أبرهام بورغ

الراعي الآخر لوثيقة سويسرا

 

رندى حيدر

 

في الصورة التي جمعتْ المجموعة الإسرائيلية التي شاركتْ في وضع وثيقة "تفاهمات جنيف" للتسوية بين إسرائيل والفلسطينيين بدا أبرهام بورغ، بقلنسوته (الكيبا) وقسمات وجهه الهادئة ونظرته الورعة، أقرب إلى ناسك أو متصوِّف منه إلى مفاوِض سياسي.

ولكن وراء هذا الظاهر تكمن شخصية سياسية من طراز استثنائي. فأبرهام بورغ هو تجسيد لليهودي الأشكنازي المتديِّن في صيغته المعاصرة، وللصهيوني القومي الناقد للصهيونية التقليدية، والداعية للسلام والحوار مع الفلسطينيين، مع قناعة عميقة بأن ذلك هو السبيل الوحيد للحفاظ على دولة اليهود ولحمايتها من التحول إلى دولة ثنائية القومية.

المسيرة السياسية التي قطعها أبرهام بورغ، منذ ولادته في القدس في العام 1955 حتى الآن، مليئة بالانعطافات والقرارات الصعبة.

نشأ بورغ في عائلة متديِّنة: فوالده هو يوسف بورغ، زعيم حزب "مفدال" الديني–القومي، والوزير في أكثر من حكومة. لكن الابن لم يرث زعامة والده السياسية، وإنما اتخذ لنفسه خطًّا مستقلاً تمامًا عن قناعات والده السياسية، فاختار الانضمام إلى معسكر السلام، عوضًا عن الالتزام بمبادئ حزب والده المطالِبة بأرض إسرائيل الكبرى، والمدافِعة عن بقاء المستوطنات اليهودية في الضفة وغزة، والرافضة رفضًا مطلقًا فكرةَ قيام دولة فلسطينية مستقلة.

يروي بورغ في أحد مقالاته أن أمَّه ولدت في العام 1921 في مدينة الخليل، حيث عاشت أسرتُها هناك منذ سبعة أجيال. في صيف العام 1929 قُتِلَ نصف أسرة بورغ على أيدي فلسطينيين في خضمِّ الأحداث التي شهدها ذلك الصيف؛ أما النصف الآخر فقد حماهم جيرانُهم الفلسطينيون. ومنذ ذلك الحين انقسمتْ أسرتُه إلى قسمين: قسم لا يثق بالفلسطينيين، وقسم آخر لا يكف عن البحث عن جيران فلسطينيين مسالمين. وأبرهام بورغ ينتمي إلى القسم الثاني.

بعد تخرُّجه من الجامعة العبرية ونيله إجازة في علم الاجتماع، وعقب إنهائه خدمته العسكرية في قسم المظليين، انضمَّ بورغ إلى حركة "السلام الآن" التي كانت من أكبر حركات الاحتجاج التي ظهرت في العام 1977 إثر مبادرة الرئيس أنور السادات السلمية والتي تصاعد نفوذُها تصاعدًا كبيرًا بعد الغزو الإسرائيلي للبنان، فكانت في طليعة الحركات الاحتجاجية عليه. فكان أبرهام بورغ حاضرًا في المظاهرة الضخمة التي ضمت نحو 400 ألف متظاهر ضدَّ حرب لبنان؛ وجُرِحَ في أعقاب إلقاء بعض المتطرِّفين قنبلة يدوية على المتظاهرين أدَّتْ حينئذٍ إلى مقتل إميل غرينزفغ، أحد نشطاء السلام.

انتقل بورغ من صفوف حركات الاحتجاج والمعارضة إلى صفوف حزب العمل، حين عيَّنه شمعون بيريس في العام 1985 مستشارًا في شؤون الجاليات اليهودية في الخارج. وقد بقي في هذا المنصب إلى حين فوزه في الانتخابات عام 1988، فأصبح أصغر عضو في الكنيست عن حزب العمل (كان في الرابعة والثلاثين من عمره)، وشكَّل، مع يوسي بيلين وحاييم رامون، معسكر "الحمائم" في الحزب.

شغل في الكنيست مناصب عدة، فكان عضوًا بارزًا في لجنة الخارجية والأمن ولجنة المال ولجنة مراقبة الدولة. أُعيد انتخابه للمرة الثانية في العام 1992. وقد شهدت تلك الفترة صعودًا كبيرًا في مكانته السياسية داخل الحزب؛ إذ تبوأ المركز الثالث على قائمة المرشحين بعد إسحق رابين وشمعون بيريس، مما يدلُّ على علوِّ مكانته وشعبيته الحزبية.

في شباط 1995 انتُخِبَ بورغ رئيسًا للوكالة اليهودية والمنظمة اليهودية العالمية، فاستقال من الكنيست ليتفرَّغ لمنصبه الجديد، حيث عمل على استعادة أملاك اليهود التي سُرِقَتْ إبان المرحلة النازية، وخاض معركة من أجل إقرار التعددية والتسامح وسط الفرق الدينية اليهودية المختلفة.

استقال من منصبه هذا في العام 1999، ليترشح على قائمة "إسرائيل واحد" لحزب العمل، وليخوض الانتخابات بزعامة إيهود باراك، ثم ليصبح رئيسًا للكنيست حتى شباط 2003. وخلال رئاسته الكنيست الإسرائيلية أثار بورغ عاصفة سياسية كبيرة عندما قبل، في كانون الثاني 2002، دعوة رئيس المجلس التشريعي الفلسطيني أحمد قريع لإلقاء كلمة أمام أعضاء المجلس. تحدى بورغ بذلك رئيس الحكومة آرييل شارون الذي أدان تصرفه. وقد دافع بورغ عن نفسه قائلاً: "أنا شخصية عامة مستقلة، وأنا مقتنع بضرورة الدفاع عن السلام، رغم كلِّ شيء."

عمل بورغ طوال السنوات الثلاث الماضية، رغم تصاعد الانتفاضة والعمليات الانتحارية الفلسطينية، على فتح قنوات الحوار، وذلك عبر إقامة اتصالات بين مجموعات برلمانية فلسطينية وإسرائيلية، قادرة على تفعيل دور دعاة السلام والحوار بين الطرفين.

أدان بورغ بشدة زيارة شارون للمسجد الأقصى التي كانت الشرارة التي أشعلت نيران الانتفاضة. ففي رأيه أن أية تسوية للنزاع لن تكون من طريق القوة، وإنما بواسطة مفاوضات تستند إلى تنازلات سياسية. وهو يؤمن بأن على الطرفين، الإسرائيلي والفلسطيني، التنازل عن "أحلامهما": فعلى الإسرائيلي التنازل عن حلم "إسرائيل الأكبر"، تمامًا كما على الفلسطيني التنازل عن كامل فلسطين. يقول بورغ:

إن التسوية هي، في الأصل، تسوية للأمة مع نفسها. فأنا أؤمن إيمانًا عميقًا بأن كلَّ أرض إسرائيل لي. هذا ما هو مكتوب في العهد القديم، وهذا ما علَّمتْني إياه أمِّي الخليلية، كما علَّمتْه لأحفادها. وأنا أعلم أن حلم فلسطين الكبرى باقٍ لدى الفلسطينيين، من الجدِّ إلى الحفيد، وفي كلِّ منزل. لذا فالتسوية الأولى هي بيني وبين نفسي وحلمي: أنا أتنازل عن حلمي بالعودة إلى الخليل، لمصلحة الحياة الحرَّة في إسرائيل الجديد؛ ويكون على الأخ الفلسطيني أن يتنازل عن حلمه في العودة إلى يافا، لمصلحة الحياة الحرَّة والكريمة في نابلس.

في رأي بورغ أن على إسرائيل التخلِّي عن حلم إسرائيل الأكبر، وتفكيك المستوطنات، ومغادرة الأراضي الفلسطينية، والعيش بسلام مع الدولة الفلسطينية.

العمل السياسي الدؤوب ضمن أوساط مؤيِّدي السلام، منذ أواسط السبعينات حتى الآن، أدى إلى بلورة اقتناع تصالحي في ذهن بورغ، استطاع أن يطوِّر التفكير الإيماني الديني اليهودي والإيديولوجيا الصهيونية في اتجاهات جديدة ومغايرة عما هو مألوف. ففي نظر هذا الإسرائيلي المؤمن أن التخلِّي عن الضفة الغربية ليس تنكُّرًا للدين بقدر ما هو الباب الوحيد للانتصار على الكراهية ولإنجاح تجربة التعايش بين الشعبين بسلام. وفي نظر هذا الصهيوني المتحمِّس أن استمرار الاحتلال الإسرائيلي والقمع وسياسة العنف سيؤدي إلى نهاية الصهيونية. ففي مقال له بعنوان "هل هذه نهاية الصهيونية؟"، نشره في الـهيرالد تريبيون في أيلول الماضي، هاجم بورغ بشدة الحكمَ في إسرائيل، وحمَّل المجتمع الإسرائيلي، بيمينه ويساره وكذلك يهود الشتات، مسؤولية انهيار الصهيونية. يقول في مقاله:

ثمة حظ كبير في أن يكون جيلنا هو آخر رعيل من الصهيونيين. قد تبقى دولة اليهود في الشرق الأوسط، لكنها ستكون مختلفة; ستكون دولة دخيلة وبشعة [...]. لقد انتهى عهد الأوهام، وحان وقت القرارات. نحن نحب هذه الأرض بأكملها، أرض أجدادنا؛ وكنَّا، في وقت من الأوقات، نرغب في العيش هنا وحدنا. لكن هذا لن يحدث؛ فللعرب أيضًا أحلامهم وحاجاتهم.

في رأي بورغ أن التمسُّك بعقيدة أرض إسرائيل الكبرى معناه المخاطرة بتحوُّل إسرائيل دولة ثنائية القومية، والتنازل عن الديموقراطية. فالخيار هو بينها وبين العنصرية اليهودية، بين المستوطنات وبين الأمل بالعيش بسلام للشعبين، بين سياسة الحواجز والعمليات الانتحارية وبين الاعتراف بالحدود بين الدولتين، مع القدس عاصمة مشتركة لهما.

من هنا فمشاركة أبرهام بورغ الفاعلة في صوغ "تفاهمات جنيف"، إلى جانب بيلين وميتسناع، إنما هي تعبير عن اقتناعه العميق بأن الأوان قد حان لكي يختار الإسرائيليون أفقَ المستقبل الذي يريدون العيش فيه: هل سيختارون الحرب والقتل والدماء، أم التسامح والسلم والتعايش مع الفلسطينيين؟ والمصالحة الذي بدأها بنفسه، عندما أقرَّ بأن لا عودة إلى حلم إسرائيل الأكبر، يحاول اليوم أن يجعل منها تجربة عامة لليهود الذين عليهم التنازل عن أحلامهم، تمامًا مثلما على الفلسطينيين التنازل أيضًا عن حلمهم بالعودة إلى أرض أجدادهم.

يخاطب بورغ الإسرائيلي اليهودي المؤمن غير المتعصِّب. لذا فالجمهور الذي قد يصغي إليه مختلف عن الجمهور العلماني اليساري المؤيِّد عامة لفكر التسوية والتفاوض والحوار. فخطاب بورغ السياسي ينطلق من القناعات التي يتبنَّاها ويرفع شعارها اليمين القومي، ليُظهِر أنها لم تعد قادرة على تحقيق أمل الشعب اليهودي في العيش بكرامة على أرضه.

أبرهام بورغ نموذج لسياسيين إسرائيليين استطاعوا الخروج من تعصُّب النظرة الدينية، وكسروا الموقف التقليدي في العداء لكلِّ ما هو عربي: فـ"الآخر" ليس العدو، وإنما العدو الحقيقي هو الذي لا يعرف قلبه غير الحقد الأعمى والكراهية، بغضِّ النظر عن دينه وقوميته.

*** *** ***

عن النهار، 2 كانون الأول 2003

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود