أهل بيت الموت!

 

ياسين الحاج صالح

 

منذ قيام إسرائيل، انبَنَتْ فاعليتُه الردعيةُ على إقحام المدنيين في الحروب المتواصلة التي خاضَها ضد العرب. ولدى الإسرائيليين مذهبٌ كامل حول هذا الشأن: ينبغي أن يكون إسرائيل مجنونًا أو غير مسؤول في مواجهة أعدائه كي يكسر عينهم، فلا يتجاسروا على مواجهته؛ وعليه التصرف مثل "أزعر الحارة" الذي يخشاه الجميع. صاغ موشي دايان مبدأ "الزعرنة" هذا كما يلي: "يجب أن يكون إسرائيل مثل كلب مسعور، أخطر من أن يضايقه أحد"!

التطبيق الأمثل لهذا المذهب هو إدماج المدنيين والبُنى التحتية المدنية إدماجًا ثابتًا ومستقرًّا في أيِّ عمل عسكري. فلم يخضْ إسرائيل قط حربًا عسكرية محض، وخصوصًا حين يواجَه بمقاومة حقيقية، كما هو الشأن في حروبه اللبنانية والفلسطينية. سيكون من المبتذل القول إنه دولة "إرهابية". إن تجربته المكوَّنة في العام 1948 هي تجربة مذابح وإجلاء وتطهير عرقي. وهذا شيء يتخطَّى الإرهاب المبتذل، أي استهداف المدنيين للحصول على نتائج سياسية، إلى الإبادة والاقتلاع الجذري الشبيه بالهولوكوست النازي. الإرهاب الإسرائيلي تكويني، وليس محض ممارسة شاذة من الصنف الذي تمارسه دولُ العالم جميعًا.

ولهذا الإرهاب "التكويني" تجلِّياتٌ دموية: مذبحة دير ياسين (1948)، التي حصدت حياة 254 فلسطينيًّا؛ مذبحة قبية (1953)، وقد راح ضحيتها 66 فلسطينيًّا؛ مذبحة كفر قاسم (1956)، ولم يقتل الإسرائيليون فيها إلا 47 فلسطينيًّا – هذا فضلاً عن مذبحة أبو زعبل (1970) التي قُتِلَ فيها 70 عاملاً مصريًّا؛ وبعدها بقليل مذبحة مدرسة بحر البقر الابتدائية التي قطفت أرواح 46 طفلاً مصريًّا، وصولاً إلى قانا الأولى قبل عشر سنوات بـ106 من اللبنانيين، وقانا الثانية التي مازالت دماءُ أكثر من 60 من أهلها خضراء. فضلاً عن تعهُّد تنفيذ "المذبحة العَلَم": صبرا وشاتيلا. أما في فلسطين، منذ مطلع الانتفاضة الثانية، فصناعة الموت تكاد أن تكون جزءًا من روتين الحياة اليومية تحت الاحتلال.

ونتكلم على "تجليات دموية"، لا على تاريخ دموي، لأنه ليس للإرهاب التكويني تاريخ ولا أسباب؛ له ذرائع فحسب. ولا بدَّ لنا هنا من إقرار مبدئيٍّ باختلاف تاريخ اليهود المبدئي عن تاريخ الدولة اليهودية. يمكن لنا أن نتعاطف مع الأول، فنجد فيه سندًا للكفاح من أجل الحرية والمساواة والعدالة، بينما لا يفعل التاريخُ الآخر – تاريخ الدولة اليهودية – إلا تشويهه والتلاعب به. إن إسرائيل حليفٌ للموت، بينما التاريخ اليهودي الذي ينتحله، مثل غيره، وربما أكثر من غيره، كفاح من أجل الحياة.

كان تاريخ دولة إسرائيل مسطورًا بالدم – دم العرب، الفلسطينيين واللبنانيين اليوم، والمصريين والسوريين والأردنيين في عهد يتقادم، ولكن دم اليهود أيضًا. بديع ونفَّاذ ما نُسِبَ إلى ميشيل بوتيل، الشاعر الفرنسي، في السفير قبل أيام:

إن أسوأ ما كان يمكن له أن يحصل لليهود بعد الهولوكوست هو إنشاء دولة إسرائيل. فقد أفسدت هذه الدولةُ فكرَ الهولوكوست ووقفةَ الصمت اللانهائية التي كان يجب أن تنتج عنه. وتاريخ الحضارة الغربية والعالم تحمَّلا عواقب وخيمة لهذا الإنشاء، كما لو أن مجرمين تسلَّطوا على المقابر وشرعوا في ابتزاز الزائرين.

لا تحرم المذبحةُ الإسرائيلية الجديدة لبنانيين من الحياة فقط، ولكنها تحرمهم من الحق في موت فرديٍّ حميم، من كفن خاص، من قبر شخصي، ومن شاهدة قبر هي بمثابة بطاقة هوية شخصية للميت. إنها تستهدفهم في هويتهم العامة، اللبنانية، بقدر ما تنكر على كلٍّ منهم ذاتيةً تخصُّه. وهي تمنحهم هويةً لم يؤخذ رأيُهم في شأنها: شهداء.

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود