاية بالمعنى الأول: فالولي عنده هو الذي تقدَّم في الصلاح، حتى أصبح من أوائل الصالحين. والقرآن يسمِّيهم بـ"السابقين"، الذين هم أعلى من أهل اليمين وأهل الشمال. والجرجاني في التعريفات يعرِّف الولاية بأنها "القرب من الله"، ويميِّز بين وَلاية (بالفتح) ووِلاية (بالكسر)، وأنهما يقابلان حال الولي ووظيفة الولي. أما ابن عجيبة (القرن الثامن عشر الميلادي)، فيجعل الولاية تقابِل "الأنس بالله". وكثيرًا ما كان ابن عربي يؤكِّد على قضية النصرة في الولاية، ويرى أن الولي والأولياء هم الذين تولاَّهم الله بنصرتهم، تولاَّهم في محاربتهم أعداءهم الأربعة: النفس، والهوى، والدنيا، والشيطان.

ولكن بعد هذه اللمحة السريعة مع ابن تيمية والجرجاني وابن عجيبة وابن عربي، يقف شودكيفِتش ليقول إن هذه النصوص كلَّها متأخرة. فماذا كانت البداية في بدايات الإسلام؟ كما حدث مع مفرد "صوفي"، إذ سبق وجود الصوفي وجود اسمه، كذلك في الولاية سبق وجودُ الولي وجودَ اسم الولاية. وبحسب الهجويري، يرجع وجود الولي والولاية في اللغة الصوفية إلى الحكيم الترمذي (القرن التاسع الميلادي) الذي توالت كتبُه حاملة اسمها: علم الأولياء، ختم الأولياء، سيرة الأولياء. فالترمذي يُعَدُّ أول صوفي بيَّن معالم الولاية وطرح مشاكلها ومسائلها. وهذا يفسر المكانة التي احتلَّتْها مؤلَّفاته في كتابات ابن عربي في الموضوع نفسه. ثم يتناول شودكيفِتش كتاب ختم الولاية، مشيرًا إلى أن الترمذي في هذا النصِّ كتب تجربته الروحية، على الرغم من تستُّره وراء حجب اللغة الموضوعية واللهجة اللاشخصية.

يفرِّق الترمذي بين طريقين للولاية: طريق الصدق والجهد والعبادة، وطريق المنَّة والوَهْب والعبودية؛ وهذان الطريقان، على تداخُلهما، يشيران إلى مرتبتين من مراتب الحياة الروحية، أي مرتبتين من مراتب الولاية: مرتبة "ولي حقِّ الله" ومرتبة "ولي الله حقًّا". الولاية الأولى يحصِّلها السالك بسيره في الطريق الأول، وهو ممارسة الصدق؛ فالصدق أول خطوة في الولاية، وهو يفرض الأداء الكامل لكلِّ الفروض الداخلية والخارجية المترتبة عن العهود الإلهية، صدق العهود مع الله، وباختصار، صدق العبادة. والولاية الثانية ينالها المؤمن بالوَهْب والمنَّة الإلهية؛ وتتصف بصدق العبودية.

إن عبارة "حقِّ الله" على المخلوقات توهِم بحقِّ المخلوقات على الخالق. لذلك فإن "ولي حقِّ الله" هو الذي تظهر ولايتُه في خدمته للحقوق الإلهية، وهي: أداء الفروض، حفظ الجوارح، الصبر على الشهوات، التوكل في الرزق. يعطي ليأخذ: يعطي صدق العبادة، فيمنُّ الله عليه ويعطيه طريقًا أعلى في الولاية، ويرقى إلى أن يكون "ولي الله حقًّا"؛ يجاهد المؤمن نفسه في عبادة الله، فتتوالى عليه أنوار العطاءات الربانية. فإن لم يقف عندها خلَّصَه الله – عزَّ وجلَّ – لعبوديته، وحرَّره من كلِّ شيء،أ ورقَّاه في درجات الولاية، وأنزله محلَّ قُربه. وهذا الولي، وإن كان لا يطلب المعاوضة بالخدمة، إلا أن عبوديته المطلقة هي مساحة أعماقه التي تحررت من كلِّ شيء وامتلأت بالحضور الإلهي. لذلك نجد أن أهمَّ صفات الولاية الصادقة عند الترمذي هي تنزُّل السكينة على الولي، أي الحضور الإلهي. فالولي الفارغ من كلِّ شيء، الممتلئ بالحضور الإلهي، ينعكس هذا الحضور من باطنه إلى ظاهره، ويصبح أحد المظاهر الخارجية التي يُعْرف الأولياءُ بها، وهي المُشار إليها في الحديث الشريف بأن الأولياء هم الذين تذكِّرنا رؤيتهم بالله (راجع: السيوطي، الفتح الكبير، 1: 214).

وينتقل شودكيفِتش إلى السؤال الذي يُطرَح في كلِّ نظرية روحية في الإسلام: ما هي العلاقة بين الولي وبين النبي أو الرسول؟ هذا الموضوع بالذات – وقد أشار إليه الترمذي في رسالة بدء الشأن – هو الذي أثار عليه ثورة الفقهاء. يرى الترمذي أن نبوَّة الأنبياء ورسالة الرسل لهما نهاية وحدٌّ في هذه الدنيا؛ وتتوافق نهايتهما مع نهاية العالم ورجوع مخلوقاته إلى خالقها في يوم الفصل العظيم. وعلى العكس من ذلك، تستمر صفة الولاية أبدية. وهذا ما يفسر أن "الولي" هو أحد الأسماء الإلهية. وهذا الكلام لا يعني أن الولي "أفضل" من النبي أو الرسول؛ ولكن صفة الولاية في شخص الرسول أو النبي نفسه تستمر أبدية، على حين أن فعل رسالته أو نبوَّته ينتهيان بانتهاء العالم.

وبعد أن عَرَضَ شودكيفِتش للولاية عند الحكيم الترمذي، يتساءل عن معنى "ختم الأولياء" الذي عَنْوَنَ به الترمذي كتابه. هنا – يقول شودكيفِتش – كان علينا أن ننتظر ابن عربي حتى نعرف ماهية الختم وهويَّته ونفهمهما. ذلك أن الإشارات التي تلامحت عند الترمذي، أمثال قوله إن ختم الأولياء هو "حجة الله على الأولياء" أو أنه "سيد الأولياء" و"حكيم الحكماء"، لا توضح شيئًا. ويبقى أن الحكيم الترمذي أوْرَدَ مجموعة أسئلة كانت تحديًا للمدَّعين، تحديًا لمن يتكلَّم كالأولياء وليس منهم. هذه الأسئلة المائة والسبعة والخمسون ظلت تنتظر دون جواب زمن ابن عربي الذي واجه التحدي وأجاب في الفتوحات عن الأسئلة جميعها (ف 2: 40-138). وأهم هذه الأسئلة: كم عدد منازل الأولياء؟ أين منازل أهل القُربة؟ من الذي يستحق خاتم الأولياء كما يستحق محمد (ص) خاتم النبوة؟ ما سبب الخاتم وما معناه؟ أين مقام الأنبياء من الأولياء؟ ما سكينة الأولياء؟ إلخ.

وكان من نتيجة طرح الترمذي للولاية وختمها وللعلاقة بين النبوة والرسالة والولاية بشخص الرسول أو النبي أن تناول كلُّ الباحثين بعده مفهوم الولاية بالحذر الشديد. وها هو الباقلاني (القرن العاشر الميلادي) الذي، وإن كان خصَّص كتابًا للبحث في الفرق بين معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء، إلا أنه اكتفى بأن يقف من الولاية عند حدود التأكيد على إمكانية الكرامات والخوارق في مقابل المعتزلة، وعرَّف الأولياء بأنهم الصالحون فقط.

وإن التفتنا ناحية الصوفية، نكاد لا نجدهم يخصِّصون بحثًا يتناول صراحة الولاية والأولياء، بل يستترون بأسماء كـ"العارف" أو "الصوفي". وإن ظهرت أبحاثٌ في الولاية لا تلبث أن تختفي بسرعة، كما لاحظ الهجويري. وإذا قلَّبنا صفحات الكتب الكبرى في التصوف التي ألَّفها كُتَّاب يُعرَفون على أنهم أولياء لا نراها أكثر إفصاحًا. ويعرض شودكيفِتش أهمَّ هذه الكتب ومؤلِّفيها:

-       أبو طالب المكي (ت 390 هـ)، في فصل من كتابه قوت القلوب، يتكلَّم على أهل المقامات من المقرَّبين، ويفرِّق بين ثلاثة أنواع من الأولياء: "أهل العلم بالله"، "أهل الحب"، "أهل الخوف".

-       أبو نصر السرَّاج (ت 377 هـ)، في كتابه اللُّمع، وعلى الرغم من أنه يخصِّص فصلاً يحذِّر فيه القارئ ممَّن يضع الأولياء في مرتبة أعلى من الأنبياء، وفصلاً آخر لكرامات الأولياء، إلا أننا نحاول عبثًا أن نستشف عرضًا أكثر عمقًا لمفهوم الولاية.

-       الكلاباذي (ت 385 هـ)، في كتابه التعرُّف، يُفرِد فصلاً للكرامات، ويدافع عن إمكانيتها وشرعيَّتها، ويرى أن ظهور الكرامة هو تأييد للنبوَّة. وعلى السؤال الذي طُرِحَ على الترمذي من أحد تلامذته: هل يعرف الولي أنه ولي؟ يجيب بالإيجاب. وهو يفرِّق بين نوعين من الولاية: الولاية في معناها العام، وتشمل كلَّ المؤمنين؛ وفي معناها الخاص الذي تأخذه في الاصطلاح الصوفي، هي عطاء مخصوص، من أُعْطِيَه كان محفوظًا من النظر إلى نفسه ومن آفات البشرية.

ويتابع شودكيفِتش، مع كتَّاب متأخرين نوعًا ما عن الذين ذكرهم: السُّلَمي (ت 412 هـ)، في مقدمة كتابه طبقات الصوفية، يرى أن الأولياء هم أتباع الأنبياء، يخلفونهم في سُنَنِهم. ولكننا لا نجد السُّلَمي، عند بحثه لشخصياته، يتابع هذه اللمحة، بل العكس؛ فإننا نكاد لا نجد هذه الشخصيات تخرج عن الأسئلة التقليدية: الكرامة، هل يعرف الولي أنه ولي، إلخ.

وبعد طبقات السُلَمي، يأخذ شودكيفِتش كتاب حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني (ت 430 هـ)، ويرى أنه يتركنا على جوعنا، وعطشى لا نرتوي، على الرغم من عنوانه وأجزائه التي تبلغ العشرة، وتضم أكثر من ستمائة وتسع وثمانين ترجمة. ولكننا نستطيع، من خلال إشاراته، قليلاً قليلاً، أن نرسم صورة للولي، وأن نقارب نمطية الأولياء. ولكن جوهر الولاية ينفلت من كلِّ تعريف؛ وحصيلة ما يبقى لدينا بعد قراءة الحلية ينتظم تحت مقولات: الأولياء يذكِّرون بالله، الأولياء محفوظون من الفتنة، الأولياء فقراء، زُهَّاد، قوم خالط القرآن لحومهم ودماءهم، بحسب قول ذي النون المصري. ثم إن الولاية ليست استعراضية، بل العكس؛ فإن الولي يتحاشى الظهور.

وبعد الحلية يأخذ شودكيفِتش رسالة القشيري (ت 465 هـ)، حيث تستغرق الولاية فصلاً كاملاً: "باب الولاية". ولكن نجد أننا نقف أمام نفس السدود، نفس الحذر. ويشير القشيري إلى أن اسم "ولي" له معنيان: أحدهما سلبي، فعيل بمعنى مفعول، وهو من يتولَّى الله – سبحانه – أمرَه (قال الله تعالى: "وهو يتولَّى الصالحين")، فلا يَكِلْه إلى نفسه لحظة، بل يتولَّى الحقُّ – سبحانه – رعايتَه؛ والمعنى الثاني إيجابي، فعيل مبالغة من الفاعل، وهو الذي يتولَّى عبادة الله تعالى وطاعته؛ فعبادته تجري على التوالي من غير أن يتخلَّلها عصيان. وكلا الوصفين واجب حتى يكون الولي وليًّا. ومن شرط الولاية أن يكون الولي محفوظًا، كما أنه من شرط النبي أن يكون معصومًا. ويتابع القشيري مع الحوار الصوفي حول معرفة الولي بأنه ولي. ويعقِّب القشيري على معنى الولاية بأقوال، أهمها ما ينقله عن السُّلَمي: "نهايات الأولياء بدايات الأنبياء"، وقول أبي على الجوزجاني: "الولي هو الفاني في حاله". ويخلص القشيري إلى القول بأن الولي هو "ابن وقته"، ليس له مستقبل فيخاف شيئًا؛ وكما لا خوف له فلا رجاء له، لأن الرجاء انتظار؛ وكذلك لا حزن له. ثم يُفرِد القشيري بابًا خاصًّا للكلام على كرامات الأولياء، دون أن يقدِّم جديدًا يُذكَر.

أما إذا اتجهنا إلى تفسير القشيري للقرآن لطائف الإشارات، فنرى أن القشيري يفرق بين "معصوم" و"محفوظ": عصمة النبي تكمن في أنه لا يجد في نفسه الرغبة في معصية؛ أما الولي فإنه ليس في ملجأ من الإغراء، ويمكن أن يضعف أحيانًا أمام الغواية، ولكن المنَّة الإلهية تحفظه من الإصرار على الخطأ.

وبعد القشيري، يرى شودكيفِتش أن عبد الله الأنصاري (ت 481 هـ) لم يقدِّم جديدًا في كتبه المعروفة لدينا؛ والأمر كذلك بالنسبة للغزالي (ت 505 هـ) الذي انتقد في الإحياء من ينكر كرامات الأولياء. وهكذا يظل معنى الولاية مستورًا خلف صورها ومظاهرها وعلاماتها. وهذا ما سنجده أيضًا عند نجم الدين كُبرى (ت 617 هـ) في كتابه فوائح الجمال: من علامات الولي أن يكون محفوظًا، مقبول الدعوة من الله – عزَّ وجلَّ، وأن يعرف اسم الله الأعظم وأسماء الجنِّ والملائكة، إلخ. والولاية عند كُبرى هي الدرجة الثالثة والأخيرة من الحياة الروحية؛ إذ تتوالى عنده الثلاثيات المرتبة تدريجيًّا:

العبودة

العبودية

العبادة

عين اليقين

(فناء العارف في المعروف)

حق اليقين

(حال مستمرة)

علم اليقين

(مكتسب)

التكوين

التمكين

التلوين

والتكوين يعطى لِمَن فنيت إرادتُه الذاتية فناءً كاملاً في الإرادة الإلهية. ويرى كُبرى أن مسلك السالك لا يصل إلى الولاية إلا عندما يُعطى "كن"، وهي كلمة التكوين.

ويرى شودكيفِتش أنه، وإن كان كُبرى لا يعطينا المنطق العقلي لكلِّ المقولات التي يطرحها في الولاية، إلا أننا تقدَّمنا معه قليلاً في معرفة الولاية. وكان يمكن أن تكون المعرفة أكبر لو أراد أن يفصح؛ إذ إن المشاهدات التي يرويها في كتبه تكشف عن علمه الوافي بهذا الموضوع.

وهكذا تظل الولاية إشكالية وسؤالاً يُطرَح على كلِّ عالم أو ولي يظهر ويلمع أمام العامة أو الخاصة؛ ولكن جاءت إجاباتهم غامضة، مبهمة المعاني، لم يفك خزائن رموزها إلا نصوص ابن عربي. ومن أبرز وجوه تلك الفترة عبد القادر الجيلاني، المتوفى في بغداد في العام 561 هـ، وهو نفس الوقت الذي ولد فيه ابن عربي في الأندلس. ويكتفي الجيلاني بالقول بأن الولاية هي "ظل النبوة".

ويُنهي شودكيفِتش هذا الفصل بالكلام على نظرية الولاية عند معلِّم روحي كبير، هو روزبهان بقلي، المتوفى في العام 606 هـ، أي بعد وصول ابن عربي إلى المشرق. وروزبهان، في كتابه مشرب الأرواح، المستوحى من كتاب الأنصاري منازل السائرين، يُفرِدُ فصلاً عن الولاية، يرى فيه أن أول الطريق إرادة، وهي مصحوبة بالمجاهدات، ووسط الطريق محبة، وهي مصحوبة بالكرامات، وآخر الطريق معرفة، وهي مصحوبة بالمشاهدات. وعندما يكون المرء متمكِّنًا من هذه الدرجات الثلاث، لا يجري عليه تلوين، ويسبح في بحار التوحيد وأسرار التفريد. عندها يكون وليًّا، نائب الأنبياء، صادقًا بين الطاهرين. ويورد شودكيفِتش من كتاب روزبهان كشف الأسرار بعض المقاطع التي تروي تجربة الولاية عنده، مقاطع يخاطب فيها الحقُّ روزبهان، نصوص تروي توليته واختياره للولاية وللمحبة. ويروي روزبهان أنه كان ذات مرة يجلس ليلاً قرب ابنه أحمد الذي يشكو حمَّى، وقلبه يكاد يذوب قلقًا؛ ثم فجأة شهد الجمال الإلهي، فقال له: "ربِّي، لم لا تكلِّمني كما كلَّمت موسى؟" فأجابه: "ألا يكفيك أن مَن يحبك فقد أحبني، وأن مَن يراك يراني؟"

وهكذا، في هذا الفصل، رَدَمَ شودكيفِتش المسافة بين بداية الكلام على الولاية مع الترمذي وبين نهايته، وختمه مع ابن عربي. قرون ثلاثة في الأبحاث الموضوعية والمشاهدات الذاتية؛ وكلُّها يدور حول الولاية. وقد تناولها شودكيفِتش بالدراسة والتحليل، محاولاً الوصول إلى تعريف للولاية، لحدودها وبنيتها، قبل ابن عربي، ولكن دون جدوى. لذلك يرى أن مفهوم الولاية كان عليه أن ينتظر ابن عربي حتى يتحدَّد.

الفصل الثالث: "دائرة الولاية" (ص 65-78)

في هذا الفصل سوف يحدِّد شودكيفِتش تدريجيًّا طبيعة الولاية عند ابن عربي ودورها وأشكالها. ويبدأ بأن يلفت النظر إلى أن مذهب ابن عربي في الولاية مضمَّن تحت أسماء كثيرة – إلى جانب اسم الولي – أهمها: "العارف"، "المحقِّق"، "الملامي"، "الوريث"، "الصوفي"، "العبد"، "الرجل". لذلك سوف يستفيد، أولاً، من نصوص الولاية والأولياء، ويُكمِل صورته من النصوص التي وردت تحت أسماء أخرى. وأهم نصٍّ في الولاية هو كتاب فصوص الحكم الذي يتألف من مقدمة وسبعة وعشرين فصلاً، كلُّ فصل فيها مخصَّص لنبي من الأنبياء: الأول هو آدم، والآخر هو محمد (ص). ويلحظ شودكيفِتش أن ترتيب الفصول المتعلقة بالأنبياء لا يتبع التوالي التاريخي: فالفصل المخصَّص لعيسى يسبق المخصَّص لسليمان الذي، بدوره، يسبق الفصل المخصَّص لداود (عليهم السلام). ويلحظ أيضًا أن شخصيتين من هذه الشخصيات السبع والعشرين – وهما شيث وخالد بن سنان – لم ترِدا في القرآن؛ على حين أن نبيين مذكورين في القرآن – هما ذو الكفل وأليسع – غائبان عن كتاب ابن عربي. ويلحظ أيضًا أن لقمان، الذي يعطي اسمه لأحد فصول الفصوص، هو في الواقع – قرآنيًّا – حكيم أكثر منه نبي.

ويفيدنا كتاب فصوص الحكم أيضًا في استخلاص بنية الولاية الصوفية ومعرفة تنوع شخصيات الأولياء، وذلك من خلال الأنماط الروحية التي يُبرِزُها كلُّ فصٍّ من الفصوص. ففي كلٍّ فصٍّ من الفصوص نجد نمطًا روحيًّا يتحدَّد بالتقاء وجه من وجوه الحكمة الإلهية مع القابل الإنساني الذي يحويها ويفرض عليها، بالتالي، شروطه الإنسانية. كلُّ نمط روحي هو التقاء المطلق الإلهي، أي الحكمة الإلهية، بالمقيَّد الإنساني، أي بالكلمة.

ثم ينتقل شودكيفِتش إلى بيان الظروف التي دفعت ابن عربي إلى نشر فصوص الحكم. فابن عربي، مع أنه ليس برسول ولا بنبي، إلا أنه "وارث" يكتب إملاء إلهيًّا.

وفي الفصل المتعلق بعُزَير، يعطي ابن عربي نصوصًا وإشارات هامة إلى علاقة النبوة بالولاية، يقول:

اعلم أن الولاية هي الفلك المحيط العام؛ ولهذا لم تنقطع. أما نبوة التشريع والرسالة فمنقطعة. وفي محمد (ص) قد انقطعت؛ فلا نبي بعده: يعني مشترعًا أو مشرِّعًا له، ولا رسول، وهو المشرِّع. وهذا الحديث قَصَمَ ظهور أولياء الله لأنه يتضمَّن انقطاع ذوق العبودية الكاملة التامة.

وهكذا، بعد انقطاع النبوة، امتنعت العبودية الكاملة التامة على الأولياء، وبقي لهم أن يقتسموا إرث العلوم والأفعال والأحوال. وهكذا فإن العلماء المشار إليهم في الحديث: "العلماء ورثة الأنبياء" ينطبق بالأصالة على الأولياء: فالأولياء هم ورثة الأنبياء.

ثم يقارب ابن عربي موضوعًا طرحه الترمذي قبله، ويتلخَّص بأن ولاية النبي أو الرسول أعلى من نبوَّته أو رسالته. يقول ابن عربي:

فإذا رأيت النبي يتكلَّم خارج عن التشريع فمن حيث هو وليٌّ عارف؛ ولهذا مقامه من حيث هو عالم أتم من حيث هو رسول أو ذو تشريع وشرع. فإذا سمعت أحدًا من أهل الله يقول أو يُنقَل إليك عنه أنه قال: "الولاية أعلى من النبوة"، فليس يريد ذلك القائل إلا ما ذكرناه، لا أن الولي التابع له [أي النبي] أعلى منه. فإن التابع لا يدرك المتبوع أبدًا فيما هو تابع له فيه. فرجع الرسول والنبي المشرِّع إلى الولاية والعلم. (فصوص 1: 134-135)

ينتج مما تقدَّم عدة نتائج، يرى شودكيفِتش أنه من الصعب التوفيق بينها ظاهريًّا، ويتركها دون تعليق. فمن جهة، تظهر الولاية شاملةً للنبوَّة وللرسالة، وهي أعلى في الشخص الذي يجمع هذه الصفات الثلاث؛ ومن جهة ثانية، نرى الأولياء تابعين للأنبياء، وارثين لهم، وبالتالي، فالنبوة أعلى من الولاية. وإن لم نستطع أن نوفِّق بين النتائج المتقدمة، إلا أنه تقرَّر الآن أن الولاية هي الإرث النبوي، أو أن الولي هو الوارث لنبي، مع ملاحظة أنه لا ينال أحد كمال الإرث، وإلا لأصبح نبيًّا. فالنبوة والولاية تشتركان في ثلاثة أشياء: العلم، والفعل بالهمة، ورؤية عالم الخيال بالحس؛ وتختلفان في الخطاب الإلهي. ولعله من أهم نصوص ابن عربي في هذا المجال هو عشرة فصول متتابعة من الفتوحات (152-162)، حيث يرسم دوائر الولاية والنبوة والرسالة، ويبيِّن العلاقة فيما بينها، ويُنهي هذا المبحث بفصل عن "مقام القُربة" الذي يمثل كمال الولاية وأعلى مراتبها.

وهكذا تتحدد طبيعة الولاية عند ابن عربي على أنها "قُربة"؛ ويتحدد شكلها بفعل الوراثة الموجود بين الولي الوارث والنبي الموروث. ولكن كلَّ وليٍّ وارثٍ لنبي فإنه لا يرثه مباشرة، وإنما من حيث الحقيقة المحمدية. لذلك كلُّ ولي هو ولي محمدي في شكل من الأشكال. وهذا ما دفع شودكيفِتش إلى التوقف عند "الحقيقة المحمدية" ومكانتها الوجودية في الفصل التالي.

الفصل الرابع: "الحقيقة المحمدية" (ص 79-94)

كلُّ وارث من نبي من الأنبياء هو دائمًا وارث من محمد (ص). ويقول ابن عربي في الفتوحات إن

كل الأنبياء الذين تقدموا في الزمان على محمد (ص) هم نوَّابه في عالم الخلق، وهو لا يزال روحًا مجردًا ونورًا مسوَّى. قيل له: "متى كنتَ نبيًّا؟" فقال: "كنت نبيًّا وآدم بين الماء والطين." إلى أن وصل زمانُ ظهور جسده المطهَّر (ص)، فلم يبقَ حكمٌ لنائب من نوابه.

يقول شودكيفِتش إن نصَّ ابن عربي هذا، مع كثير غيره، يحدِّد طبيعة الحقيقة المحمدية ودورها. وعلى الرغم من أن الحديث الوارد في النصِّ قد تعرَّض لكثير من الهجوم واتُّهِمَ بالبدعة، إلا أن جمهور المحدِّثين انقسموا فيه بين مؤيِّدين ومعارضين. وابن عربي نفسه – وهو دارس للحديث – يقول في عدة مناسبات أن "الكشف" وحده فقط هو القادر على القطع بصحة الحديث.

ثم يبيِّن شودكيفِتش أن عبارة "الحقيقة المحمدية" تجد جذورها القرآنية في عبارة النور المحمدي، المستوحاة من قوله تعالى: "سراجًا منيرًا" (33: 46). وإن فكرة "النور المحمدي" لها أصول في كتب السيرة، نجدها فيما يُروى عن النور الذي كان بين عيني والده عبد الله، ورأتْه سيدةٌ عشية زواجه بآمنة، وفارقه عندما رأتْه ثانية صبيحة اليوم التالي. إنه نور النبوَّة المنتقل في الأصلاب والأرحام.

ويشير شودكيفِتش إلى الصوفيين الذين أكدوا أسبقية النور المحمدي في الظهور على كافة المخلوقات، كجعفر الصادق وسهل التستري والحكيم الترمذي والحلاج، وإلى ارتباط الحقيقة المحمدية بعبارة مفهوم الإنسان الكامل، الذي هو هدف كلِّ حياة روحية وغاية كلِّ تعريف للولاية. وينتج عن كلِّ ما يورده شودكيفِتش أن ولاية الولي ليست إلا انتسابه إلى ولاية النبي.

وهذه الوراثة عن محمد (ص) يمكن أن تكون مباشرة أو غير مباشرة، كما رأينا. والورثة المحمديون بالطريق المباشر تظهر عليهم صفاتٌ تميِّزهم عن غيرهم من الأولياء، أي عن الأولياء الذين لا ينتسبون للوراثة من النبي إلا بواسطة غيره من الأنبياء. فالوارث غير المحمدي يرى الناسُ ولايتَه بما يظهر على ظاهره من علاماتها، كالكرامات والخوارق. وعلى العكس، فإن الوارث المحمدي يجهله الناس، ولا يعرفه إلا النخبة، لأن خوارق الطبيعة لا تظهر على ظاهره، وإنما تتنزَّل في قلبه على هيئة علوم وأحوال روحية. وهذا التمييز بين ورثة النبي بالطريق غير المباشر وورثته بالطريق المباشر تفيدنا في تحديد صور الأولياء وملامح شخصياتهم.

الفصل الخامس: "ورثة الأنبياء" (ص 95-110)

ينطلق ابن عربي من أن محمدًا (ص) يحوي كلِّية الصور النبوية، ويحوي شخصه، بالتالي، كلَّ المزايا الخصوصية التي لكلِّ واحد من الأنبياء. ففي شخص النبي (ص) تجتمع صفاتُ الأنبياء كافة، وفي طاقته ما تحلُّوا به جميعًا من علوم وتصريف. والولي، الذي هو الوريث الروحي لنبيٍّ من الأنبياء، يرث من الحقيقة المحمدية الوجه الخاص بالنبي الموروث. فمن الأولياء من يرث وجه عيسى من الحقيقة المحمدية، فيُطلَق عليه اسم "عيسوي"، ومنهم من يرث وجه موسى من الحقيقة المحمدية، ويطلق عليه اسم "موسوي"، وهذا "إبراهيمي"، وذاك "هودي"، وغيرهم.

وابن عربي نفسه يروي أن أستاذه أبا العباس العريبي أصبح عيسويًّا في آخر حياته، وأنه هو نفسه – ابن عربي – على العكس، كان عيسويًّا في بداياته، ثم أضحى موسويًّا، ثم أمسى هوديًّا، ثم ورث على التوالي من كلِّ الأنبياء، وفي آخر مقام من محمد (ص) بنفسه.

وهكذا يتكون من مزايا كلِّ نبي ومعجزاته نمطُ شخصيته، تظهر صورتُها على الولي الوارث. فالولي العيسوي، مثلاً، تأتي كراماتُه على صورة معجزات عيسى (ع)، فتراه يمشي على الماء، ويشفي المريض، ويُبرئ الأعمى. ويشير شودكيفِتش إلى شخصيات معروفة في الوسط الصوفي، ويؤكد أنها كانت عيسوية الولاية، كالحلاج وعين القضاة الحمداني، مريد أحمد الغزالي، وعبد الله أحرار والشيخ العلوي، كما يشير إلى أن أحمد البدوي موسوي. هذا وفي استطاعة العارف، إن تمرَّس في أحوال الولي، أن يكتشف الطابع النبوي الذي يطبع ظاهره. ولا تتعدد الأنماط الروحية للولاية الموروثة عن النبوة إلى ما لانهاية، بل يحصر ابن عربي صورها الرئيسة في كتاب فصوص الحكم بفصوله السبعة والعشرين.

وهكذا اختُتمت النبوة، واكتملت التشريعات، ولم يبقَ إلا الوراثة عن الأنبياء. يقطع السالك طريق الجهد، عسى يولِّيه الله – عزَّ وجلَّ – ويورثه علمًا نبويًّا، فيرث عن نبي أو عن أكثر من نبي.

الفصل السادس: "الأوتاد الأربعة" (ص 111-127)

بعد أن درس شودكيفِتش في الفصول السابقة طبيعة الولاية وهوية الولي وأنماط شخصيات الأولياء، ينتقل هنا من الطرح النمطي للولاية إلى الطرح الجغرافي، حيث يحتل كلُّ ولي مركزًا جغرافيًّا من الأرض، بحسب مرتبته من الولاية: لكلِّ وليٍّ منزل، مركز جغرافي يحتله، ومنه يباشر وظيفته وولايته. ويبدأ شودكيفِتش بتلمُّس منازل الأولياء في النصوص السابقة لابن عربي، ويجد حديثًا شريفًا عند السيوطي، عن أبي هريرة، يشير إلى سبعة يحفظ الله بهم سكان الأرض. وفي الأدب الصوفي كذلك تتلامح إشارات إلى "ديوان الأولياء"، إشارات لا تزال تنمو إلى يومنا هذا، وتغلب عليها صفة السَّتْر؛ فالولي هنا هو مستور، لا تظهر مكانتُه للناس.

ويروي خادم الشيخ عبد القادر الجيلاني قصة طويلة، يخرج فيها الشيخ عبد القادر من المدرسة في بغداد إلى نهاوند، ويصل دون مسافة تُذكَر، ليحضر وفاة أحمد الأبدال السبعة. وهكذا يتابع شودكيفِتش إشارات، تظهر وتختفي سريعًا، عن أولياء مستورين لهم مهام كونية عالية، ويشغلون منازلهم الجغرافية، كلُّ ولي يحتل منزلة بحسب رتبته.

وكما في تحديد مفهوم الولاية وطبيعتها، كان علينا أن ننتظر في التاريخ الصوفي ظهور ابن عربي، كذلك هنا، لتحديد منازل الأولياء، ومواقعهم في الأرض. وبعد ابن عربي يصبح لكلِّ الإشارات السابقة في التاريخ الصوفي معنى، وتأخذ موقعها من نظرية الولاية ككل. وابن عربي لا يفصل هذه المنازل نظريًّا، ململمًا النصوص الشرعية أو المرويَّات الشعبية، ولكنه يصف هذه المنازل ويصف نازليها وصف الرائي لها، العارف بها، المشاهد لأهلها. ففي العام 593 هـ، مثلاً، التقى "قطب الوقت" في فاس. والإشارة إلى هذا اللقاء تكثر في كتبه، مما يؤيِّد أن كلام ابن عربي في الولاية ليس نظرية، بل يقين عياني، يرتكز على رؤية مباشرة وتجربة حميمة.

وفيما يتعلق بموضوع مراكز الأولياء الذين يمثلون قوى "الكون الفاعل"، لعل النصَّ الأكمل هو ما نجده في بداية الجزء الثاني من الفتوحات؛ وهذا النص هو ما سيتخذه شودكيفِتش دليله في طريق تحديد عالم الأولياء. يبدأ ابن عربي الفصل بتحديد أفضلية مقام الرسول على النوع الإنساني عامة. ثم يمثل الدين بالبيت القائم بقيام أركانه الأربعة؛ وأركان البيت الأربعة هي: "الرسالة" و"النبوة" و"الولاية" و"الإيمان". والرسالة هي الركن الجامع؛ وتحوي الأركان الثلاثة الأخرى. لذلك لا يخلو العالِم من رسول حي بجسمه يكون قطب العالم الإنساني.

يقول ابن عربي بأنه بعد وفاة محمد (ص) أبقى الله – عزَّ وجلَّ – من الرسل أحياء بأجسادهم في هذه الدار الدنيا ثلاثة وهم: إدريس والياس وعيسى (عليهم السلام). إدريس (ع) بقي حيًّا بجسده، وأسكنه الله السماء الرابعة؛ والسموات السبع هنَّ من الدار الدنيا، تبقى ببقائها وتفنى صورتُها بفنائها، لأن الدار الأخرى تُبدَّل فيها السموات والأرض. أما الياس وعيسى (عليهما السلام) فقد بقيا في الأرض. وهذه الشخصيات الثلاث مُجْمَع على رسالتهم. أما الخضر (ع) – وهو الرابع – فهو "من المختلَف فيه"، كما يقول ابن عربي،

عند غيرنا لا عندنا. فهؤلاء الرسل الأربعة باقون بأجسامهم في الدار الدنيا. فكلُّهم الأوتاد، واثنان منهم الإمامان، وواحد منهم القطب، الذي هو موضع نظر الحقِّ من العالم. إذن واحد من هؤلاء الأربعة، الذين هم إدريس وعيسى والياس والخضر، هو القطب، وهو أحد أركان بيت الدين، وهو ركن الحجر الأسود؛ واثنان منهم هما الإمامان، وأربعتهم هم الأوتاد. فبالواحد يحفظ الله الإيمان، وبالثاني يحفظ الله الولاية، وبالثالث يحفظ الله النبوة، وبالرابع يحفظ الله الرسالة، وبالمجموع يحفظ الله الدين الحنيف. ولكلِّ واحد من هؤلاء الأربعة من هذه الأمة في كلِّ زمان شخص ولي على قلبه مع وجوده، هو نائبه.

ويعقِّب شودكيفِتش بقوله إن كانت هذه الشخصيات الأربع التي ذكرها ابن عربي – اثنتان منها، أي إدريس وعيسى، في السموات، واثنتان، هما الياس والخضر، في الأرض – تعيش مستورة عن أعين العامة، إلا أنه – للمرة الأولى – يُشار إلى الوظائف العليا لهذه الشخصيات. وهكذا يُعلِمنا ابن عربي بوجود الأنبياء الأحياء بأجسامهم في الدنيا، وأنه بهم يحفظ الله أركان بيت الدين الحنيف. ثم أعلمنا كذلك بوجود نوَّاب من الأولياء لهؤلاء الأنبياء. ذلك كلُّه يؤكد علاقة النبوة بالولاية، وأن دائرة الولاية ليست مستقلة، ولكنها تابعة إلى آخر الزمان لسلطة الأنبياء الأحياء بعد موت محمد (ص).

ثم يتابع شودكيفِتش ابن عربي في تصويره لجغرافية العالم الروحي، ويتتبَّع توزيع الأدوار بين هؤلاء الأنبياء الأربعة: فإدريس (ع) هو القطب، والإمامان هما عيسى والياس (عليهما السلام)، والوتد الرابع هو الخضر (ع). القطب عليه يدور الوجود، ويجمع في شخصه كلَّ الأحوال، وكلَّ المقامات، وهو "وجه بلا قفا"، لا يغيب عن نظره شيء، لا تُطوى له الأرض، ولا يمشي في الهواء أو على الماء، ولا يستخدم إلا نادرًا، وبناءً على أمر إلهي فقط، القوى الخارقة. والإمامان، أحدهما أعلى من الثاني، وهما: إمام الشمال الذي يلقَّب بـ"عبد الرب"، وهو يسهر على "صلاح العالم"؛ وإمام اليمين يلقَّب بـ"عبد الملك"، وهو يسهر على "عالم الأرواح".

وهؤلاء الأوتاد الأربعة – القطب والإمامان ورابعهم الوتد – هم كالجبال للأرض: فكما الجبل يُسكِن الأرض، فلا تميد، كذلك هؤلاء الأربعة يحفظ الله بهم الجهات الأربع: الشرق، الغرب، الجنوب، الشمال.

ويُنهي شودكيفِتش هذا الفصل بلفتة ابن عربي التحذيرية. فكلُّ ما يذكره هنا من مقامات الرجال تحت اسم "الرجال" قد يكون منهم النساء. ويقول في مكان آخر: "لا توجد صفة روحية يمتلكها الرجل وليس للمرأة فيها مشرب." ويقول: "النساء لها نصيب في كلِّ الدرجات التي ينالها الرجل، حتى في القطبية."

الفصل السابع: "الدرجة العليا من الولاية" (ص 129-143)

في هذا الفصل يتابع شودكيفِتش تفصيل الرجال ومنازلهم ومراتبهم عند ابن عربي، منطلقًا من الباب الثالث والسبعين من الفتوحات. ففي هذا الباب يعدِّد ابن عربي حوالى ثمانين مرتبة من مراتب الرجال الروحانيين، من بينها ثلاثون محفوظة برجال يتقيَّدون في كلِّ زمان بعدد مخصوص. وحيث إن الكاتب لا يمكن أن يفصِّل كلَّ ما أوْرَدَ ابن عربي، لذلك اختار من هذه المراتب وهؤلاء الرجال الأهم والذين يساهمون في توضيح كلِّية صورة الولاية.

وبعد الكلام على الأوتاد الأربعة التي سَبَقَ تفصيلُها في الفصل السابق، يتابع شودكيفِتش ابن عربي في الكلام على الأبدال، وهم سبعة، لا يزيدون ولا ينقصون، يحفظ الله تعالى بهم الأقاليم السبعة (= الأقاليم المناخية السبعة)؛ وكلُّ بدل "على قدم" نبي: الأول على قدم إبراهيم، والثاني على قدم موسى، والثالث على قدم هارون، والرابع على قدم إدريس، والخامس على قدم يوسف، والسادس على قدم عيسى، والسابع على قدم آدم، على الكلِّ السلام. وتتأكد هنا، مرة جديدة، علاقة التبعية التي بين الأولياء والأنبياء. هناك، كلُّ ولي من الأوتاد الأربعة ينوب عن النبي الحيِّ بجسمه؛ وهنا، كلُّ بدل من الأبدال السبعة على قدم نبي من الأنبياء السبعة، سكان السموات السبع.

ثم يأتي بعد الأبدال، النقباء، وهم اثنا عشر نقيبًا في كلِّ زمان، لا يزيدون ولا ينقصون، على عدد بروج الفلك، كلُّ نقيب بخاصية كلِّ برج. وبعد النقباء يأتي النجباء، وهم ثمانية؛ ثم الحواريون، وهو واحد في كلِّ زمان؛ ثم الرجبيون، وهم أربعون شخصًا في كلِّ زمان. ثم يتكلَّم على الأفراد، المساوين للقطب في المرتبة والخارجين عن نظره؛ ثم على الملامية؛ حتى يصل إلى أعلى درجات الولاية، وهي مقام القُربة عند ابن عربي. وهنا يؤكد شودكيفِتش على معنى الولاية الصوفية، وأنها تعني وتُرادِف القرب. فالولاية هي القرب. وهذا التعريف للولاية، الذي استقاه من كتابات ابن عربي واستوحاه من أعلى مقامات الولاية، يتردد أكثر من مرة في هذا الكتاب.

الفصل الثامن: "الأختام الثلاثة" (ص 146-158)

بعد أن تتبَّع شودكيفِتش نصوص ابن عربي، وبيَّن معنى الولاية وهويتها والأنماط الروحية لشخصياتها، من جهة، ثم تكلَّم، من جهة ثانية، على مهام الأولياء الروحية، وبيَّن ارتباط الأولياء في مهامهم بالأنبياء، ثم بيَّن توزيع الأولياء على منازل، تتبَّع الأرض وجغرافيتها في الجهات والأقاليم، كما وردت عند الجغرافيين العرب، أمثال الاصطخري وابن حوقل، وتتبَّع السماء وجغرافيتها في الأبراج، كما وَرَدَتْ عند المؤلِّفين العرب، كاليعقوبي والبيروني – بعد تلك الفصول السبعة السالفة التي رسمت كرة الولاية، بخطوط طولها وعرضها، يصل ليبحث موضوع ختم الولاية، أو "أختام الولاية"، على صيغة الجمع، ويرى أن الولاية، بحسب نصوص ابن عربي، وبعد المتابعة التاريخية، مثلَّثة الختم.

إن عبارة "ختم الولاية" لم تَرِدْ في قرآن أو حديث؛ ولكن لما كان العلماء هم الأولياء عند ابن عربي، وهم ورثة الأنبياء، ولما كانت النبوة خُتِمَتْ بشخص سيدنا محمد (ص)، ينشأ عن ذلك أن تُختَم الولاية بشخص الختم. والترمذي (القرن الثالث الهجري) هو أول من وصل إلى هذه النتيجة؛ ولكن نصوصه تشير ولا توضح، يطرح السؤال ولا يجيب. والسؤال رقم 13 في أسئلة الترمذي، يقول: ومَن الذي يستحق خاتم الأولياء كما يستحق محمد (ص) خاتم النبوة؟ يقول ابن عربي في الجواب:

الختم ختمان: ختم يختم الله به الولاية، وختم يختم الله به الولاية المحمدية. فأما ختم الولاية على الإطلاق فهو عيسى عليه السلام؛ فهو الولي بالنبوة المطلقة في زمان هذه الأمة. وقد حيل بينه وبين نبوة التشريع والرسالة، فينزل في آخر الزمان وارثًا خاتمًا، لا ولي بعده بنبوة مطلقة. [...]

أما ختم الولاية المحمدية فهي لرجل من العرب، موجود في زمان ابن عربي. ويتابع الشيخ الأكبر:

وكما ختم الله – عزَّ وجلَّ – بمحمد (ص) نبوة الشرائع، كذلك ختم الله بالختم المحمدي الولاية التي تحصل من الوارث المحمدي، لا التي تحصل من سائر الأنبياء، وذلك لأنه من الأولياء مَن يرث إبراهيم أو عيسى أو موسى؛ فهؤلاء يوجدون بعد هذا الختم المحمدي، ولكن لا يوجد بعده ولي على قلب أو على قدم محمد (ص).

بمعنى لا يوجد ولي يرث كامل الإرث المحمدي.

وهكذا تتضح الرؤية: فختم الولاية المحمدية هو شخص لم يتحدَّد بشكل قاطع عند ابن عربي – وهو الذي لا يوجد بعده ولي على قلب محمد (ص)؛ وختم الولاية العامة، الذي هو عيسى، والذي لا يوجد بعده ولي مطلقًا.

ثم يتابع شودكيفِتش خُطى ابن عربي، مستوضحًا العلاقة بين ختم الولاية العامة وبين ختم الولاية المحمدية، من ناحية، ثم بين خاتم الأنبياء وبين ختم الولاية المحمدية، من ناحية ثانية، ليخلص إلى القول بأن محمد (ص) هو – ظاهرًا – "خاتم الأنبياء"، وهو أيضًا، من حيث الباطن، خاتم الولاية العامة والولاية المحمدية؛ وظهور ختمية نبوَّته وبُطون ختمية ولايته تجد تفسيرها في أن نبوَّته (ص) ظاهرة؛ فظهرت بالتالي ختميته لها، وأن ولايته (ص) باطنة، فبَطُنَتْ، بالتالي، ختميته للولاية.

ثم ينتقل شودكيفِتش للكلام على ختم ثالث يشارك ختمي الولاية المحمدية والولاية العامة في عنوان هذا الفصل: "الأختام الثلاثة". والخاتم أو "الختم" الثالث لم يذكره ابن عربي إلا مرة واحدة، وهو "ختم الأولاد". يقول ابن عربي:

على قدم شيث يكون آخر مولود من هذا النوع الإنساني، وهو حامل أسراره، وليس بعده ولد في هذا النوع. فهو خاتم الأولاد. وتولد معه أخت له فتخرج قبله، ويخرج بعدها، يكون رأسه عند رجليها. ويكون مولده بالصين، ولغته لغة أهل بلده. ويسري العقم في الرجال والنساء، ويكثر النكاح من غير ولادة. هذا الخاتم يدعو الناس إلى الله فلا يُجاب. فإذا قَبَضَه الله تعالى وقَبَضَ مؤمني زمانه، بقي من بقي مثل البهائم؛ ولا يُحِلُّون حلالاً، ولا يحرِّمون حرامًا، يتصرفون بحكم الطبيعة شهوة مجردة عن العقل والشرع. وعلى هؤلاء الناس تقوم الساعة.

ويعلق شودكيفِتش بأن عبارة "على قدم شيث"" التي تميِّز خلق "خاتم الأولاد" تشير، بما نفهمه من لغة ابن عربي، إلى أن خاتم الأولاد هو من الأولياء، وهو أيضًا ولي "شيثي"، ولن يُخلَق بعده أيُّ رجل، وبالتالي أيُّ ولي، فيختم إذن، هو أيضًا، الولاية. ويتساءل شودكيفِتش: كيف نستطيع هاهنا أن نوفِّق بينه وبين عيسى الذي يختم الولاية العامة؟ وتظل القضية معلَّقة، يرجع إليها عند بحثه لختم الولاية المحمدية الذي يُفرِدُ له الفصل التالي. ولكن شودكيفِتش لا يعطينا جوابًا عن هوية خاتم الأولاد، كما لم تعطنا أيَّ جواب كلُّ النصوص القديمة والشروح التي تناولت فصوص الحكم بالبحث والدراسة، وكلُّ الأسماء الكبيرة، أمثال القونوي، بالي أفندي، القاشاني، النابلسي، القيصري.

وأرى هنا، استنادًا إلى هذا النصَّ الوحيد الذي نمتلكه عن "خاتم الأولاد" والذي تضاربت حوله الشروح، فرأى بعضهم أنه هو خاتم الولاية العامة، الذي قيل عنه إنه عيسى، ورأى بعضهم الآخر أنه مجرد ولد يولد في آخر الزمان، ورأى بعضهم الثالث أن العبارة بجملتها رمزية، وأن خاتم الأولاد هو القلب وأخته هي النفس، وهكذا – أرى أنه، على الرغم من أن ابن عربي لم يوضِّح ماهية هذا الختم ويبيِّنها، أسوة بالأختام الثلاثة – ختم النبوة، وختم الولاية العامة، وختم الولاية المحمدية – إلا أنه يمكنني، استنادًا إلى النصوص، أن أرى بوضوح في عالم ابن عربي مَن هو هذا الختم.

أبدأ بمقدمة أولى وهي: أن ابن عربي يرى (الفتوحات 2: 50) أن لكلِّ شيء من الدنيا ختمًا، وذلك لأنه لما كان للدنيا بدء ونهاية، وهو ختمها، فقد قضى الله – سبحانه – أن يكون جميع ما فيها، بحسب نفسها، له بدء وختام. وكان من جملة ما فيها تنزيل الشرائع؛ فختم الله هذا التنزيل بشرع محمد (ص)، وكان من جملة ما فيها الولاية العامة، وهكذا. ثم في مقدمة ثانية، يرى ابن عربي أن بيت النوع الإنساني هو الدين، وأن أركان بيت الدين أربعة، وهي: الرسالة والنبوة والولاية والإيمان. وقد كشف ابن عربي عن أوتاد أربعة، هم أركان الدين، وهم الأنبياء الأحياء بأجسامهم بعد انتقال نبينا محمد (ص)، وهم: إدريس وعيسى والياس والخضر (وقد سبق الكلام على هذا الموضوع عند عرض الفصل السابع من هذا الكتاب).

من هاتين المقدمتين، أستطيع أن أخلص إلى نتائج واضحة توصلنا لتحديد هوية "ختم الأولاد":

-       النتيجة الأولى: حيث إن لكلِّ شيء في الدنيا ختمًا، وأن "الإيمان" من جملة ما فيها، لذلك يُختَتَم الإيمان بختم، تمامًا كالنبوة والولاية.

-       النتيجة الثانية: أركان بيت الدين الأربعة، وهي: الرسالة والنبوة والولاية والإيمان، وإن كانت تُحفَظ في الدنيا بأركانها الأربعة وهم الأوتاد الأربعة، إلا أن ذلك لم يمنع ابن عربي من أن يرى ختمًا لكلِّ ركن. فالنبي – عليه الصلاة والسلام – هو خاتم الركنين الأولين، أي خاتم الرسالة والنبوة. والركن الثالث، أي الولاية، له ختمان: تُختَم الولاية العامة بعيسى (عليه السلام)، وتُختَم الولاية المحمدية بشخص لم تقطع فيه النصوص، ويكون آخر الورثة المحمديين الكاملين.

ونلاحظ أن الركن الرابع لبيت الدين – وهو الإيمان – قد ظلَّ دون ختم. فأين "خاتم الإيمان" الذي أشار إليه ابن عربي؟ وإذا دقَّقنا النظر في صفات "خاتم الأولاد" الذي أشار إليه ابن عربي، نرى أنه ينطبق تمامًا ليكون رابع الأختام، وتكتمل به فكرة الختمية، لأن كمال التكوين في كلِّ شيء يقوم على التربيع عند ابن عربي. فخاتم الأولاد، بنصِّ ابن عربي، يدعو إلى الإيمان، وما من مُهتَدٍ ولا مؤمن بعده. فارتباط اسمه باسم الإيمان، ثم كلمة "خاتم" أمام اسمه – كل ذلك يدعو لأن أملأ به مكان "ختم الإيمان" الذي ظلَّ شاغرًا في بنية ابن عربي وفي رؤيته للولاية وأختامها. أما عبارة "على قدم شيث"، فيفسِّرها كونُ شيث ابن آدم هو أول أولاد الجنس البشري الموجود عن التزاوج؛ وبخاتم الأولاد يُختَم الجنس البشري الموجود عن التزاوج، لأنه بعد هذا الخاتم يسري العقم في الرجال والنساء، ويكثر النكاح من غير ولادة.

يبقى أن نسأل أنفسنا: هل خاتم الأولاد هو وليٌّ من الأولياء؟ فإن كان وليًّا، فكيف يولد ولي وقد خُتِمَت الولاية بعيسى، وعيسى (ع) يظهر قبله في الزمان؟ ومن ثمَّ فقد طَرَحَ هذا مشكلةً عند مفسِّري الفصوص، وحاول الجميع أن يجد علاقة ونسبة بين عيسى (ع) وبين خاتم الأولاد. وأرى هنا أن الحلَّ يأتينا من القرآن الكريم، ومن الفصل الأول الذي طرح فيه شودكيفِتش أن الولاية "اسم مشترك"، فنقول إن الولي اسم مشترك يُطلَق على النخبة الروحية التي طهَّرها الله – عزَّ وجلَّ – وأنزلها في منازل قربه، وحمَّلها الأمانات. فخاتم الأولاد هو خاتم الإيمان: فلا مؤمن بعده؛ وهو ولي، ولكن بالمعنى العام للولاية، أي الإيمان.

الفصل التاسع: "ختم الولاية المحمدية" (ص 159-179)

يترك شودكيفِتش في هذا الفصل مهمة ختم الولاية ووظيفته، ويهتم بشخص هذا الختم. فإن كان ختم الولاية العامة تحدَّد قطعًا في نصوص ابن عربي بشخص عيسى (ع)، فإن شخص ختم الولاية المحمدية وردت الإشارةُ إليه مرارًا؛ ولكن في كلِّ مرة كان يذهب التعيين إلى شخص مختلف، مما أوقع المتتبِّع للنصِّ في حيرة! فأحيانًا يقول ابن عربي إنه التقى بشخص في فاس، هو ختم الولاية المحمدية؛ وأحيانًا أخرى يقول عن نفسه إنه هو ختم الولاية المحمدية، ويورد مبشِّرات تهادتْ إليه في رؤية منامية، ويؤكِّد، بعد وصوله إلى المشرق، أنه هو ختم الولاية المحمدية.

ثم يستعرض الأستاذ شودكيفِتش مؤلَّفات الصوفية، وخاصة مؤلَّفات مؤيِّدي ابن عربي وتلامذته، فيرى أن الشعراني في الطبقات يشير، عند ترجمته للصوفي الكبير محمد وفا (ت 801 هـ)، أن ابنه علي وفا يقول عن والده إنه ختم الأولياء. وهذا ما حدث في معظم الطُرُق الصوفية: إذ كانت تُظهِر رجالاتها الكبار على أنهم "ختم الأولياء". فكلُّ جمعٍ تجمَّع حول وليٍّ كبير من أولياء الصوفية المتأخِّرين رأى فيه ملامح الختم المحمدي. وتلامذة ابن عربي كذلك يؤكدون أنه هو نفسه خاتم الولاية المحمدية. ويكثر الجدال حول شخص الختم. ويخرج الأستاذ شودكيفِتش من هذا المأزق بالالتفات إلى مفهوم "النيابة" عند ابن عربي، ويُثبِت أن شخص خاتم الولاية المحمدية هو ابن عربي، بما يحويه من وظائف الختم، وأن كلَّ طائفة ادَّعتْ لوليِّها مقام الختم فهي إنما ترى فيه "نائب" الختم المحمدي، ترى على صفحة ولايته "القمرية" انعكاس صفات ولاية الختم "الشمسية".

الفصل العاشر، وهو الأخير: "السلَّم المزدوج" (ص 181-221)

يلخِّص شودكيفِتش في مطلع هذا الفصل، وفي فقرة واحدة، خلاصة نظرة ابن عربي إلى الولاية، ويرى أنها انتظمت على مفاهيم ثلاثة: الوراثة، النيابة، القُرْبة. فالوراثة لأحد الأنماط النبوية في معرفة الله – عزَّ وجلَّ – تفسِّر أشكال الولاية وسبب وجودها على أنماط متنوعة؛ والنيابة، التي هي نيابة الولي في وظيفة، ترجع في الواقع إلى الحقيقة المحمدية وتفسِّر مهمات الولاية ووظائفها؛ وأخيرًا القُرْبة، وهي حقيقة الولاية ومعناها. وهذه القُرْبة، التي سبق الكلام عليها عند كلامنا على الدرجة العليا للولاية، سوف تظهر لنا هنا في كامل تفتُّحها.

ونلاحظ نحن هنا أن الأستاذ شودكيفِتش، بعد أن شرح في الفصول التسعة المتقدمة من كتابه معنى الولاية لغويًّا، ثم بيَّن طبيعتها وأشكالها ووظيفتها، ثم بحث في منازل الأولياء وتوزُّعهم على أبعاد الأرض والسماء، يصل هنا إلى نهاية المطاف، ليرسم للقارئ طريق الولاية: إن الولاية، التي انتشأت صورُها من فقرات فصوله، وإن كانت واديًا مقدَّسًا، إلا أن هذا الوادي ليس محظورًا على السالكين؛ فالطريق مفتوح لمَن أراد أن يحمل زادَه ويرحل: يرحل عن الكون إلى الله؛ وبعد أن يقطع مسافات في أرض الوجدان، يعرف أن الولي هو القريب من الله، القريب من الإنسان. وهذا ما سينتهي إليه شودكيفِتش في تتبُّعه لنصوص الشيخ الأكبر.

كيف نصبح أولياء؟ الولاية، قبل كلِّ شيء، هي تجربة فردية ومجهود شخصي؛ وهي دائمًا غير مسبوقة بمثال. وهذا ما يؤكد عليه ابن عربي دائمًا: فلا تتكرر تجربة أبدًا، ولا يسلك سالكٌ أبدًا طريق سالكٍ آخر، ولا يمر سالكان بطريق واحد. غير أن هذه الفردية في الطُرُق الموصلة إلى القُرب والولاية لا تمنع من وجود أنماط طرائقية، يجمع كلَّ نمط منها مقاماتُه ومخاطره. وهذا ما يبرِّر وجود الشيخ المرشد المربِّي، أي "المعلِّم الروحي" الخبير بأنماط طرائق المجاهدات. ومن ناحية ثانية، يظهر المعراج النبوي على أنه القدوة والمثال لكلِّ طريق؛ وكلُّ عروج وترقٍّ يطمح إلى تقرُّب وولاية يرقى في هذه المعارج. وهذا ما سيتَّضح، كما يقول شودكيفِتش، عند بحث مقامات القُرب عند ابن عربي.

يأخذ شودكيفِتش كتاب ابن عربي رسالة الأنوار ويحاول، استنادًا إليه وإلى كتاب الإسرا إلى المقام الأسرى وإلى فصل من الفتوحات، أن يخطَّ طريقًا للولاية. ويؤكِّد شودكيفِتش على ضرورة أن يصل الولي إلى تمام الولاية: فهو يرى – استنادًا إلى النصوص – أن الولي الكامل هو الذي سلك إلى ربِّ العزة، ووصل إلى حضرته تعالى، ورجع به من عنده إلى خلقه من غير مفارقته. بكلام آخر: الولي الكامل هو الواصل إلى الحق، الراجع إلى الخلق.

يبدأ شودكيفِتش ببيان الطريق للسالك، منذ بداياته، كما فصَّله ابن عربي في رسالة الأنوار، حيث يقول لسائله:

فأول ما أبيِّنه لك كيفية السلوك إلى الله، ثم كيفية الوصول والوقوف بين يديه والجلوس في بساط مشاهدته، وما يقوله لك، وكيفية الرجوع من عنده إلى حضرة أفعاله به وإليه، والاستهلاك فيه، وهو مقام دون الرجوع.

ثم يقول:

واعلم، أيها الأخ الكريم، أن الطرق شتى، والطريق الموصل إلى الحقِّ هو مفرد، وأفراد هم الذين يسلكون طريق الحق. ومع أن طريق الحقِّ واحد فإن وجوهه تختلف بحسب اختلاف سالكيه من اعتدال المزاج أو انحرافه، ومن قوة الروحانية وضعفها، أو استقامة الهمة وميلها. فمن السالكين من تجتمع له هذه الأوصاف، ومنهم من يكون له بعضها؛ فقد يكون مطلب الروحانية شريفًا، ولكن لا يساعده المزاج – وهكذا في كلِّ ما بقي.

وأول ما يبدأ به ابن عربي هو تعريف السالك بأمَّهات المَواطن، أي يعرِّفه من أين جاء، وأين هو، وإلى أين يذهب، حتى يعرف السالك ما يقتضيه كلُّ موطن، فيستعد لمعاملة الموطن الذي هو فيه بما يتناسب ويليق. ويقول ابن عربي للسالك منبِّهًا:

ينبغي لك أن تعرف ما يريده الحقُّ منك في ذلك الموطن، فتُبادِر إليه من غير تثبيط ولا كلفة. والمَواطن ترجع إلى ستة: الأول هو موطن "ألست بربكم"؛ والموطن الثاني هو الدنيا التي نحن الآن فيها؛ والثالث هو عالم البرزخ الذي نصير إليه بعد الموت الأصغر، أي الموت السلوكي، والموت الأكبر، أي موت البدن وانتقاله؛ والموطن الرابع هو أرض الحشر؛ والموطن الخامس هو الجنة والنار؛ والسادس هو موطن الكثيب خارج الجنة، وهو تلٌّ من مسك أبيض تكون الخلائق عليه عند رؤية الحقِّ سبحانه وتعالى.

وبيان ابن عربي لهذه المَواطن الستة التي ينزلها كلُّ كائن تسهم – على ما يقول شودكيفِتش – في تنبيه السالك إلى مخاطر الطريق الصوفي. فكلُّ عاقل، كما يقول ابن عربي، عليه أن يعلم أن السفر مبني على المشقة والمحن والبلايا والأخطار والأهوال، وأنه من المحال أن يتنعَّم المسافر أو يستريح أو يلتذ، وأن عليه أيضًا أن لا يستعجل المشاهدة والفتح، بل يعمل على تحصيل العلم، لأن الوقت في هذه الدنيا يجب أن يخصَّص لتحصيل العلوم الروحية، استعدادًا ليوم البعث، حيث يتجلَّى الله – عزَّ وجلَّ – فيه لكلِّ إنسان في صورة عقيدته.

وبعد أن يشرح ابن عربي للسالك المَواطن، وينبِّهه على المخاطر وعدم طلب المشاهدة، ويدعوه للالتفات إلى العلم، يعطيه بعض القواعد التطبيقية التي تساعده في طريقه إلى الله. يقول له:

لا بدَّ لك من العزلة عن الناس وإيثار الخلوة على الصحبة. فإنه على قَدْر بُعدك من الخلق يكون قربك من الحقِّ، ظاهرًا وباطنًا. وأول ما يجب عليك طلبُ العلم الذي تقيم به طهارتك وصلاتك وصيامك وتقواك، وما يفرض عليك طلبُه خاصة، لا تزيد على ذلك شيئًا – وهذا هو أول باب الطريق والسلوك. ويأتي بعده العمل به، ثم الورع، ثم الزهد، ثم التوكل. وفي أول حال من أحوال التوكل يصبح يحصل لك أربع كرامات، هي الدليل على حصولك أول درجة في التوكل، وهي: طي الأرض، والمشي على الماء، واختراق الهواء، والأكل من الكون. ثم، بعد ذلك، تتوالى عليك المقامات والأحوال والكرامات والتنزُّلات إلى الموت.

ويرافق ابن عربي السالك معه على طريق الحضرة: فإن حقَّق شروط الخلوة، وتحفَّظ من الخيالات الفاسدة، واشتغل بذكر الله، وراعى اعتدال المزاج، وفرَّق بين الواردات الروحانية الملكية والواردات الروحانية النارية الشيطانية، وحفظ عقيدته في الله عند دخوله الخلوة بأن الله "ليس كمثله شيء"، ولم يطلب في الخلوة من الله سواه، ولم يعلق وَلَهُ الهمَّة بغيره – إذا حقق السالك ذلك كلَّه فإن الله – عزَّ وجلَّ – يبتليه بأشياء يفتنه فيها؛ فعليه أن لا يقف مع شيء. ومن الأشياء التي يعرضها الله على السالك ابتلاء أن يكشف له عن العالم الحسِّي الغائب عنه، فلا تحجبه الجدران والظلمات عمَّا يفعله الخلق في بيوتهم؛ ثم ينتقل من الكشف الحسِّي إلى الكشف الخيالي، وتتنزَّل عليه المعاني العقلية بالصور الحسِّية؛ ثم تُكشَف له أسرار الأحجار المعدنية، فيعرف سرَّ كلِّ حجر وخاصيَّته في المضارِّ والمنافع؛ ويُكشَف له عن النباتات، وتناديه كلُّ عشبة بما تحمله من خواص المضارِّ والمنافع؛ ويُرفَع له عن الحيوانات، فتسلِّم عليه وتعرِّفه بما تحمله من الخواص. وهكذا كلُّ عالَم يعرِّف السالك بحمده وتسبيحه.

ثم يُداخِل شودكيفِتش بين رسالة الأنوار وبين الفتوحات المكية، ليخرج منهما برؤية مكتملة للطريق الصوفي: فالسالك، حين يقطع هذه الممالك الأربعة من العالم الحسِّي – مملكة المعادن والنبات والحيوان والإنسان، المتمثِّل بالسالك نفسه – يوازي المرحلة الأولى من المعراج – هذه المرحلة التي توصل إلى السماء الأولى. وهكذا كلُّ مرحلة من مراحل رسالة الأنوار يمكن مقارنتُها ومقابلتُها بمراحل السموات السبع التي يرقاها السالك في المعراج الوارد في الفتوحات المكية. فالعارج في الفتوحات لا يصل إلى السماء الأولى إلا بعد أن يتحلَّل ويترك مركبات تكوينه: يترك ماءه وترابه وناره وهواءه. كذلك هنا، أول ما يُكشَف له عن عوالم المعادن والنبات والحيوان؛ فإن لم يجتزْها، ووقف مع أيِّ عالَم منها، فإنه يُقطَع عليه الطريق. فاجتياز العوالم ومفاتنها في رسالة الأنوار يقابل تحلُّل السالك من مركبات تكوينه في الفتوحات. ويتابع شودكيفِتش المداخلة بين الفتوحات وبين رسالة الأنوار، كشفًا بكشف، وسماء بسماء، حتى ينتهي إلى نهاية العروج الإنساني. وهنا الإنسان، في نهاية معراجه، لا يبقى منه إلا السرُّ الإلهي الذي لا يتحلَّل ولا ينقسم – هذا السرُّ المنفوخ منذ بداية الخليقة في طينة آدم.

وإذا كان الوصول إلى الله هو نقطة النهاية في سلَّم العروج، فهو ليس نهاية الطريق، بل الوصول الكامل يتجسَّد في سلَّم مزدوج: عندما يصل الولي إلى القمة، عليه أن يرجع درجة درجة؛ ولكن هنا لا يرجع على نفس الدرجات التي صعد عليها. فالسالك أو الولي يصعد وهو يرى بعين نفسه، ويرجع وهو يرى بعين ربِّه.

وكما تحلَّل السالك من أثوابه كافة قبل عروجه، فترك ماءه وترابه وناره وهواءه، حتى بقي سرًّا إلهيًّا صرفًا غير ممزوج، نراه، عند رجوعه، يلبس أثوابه، واحدًا واحدًا، "يتركَّب" حتى يعود إلى العالم المركَّب. ولكن التحليل والتركيب هما سلَّم مزدوج، يصعد فيه السالك بدرجات وينزل بدرجات مقابلة، كأنها هي وليست هي. ويعود السالك، يرجع الولي، من الوصول كأنه هو.

فالولاية، على حدِّ ما يعرِّف بها شودكيفِتش مرارًا في هذا الكتاب، هي قُرْب، ولكنه قرب مزدوج: قرب من الله، وقرب من الناس. فإذا كان "الإنسان الكامل" شجرة أصلها ثابت في الأرض وفرعها في السماء، والحقيقة المحمدية "برزخًا" بين الحقِّ والخلق، فالولي وريث يجمع الأعلى والأسفل. ويُنهي شودكيفِتش كتابه بأن الولاية، وإن حملها الولي معه إلى ما بعد الدنيا، إلا أنه لها نهاية وختم في هذه الدنيا. فمع مجيء الختم الأول، أصبحت أشكالها العليا والكاملة ممنوعة إلى الأبد؛ ومع مجيء الختم الثاني أُقفِلَ نهائيًّا مقام القُربَة، وهو أعلى مقامات القرب؛ وعندما يقبض الله روحَ الختم الثالث، الذي هو آخر مولود من الجنس البشري، وتصير الناس كالبهائم، ويُمحى القرآن والعلم من القلوب، يصبح عالمنا فارغًا من كلِّ ما يربط الأرض بالسماء، عالمًا باردًا يغرق في الموت: نهاية الأولياء ليست إلا اسم آخر لنهاية العالم.

***

وقبل أن نطوي صفحات الولاية، أقول إن الولاية مسؤولية: يرث الولي هموم الناس، واقع أمة ومجتمع وبيئة؛ يقتلع وجدانه من أماكن القرب ويصبِّرها في أرض الوقت، ليكون وجهُه في كلِّ زمن شاهدًا على الكمال المتروك. الولي قبضة تنوَّرتْ من أثر الرسول، وارتدَّتْ إلينا، فتعلَّقتْ بذرَّاتها أرواحُنا المسوَّاة.

*** *** ***


* Michel Chodkiewicz, Le Sceau des saints : Prophétie et sainteté dans la doctrine d’Ibn ‘Arabī, Bibliothèque des sciences humaines, Éditions Gallimard, Paris, 1986, 235 pp.

** د. سعاد الحكيم أستاذة التصوف في الجامعة اللبنانية وعضو جمعية ابن عربي الدولية.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود