محي الدين بن عربي
مثال صالح للاعتراف والقبول بالآخر

 

ندرة اليازجي

 

سؤال: ذكرت في مقدمة بحثك عن الحكيم محي الدين بن عربي ما يلي: أحدث الحكيم محي الدين بن عربي تكاملاً حقيقيًا ولقاء جوهريًا بين تنوعات أهل العرفان وتعدادات المذاهب والمبادئ والعقائد العالمية التي دعت إلى تحقيق "الواحدية التأليفية" أو "الواحدية الوجودية" المعروفة بوحدة الوجود.
ما هي تلك المذاهب أو العقائد أو المبادئ العالمية غير العربية؟ وهل تعتبرها القرابة الأولى بين واحدية ابن عربي التأليفية وواحدية تلك المبادئ التأليفية؟

جواب: البحث في حكمة ابن عربي والتعمق إلى معرفة ينابيع أو مصادر أو قرابات حكمته قضية تتطلب جهدًا كبيرًا وفهمًا شاملاً لجميع التيارات الفكرية. لذا، أعتبر حديثي هذا مجرد إضاءات عابرة تجذب انتباه الباحث أو الدارس إلى إدراك أوسع يتجاوز الشروح والتفاسير والتعليقات الخاصة أو العائدة إلى منهج معين.

في هذا المنظور، يعد هذا البحث مدخلاً متواضعًا إلى حكمة ابن عربي وحافزًا إلى المزيد من التساؤل، والفهم المعمق، وإعادة النظر التأملية والدقيقة. وإذا كنت قد ألمعت إلى مضامين حكمته برمزية تكاد تعادل رمزية كتاباته، فلأنني أسعى إلى بلوغ سرانية حكمته من خلال هذه الرمزية. والحق أنّ الحوار، وليس الجدل المتحيز وضيق الأفق الفكري، كفيل بتوضيح الصعوبة الكامنة التي تكتنف أحكام هذا الحكيم، وتجربته الصوفية التأليفية الأصيلة التي تشير إلى "الواحدية الوجودية".

في محاضرة ألقيتها سابقًا، تحدثت عن المادة والوعي في تنوعات الحكمة الشرقية. ولما كان الشرق، وفق المفهوم التقليدي للمصطلح، يشتمل على منطقتنا العربية ويمتد إلى الشرق الأقصى، فقد عمدت إلى اختيار حكماء يمتّون بصلة إلى مدارس الحكمة اليابانية والصينية والهندوسية والعربية. والحق أنني لم أجد بين حكماء العرب من هو أفضل من ابن عربي اكتشف فيه مفهوم أو تصور مقولة المادة والوعي.

في تلك المحاضرة، ذكرت ما يلي: نجد تصور أو مفهوم "المادة والوعي" في الشرق عند العديد من الفلسفات المعروفة والمرموقة. وفي سبيل الوضوح، اذكر اثنتين منهما:
1- حكمة ابن عربي.
2- حكمة تشوتزو، أعظم فيلسوف - حكيم للكونفوشية المحدثة.
وجدير بي أن أقول: من العبث القول بأن تقديمي لهما ينحصر، بالضرورة، في خلاصة موجزة وبسيطة.

تتمثل أولى هاتين الحكمتين، وهي الحكمة الداعية إلى وحدة الوجود، أي "الواحدية التأليفية" بابن عربي الحكيم العربي الذائع الصيت. وكما يشير هذا التعريف، يقتضي الأمر إعادة رؤية منظور "الغنوص" للحقيقة التي يدعوها ابن عربي "الوجود". وبهذه الكلمة، يقصد ابن عربي الطاقة الكونية الحية التي تتابع الفيض أو الإبداع والتكوين عبر سيرورة ظهورات وتجليات ذاتية أنطولوجية تدريجية ومكشوفة في بنية رتبية وتسلسلية لكل أشكال الكيان أو الكينونة بدءًا بالصور الميتافيزيائية وانتهاءً بالعالم المادي.

أكد ابن عربي، وهو متيقن مما كُشف له في تجاربه التأملية الخاصة، أنّ العدم، أي "اللاشيء الميتافيزيقي" حيّ يتميز بإرادة أكيدة تحثه، على الدوام، على الكشف عن ذاته في مراحل أو مستويات متتابعة من الفيض والإبداع والتكوين. وفي رأيه، تدعى المرحلة الأولى لهذا الفيض أو الإبداع الذاتي للكشف، "الواحدية الوجودية" أو "الواحدية التأليفية" للكائن، وفي هذا الفيض أو الإبداع، يتحول الوجود-العدم إلى وجود-وعي، هو وعي كوني لاظاهراتي، يوحِّده ابن عربي، بوصفه حكيمًا عربيًا إسلاميًا، مع الوعي الإلهي أو الوعي الذاتي للإله.

تتميز حكمة ابن عربي باعترافها بأن الوجود-الوعي، حتى ولو ظلّ في خارجه واحدًا وغير منقسم، يكون، في داخله، على نحو وجود بالقوة، متنوعًا إلى صور أو أنماط أنموذجية ومثالية، هي فعالية بدئية أصلية. وفي هذا المنظور، نعلم أنّ ابن عربي واحدي في صميمه، وحكيم يؤمن بـ"الواحدية التأليفية" للحقيقة. وفي رأيه، يعد كلّ تنوع من التنوعات الكامنة والممكنة للوجود مثالاً أو نمطًا أصليًا يعين مسبقًا لذاته بأنه سيكون النطاق الخاص الذي سوف يتجلى فيه بأشكال واقعية وملموسة. وبتعبير آخر نقول: يتبع الوجود، وهو يتنوع إلى هذا الطور أو المرحلة في الأشكال الداخلية للوعي الإلهي، تطوره الأنطولوجي حتى المرحلة الأخيرة حيث ينتشر إلى، أو ينبثّ في، آلاف آلاف الظاهرات، بما فيها المادة والوعي المأخوذين بمعناهما العاديين.

يرى ابن عربي أنّ "المادة" التي احتلت موضعها عند المستوى الأدنى من البنيان التسلسلي الرتبي والمتدرج للوجود وتشكلت من العناصر الأولية وهي النار والهواء والماء والتراب، ليست مادية بالمعنى الحرفي للكلمة: هي روحية حتى ولو كانت شكلاً، أو حتى لو كانت تحتل مستوى أنطولوجيًا أدنى يحتمل أن يكون أدنى مستويات الوجود. ومع ذلك، تتجلى الحقيقة الإلهية في هذه المادة. وبهذا الصدد، يقول ابن عربي: كل شيء في هذا العالم حي.. كل شيء ينبض بالحياة وتحييه روح.. والعالم كله مشبع بالحياة مادام انعكاسًا للوعي الإلهي.

يجدر بي أن أقارن، بإيجاز بالغ، الأنطولوجيا العرفانية لابن عربي مع أنطولوجيا كونفوشية، هي أنطولوجيا الـ"ين" والـ"يانغ" لمؤلفها تشوتزو، أعظم فيلسوف حكيم صيني للكونفوشية المحدثة. - ولد تشوتزو في عام 1130م وتوفي في عام 1200م.

انطلق تشوتزو من النقطة ذاتها التي انطلق منها ابن عربي. وفي رأيهما المتوافقين والمتطابقين ندرك أنّ الحقيقة الميتافيزيقية، أو السامية المطلقة، هي الحد النهائي للتنوع الأنطولوجي الملازم للمادة والوعي، والفائضة أو المبدعة باتجاههما، أي الحد الذي يوجد فيه الوعي في مرحلة تطوره الأنطولوجي الأخيرة وقد تمدّى بمعنى أنه أصبح مادة.

أسمح لنفسي أن أقول: تلك هي القرابة الأولى الفكرية القائمة بين حكمة ابن عربي والحكمة الصينية الممثلة بتشوتزو والحكمة الهندوسية الممثلة بالفيدانتا. وقد ارتاب بعضهم بهذه القرابة لجهلهم بحقيقة حكمة ابن عربي التأليفية الشاملة.

سؤال: بالإضافة إلى القرابة التي أحدثتها، على سبيل المثال، بين حكمة ابن عربي والحكمة الصينية، هل توجد قرابة أخرى تصل بين حكمته وتنوعات الحكمة الشرق أوسطية التي كانت تتفاعل في وفاق مع بعضها في هذه المنطقة من العالم، وتتلاقى في مبادئها، كما تقول، في نطاق قرابة أو صِلة فكرية حقيقية؟

جواب: ثمة قرابة أخرى نجدها قائمة بين حكمة ابن عربي وحكمة القبالة الممثلة بالصوفية الإسرائيلية المتجاوزة للحرفية التوراتية والمضمونة في التأويل لدى فيلون. وتعد هذه الصوفية الحكمة التي رفضها أحبار اليهود ولم يأخذوا بها. وعندما نتعمق في فهم التسلسلات الرتبية للوجود والمعروفة بالفيوض والإبداعات التي تحدثت عنها القبالة، ندرك أنها تتماثل أو تتوافق مع تدرجات المستويات المتتابعة التي تحدث عنها ابن عربي بدءًا بالحقيقة السامية والمطلقة وانتهاءً بالعالم المادي.

تقضي ضرورة البحث في حقيقة القبالة أن أتحدث عن بعض مضامينها ومبادئها ومصاردها. في القبالة نجد المبادئ التالية:

أ. تكوّن الوجود عن طريق الفيض أو الإبداع وليس عن طريق الخلق. والعالم هو التجلّي الإلهي من العدم الذي هو الوجود المحض.

ب. المبدأ السائد في الكون هو المبدأ الأنثوي وليس المبدأ الذكري.

ج. مبدأ المحبة والرحمة.

د. التأويل الذي يتجاوز التفسير الحرفي إلى سرّانية العمق.

هـ. توافق العدد والحرف.

يتوجّب عليّ، وقد ذكرت بعض المبادئ القبالية، أن أتحدّث عن القبالة ذاتها.

تعدّ القبالة الحكمة التي اقتبسها حكماء إسرائيل من الأمم أثناء السبي إلى بابل وأثناء نزوحهم إلى مصر. اقتبس أولئك الحكماء، يوم اغتربوا عن كيانهم وعاشوا مرارة السبي والغربة، مبادئ حكمتهم من حكمة الكلدانيين والمصريين والفرس.

بالإضافة إلى ذلك، اقتبسوا من مبادئ الحكمة الفيثاغورية والأفلاطونية المحدثة والأفلوطينية، وتبنّوها. والحق أنّ اليهود من توراتيين حرفيين وتلموديين عنصريين، رفضوا صوفية القبالة لسبب هو أنهم عزلوا أنفسهم عن سائر الشعوب عامةً وشعوب منطقة الشرق الأوسط خاصةً، ورفضوا التفاعل مع آرائهم ومبادئهم.

عندما يزداد تعمقنا في فهم حكمة ابن عربي، ندرك أنها ترتكز، في مطلقها، على العرفان، أي الغنوص. ولما كان الغنوص يوطّد مبدأه على المعرفة التي يتأسس عليها الإيمان، فقد جعلت الإيمان الحقيقي حصيلة العرفان. فبقدر ما تزداد المعرفة، يزداد الإيمان ثباتًا. وبالطريقة ذاتها، تتأصل حكمة ابن عربي في الغنوص-العرفان. وهكذا، يتمثل وجود الإنسان في معرفة الحقيقة الأزلية السامية. وفي هذا السياق، تتصل حكمته بالأفلاطونية المحدثة والأفلوطينية المتمثلة في تساعات أفلوطين.

يعد ابن عربي نصيرًا لمدرسة التأويل القائم في العرفان. وإننا نجد التأويل في كل المبادئ السرّانية. وبالإضافة إلى ذلك، نجد التأويل، بالإضافة إلى الغنوص-العرفان، في القبالة التي تجاوزت التفسير الحرفي للتوراة والتلمود. وهكذا، يبلغ التأويل إلى باطن الحقيقة المتجاوزة لظاهرها الحرفي. وهكذا، تتحقق معرفة الظاهر في معرفة الباطن.

تعدّ القبالة حكمة فيثاغورثية معدلة وكلدانية مؤولة من وجهة نظر العدد والحرف. لقد سعت القبالة إلى تبرير اعتمادها على العلاقة القائمة بين الحرف والعدد، فعمدت إلى إظهار هذه العلاقة في الحكمة الفيثاغورثية التي أشارت إلى أنّ العالم عدد ونغم. وبالفعل، تشير القبالة إلى توافق العدد مع الحرف بحيث نستطيع أن نعاين المعنى المتضمن في الكلام، وندرك الرمز الذي يشير إلى السرّانية والجوهر الروحي. وهذا ما نجده في حكمة ابن عربي.

تتحدث القبالة عن فيوض أو إبداعات ثلاثية التكوين تصدر بالتدريج من الألوهية وتنتهي في العالم المادي. وفي هذا المنظور، يتمثل الفيض الأخير، وهو الفيض العاشر، في العالم المادي.

أما الفيوض التسعة فهي ثلاثية التكوين تتمثل في تساعية أفلوطين وفيوض فيثاغورث. فالفيض الأول ثلاثي في تكوينه، يتلوه فيض ثانٍ ثلاثي التكوين، وفيض ثالث ثلاثي التكوين ينبثق عنه العالم المادي. والحق هو أنّ نظرية الخلق تتصل بانبثاق الفيض العاشر من الفيض التاسع.

سؤال: هل توجد قرابة أو قرابات أخرى تصل حكمة ابن عربي مع حكمة أخرى؟

جواب: ثمة قرابة أخيرة نجدها قائمة بين حكمة ابن عربي واللاهوت المسيحي الذي تبنّى ثلاثيات الفيض أو الإبداع أو الابنثاق بدءًا بالألوهة وانتهاءً بالعالم المادي. وفي هذه القرابة، نجد الصلة الفكرية الملازمة للفيثاغورية والقبالة والغنوصية الأولى. وتتمثل هذه القرابة في ثلاثيات الفيوض والإبداعات. ولما كنا في معرض الحديث عن الحرف والعدد، فإننا نركز تصورنا على التثليث كمثال حي نعتمده في كتابات ابن عربي. وعلى الرغم من كون ابن عربي حكيمًا إسلاميًا، لكننا نجده يعترف بأن أهل التثليث موحِّدون. وفي هذا السياق، أعود إلى ما ذكره حنا فاخوري في كتابه تاريخ الفلسفة العربية لأقتبس منه ما يلي:

يستمد ابن عربي السبب الميتافيزيائي للتثليث، أي القول بنوع من العلاقة الثلاثية في الوحدة الإلهية، أي التثليث في الأقانيم واستبعاده في الإله، من الحكمة الفيثاغورية ومن حكمة القبالة اللتين تشيران إلى أن العدد ثلاثة هو الأصل في الأعداد الفردية. وهكذا، تعدّ الثلاثية الأولى الصدور أو الانبثاق الأول للفيض أو الإبداع الأول من الألوهة. وعلى الرغم من كونه فيضًا أول من الله، لكنه يعتبر الروح القدس الأول الذي تكوّن على النحو الذي يكون فيه مضمونًا في الله ومستبعدًا عنه في آن واحد، أما العدد "واحد" في نظر ابن عربي، فليس هو وحده بذاته عددًا أولاً يفسّر الكثرة في العالم. فمن "الواحد" لا يصدر إلا "الواحد". لذا، يكون عدد "ثلاثة" أبسط الأعداد في داخل الكثرة. وهذا يعني أنّ العدد "ثلاثة" هو الشكل الأول لكل الوجود، وما من شيء يتشكل إلا منه وفيه.

في الفتوحات كتب ابن عربي ما يلي:

اعلم أن "الواحد" لا يكون عنه شيء البتة، وأن أول الأعداد إنما هو "الاثنان". ولا يكون من الاثنين شيء أصلاً ما لم يكن "ثالث" يزوجهما ويربط بينهما. فالثلاثة أول الأفراد.

وفي الكتاب ذاته أضاف ما يلي:

إن الموجود الأول، وإن كان واحد العين من حيث ذاته، فإن له حكم نسبة إلى ما ظهر من العالم عنه؛ فهو ذات وجودية ونسبة. ولا بد من ربط معقول بين الذات والنسبة حتى تقبل الذات هذه النسبة. فظهرت "الفردية" بمعقولية الرابط، وكانت "الثلاثة" أول الأفراد، ولا رابع في الأصل. "فالثلاثة" أول الأفراد في العدد إلى ما لا يتناهى.

أخيرًا، أود أن أنوه إلى أن دراستي لحكمة ابن عربي وقرابتها بالمصادر الأخرى، التي ذكرتها في هذا البحث الوجيز، تشير إلى أن حكمته لم تكن واحدية بقدر ما كانت محايثة وتأليفية. والحق هو أنّ الفرق بين الواحدية والمحايثة بسيط يتجاوز حدود الملاحظة العادية. ففي المحايثة، توجد الحقيقة السامية في العالم وخارج العالم في آن واحد على نحو دقيق بين الحلول والتعالي. فكما ينعكس ضوء القمر في الماء ليضيء هذا الماء بنوره، كذلك توجد الحقيقة السامية في العالم وخارج العالم في آن واحد. هكذا، تجمع المحايثة بين الحلولية والتسامي أو التعالي في تأليف واحد. لقد تبنى ابن عربي وحدة الوجود القابلة للترجمة إلى محايثة عبر "الواحدية التأليفية" المعبَّر عنها بالفيوضات أو الإبداعات أو الابنثاقات الصادرة عن الألوهة إلى العالم المادي.

سؤال: ما هو دور المعرفة في مبدأ وحدة الوجود الذي تبناه ابن عربي؟ وهل كانت وحدة وجوده التأليفية توفيقًا بين الحلول والتعالي والمحايثة؟

جواب: يؤكد ابن عربي أن التقرب إلى الله والمشاهدة لا ينتجان إلا عن فيض المعرفة. يقول ابن عربي:

من تقرّب إلى ربّه فأحبّه أفاض عليه أنوار المعرفة، وانكشفت له الحقائق فرأى كل شيء بنور المعرفة.

هكذا، يثبت ابن عربي في المعرفة ويرفض التسليم بالحلول.

يقول ابن عربي:

أنت أنت، وهو هو، فإياك أن تقول كما قال العاشق: أنا من أهوى ومن أهوى أنا.

يعد قوله هذا دليلاً على أنه كان محايثًا أكثر منه حلوليًا. وعلى هذا الأساس، نجده ينفي الحلول ووحدة الوجود والاتحاد أحيانًا، وذلك لكي يتجنب لوم لائم.

في هذا الصدد، يذكر الدكتور حنا فاخوري ما يلي:

لكننا، إذا ما تعمقنا في مضامين حكمته لوجدنا نصوصًا أخرى تدل أنه كان يعتقد بوحدة الوجود وحلول روح الله فيه وفق ما تحدث عن "الواحدية التأليفية". فقد قال في شجرة الكون ما يلي: "إني نظرت إلى الكون وتكوينه فرأيت الكون كله شجرة وأصل نورها من حبة "كُن". فقد لقحت حبة "كن" الكونية بلقاح حبة "نحن خلقناكم". وإننا نجد في القشور الظاهرة والستور البارزة ما يعود إلى عالم الملك، وفي قلوبها الباطنية ولباب معانيها الخافية ما يعود إلى الملكوت".

عندما تأملت الحكمة الخفية في شجرة الكون أدركت، كما ذكرت في مؤلف من مؤلفاتي، أن جذور هذه الشجرة عميقة في الأرض وأغصانها ممتدة إلى أعماق الفضاء الكوني ومنتشرة فيه.

عندما تأملت هذه الشجرة الأرضية-الكونية في الإنسان، تمثلتها على النحو التالي: يشير جذع الشجرة إلى العمود الفقري، وتشير أغصانها إلى الأعصاب الممتدة إلى الجسد كله والمنتشرة فيه. وبالمقارنة، أدركت أنّ الأغصان تتمثل الضوء أو النور من الأعلى، أي من الفضاء الكوني الممتلئ بالحياة، وتحصل على الغذاء أو الطاقة التي تمدها بها الأرض على نحو حياة أيضًا.. وهكذا، تتماثل الحياة الكونية مع الحياة الأرضية في وجود يتآلف فيه ما هو كوني مع ما هو أرضي. والحق أنّ هذا التآلف يتفاعل في الإنسان ذاته ليكون كائنًا أرضيًا وكونيًا.

جاء في إحدى رسائل ابن عربي ما يلي:

فلا يقع بصر إلا عليه، ولا يخرج خارج إلا منه، ولا ينتهي قاصد إلا إليه، فيا أولي الألباب: أين الغيبة والحجاب؟

عندما تأملت مفهوم الحجاب أدركت أنه البرقع الممثل في كل ما يحجب عن الإنسان القدرة على معرفة أو معاينة الحقيقة. هذا لأن الحجاب هو كل ما يحول دون تحقيق المعرفة. وقد أدركت أن الجهل، والوهم، والتعصب العقائدي، والاعتقاد بامتلاك الحقيقة المطلقة وحرمان الآخرين من امتلاكها، والأنانية، وضيق الأفق الفكري، والتكبّر، والاستغلال، والظلم، والقسوة، والكراهية، وعدم الاعتراف بالآخر، وعدم القبول..الخ، هي الخيوط التي يُحاك منها نسيج الحجاب. والحق هو أنّ ابن عربي وغيره من أهل العرفان دعوا إلى اختراق الحجاب أو الحجب العديدة التي تعزل الإنسان وتقصيه عن معرفة حقيقته الأرضية والكونية. وتُظهر حكمته أنّ العرفان الممثل في "الواحدية الوجودية" أو "الواحدية التأليفية" والمعبّر عنها في العلم، بالاتصالية الكونية وتوحيد جميع القوانين الفيزيائية في قانون واحد، كفيل بإزالة الحجاب أو الحجب التي تطيح بملكة البصيرة وتبقي العقل تائهًا في ظلمة الجهل.

هكذا، يمكننا أن نقول: كان ابن عربي مؤمنًا بالحلول والتعالي والمحايثة. وبالفعل، كان يحاول التوفيق بينها في حكمته الممثلة في "الواحدية الوجودية" أو "الواحدية التأليفية".

نستنتج أنّ ابن عربي كان، كما يقول د. حنا الفاخوري، مؤمنًا بوحدة الوجود وبحلول روحي. فهو يعتبر جميع ما في الكون حيًا يسبّح الله "بالإيقاع الإلهي والقول الرباني". وفي هذا السياق، أقطف من الفتوحات مقطعًا يدلّ على أنّ جميع ما في الكون حيّ. يقول ابن عربي:

فاعلم أنّ في الخبز والماء، وجميع المطاعم والمشارب والملابس والمواكب والمجالس، والزهر والثمر، أرواحًا لطيفة غريبة، وفيها استجابة مودعة لما يُراد منها هي سرّ حياتها، وفيها تجلّ من حب الله.. وتلك الأرواح أمانة عند تلك الأشياء، محبوسة في تلك الصور...

أخيرًا، أسمح لنفسي أن أتحدث عن المعرفة التي يعتمدها العرفانيون سبيلاً إلى الإيمان.

لا يشير العلم الحاصل عن فيض إلهي أو عن وحي إلهي، وهو كشف للحقيقة المستترة ومعرفتها، إلى تناقض مع العرفان. هذا، لأن المستغرق في غيبوبة التأمل الداخلي والمنقطع عن عالم الحواس، يعجز عن التعبير عن هذا العلم الحاصل عن فيض باللغة والبيان ما لم يكن متميزًا بعقل ممتلئ بالمعرفة. وتكون حالته شبيهة بحالة الطفل الذي يرى مشاهد ويعجز عن إدراكها بعقله، فتبقى صورًا لا تقبل التعبير اللفظي. إذن، فدور العرفان يكمن في "فهم" مضامين سرانية أو روحانية الوحي أو الفيض. وفي الاستغراق الروحي، يكون العقل العارف قابلاً للامتلاء بالوحي. وفي اليقظة، يكون العقل الممتلئ بالمعرفة قابلاً للتعبير والصياغة والشرح. وفي هذا المنظور، نستطيع أن نفهم حقيقة التأويل.

سؤال: أين أمضى ابن عربي فترة حياته الأولى، وعلى يد من تتلمذ، وما هي المذاهب التي تأثر بها في تلك الفترة المبكرة من حياته؟

جواب: يذكر د. حنا فاخوري في كتابه تاريخ الفلسفة العربية ما يلي:

ولد ابن عربي في الأندلس عام 1160م في بيت علم وفضيلة. انتقل إلى إشبيلية في سنّ الثامنة. وتلقّى، خلال عشرين عامًا، علوم الحديث والفقه والكلام. واطلع على المذاهب الفلسفية والعلوم السائدة والمعروفة في عصره. أم تونس والمغرب، واتصل بأشهر علمائها. وكما يعتقد بعضهم فقد اقتفى آثار مدرسة ابن مسرّة القرطبي، الصوفي الأندلسي، وتأثّر بالطريقة الشاذلية وجماعة المتنورين.

من جانبي، يؤسفني أن أقول: لم يسع الباحثون والدارسون لحكمة ابن عربي، بما فيه الكفاية، لمعرفة مضامين المبادئ التي تشتمل عليها تعاليم ابن مسرّة وجماعة المتنورين.

سؤال: ماذا كان موقف ابن عربي من الشريعة وهو الحكيم الذي أخذ بفلسفة التأويل؟

جواب: يصرّح ابن عربي في الباب /373/ من الفتوحات المكية بما يلي:

جميع ما كتبته وأكتبه في هذا الباب إنما هو من إملاء إلهي وإلقاء رباني أو نفث روحاني في روح كياني، وكله بحكم الإرث للأنبياء والتبعية لهم لا بحكم الاستقلال.

في هذا الصدد يقول د. حنا فاخوري:

يشير هذا الاعتراف إلى أنّ ابن عربي ظلّ متمسكًا بالشريعة، لكنه حاول تفسيرها بمضمونها وروحها وباطنها بحسب ما تلقاه من إملاء إلهي وإلقاء رباني. ويشير أيضًا إلى اعترافه بالأنبياء وتفسير حقيقة كيانهم وحقيقة الشريعة بالتأويل.

سؤال: كيف تتصور، وبالتالي تفهم مضمون حقيقة دين الحب الذي تبناه ابن عربي ليعترف بجميع المبادئ والعقائد الأخرى ويقبل بها، ويعبر عن هذا الاعتراف والقبول في الأبيات:

لقد صار قلبي قابلاً كل صورة                  مرعى لغزلان ودير لرهبـان
وبيتٍ لأوثـان وكعبة طـائف                  وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنّى توجّهت                   ركائبه فالحب ديني وإيمـاني

جواب: في هذه الأبيات الثلاثة، يتحدث ابن عربي عن قلبه الذي صار ممتلئًا بكل صورة، أي بجميع الصور التي وجدت لها مكانًا هادئًا ومحبًا ومسالمًا ومعترفًا به في عقله وروحه. ويتمثّل هذا الامتلاء بالصور العديدة التي ألف بينها ووفق تنوعاتها في اتّحاد متكامل ومتوازن ومنسجم في ألوانه، أي في مبادئه وعقائده وآرائه ووجهات نظره. والحق هو أنّ الصورة الموحّدة، وهي تعبير رمزي لتوحيد جميع الصور، تتمثّل في دين الحبّ الذي يتألّق بإيمان حقيقي لا أثر فيه للبغض أو للتمييز أو للتحيّز أو للكراهية أو لضيق الأفق الفكري أو للاعتقاد الزائف بامتلاك الحقيقة المطلقة وحرمان الصور الفكرية، أو الروحية أو العقلية أو المبدئية أو العقائدية الأخرى من معناها وقيمتها وحقيقتها، إن كان الآخرون يأخذون بها أو لا يأخذون بها.

تتألّق الوحدة التأليفية الجامعة لهذه الصور في دين الحبّ والمحبة من:

أ - مرعى لغزلان: أي الطاقة أو الحياة الفاعلة في الطبيعة والكون، وهي الروح المحيية لكل مادة أو كتلة. وقد أطلق أنصار هذا المنظور مصطلح "المبدأ الحيوي" الذي يشير إلى فعالية الحياة في كل شيء.

ب - دير لرهبان: هو الرمز الذي يشير إلى النصرانية والمسيحية، وإلى الاعتراف بهما.

ج - بيت لأوثان: هو الاعتراف بأنّ الوثنية، التي أدينت واتهمت بتعدد الآلهة أو بتقدير وإجلال الفكر الفلسفي، لا تخرج عن نطاق الحقيقة الروحية والإلهية، ولا تقلّ سموًا عن التيارات الروحية الأخرى، إن كانت ديانة أو حكمة أو فلسفة.

د - كعبة طائف: هي الكعبة الداخلية أو المحج الداخلي الذي يطوف حولها كل من يريد أن يبحث عن الحقيقة ليستنير بها تمامًا كما تطوف الفراشة حول الضوء لتعرف مصدره وتتحد معه. تنطبق هذه العملية التأملية والاستغراق في الداخل على كل إنسان مستنير.

هـ - ألواح توراة: رمز يشير إلى الألواح الحقيقية التي اشتملت على المبادئ الروحية التي تمثلتها الصوفية الإسرائيلية السرّانية واستنكرتها أو رفضتها العصبية اليهودية.

و - مصحف قرآن: يشير إلى القرآن الكريم الذي أمدّه بالقدرة والوعي والإيمان لمعرفة الحكمة المضمونة فيه، وإدراك الحكمة المضمونة في الصور العقلية أو الروحية الأخرى.

اعتنق ابن عربي دين الحب أو المحبة بعد أن امتلأ قلبه بجميع الصور، أي بجميع المبادئ الأخرى. وفي هذا الامتلاء، استطاع أن يعاين الحقيقة الواحدة في تنوعات الحقائق، الوجود الواحد في تنوعات المنظورات التي اعتنقت مبدأ الواحدية الوجودية، أو الواحدية التأليفية، ووحدة الألوهة في التأليف الذي يشمل الحلولية والتعالي والمحايثة، والإنسان الواحد في أنواعه، والجمال الواحد في تنوعاته، والضوء الواحد في ألوان تشتته. وفي هذا المنظور، أسقط ابن عربي التعصب وضيق الأفق الفكري، والتفسير الحرفي والتنكر للآخر، وبرهن أنّ جميع المبادئ والعقائد تمثّلت الحقيقة الواحدة في تنوعات التعبير. وهكذا، اعترف ابن عربي بالآخر وقبل به، وآمن بمبدأ التنوع الذي جعلته الحقيقة السامية والوعي الكوني مبدأ طبيعيًا وإنسانيًا وكونيًا.

سؤال: في البيت الذي يقول فيه ابن عربي:

عقد الخلائق في الإله عقائدًا                  وأنا عقدت جميع ما عقدوه

هل ترى ابن عربي جمع العقائد كلها في حزمةٍ واحدة، أو في عقدة واحدة وضمها إلى بعضها على نحو استبعاد للنزاع والصراع والانقسام والتجزئة والكراهية والتعصب، وجعلها تجتمع في وحدة تأليفية ومتضامنة تقضي باعتراف كل عقيدة بعقيدة أخرى. وعلى غير ذلك، هل ترى أنه، بوصفه حكيمًا أو لاهوتيًا يعتمد التأويل، يتجاوز الخلافات المريرة والمؤلمة القائمة بين العقائد، ويتسامى على التفاسير الحرفية المعتمدة من قبل كل عقيدة على حدة، فجمعها في عقدة واحدة وليس في عقد متناحرة، ودعا إلى اعتراف كل عقيدة بالعقائد الأخرى، وقبول ما جاء في تفسيرها أو مضمونها أو طقسها؟ وهل أنّ تجميع العقائد في عقدة واحدة قضية تشير إلى عود تمثيلي لباب إيل، رمز الوحدة في تنوعات التعبير، ودعوة هذه التنوعات إلى إعادة النظر من جديد في تعبيرها أو تفسيرها على نحو سعي لتعديل موقفها من العقائد الأخرى ومن ذاتها؟ وأخيرًا، هل تعتقد أنّ ابن عربي رفض الاعتراف بالعقائد ورفض القبول بها لسبب أصيل هو أنها مجرد عقد أسقطت ديناميكية التأويل الروحي والعقلي، وأخذت بميكانيكية التفسير الحرفي، فسعى إلى عقدها في عقدة واحدة على نحو عدم الاعتراف بتناقضاتها وخلافاتها المزعومة؟

جواب: في مواضع عديدة من مؤلفاتي، تحدثت عن المبدأ والعقيدة، وانتهيت، بعد التعمق الواعي في مضمونها، إلى إحداث تمييز كبير بينهما.

أدركت أنّ العقيدة هي مجرد صياغة حرفية متصلبة للمبدأ. علمت أنّ القائمين على تطبيق المبدأ في النطاق الإنساني عجزوا عن استيعاب وفهم الحكمة المكنونة فيه، والعمق المضمون في روحانيته، فانحرفوا إلى التفسير الحرفي وجعلوا منه منهجًا أو طقسًا أو عقيدة. وهكذا، أسقطوا ديناميكية الروح الفاعلة في صميم الإنسان، وأحلوا محلها ميكانيكية الحرف الساكنة المتصلّبة، والجامدة، والمتعصّبة، والمعبّر عنها بالشريعة. وهكذا، نرى كيف أدّى عجزهم أو جهلهم إلى انحراف المبدأ وتحويله إلى عقيدة.

لما كان أنصار أو أتباع العقيدة يذهبون مذاهب متعددة، فقد انقسمت العقيدة الواحدة إلى عقائد، وتجزّأت حرفية التفسير إلى تفاسير عديدة أدّت، بدورها، إلى خلافات عقائدية. وقد انتهت هذه الخلافات العقائدية إلى الصراع، واندلاع الحروب الدامية، وإلى النزاع الذي لم يجد له القائمون المفوضون على الاجتهاد العقائدي حلاً. وهكذا، ظلّ أولئك المفوضون أسرى حرفية التفسير، وأخضعوا روحانية التأويل وسرّانية العرفان المضمون في حكمة المبدأ لناموس الحرف والعقيدة.

يحتمل أنّ ابن عربي، الذي أسس قواعد حكمته على المبدأ وتجاوز إلى التأويل، قد أدرك ما تنطوي عليه هذه الخلافات النزاعية والتحكمية من مأساة، فعمد إلى تجميع العقائد في عقدة واحدة ليُبطل تناقضها، ويضع حدًّا للصراع القائم بينها على مستوى الظاهر والباطن. لقد جمعها ليضع حدًّا لصراعاتها أو ليدعوها إلى اللقاء في عقدة واحدة لإعادة النظر في خلافاتها، ومعرفة طريق العودة إلى روحانية المبدأ وسموه الداعي إلى التفاهم والمحبة في برج إيل. ويحتمل أيضًا أن يكون قد جمعها في عقدة واحدة لتدرك خطر وحماقة خلافاتها المزعومة والمتخيلة والقائمة في تعقيد معتقداتها. وهكذا، يدعوها إلى الاعتراف ببعضها على الرغم من خلافاتها المصطنعة.

من جانبي، أميل إلى تبنّي حقيقة المبدأ الذي يدعو إلى تأسيس قواعد إنسانية وروحية منفتحة، وتكوين عقل منفتح ومتطور يأخذ بعمق المعنى، ويعتمد الوعي المنعتق من إسقاطات انفعالات التحيّز والتعصب المتراكمة في اللاوعي الجمعي. وبالفعل، نجد أنّ الإنسان الواعي يعتمد، في دراساته وبحوثه، مبادئ العقل ليستنبط الحقائق أو ليستقرئها. ولا غرو، أنّ انحراف مبادئ العقل أو مبادئ الروح إلى عقائد أمر يؤدي إلى طغيان الظلام المعبّر عنه بجهل حقيقة المبادئ. وفي هذه الحالة، تتوقّف فعالية العقل المتسامي إلى فعالية الروح، ويحتجز هذا العقل أو الروح داخل قوقعة مركزية الأنا، الفردية أو التجميعية، ويطغى ظلام الجهل، وتسيطر الأزمات لتبلغ الصراع الدموي أو العنف المدمّر. وهكذا، ينتهي دور المبدأ لتبدأ سيطرة العقيدة المتجزّئة إلى العقائد والمذاهب المتصارعة.

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود