أزمة الإنسان المعاصر أو التقنية العدوانية ومصير الإنسان

 

ندرة اليازجي

 

يهدف هذا البحث إلى معالجة قضية التقنية العدوانية وعلاقتها بمأساة الإنسان المعاصر المنفعل بعقلٍ متدنٍّ أو تحتي يبرر العنف، ويسوّغ كل أنواع الإدانة، والإدانة المضادة، والاعتداء في سبيل إعلاء شأن معتقده أو موقفه الفكري المحتجز داخل نطاق مركزية الأنا الفردية، أو مركزية الأنا التجمّعية، أو العنصرية، أو العرقية، التي ترفض الحياة في نطاق المبادئ الإنسانية السامية. والحقّ أنّ الإنسان المعاصر يعاني من انفعال نفسي يتفاقم يومًا بعد يوم، ويحتمل أنه بلغ حدّه الأقصى في العصاب، وأدّى إلى فقدان التوازن الداخلي والتكامل المتبادل للوظائف النفسية التي تتميّز بها الشخصية الواعية، المحبّة والمتعاطفة، التي تسعى إلى تحقيق توافق وانسجام مع السلام الداخلي في الكيان، ومع السلام الخارجي في الحياة الاجتماعية والإنسانية.

في نهاية عشرينيات القرن العشرين، وهي الفترة الزمنية الواقعة بين الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية مرورًا بالأزمة الاقتصادية الخانقة التي حدثت خلال ثلاثينيات ذلك القرن، شاهد ألكسي كارِلْ، العالم والفيلسوف الرائع، ببصريته الرؤيوية، الأزمة أو الأزمات التي يتعرّض لها الإنسان في عالم بدأ يفقد عقلانيته. وقد عبّر ألكسي كارِلْ عن موقفه العملي وبصيرته الروحية ومنطقه العقلي في العبارة الشعبية التالية: "لقد فلت زنبرك العقل". وفي أواسط القرن العشرين، تحدث كارل غوستاف يونغ عن الإنسان الذي يبحث عن روحه التي أضاعها في زحمة الأحداث المأساوية. هذا الإنسان الذي يعاني من عدم توازن أقطاب نفسه المتقابلة بسبب الإشراطات العديدة التي تقيّده وتجزّئه إلى نطاقات متناقضة تكاد تبلغ عتبة الفصام، وتخضعه إلى انفعالات المنطقة اللاشعورية المكبوتة التي تتعرّض للانفجار في كيانه المضطرب. هكذا، بدأ الإنسان يعاني من إحباط فردي وجماعي نتج عن عدم ثقته بالمستقبل. وبدأ، نتيجة لهذا الإحباط، يبحث عن خلاص. في هذا الوضع القلق، سيطر العقل التحتي، أي العقل المنفعل، وفقد الفعالية التي يتميز بها العقل المنطقي والعملي، وتغاضى عن الغاية السامية التي تحثّ العقل المستنير والمتسامي إلى الوعي والحكمة، الأمر الذي جعل العقل المتدني المنفعل، الذي فقد توازنه، يحتلّ مرتبة الهيمنة والسيادة الزائفة على القوى والمقومات والإمكانات المهيّأة لتطوير الجنس البشري، والسموّ به إلى حالة، أو وضع أو مستوى، تنشط فيها جميع القدرات والطاقات والمواهب الفاعلة لتحقيق أنسنة عليا.

في هذا الوسط، الذي برزت فيه السيادة الزائفة للعقل المتدني، أي العقل التحتي المنفعل بمركزية الأنا، فقدت البشرية أملها في تحقيق مستقبل زاهر تتألّق فيه السعادة، ويحفل بالرفاه والازدهار، والتعاون المشترك بين أبناء الإنسان. وبالفعل، ظهرت تيارات أو اتجاهات فكرية انفعالية دعت إلى العبث واللاجدوى وانعدام القيمة والمعنى في الوجود، وانتهت إلى إحساس دفين باليأس.

في هذا الوسط المضطرب، ظهرت تيارات فكرية تتميز بالحكمة والوعي والمحبة أخذت تنبّه القائمين على إدارة شؤون العالم من مغبّة التوغّل أكثر فأكثر إلى متاهات مضللة جديدة، ودعت إلى إعادة النظر في الطروحات الفكرية السابقة، وإلى إحداث تقويم جديد للأوضاع المحلية والعالمية. لقد دعت إلى الترحيب بألف ثالثة ينبثق فيها فجر جديد تتألف فيه شمس تضيء بأنوار السلام والأخوة والمحبة والازدهار ونبذ العنف.

في سبيل التعبير الواضح والتحليل المجدي لما يعاني منه أبناء هذا القرن الجديد، المعبَّر عنه ببداية الألف الثالثة، سعيتُ إلى الإجابة عن أسئلة ثمانية طُرحت عليّ على نحو حوار. وقد تمثّلت هذه الأسئلة، التي طرحها علي صديقي، في معرفة السبب أو الأسباب التي أدت إلى سيطرة العقل المتدني أو التحتي المنفعل الذي يلجأ إلى العنف القائم في التقنية العدوانية، والتبرير الذي يعتمده لتسويغ دفاعه عن معتقده، أيًّا كان هذا المعتقد أو العقيدة، ومقاومة الآخر وعدم الاعتراف به، أو محاولة القضاء عليه.

* * *

في سؤاله الأول، أراد صديقي أن يعرف ما إن كان العلم مسؤولاً عن المآسي التي تعاني منها الإنسانية في الوقت الحاضر.

سأل صديقي: كثيرًا ما أتساءل، وأنا أتعرّض لمخاض حيرة داخلية، ما إن كان العلم هو السبب المؤدي، على نحو مباشر أو غير مباشر، إلى المآسي التي عانى منها أبناء الإنسان، أو إن كان الإنسان هو المسؤول الأول والأخير عن هذه المآسي في هذا العصر، وفي العصور السابقة، وأعني المآسي التي تشير إلى انعدام الوعي وغياب معرفة الغاية من الوجود. وفي سبيل الوضوح، أرجو أن تعرّف العلم من وجهة نظر منطقية وعملية وغائية.

أجبتُ صديقي: لمّا كان الإنسان كائنًا يبحث عن حقيقة المعرفة، ويسعى إلى الكشف عن الكمون الماثل في عمقه، وفي عمق الطبيعة والكون، فقد تدرّجت عملية تطور المعرفة العلمية من مجرّد تلمّس الحقيقة عبر الإدراك الحسّي انطلاقًا إلى معرفة القوانين والمبادئ التي على أساسها توجد الطبيعة، وتحيا، وتتحرّك، وتنمو وتتطور، وإلى معرفة المبادئ العقلية التي تعتمد المنطق الصاعد بأحكامه وقضاياه المتّصلة بإحكام في ترابط حلقاتها، والمتجاوزة للانفعال الذي يطيح بملكة العقل ويقوّض فعاليته. وبالفعل، ندرك أنّ العلم قد تقدّم كثيرًا في مضمار المعرفة.

لمّا كان العلم قد اتّجه، في بداية مغامرته التجريبية، إلى معرفة الوجود الخارجي، فقد تساءل الإنسان، منذ فجر وجوده، عن حقيقة أو سرّ التفكير، وجوهر العقل وطبيعة النفس. وسعى إلى التوغل في عمق المقولات المتّصلة بنظرية المعرفة... وبالإضافة إلى هذا التساؤل، سعى الإنسان إلى معرفة القضايا والأحكام المرتبطة بظاهرات الوجود النفسية كالنوم، واليقظة، والحلم، والنوم بدون حلم، والانتباه، والاهتمام، والعاطفة، والشعور، والإحساس، والتصوّر، والتخيّل والتذكّر... الخ. واهتمّ بدراسة القضايا والأحكام المتصلة بالعقل المنطقي الذي يصعّد مستويات الحياة الداخلية، والسلسلة المتماسكة بإحكام، والعائدة للعقل المنعتق من انفعالات مركزية الأنا، ويحيا مطمئنًا في تكامل وحدة الهوية النفسية، وتوازن وظائفها وأقطابها المتكاملة.

لمّا كان الإنسان يحيا في وسط وجود مادي، متحرّك وديناميكي، يتطلب منه التناغم والعمل والانسجام، وفق مفهوم الضرورة، فقد وجّه عقل الباحث إلى حلّ أموره الوثيقة الصلة بوجوده الخارجي وبالأمور الممثلة بالحاجات الملحّة والمتعلقة بمعيشته، الأمر الذي أدّى إلى معالجة العالم الخارجي بالعقل العملي الذي تطوّر إلى عقل منطقي وعملي أدّى، بدوره، إلى التصوّر والتجريد.

في هذا المنظور، يشير تاريخ المعرفة الإنسانية إلى أنّ العقل العملي قد تطوّر إلى عقل منطقي وعلمي يبحث عن القوانين والمبادئ التي يستنبطها من ذاته، وتمدّه بالقدرة على تطوير معرفته إلى مستويات أعلى تزداد تعقيدًا على الدوام.

* * *

في سؤاله الثاني، أراد صديقي أن يعرف ما إن كانت النتائج الحاصلة عن تطوير العقل العملي إلى عقل منطقي وعلمي قد انتهت إلى خير أم شر.

سأل صديقي: ذكرتَ في حديثك أنّ العقل العملي أدى إلى تحقيق العقل المنطقي والعلمي. وقد أدّى هذا العقل العلمي، بدوره، إلى تطوير المعرفة الإنسانية. وإذا كان الأمر كذلك، فلا بدّ من توضيح الخلاصة أو النهاية القصوى التي بلغها العقل العلمي لنعلم إن كانت قد انتهت إلى خير تجني البشرية ثماره أم إلى شرّ تعاني منه.

أجبت صديقي: أستطيع، وقد ألمعتُ على نحو وجيز إلى موضوع المعرفة المتطورة على نحو دائم، أن أصنّفها في نمطين للعقل.

أولاً. النمط الأول - هو العقل العلمي النظري والمجرّد والذي يعتمده العلماء النظريون لمعرفة القوانين والمبادئ التي، بموجبها، يحيا العالم ويوجد ويتحرك. وفي هذه المعرفة العلمية، يبذل العقل جهدًا كبيرًا لحلّ الرموز التي تصله على نحو شيفرة كونية، وصياغة الفرضيات التي تصبح نظريات تتحول، بدورها، من جديد، إلى فرضيات لتعود إلى نظريات تخضع للتجربة والاختبار، وذلك لكي يتابع العقل العلمي مسيرته التطورية هادفًا إلى تحقيق المزيد من المعرفة على نحو يقين أو احتمال يقين، أو حقيقة أولية تهيّئ القاعدة المناسبة لتقدّم عملي متطور على الدوام.

ثانيًا. النمط الثاني - يشير هذا النمط إلى العقل التقني، وأعني العقل الذي يسعى العلم النظري إلى تطبيقه عبر تقنية تخدم الإنسان الذي يستعملها، ويستفيد منها في عالم الواقع. والحق إنّ هذه التقنية تتجه إلى طريقتين مختلفتين ومتناقضتين.

1.    الطريق الأول الإيجابي المؤدي إلى الخير: يشير هذا الطريق إلى التقنية الناعمة التي تمدّ الإنسان بكل ما يحتاجه من فائدة ونفع نتيجة لتطوير أدوات المعرفة، النظرية منها والتطبيقية، وتحسين معيشته على نحو يؤدي إلى ازدهار الحياة الإنسانية وتوطيد السعادة والرفاه والرخاء. وعلى سبيل المثال، أذكر الجرّار والطائرة المدنية، وأنواع الأدوات.

2.    الطريق الثاني السلبي المؤدي إلى الشرّ: يشير هذا الطريق إلى التقنية العدوانية التي تؤدي إلى تدمير الحضارة الإنسانية، وتوريط البشرية في مآزق مأساوية تسود فيها الأزمات النفسية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والمذهبية التي تضع حدًّا للسعادة والطمأنينة، وتعرقل سبل الأمان والمحبة والسلام. وفي هذا الواقع الأليم، تبلغ فضيلة الاعتراف بالآخر والقبول بها نهايتها، وتسيطر الكراهية وأنواع التعصب العرقي والعقائدي، ويسود سوء الفهم، وتهيمن الانفعالات المرضيّة، أي الهستيرية والفصامية التي تختلق الشعارات التي تلقي بظلمة صلابتها وقسوتها على عقول الناس وعواطفهم، وتحرفها إلى تخيّلات وهمية لا تمتّ إلى الحقيقة بصلة. وعلى سبيل المثال، أذكر الدبابة والطائرة الحربية وأنواع الأسلحة.

* * *

في سؤاله الثالث، أراد صديقي أن يعرف النتائج الحاصلة عن نمطي العقل.

سأل صديقي: أسمح لنفسي، وقد بلغتَ هذا المستوى من التوضيح، أن أسأل: ما هي النتائج الحاصلة عن المنهج العلمي النظري والمنهج العلمي التقني؟

أجبت صديقي: تشير الدراسات الدقيقة والمعمّقة للنتائج الحاصلة عن العقل التقني العدواني إلى استبعاد العقل المنطقي والعلمي النظري، وإقصائه عن نطاق المعرفة من أجل المعرفة، أو المعرفة من أجل ازدهار الحياة البشرية، وتوطيد السعادة والأمان والطمأنينة والرفاه والمحبة والسلام. وفي الوقت ذاته، تشير هذه النتائج إلى سيطرة العقل المتدني، أي التحتي، واستغلاله لها لتوطيد انفعالاته العديدة المشروطة والناجمة عن عدم معرفة الغاية الأسمى لمعنى وقيمة وجود الإنسان.

يمكنني، في هذا السياق، أن أؤكّد عدم وجود مستوى لفعل يدعى العقل التحتي، أو العقل المتدني. وإنّ ذكر هذا المصطلح يشير إلى غياب العقل، وأقصد العقل الذي يُخفق في تحقيق عقلانيته، أي عقلانيته التي يستنبطها من ذاته على نحو مبادئ ومعلومات طبيعية وكونية مكنونة في صلب تكوينه عبر ذاكرة بيولوجية سُجِّل فيها تاريخ عالم المبادئ، وذاكرة كونية دُوِّنت فيها مبادئ وقوانين عالم الأرض. ولقد أشار العلماء والباحثون إلى أنّ العقل المكوِّن يستمدّ مبادئه من معرفة جوهرية كامنة فيه على نحو وجود بالقوة، أو يستمدّها، كما يذكر بعضهم، من تفاعله مع المبادئ أو القوانين المكنونة في الطبيعة والكون. لذا، كانت الأزمات المأساوية حصائل ناتجة عن التقنية العدوانية الناتجة، بدورها، عن سيطرة العقل التحتي أو المتدني الذي تخلى عن عقلانيته، واستغلاله لهذه التقنية المرعبة والمدمّرة، وإخضاع هذه التقنية لانفعال مركزية الأنا الفردية والأنا التجمعية المجسّدة بالتعصب أو التصلّب الناتج عن الاعتقاد بامتلاك الحقيقة المطلقة. والحقّ إنّ هذا العقل التحتي المنفعل بإطلاقية حقيقة معتقده الإيديولوجي أو المذهبي يلجأ إلى أكثر التقنيات تدميرًا لتسويغ أو تبرير معتقده. وهكذا، لم يعد الدفاع عن الحقيقة يعتمد على المنطق المتسامي، أو على العقلانية الواعية والروحانية المثلى، بقدر ما أصبح يعتمد على التقنية العدوانية المسوِّغة للكراهية الدفينة المعبّر عنها بأبشع أنواع الصراع والعنف والفساد والتدمير.

* * *

في سؤاله الرابع، أراد صديقي أن يعرف ما إن كان العقل التحتي أو المتدنّي قد سبّب، ومازال يسبّب، الأزمات والحروب التي ذكرها المؤرخون.

سأل صديقي: هدفتَ، في بحثك عن نمطي العقل، إلى التأكيد على اعتبار العقل المتدني أو العقل التحتي المنفعل، السبب الرئيس والمباشر في افتعال الأزمات وأنواع الصراع التي عانت منها البشرية في الماضي، ومازالت تعاني منها في الوقت الحاضر. هل ينطبق ما تذكره على الأزمات التي تحدثنا عنها كتب التاريخ؟

أجبت صديقي: عندما تأملت ما جاء في بحوث بعض المنظورات الاجتماعية، والتاريخية، والسياسية المصطبغة بلون فكري أو عقائدي معيّن، أدركت أنّ مسيرة التاريخ الإنساني تنقسم إلى نطاقين:

1.    نطاق يشير إلى تاريخ المعرفة والحكمة والوعي والعلم، وهو التاريخ الذي يتجلّى فيه العقل المنطقي أو العقل العارف أو العقل العلمي الذي يبحث في المبادئ، ويحلل الأحداث ويسعى إلى معرفة الأسباب بوعي وحكمة ومحبة، ويسعى إلى تحقيق مكنونات معلوماته على مستوى الطبيعة والكون والإنسان، وذلك في سبيل تحقيق المجتمع الفاضل القائم على المعرفة والوعي والحرية والسعادة والرفاه، والاعتراف بالآخر والقبول به، وتأسيس هذه المعرفة المختبرة في التجربة أو التجارب التي يجريها العقل العلمي النظري المتطور إلى معرفة أسمى لبلوغ المستوى اللائق الذي يؤكد وجود إنسانية أسمى تجعل من أبناء البشرية أسرة واحدة تتنوع مبادئها ووجهات نظرها. ومن جانبي، جعلت من هذا النطاق التاريخي والإنساني طريقي إلى المعرفة والوعي والحياة، وغايتي التي تهديني إلى محبة الجنس البشري بمعزل عن اللون أو العنصر أو العقيدة.

2.    نطاق يشير إلى تاريخ العقل المتدني، أي العقل التحتي المنفعل بمركزية الأنا. وقد ساد في هذا النطاق، ولا يزال يسود، الظلام الذي خيّم، ولايزال يخيّم، على العقل الباحث عن المعرفة والحقيقة، وسيطر فيه الجهل الذي أدّى إلى بروز الشرّ كقوة سلبية. وهيمنت فيه الإشراطات والانفعالات والعقائد المذهبية والإيديولوجية التي انحرفت عن جوهر مبادئها، وانتهت إلى صراع الإنسان مع نفسه، وإلى صراعه مع غيره الممثّل بالمجتمع، وإلى صراع المجتمع مع ذاته المنقسمة، على نحو فصام، مع الفئات المتنافسة والمتنازعة، وإلى صراع المجتمعات البشرية مع بعضها، الأمر الذي أدى، وما زال يؤدي، إلى الحروب المذهبية والسياسية والاقتصادية، وسفك الدماء وإلقاء البشرية في أحضان التعاسة واليأس، وحرمان أبناء الإنسان من نعمة الوجود الأرضي، واستغلال المتسلطين لذوي العقول المتدنية التي خضعت، على نحو انفعال، للشعارات البرّاقة والزائفة، واستسلمت للأقوال والعبارات السفسطائية البليغة التي أخرجتها عن نطاق الوعي، الأمر الذي جعل هيغل يتحدث عن السلام بوصفه هدنة بين حربين، وجعل هيراقليط يتحدث عن الحرب بوصفها العلّة الأولى والرئيسة لكل شيء.

علمتُ أنّ الأزمات، السياسية منها والإيديولوجية والاقتصادية والمذهبية والعقائدية بأنوعها، تعدّ حصيلة العقل المتدنّي الذي حرفها عن مسارها الصحيح، وسعى إلى تطوير واستغلال التقنية العدوانية على نحو هَوَسٍ سياسي أو عقائدي، وهدف إلى السيطرة والتدمير باسم ألف ألف ادِّعاء زائف للحرية والمثال والمبدأ، وأقحم الحقيقة السامية في خضم الصراع عن الحقيقة المطلقة التي يزعم أنه يمتلكها.

* * *

في سؤاله الخامس، أراد صديقي أن يفهم ما كنتُ قد نوهّتُ عنه سابقًا حول العلاقة القائمة بين مركزية الأرض ومركزية الأنا.

سأل صديقي: في عبارات عديدة أتيتَ على ذكرها في مؤلفاتك ومحاضراتك، تحدثتَ عن فرضية مركزية الأرض، وأحدثتَ علاقة وثيقة بينها وبين مركزية الأنا الفردية ومركزية الأنا التجمعية القائمة في صلب العصبية والتعصّب. أرجو أن توضّح مضمون هذه العلاقة في سياق بحثك عن نمطي العقل ونمطي التقنية، والسبب الذي دعاك إلى افتراضها تسويغًا أو تبريرًا خطيرًا يؤدي إلى اختلاق الأزمات.

أجبت صديقي: تشير دراسة تاريخ العلم، وتاريخ الفكر الإنساني، إلى سيادة فرضية مركزية الأرض في مرحلة من مراحل هذا التاريخ. وقد زعم أنصار تلك الفرضية أن الأرض تحتل مركز النظام الشمسي. وعلى الرغم من عدم صحة هذه الفرضية لكن أنصارها، الذين تميّزوا بعقلٍ متدنٍّ، اتّخذوا منها عقيدة تسوّغ الدفاع عن معتقدهم المحدود، ونصّبوا أنفسهم ممثلين وحيدين لحماية هذا المعتقد. ولقد تقبّل العقل، المنفعل بهذه المركزية، محدودية هذه الفرضية لدرجة أنه رفض كل عقيدة أو مبدأ يناقضها ويقوّضها، أو يقلل من شأنها لأسباب عقائدية وخلاصية معينة. وقاوم هذا العقل المتدني المنفعل كل خروج عن نطاقها باسم العقيدة. والحق إنّ هذا الفرضية المزعومة لم تجعل من الأرض مركزًا للنظام الشمسي فحسب، بل جعلت الوجود بكامله، في أبعاده ومستوياته اللامحدودة، عوالم تدور حول هذه المركزية العقائدية. ويؤسفني أن أقول: إنّ هذه الفرضية، التي لم تُضمَّن في حقيقة عقلية، ولم تعتمد التحليل المنطقي المتماسك في أحكامه، أدت إلى إخضاع العوالم الأخرى العديدة على نحو تؤكد العقيدة الضمنية لمركزية الأرض بوصفها الوجود الحقيقي والواقعي الممكن والضروري. وبالفعل، أدت هذه الفرضية، بصورة أو بأخرى، إلى سيادة العقل التحتي، وانفعاله بمركزية وجوده، وتفضيل هذه المركزية على سائر الوجودات أو المستويات أو العوالم. ولما كان هذا المعتقد قد وحّد هذه المركزية مع المركزية الفردية والمركزية التجمعية العقائدية، فقد عمد أنصارها إلى الدفاع عن هذا المعتقد المزعوم.

عندما تأملت مضمون أو مضامين هذه الفرضية، التي أخذت بها العقائد التي ترتكس إلى العقل المنفعل بصلابة تبريره أو تسويغه، والسبب أو الأسباب التي دعت إلى الأخذ بها واعتناقها على نحو عقيدة ثابتة وحقيقة مطلقة، أدركتُ أن خطرها يبلغ الحدّ الذي تبلغه خطورة مركزية الأنا الفردية، ومركزية الأنا التجمعية. لقد أصبح كوكب الأرض مكانًا للصراع في سبيل الخلاص بمفهومه الاسكاتولوجي.

تنطوي مركزية الأنا الفردية ضمن نطاق الأنا التجمعية لأنها تجعل هذه الأخيرة مركزًا للوجود الأرضي، والمكان الوحيد اللائق بالدرجة الأولى، لتحقيق هذا الوجود، أو أي وجود آخر. ومع ذلك، تنتهي هذه المركزية إلى الإحساس بهلع أو خوف أو قلق أو شك يسيطر عليها. ونتيجة لهذا الرعب من احتمال اللاوجود أو من النهاية المفجعة التي تنتظر الأنا بعد أمد معين، حسبما تزعم أو تتخيل، تسعى هذه الأنا إلى الحفاظ على ذاتها بسبل وطرق عديدة تتمثل في اعتقاد يجعلها تركز على السلامة والطمأنينة المزعومة عبر الحفاظ الذي ينتهي إلى إعلاء شأن الأنا المركزية المجسّدة بالعقيدة أو بالعقائد التي تدّعي الدفاع عن الحقيقة السامية على كوكب الأرض، الأمر الذي يجعلها ترتكس إلى العنف والتدمير. وعندئذٍ، تسعى هذه الأنا، الماثلة في مركزية العقيدة التجمعية، إلى فرض سيطرتها على العقائد الأخرى، واحتكار كل ما يمكن أن يوطّد مركزيتها كفئة مختارة أو كفئة مفضّلة، أو تدافع عن ذاتها وتقاوم قانون المحبة والانسجام والتعاطف الذي هو قانون الطبيعة والكون والإنسان، الأمر الذي يعني سيطرة العنف الذي يحرف كل تقدّم علمي، أو سموّ عقلي يدعو إلى الطمأنينة الحقيقية، لصالحها على نحو ما دعاه فرويد "ميكانيزم الدفاع والمقاومة" الذي يُسقط العدوانية على الآخر، وينتهي بالهجوم والقتل والتدمير، أي تدمير الآخر. وفي هذه الحالة، يتحول العلم، بمفهومه العرفاني أو المعرفي، إلى أداة خطيرة، وهي تقنية عدوانية تخدم المصلحة الأنانية لمركزية الفرد ومركزية التجمّع التي تدّعي مسؤولية الدفاع عن الحقيقة.

يتفاقم وضع مركزية الأنا الفردية عندما تطرح معنى وجودها وقيمته على المستوى التجمّعي. هذا، لأن مركزية الأنا تدرك أنّ وجودها الفردي معرّض للخطر أو الزوال، ولا يعدّ كافيًا أو وافيًا للحفاظ على ذاتها. ولهذا السبب، تسعى إلى إحداث تكتل أو تجمّع طبقي أو فئوي، لا يعدّ اجتماعًا إنسانيًا، مع مركزية الأنيات الفردية الأخرى للحفاظ على وجودها عبر ما دعاه فرويد "ميكانيزم الدفاع والمقاومة"، والموت للآخر. ولمّا كان التجمّع الماثل في العقيدة أو الفئة لا يتّصل، من قريب أو بعيد، بمفهوم "الاجتماعية" الذي يشير إلى إنسانية الإنسان، فإنه يؤدي إلى تشكيل فئوي أو عقائدي لكي تطمئن مركزية الأنا الفردية والتجمعية إلى أنها تحافظ على سلامتها نتيجة لتكتلها أو تجمعها الكمّي مع المركزيات الأخرى المتوافقة معها، وتزعم أنها تحقق أو تنفّذ إرادة ماورائية. وفي هذه الحالة، تتشكل عصبية الفئات والتجمعات التي تسعى إلى الحفاظ على وجودها المفترض. ولما كانت الأنا التجمعية مجرّد تصلّب لمركزية الأنا الفردية، أو مجرّد تأكيد على أفضليتها واختيارها، فإن القضية تستدعي النزاع والصراع على نحو ما دعاه فرويد "ميكانيزم المقاومة"، أي مقاومة الآخر، والدفاع، أي حقها المزعوم في توطيد معتقدها، ورفض الآخر نتيجة لمفهوم الدفاع والمقاومة. وعندئذٍ، ينحرف العلم، في خيره الكلّي، أي في إيجابه الكلّي، إلى تقنية عدوانية تختلقها المركزية التجمعية، عبر عقائدها العديدة، وتستدعي التطرف إلى العنف في أبعاده ومعالمه العديدة.

* * *

في سؤاله السادس، أراد صديقي أن يتبين موقفي الفكري من مفهوم السيادة، سيادة الإنسان على الطبيعة وسيادته على الآخر.

سأل صديقي: في منظورك، الذي تتحدث فيه عن المساوئ الناجمة عن سيطرة العقل المتدني أو التحتي، واستغلاله للطبيعة على نحو استنزاف مواردها، وللإنسان على نحو اعتراف بالآخر والسعي إلى تدميره، كيف تفسّر الاعتقاد السائد أنّ الإنسان هو سيّد الطبيعة والكائنات غير الإنسانية؟ أرجو أن تشتمل الإجابة على توضيح منطقي لمفهوم السيادة.

أجبت صديقي: يعتقد بعضهم أنّ الإنسان هو سيد الطبيعة والكائنات غير الإنسانية، وأنه الكائن الوحيد الذي يسمح لنفسه أن يتصرف كما يشاء في علاقته معها. ولمّا كان الإنسان يعتقد أنه الحلقة الأخيرة والنهائية لعملية التطور، أو لعملية الظهور على مسرح الوجود الأرضي، فقد نصب نفسه سيّدًا قادرًا، على نحو تفويض، على الانتفاع والاستفادة من كل ما يهبه عالم الطبيعة المادية، وعالم الحيوان والنبات والطير، الأمر الذي يؤدي إلى تسخير الطبيعة واستنزاف ثرواتها واستغلال الكائنات الأخرى.

لمّا كانت مركزية الأنا الفردية، أو مركزية الأنا التجمعية، تسعى إلى الحفاظ على ذاتها بشتى الوسائل، فقد أساء الإنسان فهم هذه السيادة، وهذه المركزية. ولمّا كانت السيادة تشير، بدورها، إلى دراسة هذه المركزية ومعرفتها المؤدية إلى دراسة الوجود ومعرفته، وإلى تطوير الوجود المادي ورفعه إلى مستوى أعلى في سلُّم الوعي، ودراسة الممالك التحتية، أي دراسة الحيوان والنبات والطير، وفهم حقيقتها، أي حقيقة وجودها، ومساعدتها ومحبتها، ودراسة الطبيعة، على نحو تجربة واختبار، وفهم قوانينها التي هي قوانينه، وذلك لكي يزداد الإنسان معرفةً وحكمةً، إنما يختلف في مستوياته دون أن يتناقض.

في هذا المنظور، تكون السيادة الزائفة على الطبيعة مماثلة للسيادة الزائفة على الإنسان. وهكذا، تشير السيادة إلى الامتياز بالمعرفة والعلم النظري والحكمة والوعي والمحبة ليكون الإنسان، بالدرجة الأولى، سيد نفسه ومحبًّا لها، ومحققًا لشمولية كيانه الطبيعي والكوني. وعلى غير ذلك، لا تتصل السيادة، من قريب أو بعيد، بالتسلط أو السيطرة، أو بتسخير الطبيعة واستغلالها واستنزاف طاقاتها واستعباد الكائنات لصالح مركزية الأنا الفردية أو التجمعية. والحقّ إنّ الإنسان لا يستطيع أن يدّعي بأنه يسيطر على نفسه وذلك لكي لا ينقسم على ذاته، أو يتجزأ على نحو فصام. وعلى غير ذلك، يسعى الإنسان إلى إحداث تكامل في كيانه، واستبعاد أي شرخ في هذا الكيان. وعلى المستوى الإنساني، يعدُّ الإنسان الواعي سيّدًا في حقل معرفته وتكامله وتوازنه تمامًا كما يعدّ الجاهل عبدًا في حقل انعدام المعرفة. وهكذا، يتميز الإنسان العارف بالسيادة الواعية والمحبة، ويتميز الإنسان الجاهل بالتسلط الذي يشير إلى السيادة الزائفة.

في هذا المنظور، يصبح كل إنسان واعٍ وعارفٍ ومحبٍّ سيّدًا لكل إنسان، ليكون جميع العارفين الواعين سادةً أو أسيادًا لبعضهم في نطاق علومهم ومعارفهم ومحبتهم. لذا، كانت السيادة دليلاً على تحقيق العلم والمعرفة اللتين يختبرهما الإنسان وهو يدرس الطبيعة والكون اللذين يصبحان، بدورهما، سيدين له لكونهما يمدّانه بالمعرفة. ألا نرى أنّ عالِم الفيزياء، وعالِم الكيمياء، وعالِم الجيولوجيا، وغيرهم من العلماء والعارفين يقتبسون معرفتهم من الطبيعة والكون، الأمر الذي يشير إلى سيادتهما على الإنسان. وفي هذا السياق، تتصالح مركزية الأنا الفردية والأنا التجمعية مع الطبيعة والكائنات الإنسانية، وتتكامل معها في اتّحاد ضمني ومحبة فائقة، وتتوافق غايات الإنسان وتنسجم معها على نحو يؤكّد سيادة المعرفة التي ترفع الوجود المادي والوجود الإنساني إلى المستوى العلمي المختبَر نتيجة لتفاعل الإنسان مع الطبيعة والكون في محبة وتناغم مادي وروحي.

يؤسفني أن أقول: إنّ سيادة الإنسان الذي يعتمد مركزية الأنا الفردية، ومركزية الأنا التجمعية، ويجعل من السيادة مفهومًا تسلّطيًا وتحكمّيًا يطبّقه على الإنسان، واستغلاليًا للطبيعة، يسعى إلى بسط سيطرته، ومدّ هذه المركزية الأنانية والسيادة الزائفة على الإنسان الآخر. فعلى مستوى مركزية الأنا تسيطر الفردية العدوانية. وعلى مستوى المركزية التجمّعية تتصلّب النزعات العدوانية حتى ولو كان التجمّع محقَّقًا على صعيد الفئة الصغيرة كالعائلة، أو على صعيد الفئة الكبيرة كالطبقة أو الطائفة أو المذهب. وهكذا، تستدعي سيادة الأنا الزائفة على الإنسان، في كلا الصعيدين، العنف الذي يرتكس باسم العقيدة السياسية أو الاقتصادية أو المذهبية أو الإيديولوجية بمفاهيمها الاستعلائية، إلى التقنية العدوانية لمجرد الاعتقاد بأنها تحافظ على الذات الفردية والذات التجمعية التي عزلت ذاتها عن الآخرين على نحو تفضيل أو اختيار. وهكذا، يبلغ المفهوم الزائف للسيادة نطاق الفوضى والفساد وبلبلة المفاهيم والقيم على النحو الذي يعجز فيه الإنسان عن معرفة الحقيقة أو التمييز بين ما يدّعي أو يزعم بأنه خير أو شرّ.

لمّا كانت مركزية الأنا الفردية، ومركزية الأنا التجمعية، تحرف إيجابية العلم إلى سلبه، وإيجابية السيادة إلى سلبها، فإنها تحرف العلم أيضًا من تقنيته الناعمة - الجرّار والطائرة المدنية - إلى تقنيته العدوانية المدمّرة - الدبابة والطائرة الحربية. ولمّا كان السلب يشير إلى تجريد العلم من إيجابيته الممثلة بمقولات القيم والمفاهيم السامية التي يتميز بها، فإن مركزية الأنا الفردية، أو مركزية الأنا التجمعية، تسعى إلى التسلّح بسلبية هذه المفاهيم والقيم التي تجعلها تعتقد، على نحو خاطئ، بأنها الوسيلة أو العملية الوحيدة الممكنة والصالحة للحفاظ على وجودها الأنا-ني. لذا، تلجأ إلى العنف الكامن في ارتكاسها إلى التقنية العدوانية لتبرير أو تسويغ معتقدها الماورائي أو السياسي أو الإيديولوجي أو الاقتصادي أو الفئوي أو المذهبي.

هكذا، نعلم أنّ العقل المتدني، أو التحتي المنفعل، الذي تخلّى عن مبادئ العقل العملي والمنطقي والعلمي، الذي هو عقل متطور إلى غايات أسمى، مسؤول عن تبنّي التقنية العدوانية لأنه، كما يزعم، السبيل الوحيد للحفاظ على مركزيته الفردية والتجمعية. وهكذا، يدافع العقل التحتي عن معتقده الانفعالي، الذي يجعل منه حقيقة مطلقة يمتلكها وحده دون سواه، عبر أسلحة التدمير.

تلك هي الأزمة الإنسانية التي يتبرّأ منها العلم بوصفه اختبارًا تجريبيًا للمعرفة النظرية، والحكمة والوعي الكامنين في جوهر الوجود الطبيعي والإنساني.

* * *

في سؤاله السابع، أراد صديقي أن يستوضح السبب الأهم الذي يسوّغه العقل المنفعل كتبرير لمواقفه العدوانية من الآخر.

سأل صديقي: أحبُّ، وقد بلغتَ هذا المستوى من توضيح الأسباب الانفعالية التي يؤمن بها العقل التحتي الذي يتبنّى التقنية العدوانية ويعتمدها أداةً للدفاع عن معتقده، أيًّا كان معتقده، أن تحدثني عن السبب الانفعالي الرئيس الذي يسوّغه هذا العقل كتبرير لمواقفه العدوانية من الآخر.

أجبتُ صديقي: في مقدمة هذا البحث، ألمحتُ إلى الآثار النفسية المَرَضية الناجمة عن إحساس دفين بمأساة الإحباط الذي عانى منه الإنسان عبر حربين عالميتين وحروب محلية أخرى خلال القرن الماضي. فقد تفاقمت أعراض الأمراض النفسية، وتمثّلت آثار هذه المعاناة النفسية المأساوية في شعور ضمني أو داخلي بالقلق، وعدم الثقة بوجود الطمأنينة والسلام. والحق إنّ الإنسان بدأ يبحث عن خلاص نفسي أخروي ينقذه من معاناته المأساوية. وهكذا، لم يعد الإنسان، وهو يجتاز مرحلة النصف الثاني من القرن العشرين، واثقًا من حلول زمن تسود فيه المحبة والإخاء والازدهار. ومع ذلك، تأمّل إنسان القرن العشرين آفاق المستقبل وتخيّل، عبر نفسه المضطربة، انبثاق فجر جديد مشرق في بدايات القرن الواحد والعشرين، أي ما يُعرف بالألف الثالثة. لقد رأى هذا الإنسان، المتألم والمحبط، إمكانية أو احتمال انبثاق فجر جديد تضيء فيه شمس تنير أرجاء المعمورة. وقد أطلق بعض علماء النفس المتفائلين على انبثاق هذا الفجر، وهذه الإضاءة، مصطلح "التحوّل النفسي والروحي" الذي سيحدث على مستوى الفرد، ومستوى الجماعة.

هكذا، توقّع الناس، أو بعضهم، حضور هذا التحول الذي سيطرأ في بدايات القرن الواحد والعشرين. لكن الواقع يشير إلى أنّ الآمال المعقودة على هذا التحوّل لم تخلُ من الشعور بالمأساة والمعاناة. لقد حملت هذه الآمال في أحشائها بذور المآسي والآلام التي تراكمت في منطقة اللاوعي المكبوت أو المكبوح. وبقدر ما كان الشعور بالمأساة حادًّا وقويًا ومسيطرًا، نفذ اليأس، بالقدر ذاته إلى هذه الرؤية الخلاصية-الاسكاتولوجية المقبلة، الأمر الذي حوّلها إلى نبوءةٍ خلاصية أخروية.

هكذا، رأت فئات عديدة من الناس في هذا التحول الخلاصي رؤيا أخروية مشحونة باليأس، ومفعمة برغبة جامحة متخيلة، لخلاص روحي. ومع ذلك، لم تكن هذه الرؤيا الخلاصية الأخروية نتيجة منطقية لأزمة الأحداث الدامية وللأزمات المأساوية التي عانت منها البشرية. وهذا لأنّ الدراسة المعمّقة للأزمات تشير إلى أنّ هذه الرؤيا الخلاصية الأخروية مضمونة في ثنايا وغلافات العقائد النبوئية التي أخذت بها جماعات عديدة كانت، ومازالت، تعتقد أنها الفئات المخوّلة لتحقيق هذا التحوّل الذي ستنتج عنه هذه الرؤيا الخلاصية الأخروية. وهكذا، سعت كل جماعة أو فئة عقائدية إلى تنفيذ ما تضمّن في أسفار رؤياها النبوئية المتّصلة بالخلاص الأخروي. ولمّا كانت كل فئة تخصّ ذاتها بحقّ تنفيذ أو تحقيق هذه الرؤيا الخلاصية في الواقع الأرضي، فإنها لجأت، في نهاية المطاف، إلى العنف. وبالتالي، لم تدرك هذه الفئات أن تحقيق هذه الرؤيا الخلاصية في الواقع الاجتماعي والإنساني لا يتمّ، أو لا يتحقق، إلا بالمحبة والوعي والحكمة.

* * *

في سؤاله الثامن، أراد صديقي أن أحدّثه عن مفهوم المصير، أي مصير الإنسانية.

سأل صديقي: أرى أنك تؤكد على وجود أزمة عالمية نتجت عن سيادة أو سيطرة العقل التحتي الذي يلجأ إلى التقنية العدوانية، ويفترض أو يزعم أنه يدافع عن معتقد اقتصادي أو سياسي أو إيديولوجي أو مذهبي ألحق به حق امتلاكه للحقيقة المطلقة، وحق تنفيذه وفق معطيات معتقده الخلاصي. وإذا كان الإنسان المعاصر يعاني من أزمة مأساوية وإحباط سببهما لنفسه، فما يمكن أن يكون مصيره؟ وهل يمكننا القول إنّ قدرًا محتّمًا فُرض على الإنسان، الذي يخرج عن نطاق وعيه، من كيان خارجي ليكون مصيره مأساويًا؟ أرجو أن توضّح موقفك الفكري من مفهوم القدر والمصير.

أجبت صديقي: أعتقد أنّ مصير العالم ومفهوم الرؤيا الخلاصية يتوقفان على توافق الحكمة والعلم. لذا تشير سيطرة العقل التقني، الذي يفعل ضمن نطاق التقنية العدوانية، إلى كارثة كبرى. ويشير استبعاده للحكمة والوعي والمحبة إلى تعاظم نتائج هذه الكارثة. ولمّا كان التخلّي عن الحكمة يزداد بزيادة التقنية العدوانية التي اعتمدها هذا العقل المنفعل، ويلحقها بمعتقده كوسيلة خلاص أرضي أو أخروي، فإنّ الكارثة تزداد بزيادة هذه التقنية العدوانية. وبالتالي، يبلغ العالم حافة الانهيار، ويفقد الإنسان أرضه وسماءه.

في هذا السياق، أتساءل: كيف أتصور العالم؟ وكيف أتمثله؟ كيف أعترف به؟ كيف يحيا في داخلي؟ كيف أتّحد معه ليكون مصيري ومصيره واحدًا؟ كيف أجعله ممكنًا للراحة والطمأنينة والغبطة؟ كيف أتفاعل معه، وأحقق معه ما هو أعلى مع ما هو أدنى، وأؤلف مستوياته كلها في تكامل أو توحيد كلي؟

أعترف بهذا العالم لأني أحبه، وأتفاعل معه لأسمو به، وأُجلُّه لأن كياني وكيانه واحد، وفي وحدة الكيان تتألَّق الثنائية في بهاء الوحدة المتكاملة، وتتآلف التعددية المتنوعة في ضياء الوحدة.

عندما أدرك هذه الحقيقة أعلم أنّ العالم الأرضي موضع يستحقّ الحياة، ويمتلئ بالقيمة والمعنى والوعي، ويضيء بالمحبة والكمال. فكما أنّ المنظار هو أداة مراقبة الكواكب والنجوم النائية، كذلك العالم الأرضي يمثّل حقل تجربة كونية، واختبارًا للوعي الكوني. وفي هذه التجربة المختبرة يكمن واجب الإنسان، وتتحقق عظمة وسموّ وجوده. أليس الإنسان حلقة تصل اللانهاية الصغرى مع اللانهاية الكبرى؟!

لا يمكنني أن أتحدّث عن مفهوم المصير بمعزل عن علاقته بمفهوم القدر. وفي الوقت ذاته، أسعى إلى بحث مفهوم القدر في علاقته بمفهوم الحرية.

في هذا المنظور، تعدُّ الحرية قوة فاعلة في كيان الإنسان ترفعه إلى مستوى أعلى في مراتب الوعي، وتنقذه من الإشراطات والقيود العديدة التي تحرّض العقل المتدنّي على التصلّب والتعصّب، والدفاع عن هذه الإشراطات التي قيّد نفسه بها، ويعتبرها، ويا للأسف، حقائق أو عقائد مطلقة. هكذا، يصبح الإنسان كيانًا يتسامى بإنسانيته بفعل حرية هي وعي ملازم لجوهر وجوده. وعندئذٍ يدرك أنّ الحرية والوعي متلازمان.

هكذا، أستطيع أن أعلن أنّ القدر، بمفهومه السلبي، خروج عن نطاق الوعي يحتّم، بخروجه هذا، نتائج مأساوية تلزم الإنسان على القيام بفعل واعٍ يتمثّل بالحرية ليحقق المفهوم الإيجابي الكامن في الفعل الناتج عن الإرادة الحرة الواعية.

هكذا يكون القدر، بمفهومه الإيجابي، طاقة فاعلة في الإنسان للانعتاق والخلاص الحقيقيين من إشراطاته العديدة، ودافعًا يحثّه على القيام بفعل مبدع يتألّق في حرية العقل ووعي الحقيقة والواقع. وهكذا، لا يعدّ القدر حتمية تُلقى على الإنسان من وجود خارج وجوده، بل هو حتمية ألقاها الإنسان على نفسه، وأمر صادر من كيانه إلى ذاته لكي يتحرر بإرادة واعية تسعى إلى التحقق.

على هذا الأساس، يتمثّل القدر بقوة دافعة إلى الأمام لا تسمح للفرد أو للمجتمع أن يقبع في متاهات الماضي الذي حتّم عليه المعاناة، وألقى على كتفيه مسؤولية الانعتاق من إشراطات ذلك الماضي بحرية تتألّق بنور الوعي.

في هذا السياق، يمكنني أن أشبّه القدر بمهماز يحثّ الفرد أو المجتمع للإنطلاق إلى الأمام. وعلى غير ذلك، يظلّ القدر قيدًا أو عبودية أو حتمية للمجتمع أو للفرد الذي يقبع في زوايا متاهات الماضي الحافل بالأخطاء المتراكمة والمترسِّبة في الوعي الجماعي.

تشير كلمة مصير إلى استمرار الفعل الإنساني الديناميكي والفعّال. والحقّ إنّ المصير لا يعني بلوغ حدّ اللارجوع عن نهاية مأساوية أو شبه مأساوية أو استسلامية أو ناجحة على نحو مؤقّت ما لم يكن متّصلاً بالمفهوم السلبي للقدر والحتمية. وهكذا، يكون مفهوم المصير تساميًا إلى غاية، أو غايات، كونية أكثر عظمةً وسموًّا.

في المفهوم الإيجابي للقدر والمصير يكمن الوعي والحكمة والمحبة والحرية. وفي الوعي والحكمة والمحبة والحرية يكمن الأمل بتحقيق أنسنة عليا متفوقة وسامية تبهت فيها مركزية الأنا الفردية والتجمعية أو تضمحل، ويتألّق السلام في ضياء الغبطة.

*** *** ***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود