أفكار في شأن العنف والهيمنة والمعرفة

 

ياسين الحاج صالح

 

ليس تفاقُم العنف وانتشارُه هو الملمح الأبرز في حياة المشرق السياسية منذ ثلاثة عقود، بل ندرةُ التفكير فيه والإحاطة به كذلك، نظريًّا وعمليًّا. الموقف التحريمي الذي تطوَّر في أوساط المثقفين حيال العنف تخطَّى ممارسته والدعوة إليه إلى التفكير فيه، من دون أن يؤثر على انتشار العنف؛ فقد تسبَّب التحريمُ، بالأحرى، في إعاقة فهمه والسيطرة العقلية عليه. ويلتقي في تفسير هذا الموقف واقعان: في المقام الأول، فَقَدَ العنف العربي إبان العقود ذاتها قيمته العامة والتغييرية أو «الثورية». لقد كان عنف أنظمة أو منظمات ثورية، أو هو حروب وطنية، وفاعلوه هم دول أو تنظيمات تطمح إلى إقامة دول؛ وكان، تاليًا، أمرًا مرغوبًا، يجري التبشيرُ به أو التنظيرُ له. أما اليوم، فهو عنف حروب أهلية، أو عنف منظمات إسلامية متطرفة، أو عنف أنظمة دكتاتورية لا أفق لها، أو بالطبع عنف قوى معادية: إسرائيل ثم أمريكا. وهو، في جميع الحالات، عنف مضاد للدولة. كذلك تغيَّر السند الإيديولوجي للعنف: فقد كان قوميًّا أو اشتراكيًّا، وصار اليوم دينيًّا أو أهليًّا.

في المقام الثاني، ثمة وقوع للمثقفين المحدثين تحت وطأة شعور بالذنب متولِّد من تهافت الحركة القومية العربية وإخفاق الشيوعية، وقد كانتا تحتويان العنف (بمعنيَي الكلمة: تشملانه أو تنصَّان عليه نظريًّا، وتضبطانه عمليًّا). كانت هاتان إيديولوجيتا عمل، توحدان السياسة والثقافة، فتمسي السياسة «علمية» والثقافة «ثورية»: السياسة ترشدها مبادئ فكرية مضبوطة، والثقافة توجِّهها أهدافٌ تغييرية عملية. والعنف وارد في الحالين، مقرَّر مبدئيًّا، وقد يكون مرغوبًا. ومن الطبيعي، تاليًا، أن يكون لإخفاق القومية والشيوعية مفعول تفكيكي: سياسة بلا ضوابط تجنح تفضيليًّا نحو العنف، وثقافة آثمة الضمير تعجز حتى عن التفكير فيه. والشعور بالذنب – وهو مُقعِد نظريًّا وعمليًّا – هو ما دفع يساريين سابقين إلى الاهتمام بقضايا حقوق الإنسان والمجتمع المدني... – وهي شؤون تستبطن لدينا رفض السياسة، وليس العنف وحده. ويبدو أن مَن بقي على قيد السياسة من اليساريين والقوميين فَقَدَ حسَّ الكلِّية الذي ميَّزهم يومًا، بما فيه اندماج النظري والعملي واستيعاب العنف (بمعنيَي الكلمة أيضًا: تعقُّله، والتحكم به)، فآلوا إلى العجز عن تطوير سياسات مبادِرة ومتسقة.

ولعل ثمة تطورًا أعمق وراء التفكك المشار إليه: اتساع المسافة بين الثقافة والسياسة وتمايُز المثقفين عن السياسيين. فإن صح ذلك فإنه تطور مرغوب جدًّا: استقلال الثقافة يستحق إخفاق مشاريع لتغيير العالم؛ وهو ما يمكن له أن ينقذنا من الانجراف في تاريخ لا نتحكم به، كما ومن الغضب والشعور بالتفاهة!

* * *

عنفنا اليوم فوضوي، مفتَّت، منفلت بلا ضوابط، مضاد للدولة من دون أن يكون ثوريًّا، منتشر ومخرِّب. عنف باهظ التكلفة، لكنه من نوع العنف «الجاهلي» الذي رأى هشام جعيط أنه كان «ألعابًا عقيمة»، قياسًا إلى الحروب الإسلامية، بما فيها حروب «الفتنة»، التي وصفها وحدها بـ«الحروب الحقيقية».

وهذا ينبِّه إلى أمر يفوتنا عادة. إن الحركات المهيمِنة، أو النزَّاعة إلى الهيمنة، هي ذاتها الحركات التي تمارس العنف الحقيقي: الحرب بكلِّ معنى الكلمة. فخلافًا لما نتوقعه تحت تأثير مفهوم «الهيمنة» الغرامشي، فإن أوسع العنف نطاقًا هو الذي يمارَس في ظل فكرة كبيرة موجِّهة – «سردية كبرى» –، كالدين أو القومية أو الاشتراكية أو التحرر الوطني. وهذا مؤكد في التاريخ. فعدا الإسلام، أطلقت الثورة الفرنسية والثورة الروسية عنفًا داخليًّا وخارجيًّا هائلين. كذلك اتسمت أكثر حركات التحرر الوطني بعنف مزدوج: ضد المحتلين وضد قطاعات من مجتمعاتها لا تشاركها خياراتِها السياسيةَ والفكريةَ والعسكرية.

نقول إن هذا يفوتنا لأننا، منذ غرامشي أيضًا، نجنح إلى إقامة تعريف الهيمنة على مناقضة العنف أو الاقتصاد في العنف، على الرضا والقبول العام. والحال، إذا فكرنا في الهيمنة من وجهة نظر التحولات التاريخية، لا من وجهة نظر السياسة العملية أو التحليل الاجتماعي (وقد كانا إطار ولادة مفهوم الهيمنة الغرامشي)، فسنتبين أن علاقتها مع العنف طردية، لا عكسية. ولذلك نقرن الهيمنة بالبرجوازية الغربية، وبالحركة الاشتراكية لبعض الوقت، وبدرجة أقل، بالحركة القومية العربية في بلادنا إبان نحو عقدين بعد قيام إسرائيل. والمشترك بين هذه الحركات أن عنفها جزء من عمل تاريخي أو تأسيسي، يُحدِثُ تحويلاً عميقًا في النظام الاجتماعي والسياسي والثقافي القائم. ولربما لو كانت الحركة القومية العربية مهيمنة حقيقةً لكان عنفها أوسع نطاقًا، لكنْ لكانت له صفةٌ تأسيسية أو تحويلية.

ليس مفعول الهيمنة، إذن، إحلال الرضا محلَّ العنف، بل لعله أقرب إلى الرضا بالعنف وتقبُّله كبُعد عاديٍّ للسياسة. وهو ما يتأتى من إدراج العنف في مخطط إدراكي وتاريخي يضفي عليه صفةً نسبيةً ومرحليةً ويسخِّره في خدمة شيء يتجاوزه. بالعكس، يبدو العنف الآن مطلقًا وعبثيًّا وفاحشًا ووحشيًّا، من دون «مشروع» أو هيمنة. وإنما، لأننا لا نتبيَّن مشروعًا من أيِّ نوع في تاريخنا السياسي منذ أكثر من ثلاثة عقود، يظهر عنفنا منفلتًا وبلا معنى.

* * *

أما تفكير العنف، أي جعله موضوعًا متميزًا لتفكير مستقل أو احتواؤه نظريًّا، فأمر يبلغ مداه مع تقدم الثقافة ونضجها وتمايُز منظوماتها. فالمعرفة النظرية تقتضي تمييز المقاربات الوضعية من المقاربات المعيارية؛ وهذا أشيع في مجتمعات حسمتْ قيمها الأساسية وجعلت منها تقليدًا مستقرًّا، فلم تعد طافية على سطح الوعي، تلوِّنه بالهوى والانحياز. هذا حال الغرب الحديث عمومًا، وهو حال عالم الإسلام قبل «صدمة الحداثة».

لكن هذا ليس حالنا اليوم مع «الجهاد»، ولا حال الغرب مع «الحرب ضد الإرهاب». وسنلاحظ في خصوص «الجهاد» أن شرعيته تُستمَد من أهدافه الدينية، أي من شيء معياريٍّ يقع خارجه كنشاط عنفي، فيبقى، تاليًا، بلا مفاهيم تحلِّله ولا قواعد داخلية تضبطه. لكن تشريع الحرب بأهدافها يسلبها من أية ذاتية وجدارة بأن تكون موضوعًا لتفكير خاص. وستكون الحرب (أو «الجهاد» هنا) أداةً في خدمة شيء يتجاوزها، يحوز وحده على ذاتية خاصة: «الإسلام»، مصدر كلِّ معيار عقلي وقيمي عند «الجهاديين». والأداة ليست موضوعًا: فلهذا الأخير «شخصية» تثير الاهتمام المعرفي به، فيما الأداة أصلاً شيء عديم الشخصية، يُعرَّف بما يخدم.

واجتماع الأداتية والمعيارية في تفكيرنا متولِّد عن غياب مقام المعرفة المستقل في ثقافتنا. إننا نتحرك من ما دون الموضوع (الأدوات) إلى ما فوقه (القيم) دونما توقف، لأنه لا مقام متماسكًا للمعرفة يقف بينهما، أي الموضوع. وهذه سمة عالمنا المعاصر: مكوَّن من أشياء لا روح فيها، ومن أرواح لا أجساد لها، عالم خالٍ من «أشياء روحية» – وهي بعدُ سمة تفكيرنا السياسي، وعلى الخصوص في الدولة: فهذه أيضًا أداة بلا روح أو قيمة روحية (شر محض أو خير مطلق)، ليست موضوعًا. ولذلك لا نظرية لدينا في دولنا المعاصرة.

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود