في أسُس الحِوار الإبداعيِّ ومبادئه

 

هفال يوسف

 

بعد انتهاء «الحرب الباردة» المزعوم، وبزوغ فكرة «النظام العالمي الجديد»، بالتزامن مع وصول العولمة إلى أبعاد عالمية فعلية، بَرَزَ الحديث عن «صراع الحضارات» إلى السطح، وخصوصًا بعد عملية 11 أيلول 2001 الإرهابية، وما تلاها من تداعيات سياسية وعسكرية وغيرها.

وفي الوقت الراهن، ومع وصول العنف إلى حدود خطيرة، بحيث بات يهدد السلام العالمي، المفقود أصلاً، – مما ينذر بقتل أمل البشرية في بناء حضارة عالمية إنسانية، بكلِّ ما تحمله هذه الكلمة من معانٍ، – بدأت البشرية تدرك مدى حاجتها إلى تدارُك التصدعات المخيفة قبل فوات الأوان، من أجل التخفيف من النتائج الكارثية المحتملة للتفكك العالمي المترافق مع العولمة الراهنة. وبذلك، فإن ما يُقال عن «تكامل الحضارات» وعن الحاجة إلى تفعيل «الحوار» بين الأديان والقوميات لا يدخل في باب «الترف الثقافي»، وإنما يعبِّر عن وصول الأسرة العالمية إلى تخوم الكارثة، مما يجبر الجميع على تحمل مسؤولياتهم.

ننطلق في افتتاحيتنا هذه، التي تُعنى بأسُس الحوار المفيد البنَّاء ومبادئه، من حقيقة أن الأزمة العالمية الراهنة، بقدر ما هي أزمة جماعية فإنها تشير، بالمقدار ذاته، إلى أزمة فردية تخص الكائن الفرد في العمق، وذلك بحُكْم العلاقة الجدلية للتأثير المتبادل فيما بين العام والخاص (أو الفرد والجماعة)، باعتبار أن معظم المقاربات المطروحة على الساحة الفكرية تركِّز على الجماعي والعام وتهمل الجوانب الفردية والخاصة، البالغة التأثير في رأينا.

من الواضح أن معظم محاولات تحسين الوضع العالمي لا تخفق فحسب، بل تنحو إلى مفاقمته، لأن هذه المحاولات تتجه إلى إصلاح «السطح»، وتتجاهل حقيقة أن هناك حاجة ضرورية لإنجاز ثورة جذرية، قادرة على تحقيق انقلاب حقيقي في العالم، وذلك ببناء الظروف الموضوعية الملائمة للتفتح النفسي والتطور الفكري عند الأفراد – وهي المهمة التي تعجز المؤسَّسات الدولية والحكومات العالمية عن القيام بها، بحُكْم تكوينها البنيوي. ولذلك فهي مهمتنا نحن، إن كنا نتمتع بوعي كافٍ يساعدنا على إدراك حجم مسؤولياتنا الكامنة في بناء توازننا النفسي، وصولاً إلى إعادة التوازن إلى العالم بالتخلص من هذه الفوضى. وهذا هو بيت القصيد. فنحن نتجه إلى إصلاح المجتمع، بدلاً من فهم نشاطاتنا الخاصة واحتوائها: الأفكار، المشاعر، العواطف، الرغبات، الميول، إلخ، التي هي سبب الضيق والشدة وعلة الدمار والخراب.

يمكن لنا، إذا ما تمتعنا برؤية مستنيرة إلى العالم، إدراك حقيقة الاتصالية في الوجود، وحقيقة عدم انفصالنا عن الآخرين والعالم، بما يفسح لنا المجال لإدراك أننا، ككائنات بشرية (بُنى)، نتحدد بموجب العلاقات، وليس العكس. وهذا يعني أن رؤية واعية للعالم إنما تكون بالنظر إلى الأجزاء من منظور الكل، وبذلك نتحرر من التمركز حول الذات egocentricity – فردًا كنا أم جماعة. تفسح لنا هذه الأسُس – الاتصالية، المنظور الكلِّي، أولوية «السيرورة» process على «البنية» structure – الطريقَ من أجل معرفة النفس معرفة أفضل، لأنها السبيل الوحيد إلى معرفة العالم، ولا غنى عنها من أجل إدراك حقيقة طبيعتنا وكينونتنا في هذا العالم.

كذلك، توجد حاجة إلى التمييز بين الفعل والانفعال (ردِّ الفعل)، وذلك للتمييز بين الفعل الواعي وبين السلوك الآلي غير الواعي الذي يُعتبَر مسؤولاً مسؤوليةً مباشرة عن الخراب. الفعل action الواعي مصدره الذات، قوامه الفطنة، وصفته الإخلاص؛ أما رد الفعل reaction، فهو أقرب إلى ارتداد آلي منه إلى الفعل، وبالتالي يمكن اعتبار الحب الانفعالي حتى أبعد ما يكون عن الحب الحقيقي أو المحبة.

باختصار، إن معرفة النفس، والسير بها على درب «التَفَرْدُن» individuation، وإدراك حقيقة الاتصالية الكونية، يحرر الإنسان ويجنِّبه الصراع (الذي تتم الدعوة إلى الحوار من أجل تجنبه)؛ وهو الأمر غير الممكن في ظل التقسيم الثنائي «أنا–آخر»، لأن هذا التقسيم يكمن في أساس الصراع أصلاً، بحيث يمكن القول إن الفرقاء (الخصوم) يعدون العدة للحرب، في الوقت الذي يتوهمون فيه الاستعداد للحوار. فالحوار، باعتباره شكلاً من أشكال التعاون والمشاركة من أجل اكتشاف المجهول (حلِّ معضلة ما مثلاً)، يفترض، مسبقًا، أن يكون الأفراد قد وصلوا إلى وعي «الأرضية المشتركة» التي يقفون عليها، وفق معادلة تبادلية قوامها: «أنا الآخر والآخر أنا».

وفي الحقيقة، إذا توخينا الدقة، يمكن لنا الحديث عن تعذر التواصل على المستوى النفسي لـ«أنية الشخصية» personal ego، التي تتوارى عند الوصول إلى مستوى إدراك وحدة الكل. ولذلك يقول كارل يونغ: «إن اختبار الذات هزيمة للأنا». و«الذات» هنا تعني الجوهر أو «أنية الفردية» individual Ego. وهذا الإدراك أساسي من أجل الحوار، الذي نعرِّف به بوصفه بحثًا في الحقائق وعن الحقائق؛ في حين أن المعنى المتعارف عليه للحوار يشير إلى عملية «نفاق توافُقي» يسعى، في أحسن الأحوال، إلى التقريب بين وجهات النظر من أجل تجاوُز محنة أو تأجيل الصراع المحتوم بموجب هذه الآلية.

«اختبار الذات» يعني الكينونة في الحاضر بشكل كلِّي، مما يعني التحرر من الذاكرات والانحيازات والخلفيات والمسبقات التي تعرقل التواصل وتشكل حاجزًا سميكًا بين الإنسان، باعتباره ذاتًا، والعالم (أو الآخرين). وبالتالي، فإن ما يُدعى «حوارًا» – يستعد فيه كل طرف بكلِّ ترسانته، من «معارف» و«معلومات» و«مقدسات» و«حقوق» – إنما هو شكل من أشكال الصراع التي تهدف إلى تحقيق إرادة السلطان الأنانية، بحيث تُعطى فيه الأولويةُ للانتصار، حتى وإن تمَّت التضحيةُ بالحقائق الموضوعية والعيانية والعلمية في هذا السبيل. وعليه، فإن «حوارًا» من هذا النوع إنما يسعى سعيًا محمومًا إلى تأكيد حقَّانية الأفكار والعقائد، مهما جمحت عن العقل والحق أو اقتربت من الوهم والباطل.

هاهنا سؤال فلسفي ومعرفي عميق، شغل العلماء وما يزال، وهو المتعلق بـ«العقل المحض». ففي الوقت الذي يعتقد فيه بعضهم بإمكانية وصول الإنسان إلى حال من البراءة المطلقة، بحيث يتحرر من الذاكرة أو الماضي أو الانحياز، يؤكد فيه آخرون تعذر ذلك. وعلى الرغم من عدم قدرتنا على الحكم بين الموقفين، نجد أن الحكيم الهندي جِدو كريشنامورتي قد وضعنا على الطريق السليم – في رأيي – من أجل معالجة هذه المعضلة، وذلك بكشفه المتعلق بالفطنة أو النباهة أو الذكاء intelligence، حيث نفهم أن التحرر من «المخزن العتيق» لا يتم بنفيه أو ادِّعاء عدم وجوده، وإنما بالانتباه من أجل القبض على اللحظة التي يحصل فيها طوفان «الأنا» إلى السطح ليزيح الذات؛ فهذا الانتباه هو التعبير الأمثل عن الكينونة في الحاضر.

يساعدنا الانتباه على تجنب كلِّ ما من شأنه أن يشكِّل حجابًا بين الذوات، من جهة، وبينها وبين الموضوعات، من جهة أخرى. فمن دون هذا الانتباه، نخفق في الكلام والاستماع. وليس كل كلام كلام، كما أنه ليس كل استماع استماع: فالكلام هو القول المحمَّل بالمعنى، وما عدا ذلك مجرد لغو؛ وكذلك الاستماع الذي يدلِّل على استيعاء المعاني، في حين أن سماع الصوت مع عدم الانتباه ليس إلا قرعًا على الطبول. والحال نفسها عند قراءة خطاب، مثلاً، حيث تتحول الحروف إلى خطوط ورسوم خالية من المعاني.

قبل الانخراط في الحديث عن عوائق الانتباه، ربما يفيدنا التطرقُ إلى تبيان بعض الفروق بين الوعي النقدي والآلية العقائدية للعملية الفكرية. ولكي لا يُساء الفهم، فنحن لا نتحدث عن «التفكيك النقدي» critical deconstruction الذي أرسى دعائمَه كمدرسة قائمة بذاتها، بقدر ما نود التأكيد على أهمية اكتساب القدرة والشجاعة للتمييز بين ما نعرف حقًّا وبين ما نجهل حقًّا، من جهة، وكذلك للتمييز بين ما هو قابل للإدراك وبين ما هو غير قابل للانضواء ضمن دائرة المُدرَك، أي: المقدس the Sacred، من جهة أخرى.

يعرِّف الفيزيائي الفرنسي بَسَراب نيكولسكو «القدسي» بأنه يشكِّل «نطاق مقاومة مطلق للإدراك»؛ وبالتالي، فكل ما يدخل ضمن مجال الفكر واللغة، بحكم العلاقة الوثيقة بين هذين المكوِّنين، يَتَمَوْضَع، بالتعريف، خارج نطاق المقدس. ولعلنا نجد لدى المتصوفة ما يقابل ذلك، حيث يقول لاو تسُه: «المتكلم لا يعرف، العارف لا يتكلم». ويقول سهل التُسْتَري: «إن للألوهية سرًّا، إنْ ظهر، بطلتْ الألوهية». ويقابل ذلك في التصوف المسيحي قول السيد إكْهَرت: «إن أيَّ حديث عن الله يعادل إنكار الله».

وفقًا لهذا التعريف بالمقدس، تفقد معظم «مقدساتنا» قدسيَّتها المزعومة، مما يضعها تحت مجهر النقد، ويجعلها قابلة للدحض والتقويض، وفق رمزية تحطيم الأصنام الإبراهيمية أو المحمدية، بما في ذلك الأفكار التي «نعتقد» بصدقها والتي قد لا تعدو كونَها مجرد ظنون أو أوهام.

أما العقيدة فتقوم على منظومة متماسكة، ولكنها هشَّة في حقيقتها، بحُكْم حقيقة التطور وانفتاح المعرفة على الممكن اللامتناهي، مما يمكن له أن يقوِّض دعائم أية منظومة عقائدية، مهما بلغت من الغنى والتنوع، بحُكْم انغلاقها. تؤكد نظرية كورت غودل في الحساب على أن مصير أية منظومة مغلقة هو التناقض أو عدم التعيين؛ ولذلك يبرز السؤال حول الأسباب التي تسمح لمنظومة عقائدية ما بالاستمرار في الوجود والهيمنة، على الرغم من سكونيَّتها، المميتة لها بحُكْم الواقع.

يتعلق الأمر بما سبق الحديث عنه، أي بـالكينونة في الحاضر والانتباه أو الاستنارة، التي يعرِّف بها الشاعر الياباني الحكيم جوشو بأنها «الفكر اليومي»، لنصل في حديثنا إلى الحُجُب التي تعيق الانتباه.

في المرتبة الأولى، تأتي العطالة، كأحد سمات الآلة، حيث ينحو كل شيء في الوجود إلى تبدُّد الطاقة والاستقرار، فيما يُعرَف في الترموديناميكا المعاصرة بالإنتروپيا entropy. ولا يخرج الفكر الآلي عن هذه المعادلة؛ ولذلك يميل الفكر العقائدي إلى رفض أيِّ معطى جديد من شأنه أن يهدد استقراره، فيحاربه بكلِّ ما أوتي من قوة، الأمر الذي يؤدي به إلى الجمود العقائدي أو الموت، ليغدو عائقًا أمام التطور.

العقائدية شكل من أشكال العبودية؛ وربما أمكن لنا اعتبارها أصل العبودية. ولذلك تصل بالمرء من الخضوع للعقيدة إلى الخضوع للأفراد، بحُكْم آلية عملها. فيما الوعي، بتعريفه على أنه الكينونة في الحاضر، يحرِّر الإنسان في الوقت الذي يكون فيه (أي الإنسان) مستعدًّا للتضحية بطمأنينته الوهمية في سبيل الارتقاء بنفسه. ولذلك يرى كريشنامورتي أن «الحقيقة تكمن في حيوية عدم الأمان».

تؤدي العطالة، كذلك، إلى الانحراف غير المُدرَك، بسبب ما يُطلِق عليه غ.إ. غورجييف «قانون السبعة»، الذي لا مكان لشرحه في هذا المقال؛ لذا نكتفي بالقول إن هذا القانون يحاول تفسير آلية الانحراف الفكري، التي تسمح للمرء بادِّعاء ثبات الأصول، في تناقُض واضح مع التطور كمبدأ وجودي، دون أن يُشعِرُه ذلك بالقلق، حيث يتم الانحراف في أثناء «النوام الذهني» (إن صحَّ التعبير) بين فترات اليقظة. ولكن، بسبب عدم إدراك الإنسان كونَه كان نائمًا، فإنه غير قادر على الانتباه إلى حدوث الانحراف. ويصح هذا التفسير على الفرد والجماعة، في فترات زمنية قصيرة أو طويلة، في الآن نفسه؛ وإن عدم الإدراك هذا يكمن في جذر أصولية العقيدة.

الآن، وبعد هذه المقدمة الطويلة نسبيًّا، يمكن تعريف «الحوار الإبداعي» بأنه فعل معرفي واعٍ، يهدف إلى الانعتاق من إسار المعلوم، من أجل اكتشاف المجهول، عبر طرح الأسئلة الصحيحة. و«السؤال الصحيح» هو السؤال الذي ليست لدينا إجابة مسبقة بخصوصه؛ فهو، بالتالي، يحتاج إلى جواب يمكن له أن يساعد على مقاربة موضوع البحث أو النقاش مقاربة أفضل، مع الإقرار باستحالة المعرفة المطلقة، ضمن المستويات المعروفة للإدراك.

من جانب آخر، نعرِّف بـ«سيرورة الفكر» بوصفها مجموع العمليات اللامتناهية التي يمكن للدماغ البشري إنجازها من أجل تبديل تركيب الوحدات المعلوماتية المختزنة في الذاكرة المكتسَبة عبر خبرات الوجود، التي لا تقتصر على الفترة القصيرة التي نعيشها، كما اكتشف مهندس المنظومات المجري إرفِن لاشلو منذ فترة بعيدة نسبيًّا، وإنما هي موغلة جدًّا في القِدَم.

الفكر، إذن، مجالُه هو المعلوم، ولا يمكن له، بحال من الأحوال، أن يتحرر من سجن المعلومات المختزنة في الذاكرة، واللغة أداتُه. وهنا، ربما يكون ممتعًا اكتشافُ العلاقة الوثيقة بين الفكر واللغة، من جهة، واللاعلاقة بينهما، وبين التعرف أو الاكتشاف، من جهة أخرى، من أجل تهذيب لغتنا قبل التورط في موضوعنا الأساس. الفكر، إذن، غير قادر على الاكتشاف، لأن مجاله يكمن في المعلوم، في حين أن الاكتشاف يتَّجه نحو المجهول. وعلى الرغم من ذلك، علينا التحلِّي بقدر كافٍ من التواضع لكي نعترف بأن الفكرة التي لا نستطيع التعبير عنها لغويًّا هي فكرة غير واضحة في نظرنا، حتى على المستويين الفكري والنفسي، لأن ذلك يتيح لنا المجال للتمييز بين ما «نعرف» حقًّا وما نجهل. فهذا هو المفتاح الأول لولوج عوالم المجهول اللامتناهية.

في الكلام (وليس في الحوار وحسب) نحتاج إلى الدقة الكاملة في استخدام الكلمات، والتوافق على دلالاتها، مع الأخذ بعين الاعتبار أن المترادفات اللغوية هي أقرب إلى النظائر الكيميائية منها إلى المتطابقات الرياضية؛ وإلا فسوف نتوهم أننا نفهم ما يُقال، في حين أننا أبعد ما نكون عن مقاصد المتكلِّم – وهو أمر مقبول في الفنون والآداب، لكنه يصير مشكلة عندما نصطدم بقواعد الصرامة العلمية.

الحوار ليس تبادل معلومات أو قناعات أو آراء، سواء بهدف التعليم أو الإقناع أو لأيِّ سبب آخر، لأن هذه العملية لا تتجاوز حدود المعلوم، بل هي شكل من أشكال السلطة والهيمنة، كما لاحظ الكثير من الباحثين في مجال اللغويات واللسانيات؛ بالإضافة إلى أنها لا تفيد في نقل المعرفة، ببساطة، نظرًا لتعذر نقل المعرفة بالمعنى العميق للمعرفة الذي يقول: «معرفة الشيء عينُ وجوده»، بحسب عبارة السهروردي القتيل.

يهدف الحوار إلى «الاقتراب من الحقائق». فمجاله لا يتعلق بوجهات النظر، التي لا تخرج عن كونها ظنونًا، «لا تغني عن الحقِّ شيئًا»، كما تقول الآية الكريمة. ولعلنا نلاحظ مدى صعوبة الدخول في حديث من هذا النوع، وذلك بملاحظة الغموض والتناقض في عبارة «الاقتراب من الحقائق»، حيث أوضح كريشنامورتي في براعة مدى نفاق هذه العبارة. فالعالم في تغير دائم، ولا يمكن الإمساك به، ووحده الشيء الميت يكون ثابتًا، وبالتالي يمكن الوصول إليه. فكل الحقائق المزعومة ما هي إلا صور براقة لهياكل ميتة، يسمونها «حقيقة»، في حين أنها لا تخرج عن كونها نُسَخًا وهمية مزوَّرة.

من هنا فإن الحوار المبدع يقوم على أساس طرح الأسئلة الصحيحة حول موضوع مجهول، أو جوانب مجهولة من موضوع معلوم؛ ويتم التعاون بين المتحاورين من أجل الوصول إلى هذه الأسئلة الصحيحة، بهدف دحض الأوهام، وذلك لأننا أقدر على معرفة «اللاحقيقة» من «الحقيقة»، وصولاً إلى اللحظة التي نقر فيها بجهلنا، لتتوقف الثرثرة الداخلية – مع إدراك مدى صعوبة إيقاف هذه الثرثرة: فما على المشكك إلا أن يحاول إيقاف سَيْلَ الصور والأفكار في ذهنه ليكتشف ذلك بنفسه.

عندما تتوقف فيوض الأفكار والمشاعر والعواطف والرغبات، ندخل في حالة مختلفة، لم نكن نعرفها من قبل، حيث يبدأ مستوى آخر من الوعي بالعمل، في محيط الصمت المبارك هذا. وهو ما تم التعارف عليه بـ«التأمل» meditation، الذي يحتاج من المبتدئ إلى تجنب الكثير من الفخاخ النفسية والفكرية لولوج محرابه. ولذلك ابتدعت بعض مدارس الحكمة أساليب متنوعة لإيصال طلاب المعرفة إلى تلك التخوم، منها: الصلاة، اليوغا، مع تنوع كبير في التمارين، كالتنفس الإيقاعي والـمَنْترا الصوتية (الذِّكْر والأوراد) وتمارين الـكوان في مدرسة زِنْ البوذية، وغير ذلك مما لا يمكن لنا حصرُه في هذه المقالة. وفي لحظة الغيبوبة التأملية هذه، نحصل على إجابات على الأسئلة التي تم اكتشافُها في أثناء خوض غمار الحوار المبدع.

لا يمكن الدخول في حوار مع البشر والأشياء والعالم قبل إزالة الحُجُب التي تعيق التواصل (أو الوصال بالأحرى) وتحول دونه. فمن العبث أن يحاول أحدنا «التواصل» مع مَن يتقوقع في «جزيرة منفصلة عن محيطها»، كما عبَّر كريشنامورتي يومًا، أو في «سجنٍ بديع التزيين»، بتعبيره أيضًا. وهنا يكون من الحكمة ترك السجين في سجنه الاختياري، بدلاً من التنطع لتحريره من أوهامه، لأننا بذلك لا نفعل شيئًا سوى نقله من معتقل إلى آخر أو الاصطدام معه في صراعٍ غير مُجْدٍ. إذ يمكن للإنسان أن يتحرر بنفسه، ولكن لا يمكن له تحرير الآخرين. وهذه النقطة، لو أدركها أهلُ السياسة و«التنوير»، لوفروا على أنفسهم الكثير من الجهد العبثي، ولكانوا، ربما، قدموا لأنفسهم الكثير كذلك.

يقول نيتشه: «خذوا من الفقراء ولا تعطوهم». و«الفقراء» هنا هم الذين يفتقرون إلى الحكمة، باعتبارهم «أثرياء» أوهام. ووصية نيتشه تعني أن على مَن يعتقد في نفسه الحكمة والوعي ألا يثقل على كاهل «الجهلة» بما وُهِبَ، بل أن يخفف عنهم، من خلال زرع الشك في نفوسهم، ليخلصهم من أوهامهم؛ وعندئذٍ تنجلي شمسُ الحقيقة من تلقاء ذاتها. فالحقيقة بريئة وعذراء، ولا تُدرَك إلا بالانتقال من براءة إلى براءة، عبر الانتباه إلى ديمومة التغير بين آنة وأخرى. والانتباه يعني، هنا، الكينونة في الحاضر، كما سبق ذكره، وليس آلية فكرية من آليات عمل الدماغ، كالتركيز مثلاً؛ بل هي أبعد ما تكون عن مفهوم الآلة، التي تعيد إنتاج ما سبق إنتاجه.

الكينونة في الحاضر مفتاح أساسي من أجل الدخول في حوار مبدع، سواء في حالة التكلم أو الاستماع. ولعلنا ندرك، من خلال تجربتنا، أننا نشرد معظم الوقت لننصت إلى ثرثرتنا الداخلية، ونعلم أننا، في هذه الحالة، نكاد لا نسمع صوت المتكلم، لأننا نكون قد انتقلنا إلى القبو أو المستودع الذي نحتفظ فيه بـ«كنوزنا» القديمة، الميتة بطبيعة الحال.

يقول كريشنامورتي: «المستمع اليقظ هو مشارك فعال في الحوار». والكلمة المطلوبة هنا هي «اليقظ»: فنحن ندرك، كذلك، أننا نذهل عما يحيط بنا طوال الوقت، مما يمكن تشبيهه بانطفاء المصباح في قبو مظلم، الذي يختلف جذريًّا عما أسميناه «الغيبوبة الذهنية»، التي تعني الانتباه الكامل الذي لا يخالطه شرود أو ذهول أو ثرثرة. ويكمن الفرق في الغاية: فعندما يكون هدفنا هو البحث والاكتشاف والفهم، نكون في ذروة انتباهنا؛ ولكن عندما تكون الغاية من الحديث إقناع «الخصم» أو إفحامه، فإننا نكون في معركة. وبالتالي، فإن المُحاوِر شريك، والمُساجِل خصم أو عدو – وشتان بين الشريك المتعاون والخصم المناكف.

الملاحظة الثانية تتعلق بـالتركيز. ففي حالة الحوار المبدع يكون الانتباه كليًّا، وخصوصًا إلى الذات؛ أما في حالة التسلط، فيكون التركيز موجهًا إلى الشخص الذي ننوي إخضاعه أو مقاومة إخضاعه لنا، من أجل اكتشاف نقاط الضعف في شخصيته أو أفكاره. وغالبًا ما ننسى أنفسنا إلى درجة أننا نستمر في الكلام، حتى عندما يتوقف الآخر عن الاستماع إلينا؛ وإذ ذاك لا نهتم كثيرًا بما نقول، حيث يمكن لنا قول ما نشاء، وخصوصًا إذا كان واحدنا يتمتع بمخزون لغوي وفكري كبير، فيرمي بكلِّ محتويات «متحفه الأثري» في وجوه الآخرين، مثل «أولئك الذين تنقذف الكلمات من أفواههم كالقيء»، بتعبير الحكيم الصيني لاو تسه، دون الاكتراث بالآخرين، مفرطًا في الأنانية والغرور والكذب – وهي من صفات الجاهل الممتاز.

الملاحظة الثالثة تتعلق بـالصدق مع الذات ومع الآخر. وهذا يتطلب الوصول إلى مستوى راقٍ من السلوك، بحيث نتجنب الكذب على الآخرين – على الرغم من الصعوبات التي تكتنف هذا الأمر، لأننا غالبًا ما نخفق في التمييز بين الصدق والكذب فيما يخص علاقتنا مع أنفسنا؛ إذ إن «الأنا» هي التي تقرِّر مدى صدق «الأنا» أو كذبها، في معادلة غير سوية. ولذلك كان نيتشه يبحث في إمكانية وجود «عقل للعقل» لمحاكمته، ولكنه لم يذهب في ذلك بعيدًا؛ في حين أن الحكمة الشرقية القديمة استطاعت وضع الكثير من المعايير القياسية والتمارين النفسية من أجل الوصول إلى ما يسمى بـ«العقل الكلِّي» أو «الفطنة السامية» أو غير ذلك من المسمَّيات. (نفضل هنا أن نستخدم عبارة «مستويات للإدراك»، بدلاً من الحديث عن «أنواع للعقول»، من أجل دقة العبارة، مع التأكيد على أن المضمون واحد.)

في الختام، لا بدَّ من القول إن الحديث يجري في إطار من النسبية المعرفية، حيث لا يجوز ادِّعاء المطلقية بأية حال من الأحوال. ولكن يمكن لنا فهم الأمر إذا أخذنا الكلِّية بعين الاعتبار، بحيث يمكن القول إن ارتقاء سوية الحوار يتعلق بمدى رقيِّ المرء في وعيه وسلوكه وشخصيته وفكره ولغته – وأكاد أقول: و«روحه». وبالتالي، فلا غنى للإنسان عن تثقيف ذاته والعمل على نفسه من أجل استيعاء ما قيل، لأن الحقائق المتعلقة بالنفس لا تُدرَك بالفكر، بل تُعاش. ولذلك يمكن التكهن بعجز الفكرة وقصور العبارة، مما يقتضي منِّي الاعتذار سلفًا عن الأخطاء الإجبارية التي تحدث – حُكْمًا – عندما نتحدث عن الوجود المتحرك والحي بلغة ساكنة وميتة – لتبقى «الوردة» لغزًا أبديًّا.

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود