يهودٌ ضدَّ الصهيونية
الجدل يصل إلى ألمانيا

 

خالد الحروب[1]

 

تصاعدتْ نبرةُ اليهود المعادين للصهيونية ولسياسات إسرائيل الوحشية في السنوات الأخيرة وقوي حضورُهم، وما يزالان اليوم في تصاعُد وتقوِّي. يحدث هذا في أوروبا على وجه التحديد، كما يحدث في الولايات المتحدة، ويحدث في إسرائيل أيضًا[2]. وعلى الرغم من أنه يحدث، في الغالب، وسط النخب الثقافية والفكرية والأكاديمية، وقليلٌ منه يصل إلى وسائل الإعلام الرئيسية mainstream media، فإن هذا لا ينتقص من أهميته وإيجابيته. أحد المنعطفات الزمنية لتجدد النقد اليهودي التقدمي لإسرائيل وللفكرة الصهيونية واستقوائه هي الانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987) التي فتحتْ عيونَ كثيرين في العالم على مظالم إسرائيل ووحشيته ضد الشعب الفلسطيني. والأساليب اللاعنفية التي تبنتْها تلك الانتفاضة، خاصة في سنواتها الأولى، كانت المفتاح الأساس لكثير من القناعات المغلقة في الغرب وغيره حول "مظلومية" إسرائيل و"براءته" المفترضة والافتراضات البديهية بوجوب دعمه من غير نقاش.

ليس معنى هذا غياب وجود نقد يهودي للفكرة الصهيونية في مرحلة ما قبل الانتفاضة. فذلك النقد ترافق تاريخيًّا مع بروز أولى بذور الصهيونية وتبلوُرها في إطار الطموحات القومية الأوروبية مع هرتزل، وحتى قبله، في القرن التاسع عشر. آنذاك كان رفض الصهيونية يقوم على أسُس دينية يهودية بحتة، على اعتبار أن الصهيونية هي، في التحليل الأخير، خروج عن مسار القناعات التقليدية اليهودية.

امتد الجدل المعاصر في السنتين الأخيرتين، ونُشِرَتْ كتبٌ عدة بالغة الأهمية، من ضمنها كتاب آلان هارت (جزءان بالإنكليزية) بعنوان الصهيونية: العدو الحقيقي لليهودية، وكتاب عالِم الدين اليهودي الكندي ياكوڤ رابكن (بالفرنسية، ثم تُرجِمَ إلى العربية) بعنوان باسم التوراة: تاريخ المناهضة اليهودية للصهيونية، وكتاب پاسكال بونيفاس من يجرؤ على نقد إسرائيل؟ (بالفرنسية، ثم تُرجِمَ إلى العربية). وهناك أيضًا كتاب حديث بعنوان أساطير الصهيونية (بالإنكليزية) للبريطاني جون روز. لكن تمثلات ذلك الجدل على مستوى الناشطين السياسيين لا يقل أهمية. ففي بريطانيا، أصدرت مجموعة كبيرة من اليهود البريطانيين تضم أسماء كبيرة، مثل المؤرخ (الماركسي) إريك هوپسباوم والكاتب المسرحي هارولد پنتر، من ضمن 350 شخصية أخرى، بيانًا بعنوان "أصوات يهودية مستقلة"، انتقدت فيه إسرائيل، وانتقدت فيه أيضًا المؤسسة اليهودية الرسمية في بريطانيا بسبب تأييدها غير الناقد لإسرائيل.

وفي ألمانيا، هناك مجموعة من اليهود الألمان طالبت الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بفتح باب الحوار مع الحكومة الفلسطينية التي شكلتْها "حماس" بعد فوزها بالانتخابات العام الماضي. وفي ألمانيا ذاتها، حيث مقاربة كل ما له شأن بإسرائيل تمتاز بحساسية بالغة ومبالَغ فيها بسبب إرث الهولوكوست، صدر العددُ الأخير (صيف 2007) من دورية Internationale Politik الرصينة (ولعلها الأهم في ألمانيا كلِّها في مجال العلاقات الدولية)، متضمنًا مقالاً جريئًا في نقد إسرائيل للكاتب اليهودي ألفرد غروسر، الحائز على إحدى جوائز السلام ذات الشأن من قبل اتحاد الكتاب الألماني. غروسر ولد في فرانكفورت في العام 1925 لأبوين يهوديين هربا من هتلر إلى فرنسا يوم لم يكن غروسر يتعدى العاشرة. اشتغل غروسر في الصحافة والكتابة، وظل موزَّعًا بين هويتين ألمانية وفرنسية، وعمل على محاربة أنواع العنصرية واللاسامية كافة انطلاقًا من تجربة عائلته الصغيرة وعائلة أبيه التي قضى بعضُها في محارق هتلر. يذكر في مقاله هذا أنه تحدث مع البابا بنديكتوس السادس عشر بعد عدة أيام من إلقاء محاضرته الشهيرة في جامعة ريغنبُرغ في أيلول 2006 وسأله لماذا لم يُشِرْ في تلك المحاضرة إلى "اللاسامية المسيحية"؟

غروسر من الأصوات الإنسانوية humanist العميقة في فرنسا؛ وهو يكتب بروحية شفافة متجاوِزة للولاءات الضيقة. ففي مقالته هذه يقول إن "التضامن مع معاناة الآخرين وفهمها" هو قيمة أوروبية أساسية، ومن الغريب أنها تتوارى عندما يتعلق الأمر بالصراع الإسرائيلي–الفلسطيني. ويقول إنه لما أصدر كتابه الأول في العام 1953 عن معاناة الألمان من جراء قصف الحلفاء لمدن هامبورغ ودرسدن، فإنه أراد أن يقول إن التضامن الأولي مع معاناتهم هو البوابة الأوسع والأصح كي يفهموا معاناة مَن طَحَنَهم هتلر، من يهود وغير يهود. وبنفس الروحية يقول إنه من المفهوم أن تصدر عن الفلسطينيين أنواعُ تطرف قصوى بسبب عدم الاعتراف الأولي بمعاناتهم وخسائرهم. غروسر يشير، في السياق نفسه، إلى كتاب سوزان زونتَغ الشهير حول معاناة الآخرين، وهي اليهودية الأمريكية الذائعة الصيت (التي توفيت في العام 2004). لكن آراء غروسر أكثر جسارة وإنسانوية ووضوحًا. هو ذا يقول:

لا نستطيع أن ندفن رؤوسنا في الرمال ونتهرب من السؤالين الكبيرين اللذين يطرحهما العرب والفلسطينيون دومًا: لماذا ندفع ثمن آوشفتس [أشهر المعتقلات التي نفَّذ فيها النازيون المحرقة بحق اليهود]، ولماذا يُطرَد الفلسطينيون من أرضهم ولا يُسمَح لهم بالعودة، بينما تستقبل الأرض نفسُها أيَّ يهودي في العالم؟

لكن العدد نفسه من الدورية التي نشرت مقال غروسر تتضمن مقالاً آخر فيه ردٌّ شديد عليه وهجومٌ قاس على شخصه كَتَبَه ماتياس كونتزل، وهو كاتب ألماني يهودي ومؤلِّف كتاب سيصدر حديثًا بعنوان الجهاد وكراهية اليهود: حول الحرب الجديدة ضد اليهود. في هذا الرد يصنف كونتزل غروسر في قائمة اليهود الذين يتخذون من نقد إسرائيل وسيلةً للظهور الإعلامي. وهو ينتقد معظم، إن لم نقل جميع الأسماء اليهودية الكبيرة التي تنتقد إسرائيل وتعتبر نفسها ضمن شريحة ما يُعرَف بـ"اليهود الجيدين" أو "الطيبين" good Jews. كونتزل حاول تفنيد آراء غروسر بخصوص عدوانية الفكرة الصهيونية وإقصائها للآخر الفلسطيني وعنصريتها، وأراد أن يُقنع القارئ بأن التجمعات الاستيطانية الأولى للمشروع الصهيوني في فلسطين كانت تجمعات تعاونية لاقت ترحيبًا من قبل الفلسطينيين الذين وجدوا في قدوم المهاجرين اليهود "فرصة لتحسين ظروفهم الاقتصادية". لكن "الترحيب والتعاون الفلسطيني" (الذي لا وجود له من ناحية تاريخية حقيقية) تعرَّض، بحسب ما يرى كونتزل، إلى ضربات متلاحقة من قبل تيار الحاج أمين الحسيني (الأصولي)؛ وهو عينه التيار الذي استمر في ضرب "المتعاونين الفلسطينيين" في السنوات اللاحقة، وحتى سنوات التسعينيات في قطاع غزة (على يد "حماس" و"الجهاد الإسلامي"). ويخلط كونتزل هنا – ربما قصدًا وعمدًا – بين "التعاون" المتخيَّل الذي يفترضه بين الفلسطينيين والتجمعات الاستيطانية الأولى وبين "التعاون" الجاسوسي مع العملاء الذين كان يستدرجهم جهازُ الأمن الإسرائيلي ("شين بيت") ويستغلهم للتجسس على المنظمات الفلسطينية والناشطين في المدن الفلسطينية.

لكن بعيدًا عن التهويمات التاريخية التي يربط كونتزل من خلالها ما لا يمكن ربطه، فإن أخطر ما يطرحه هو ضرورة التوقف عمليًّا عن نقد إسرائيل لأن مثل هذا النقد ينطوي على "لاسامية"، صريحة كانت أم ضمنية. وهو يقول هنا إن "التفكير الأوروبي" السائد إزاء نقد إسرائيل حاول أن يؤسِّس لإطار عمليٍّ يتم من خلاله الفصل بين "نقد إسرائيل" وبين "اللاسامية". وهذا الإطار يعتمد على ثلاثة عناصر: الأول هو ألا تتم مساواة السياسة الإسرائيلية أو تشبيهها بالسياسة النازية، وألا يتم استخدام أية رموز أو تعبيرات معروفة بصفتها اللاسامية لوصف إسرائيل؛ والثاني: ألا يتم إنكار حق إسرائيل في الوجود في سياق أيِّ نقد يوجه له؛ والثالث: ألا تكون هناك ازدواجية خطاب أو ازدواجية مطالب، حيث يُطلَبُ من إسرائيل أن يقوم بما لا تُطالَب به أيةُ دولة ديموقراطية أخرى. ونقاد إسرائيل، في رأيه، ينقسمون إلى شريحتين: واحدة تقول بضرورة إفناء إسرائيل علنًا، معتمدةً بروتوكولات حكماء صهيون مرجعًا فكريًّا (ومن هؤلاء إيران و"حماس" و"حزب الله")؛ والثانية تضم أولئك الذين يجاملون الشريحةَ الأولى عِبْرَ نقد إسرائيل من منطلقات أخرى. فبنظر كونتزل، كما بنظر غلاة الصهيونية، الآن وبالأمس وغدًا، إسرائيل فوق النقد وفوق التاريخ!

لكن هؤلاء "الغلاة" كانوا معنا طوال بروز الفكرة الصهيونية وصعودها، وليسوا جددًا على الساحة. الجدد الذين يستحقون الاهتمام والترحيب هم تيار ألفرد غروسر المتشكِّل من اليهود غير الصهاينة الذين ينتصرون لإنسانيتهم قبل أيِّ شيء آخر. والترحيب الحقيقي بهم يجب ألا يبقى بلاغيًّا، من ناحية، وألا يتوقف، من ناحية ثانية، عند استقبالهم في منتدى هنا أو مؤتمر هناك، بل في تبنِّي خطاب عربي وإسلامي إنسانوي يطرح جانبًا جميع الترهات العنصرية الإثنية والدينية المعتمدة على تخريفات بروتوكولات حكماء صهيون أو ما شابهها.

*** *** ***

عن الحياة، 04/07/2007


[1] كاتب فلسطيني أردني، جامعة كامبردج.

[2] انظر، مثلاً، مراجعة منذر حلوم لبعض كتابات الصحافي الإسرائيلي إسرائيل شامير، ولاسيما كتابه صنوبرة وزيتونة، معابر، تموز 2007، باب "كتب وقراءات". (المحرِّر)

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود