الغربة

 

شيار يوسف

 

تمشي غريبًا. شعورٌ قاتل بالغربة يملأ كلَّ زاوية من جسدك الغريب. تنظر إلى الأشياء نظرات عابرة. أنت تعرفها جيدًا: زيف وحسب. لا تتذكر وصفًا آخر؛ أو ربما تتذكر وتستبعد على الفور، لأن كلَّ الأوصاف الأخرى، كلَّ الكلمات والتعابير، زيف أيضًا.

الغربة... وتنعطف في جهة لا تختارها. حين تنتفي الإرادة، الجهات تختارك، لا أنت تختارها. تفكر: الغربة ليست لاانتماءً، ليست اختلافك عن الأشياء المحيطة. الغربة الحقَّة انتماء كامل، أو لنقل، حالة تسبق الانتماء الكامل. ليست انفعالاً أو حساسية شعرية، ليست نفورًا أو قرفًا أو... إنها حالة فذة تعني رفضًا لكلِّ شيء، رفضًا عميقًا قائمًا على الإدراك. فأنت تعرف كلَّ هذه الأشياء. لقد خبرتَها حتى آخر نقطة دم.

الانتحار؟! لا. فبعد ثلاث محاولات لم توصلك إلا إلى سرير أبيض وذاكرة بيضاء، صرتَ تعرف أنه هروب وحسب. نعم، مهما بدا جميلاً وعميقًا، لكنه هروب. لأن الغربة ليست اللاجدوى واللامعنى. فيما سبق (في المحاولات الثلاث السابقة) كنت تراها كذلك. لكنك تدرك الآن أنها بريئة من هذه الأوهام.

تطفو كزيت على ماء ذاكرتك. الذاكرة غريبة هي الأخرى. ترفض كلَّ تفصيل تقذفه إلى السطح بين الحين والحين، وتقول: هذه التفاصيل ليست أنا؛ إنها ذاكرتي. وإذ تحسُّ أنك غريب عنها هي أيضًا، تزداد ألمًا. لكنك تستدرك وترفض أن تتألم، لأن الألم من الذاكرة هو الآخر.

حين تعود إلى البيت، يقفز إلى ذهنك سؤال غريب: "لماذا عدتُ إلى هذا البيت؟!" وتدرك أنت وحدك أن السؤال يحمل في أحشائه إدانةً لكلِّ أشكال الملكية والعلاقات الاجتماعية. لكنك متعب، وغير قادر على ارتكاب إجابة ما.

عشرون سنة... هه! عشرون مليون، أو ربما مليار. لا تعرف، لكنك تحسُّ، على نحو مبهم، بعمق البحر الذي تتقاذفُكَ أمواجُه. قامة طويلة وعملاقة، تمتد من أعماق الأرض إلى أجواز السماء. لكنك تدرك الآن أنها قامة هشَّة، وأنها ذرات غبار يجمعها صمغٌ وهمي. أية ريح تحتاج لتُبَعْثِرَها. أية ريح؟! ريح الغربة ربما!

تنظر إلى بياض السقف: البياض هو الشكل الوحيد المحتمَل، لأنه يحمل في ذاته الألوان جميعًا. البياض عمق كينوني محض. وتدرك أن غربتك الآن هي متاهة البياض، وأن المتاهة وهمٌ تختلقُه الرغبة في الوصول. لذا تدرك أيضًا أنك ينبغي ألاَّ تسير في دهاليز المتاهة، بل تبقى حيث أنت، هناك، أبيض وصامتًا، إلى أن... لا تعرف كيف تكمل. ولو عرفت فلن تعرف كيف تصف، بل لن تصف أصلاً.

يغزوك النعاس. تحسُّ بإنهاك الذرات في قدميك ورأسك. تفكر في اليقظة: هل أستطيع؟!

لكنك لا تستطيع، وتنام.

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود