كَفَرْنا بالقيم الزائفة!

سليم الحص

 

أيُّها الرئيس الفريد لأعظم دولة في العالم!

أنت مجرم سفَّاح! أنت رمز الإرهاب في العصر الحديث!

إنك تزعم أنك تخوض حربًا على الإرهاب في العالم، – باسم الحرية والديموقراطية والعدالة وحقوق الإنسان، – وأنت في واقع الأمر تمارس الإرهابَ في أبشع صوره، وتهتك أبسط مفاهيم القيم الحضارية والإنسانية. ونحن في لبنان، في هذا البلد الوادع الصغير، نشهد على أن حُكمَك هو حُكم الرياء والنفاق وازدواج المعايير وكيل العدالة الدولية بمكيالين.

أليس الإرهاب هو استخدام العنف المتمادي في خدمة مآرب سياسية؟ فماذا يُسمَّى قتلُ الأطفال والنساء والشيوخ في بلدي لبنان، تحت سمعك وبصرك، لا بل بأوامر منك، وبأسلحة فتَّاكة أنت تقدِّمها، بسخاء ما بعده سخاء، لدولة العدوان العشوائي: إسرائيل؟!

وماذا يعني موقفُ بلدك العظيم، إذ أنت تمانع في وقف إطلاق النار على بلدي الصغير، غير عابئ بمن يُقتَل من بني البشر وبما يدمَّر من مرافق ومنشآت وما يُقوَّض من مبانٍ سكنية على رؤوس قاطنيها من بني الإنسان، وما يتسبب ذلك كله من تهجير ونزوح بين جماهير من الأبرياء الآمنين العزَّل، فإذا بهم يبحثون عن مأوى بين الخرائب والركام أو في العراء؟!

ماذا عسى هؤلاء أن يفكروا عندما يسمعون، في غمرة ما يلفُّهم من عذاب وشقاء، وزيرةَ خارجيتك تقول إن الأوان لم يحنْ لوقف الحمم التي تنهال فوق رؤوسهم، ويسمعون مندوبَك الدائم في الأمم المتحدة يحكم بعدم جواز المساواة، أخلاقيًّا، بين ضحايا القصف الإسرائيلي من اللبنانيين وضحايا القصف اللبناني من الإسرائيليين؟! – كأن الإسرائيليين من البشر، أما اللبنانيون فمن البعوض!

لعلَّنا، نحن اللبنانيين، لا نستحق منكم أفضل من ذلك! فهذا أحد "كبارنا" يستقبل وزيرتكم بالعناق والقُبَل، وفريق من سياسيينا يبادر إلى تكريم مندوبكم ويمنحه "درع الأرز"، وفريق يتحلَّق حول مأدبة عامرة لملاقاة وزيرتكم، ومسؤولون يتقاطرون على عاصمتكم، فلا يطيب لهم مقامٌ إنْ لم يتبرَّكوا بلقياكم، ولا يكتمل عزُّهم إلا بالمثول إلى جانبكم في صورة تُنقَل عِبْرَ الأثير، والسعيد فيهم هو مَن يحظى بتربيت من يدكم على كتفه! لعلك لا تسمع ممَّن تلتقي بهم إلا المديح والتبجيل والإشادة وخَطْبَ الودِّ والرضا من أقوى رجل في العالم!

اتهمني أحدُ أتباعك، عندما سمعني أُندِّد بسياساتك وممارساتك على الصعيد الدولي، بأنني من المعادين للأمريكان، فأجبتُ بالقول: إنني أنتقد رئيس أمريكا، ولا أكنُّ لأمريكا سوى المودة والاحترام والإعجاب. فأنا من تلاميذ الثقافة الأمريكية: كان تحصيلي العلمي كلُّه في الجامعة الأمريكية في بيروت، ثم في الولايات المتحدة الأمريكية؛ وقد مارستُ التدريس لسنوات في الجامعة الأمريكية، وتلقنتُ الثقافةَ الأمريكية التي تقوم على الحرية والديموقراطية.

فهل أكون "معاديًا للأمريكان" إذا مارستُ حريةَ الرأي بضمير حيٍّ من واقع ما يعاني شعبي وما يواجه بلدي؟! ثم كيف أكون "معاديًا للأمريكان" إذا كان رأيي فيك مماثلاً لرأي غالبية الشعب الأمريكي؟! فهذه استطلاعات الرأي، التي تجريها مؤسساتٌ أمريكية، تُظهِر أن أكثر من ثلثي الرأي العام في بلادك غير راضين عن أدائك في الحكم، خصوصًا في السياسة الخارجية.

مع ذلك، فإنني أشعر بخطورة الحالة التي بلغتُها، وبلغها كثيرون من أبناء قومي، في النظرة إليكم. فلقد كفرنا بالقيم الحضارية والإنسانية الزائفة التي تنادون بها. إنكم تبشِّرون بالحرية والديموقراطية والعدالة وسائر حقوق الإنسان – فإذا بها جميعًا شعارات جوفاء، أشبه بألفاظ فقدت معانيها.

تتزعمون المجتمع الدولي، وتتحكمون بقرارات الشرعية الدولية المتمثِّلة في الأمم المتحدة. فأين العدالة في إصراركم على تنفيذ قرار معيَّن لمجلس الأمن، هو القرار 1559، وإهمالكم قرارات أخرى عمرها عشرات السنين؟! لماذا تتمسكون بقرار يصبُّ في مصلحة إسرائيل وتتجاهلون قرارات تهمُّ بلدي، من مثل القرار 194، الصادر عن الجمعية العمومية للأمم المتحدة، يحفظ للاجئين الفلسطينيين حقَّ العودة إلى ديارهم التي اقتُلعوا منها عنوة؛ وقد أكَّدتْ الجمعيةُ العمومية على هذا القرار تكرارًا، بإعادة التصويت عليه سنويًّا عبر سنوات متتالية؛ وكذلك القرار 242 الصادر عن مجلس الأمن الذي يحرِّر الأراضي المحتلة بنتيجة حرب العام 1967، بما فيها مزارع شبعا في لبنان. إن انتقائيتكم في التعاطي مع القرارات الدولية لا تمتُّ إلى العدالة بصلة؛ إنها العسف بعينه!

ثم إنكم تُمْلون على الشعوب الأصغر والأضعف مصائرها. فأين أنتم من الحرية والديموقراطية؟! ماذا تفعلون بالشعب الفلسطيني، وأنتم الشاهد الأكبر على الحال المأساوية التي يعيش منذ أكثر من نصف قرن، مشردًا من دياره، يبحث عن وطن، يتطلَّع إلى بقية من العيش الكريم؟! وماذا فعلتم بالشعب العراقي؟! ما كان هذا الشعب يعرف التمايز المذهبي؛ فإذا به في مهبِّ فتنة مذهبية عاتية بعد احتلالكم أرضه بذرائع أنتم اعترفتُم ببطلانها بعد ارتكابكم جريمة الاغتصاب للأرض والإرادة. وماذا فعلتم في أفغانستان وأنتم اليوم غارقون في رمالها المتحركة؟!

وماذا تفعلون اليوم ببلدي لبنان؟! أطلقتم ربيبكم، الوحش الإسرائيلي، ضدَّه، فعاث في شعبه قتلاً وتشريدًا وتنكيلاً، وفي بنيته تدميرًا وتخريبًا. والأدهى أننا لا نفقه السبب! قيل بدايةً إنها حرب الرهائن: نشبتْ إذ أمسك لبنان بأسيرين من الجند الإسرائيليين من أجل مبادلتهم بأسرى لبنانيين في السجون الإسرائيلية. لقد كنَّا سنتفهم ردة الفعل الإسرائيلية الجامحة لو أن إسرائيل يلتزم مبدأ عدم التبادل في الأسرى. ولكن الواقع أنه سبق أنْ بادل، غير مرة، أسرى بأسرى وجثثًا بأسرى، ومع لبنان بالذات. فكيف تكون المبادلةُ جائزةً أحيانًا، وتكون من المحرَّمات أحيانًا أخرى؟!

وسرعان ما ظهر أن الحرب ليست حرب رهائن، بل حرب القرار 1559؛ إذ أخذ مجرمو الحرب الإسرائيليون يصرِّحون أن حربهم على لبنان لن تتوقف قبل تنفيذ ذلك القرار. ثم لم تلبث الصورةُ أن تبدلتْ بعد أيام؛ إذ أخذ ممثلوكم يردِّدون أن الحرب هي فاتحة عهد جديد يسمَّى "الشرق الأوسط الجديد" (وكان يسمَّى "الكبير"!). ولكن الخطير في الموضوع هو أن المشروع، سواء يرمي إلى إقامة شرق أوسط، أكان "كبيرًا" أم "جديدًا"، مازال غامضًا، مجهول المضمون والمعالم والمرامي لدى الشعوب المعنيَّة به. فأين هي الحرية والديموقراطية في إملاء مصير معيَّن على شعوب المنطقة من دون الوقوف على رأيها في ما يدبَّر لها ويُرسَم؟!

ومفهومكم للـ"ديموقراطية" في تعاملكم مع منطقتنا يشارف حدود الفضيحة! بدا لنا في مرحلة من المراحل أن الديموقراطية في مفهومكم لا تعدو كونها عمليةَ نَصْبِ صندوقة اقتراع – مع العلم أن الديموقراطية هي أبعد كثيرًا من ذلك: إنها نظام وثقافة. زعمتم أنكم أدخلتم الديموقراطية إلى العراق وفلسطين بمجرد تنظيم عملية انتخاب – فإذا بكم غير راضين عن نتائج الاقتراع في العراق، التي جاءت، إلى حدٍّ بعيد، لمصلحة التيار الإيراني؛ وطار صوابُكم عندما جاءت النتائجُ في فلسطين في غير مصلحة الغاصب الإسرائيلي، ولو أن العملية كانت، بشهادة الجميع، عادلة وسليمة ديموقراطيًّا، فلم تتورعوا في محاربتكم للسلطة المنتخَبة عن محاصرة فلسطين وتجويع شعبها ومحاولة إثارة الفتن بين فئاته.

والحديث عن سياساتكم وممارساتكم الجائرة، لا بل الفاجرة، في منطقتنا يطول. إننا نجد بعض العزاء في أن الشعب الأمريكي، بحسب ما تُظهِر استطلاعاتُ الرأي، غير راضٍ في غالبيته العظمى عن أدائكم. ولكن هذا الواقع يطرح في نفوسنا تساؤلاً مشروعًا: كيف يكون النظام "ديموقراطيًّا" إذا كان الشعب غير راضٍ عن رئيسه، ويبقى الرئيسُ، مع ذلك، متربِّعًا على عرشه؟! أليست الديموقراطية "حكم الشعب نفسه بنفسه"؟

هذا غيض من فيضِ ما نعاني من ممارساتكم وسياساتكم، نحن اللبنانيين ونحن العرب. فهل تستغربون إن قلنا: كفرنا بالقيم التي تسمُّونها "حضارية" و"إنسانية"، وما هي في واقع الحال سوى شعارات زائفة وألفاظ جوفاء!

نحن غير راضين عن واقعنا، ونطمح إلى المزيد من الحرية والديموقراطية والعدالة وسائر حقوق الإنسان في مجتمعاتنا. مع ذلك، أمام عسفكم وريائكم وازدواج المعايير في توجُّهاتكم، فإننا نجيز لأنفسنا القول: لكم قيمكم ولنا قيمنا، لكم عربداتكم ولنا ثوابتنا!

ونحن في ذلك لا نقصد أمريكا شعبًا، وإنما نقصد أمريكا إدارة. وبوجود هذا البون بين الشعب والإدارة، ترتسم علامةُ استفهام حول الديموقراطية. هل حكمُ الديموقراطية يسري على السياسة الداخلية ولا يسري على السياسة الخارجية؟! أين المساءلة والمحاسبة على ما ترتكب إدارتُكم في حقِّ شعبنا وأمتنا؟!

*** *** ***

عن السفير، 31/07/2006

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود