رؤية أينشتاين لليهودية ودولة اليهود

تيه العبقرية العلمية في الشأن السياسيِّ

 

وضاح يوسف الحلو

 

في كتابه رؤية أينشتاين لليهودية ودولة اليهود[1] يرى د. عفيف فرَّاج أن هذا العالم يشكِّل ظاهرة، لا فردًا وحدانيًّا؛ وفي شخصيته يَتَنَمْذَج "الصهيوني الروحي"، المعنيُّ باليهود كأمَّة، الملحد في المعايير الدينية، والمؤمن بفرادة اليهودية كهوية ثقافية، ساعيًا إلى تجسيدها في وطن يهودي، توهَّم أنه سيقدم إلى العالم نموذجًا حضاريًّا.

هذه الشهادة تكتسب أهميتَها ووزنَها من عبقرية العالِم العلمية انطلاقًا من رؤية تأتلف فيها الإنسانية الشمولية والخصوصية اليهودية، كنموذج لما بين الصهيونية الروحية والصهيونية السياسية. واللافت في قضية هذا الفيزيائي الكبير دمجُه بين رؤياه الحضارية وصورة اليهودي الدينية، علمًا بأن أينشتاين كان دومًا معاديًا للتسلح والعسكرة، ومكافحًا من أجل السلام العالمي.

بقي أينشتاين في الوعي السياسي والعلمي العربي مختزَلاً إلى نظرية النسبية. لذا تتعامل دراسة عفيف فرَّاج مع الفيزيائي المفكِّر بوصفه ظاهرة، وتضيء على الجذر اليهودي الثقافي الأعمق في تكوينه الفكري. إلا أن هذا العالِم الفذَّ، المرتهَن لديانة عتيقة، يقول: "أنا لست يهوديًّا بالمعنى الديني، لكن هويتي الثقافية هي اليهودية"، على قاعدة: "دينُنا غير قومي، لكن قوميَّتنا دينية"! لذلك تأثَّر العالِم بنظريات سبينوزا حول وحدة الوجود والطبيعة، بوصفها البداية والنهاية والمحرِّرة للإنسان من سجنه الذاتي.

هل كان أينشتاين ملحدًا؟

لم يحظَ ألبرت أينشتاين (1879-1955)، كفيلسوف إنسانوي، بقَدْر يسير من الاهتمام في الثقافة العربية. فقد اهتمَّ به العرب كواضع نظرية النسبية، على الرغم من أن العالِم الفيزيائي، الجمَّ التواضُع، لم يعتبر نظريته "أهم ما عَرَفَه العالم".

العالِم الفيزيائي يطابق بين الله والطبيعة، موحِّدًا بينهما. وفي هذا السياق الفكري، يرى أن الله هو محرِّك البحث العلمي، وأن البحث يُفضي بدوره إلى الله؛ أي أن الله مبتدأ البحث العلمي وخبرُه. وهو يصف شعوره الديني بأنه كوني.

عندما حدَّث أينشتاين شاعرَ الهند طاغور عن "نداء الكون"، قال له طاغور أن ما تسمع هو "نداء الإنسان الكوني". ردَّ أينشتاين أنه يؤْثر تعبير "نداء الكون" على "نداء الإنسان الكوني"، لما يتضمَّنه التعبير الأخير من مدلولات شَخْصَنَة الله. ويضيف: "إن المزامير من بين أقدم النصوص الشاهدة على الشعور الديني بالاندهاش والانتشاء بنظام الكون العجيب–الملغَّز"، معتبرًا أن "نظام الكون الملغَّز هو من صنع إله حاذق في لعبة الاستخفاء؛ لكن الله – وإنْ تَحاذَقَ – فإنه لا يخادع أو يتخابث".

رابندرانات طاغور وألبرت أينشتاين

لم يكن ألبرت أينشتاين ملحدًا. أكثر من ذلك، رفض تفسير فرويد الإلحادي للظاهرة الدينية. وقد وافَقَه الروائي رومان رولان (رفيق أينشتاين في النضال من أجل السلام العالمي) على رفضه الإلحاد الفرويدي حين لَفَتَ الأولُ نظرَ الثاني إلى أن تفسيره الإلحادي العلموي للظاهرة الدينية قد يصحُّ في الأديان الميتافيزيكية، لأن الدين الحقيقي يتأصَّل في الشعور، حيث تتخطَّى الذاتُ محدوديتها إلى اللامحدود. هنا، يرى د. عفيف فرَّاج أن رؤية أينشتاين للوجود تعصى الفهم بمعزل عن رؤية سبينوزا (1632-1677) التوحيدي الحلولي. كان سبينوزا يهوديًّا، نشأ على تربية التوراة والتلمود، مع موقف نقدي منهما أو من صحتهما؛ لذا يُعتبَر سبينوزا مؤسِّس النقد العقلاني والتحليلي والتاريخي للكتاب المقدس. وقد تأثر أينشتاين بحلولية سبينوزا وبالاستنارة الصوفية التي وحَّدتْه مع فلاسفة من أمثال أفلاطون وسبينوزا وهيغل. واصل أينشتاين نقد الأديان الثلاثة التي فصلتْ الله عن الطبيعة، وتعالتْ به عن الكون والبشر، ووضعتْه خارج العالم. يقول سبينوزا: "خارج هذا الكون لا وجود لخالق أو مخلوق. إن الله [حاضر] في كلِّ ما يوجد، وكلُّ ما يوجد هو [حاضر] في الله." والحلاج يقول ما يشبه كلام سبينوزا:

أدعوكَ بل أنت تدعـوني إليكَ * فهل ناديتُ إياك أم ناديتَ إيائي

كان ألبرت أينشتاين فاقدًا "أمنه الذاتي"، ككلِّ يهودي متمسك بعبرانيته أو رافض لها. اليهودي المتحرر يشعر بأن القوانين التي حرَّرتْه من الغيتو لم تنقله من حضن الأم إلى حضانة الأمَّة، بل نقلتْه من حال الانتماء إلى حال الضياع والغربة. والمعروف أن القانون الثوروي الفرنسي، المستحدَث في المجتمعات الأوروبية، خلع أبواب الغيتو وعمل على تفكيك المتَّحد المِلِّي، معترفًا بحقِّ الفرد اليهودي في المشاركة في الحياة العامة على قدم المساواة مع الأكثرية. ولكن الصحيح أن القانون الثوروي حول اليهود لم يَرَ تجسيده في الواقع؛ إذ خرقتْه الأكثريةُ عبر ممارسة التهميش المُمَنْهَج ضد اليهودي في موقع العمل والإنتاج.

ترى هل ذهبتُ بعيدًا عن صورة أينشتاين؟

لا، لأن أينشتاين مارس الحيرة مع نفسه، منجذبًا، تارةً، إلى عوالمه الفيزيائية، وأخرى، إلى روحانيَّته اليهودية. إلى ذلك، لم تمارس الحكومات الأوروبية قوانينَها لمساواة اليهود بسواهم من الإثنيات. ويرى مصطفى النشار في كتابه فلاسفة أيقظوا العالم أن "المجتمع الغربي المسيحي أقرَّ المساواة بين مواطنيه من الوجهة الرسمية؛ إلا أن اليهودي استمر في عزلة نفسانية". وهذا "المعزل النفسي الجديد" عمل على استيلاد الحنين إلى المعزل القديم. ويقارن أينشتاين بين وضع اليهود في القرون الوسطى وبين وضعهم بعد عصر التنوير وصدور قوانين التحرير، فلا يجد إلا يهودًا مضطهَدين في كلا الحالين.

كان أينشتاين "ساذجًا" من الوجهة السياسية. لذا ارتأى أن لا تَصادُم بين مشروع الوطن الصهيوني ومصالح الفلسطينيين ومشاعر العرب القومية. الوطن الصهيوني هو مشروع لتحرير اليهود، لا لقهر الفلسطينيين واستعداء العرب. ورأى أن التعايُش والتفاعل سيستمران بين العرب واليهود؛ إذ لن يكون هناك صراع على ملكية الأرض. فالصهاينة لن يتوطَّنوا، في رأيه، إلا في أرض سيشترونها بالمال.

وعلى الصعيد الثقافي، رأى العالِم الفيزيائي أن اليهود سيقيمون علاقات مودة وتعاون مع العرب انطلاقًا من القربى العرقية (السامية)، ولم يلحظ أن التناقض العبراني–الكنعاني يعود إلى أكثر من ألفي عام.

تحدث أينشتاين عن تنظيم نقابي موحَّد يضم العمال الفلسطينيين والصهاينة من خلال التيار الماركسي–الصهيوني الذي بقي وفيًّا للمبادئ الأممية وصديقًا للاتحاد السوفييتي. ضد هذه الفكرة وقف حزب العمال، بقيادة بن غوريون، منتهجًا سياسة الفصل العنصري بين العمال الفلسطينيين واليهود. ويبدو أن هاجس إنقاذ اليهود من جحيم الغيتوات الأوروبية أدخَل أينشتاين في نوع من التفكير الرغائبي، حَجَبَ عنه الوجهَ الاستعماري للمشروع الصهيوني. كان أينشتاين مع فلسطين كوطن مثالي لليهود، لا مع فلسطين كوطن قومي نهائي. وفي العام 1937، كتب مقالة ينتقد فيها رعاية بريطانيا لمشروع التقسيم وإقامة دولة يهودية مستقلة: "المطلوب هو دولة واحدة، لا دولتان؛ وإني أفضِّل التوصل إلى اتفاق معقول مع العرب والعيش في سلام معهم." كان أبرز ما تمخَّض عنه جهاد أينشتاين الفكري إنشاء حكومة يهودية–عربية في فلسطين، تمارس عملها في عهدة الأمم المتحدة وتحت إشرافها المباشر. وهنا يقول د. عفيف فراج: "إن اقتراح أينشتاين يذكِّرنا بالمنظِّر السياسي اللبناني ميشيل شيحا ونظريته الديموقراطية التوافقية اللبنانية." إن إحدى خلاصات أينشتاين السياسية ترى أن "الدين اليهودي والدولة اليهودية القومية يتعارضان في المبدأ والأساس؛ ذلك أن اليهودية ديانة كونية لا قومية". وفي هذا السياق يورد المؤلِّف هامشًا حول موقف أمين الريحاني حول إمكان إنشاء دولة فدرالية يهودية–فلسطينية تكون البديل من مشاريع التقسيم البريطانية.

كان عالِم الفيزياء أول المعترضين على حرب 1948، المتناقضة مع مثالياته اليهودية والاشتراكية والإنسانوية. لكن أينشتاين يفاجِئ الجميع بإعلان اغتباطه لقيام الدولة اليهودية على أرض مغتصَبة بالقوة؛ إذ لم تكن نسبة الأراضي التي اشترتْها الوكالة اليهودية لتزيد على ستة في المئة، أو بحسب التقديرات اليهودية، عشرة في المئة من مجمل الأرض الفلسطينية.

تشفُّ سيرة أينشتاين عن عالِم لم تتكافأ رؤيته الفكرية–السياسية مع مخيِّلته العلمية الخلاقة. ثمة مسافة شاسعة بين عالِم الفيزياء الكبير وبين الخبير، على وهن، في الشؤون السياسية. تاهت عبقريتُه العلمية في مسيرته السياسية. عقلٌ عملاق في رزانته العلمية، يقابلُه تَرَجْرُج في السياسة – وكان الأحرى به ألا يقرب نارها.

*** *** ***

عن النهار، السبت 14 كانون الأول 2002


[1] صدر في منشورات دار الآداب، 2002.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود