بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيم

البارابسيكولوجيا وتكامُل الشَّرق والغرب

مقاربةٌ تجريبيةٌ لتَفاعُلٍ حضاريٍّ جديد

 

جمال نصَّار حسين

 

سنتتبَّع في هذه المقالة، في شكل موجز، نشأةَ الاهتمام بالظواهر الخارقة، وصولاً إلى واقع حال البحوث المعاصرة فيها الذي جَعَلَ بعضًا من هذه الظواهر يجتذب جُلَّ اهتمام باحثي الخوارق، وجَعَلَ بعضَها الآخر (الذي هو معظمها) يُزاح بعيدًا عن دائرة البحث، لا لشيء إلا لأنه يستعصي على القَوْلَبَة داخل الأنماط التصنيفية التي تمَّتْ صياغتُها لتسهيل مهمَّات البحث، فانقلبتْ أصنامًا معاصرة لا ترضى بغير التعبُّد لها – على حساب البحث عن الحقيقة!

ولكن قبل الشروع في ملاحقة نشأة الاهتمام بالظواهر الخارقة، لا بدَّ من التوقف عند حقيقة جَلاها واضحةً للعيان موقفُ العلم النظريِّ المعاصر حيال هذه الظواهر – هذا الموقف غير الموضوعي، الذي جعله أداةً بِيَدِ من أرادوا أن "يبقى الغرب غربًا والشرق شرقًا، فلا يلتقيا أبدًا"، كما سبق أن صرَّح بهذا القانون الوضعي الشاعرُ اللورد روديارد كبلنغ!

وسوف نرى، ونحن نغذُّ السيرَ في تتبُّعنا لنشأة اهتمام الإنسان بالظواهر الخارقة وتطوره، أن واقع حال البحوث المعاصرة في مضمار هذه الظواهر قد انتهى بنا إلى وجوب الإعراض عما بأيدينا، لا لشيء إلا لأنه شرقي، وإلى لزوم الانشغال بما بين أيدي الغرب، لا لشيء إلا لأنه غربي!

لقد برهنتْ البارابسيكولوجيا المعاصرة على أنها نتاج غربي آخر متعالٍ على كلِّ ما هو ليس بغربي، حتى وإن كان يَبُزُّه مقدرةً على الإتيان بكلِّ ما من شأنه أن يدفع بالعلم ويقفز به خطوات إلى الأمام. وسوف يتجلَّى لنا، في كلِّ وضوح، أن الاستمرار في هذا النهج غير العلميِّ لن يقود إلا إلى الابتعاد عن الحصول على المُراد من البحث عن الحقيقة؛ وبالتالي فليس هناك من سبيل آخر سوى أن يُصار إلى انتهاج طريق بديل، لا ينحاز إلا إلى الحقِّ، أينما حلَّ وارتحل.

وسيكون للظواهر الخارقة قَصَبُ السَّبْق في جعل المقولة الاستعمارية البغيضة "الشرق شرقٌ والغرب غربٌ، ولن يلتقيا أبدًا" تنطمر بعيدًا وتذهب أدراج الرياح. فالظواهر الخارقة، كما سيتجلَّى لنا، هي ساحةُ اللقاء المرتقَب بين الشرق والغرب؛ وهي بذلك نواةٌ لتفاعل حضاريٍّ جديد، يرتقي بالإنسانية إلى مستوى معرفي كفيل بجعلها تتجاوز هذه التصنيفات البدائية القائمة على أساسٍ من العِرْق واللون ومكان المولد! إن الظواهر الخارقة تستطيع أن تقدِّم هذا الأنموذج paradigm الجديد الذي سيتكفَّل بدَفْعِ البحث العلمي المعاصر صوبَ آفاق جديدة واعدة، تتسامى فوق كلِّ ما يفرِّق بين البشر بدعوى أنهم أجناس متمايزة وأعراق متناشزة!

والآن، فلنبدأ رحلة ملاحقتنا لنشأة وتطور البحث في مجال ما هو خارق للمألوف وخارج على ما دَرَجَ السوادُ الأعظم من بني آدم على الأخذ به والركون إليه، مظنَّةَ أنه الثابت غير المتغير الذي لا يمكن، بالتالي، خَرْقُه والخروج عليه.

لقد بدأ تعرُّفُ الإنسان إلى الظواهر الخارقة واهتمامُه بها منذ أن خطا خطواتِه الأولى على سطح هذا الكوكب. وقد حفلتِ الكتبُ الإلهية التي أنزلها الله على مَن اصطفى من بني آدم، رسلاً وأنبياء، بالكثير من خوارق العادات التي تنوَّع طيفُها وامتدَّ ليشمل المعجزات، التي أيَّد بها الله رسلَه، فكانت الحجة التي برهنتْ على صِدْق ما جاؤوا به أقوامَهم منه، وظواهر خارقة أخرى لم يكن أصحابُها رسلاً ولا أنبياء.

إن تاريخ الإنسان لَيشهدُ أن اهتمامه بالظواهر الخارقة لم يختفِ يومًا ولم يفترْ. بل إن الواقع لَيشهدُ أيضًا أن هذا الاهتمام ما فتئ يزداد كمًّا ويتطور نوعًا بمضيِّ الأزمان وتقادُمها. فمَن يدرس المجتمعاتِ البشريةَ التي ظهرتْ على مرِّ التاريخ، في مختلف بقاع الأرض، في إمكانه أن يتبيَّن في وضوح أن ما من مجتمع بشري خلا من الاهتمام الاستثنائي بالظواهر الخارقة؛ بل إن أصحاب القابلية على القيام بالفعاليات الخارقة كانوا كثيرًا ما يتمتعون بمواقع خاصة ومتميزة في مجتمعاتهم. فالكثير من المجتمعات اعتبرتْ هذه الفعاليات الخارقة دليلاً على المكانة الدينية المتميزة لصاحبها، فيما ربطتْ مجتمعاتٌ أخرى بين السلطتين الدينية والدنيوية، جاعلةً من أصحابها زعماء المجتمع وعِلْيَتَه. وكان المجتمع عادةً ما يمنح أولئك الذين يتميزون بامتلاك قابليات خارقة على علاج الأمراض مكانةً خاصة ومتميزة. وهذا أمر طبيعي ومفهوم إذا ما تذكَّرنا ما تمثِّله الصحةُ للإنسان والدورُ الذي يمكن لمثل هؤلاء الأشخاص أن يقوموا به في مجتمعات كانت المعارفُ الطبية فيها محدودةً جدًّا، وكان الفاصلُ فيها شبه معدوم بين ما هو طبِّي وما هو "سحري".

بيد أن اهتمام الإنسان بالظواهر الخارقة لم يكن له أيُّ أثر في جَعْلِه يطوِّر معرفةً صائبة بطبيعة هذه الظواهر الغريبة. وتكفي نظرةٌ سريعة إلى موروثات الشعوب والمجتمعات، من أدبيات مرويَّة ومكتوبة، لكي يدرك المرء أن الظاهرة الواحدة قد فسَّرها الناسُ تفسيراتٍ شتى في الأماكن والأزمان المختلفة. كما أن سيطرة النظرة الميتافيزيقية على عقل الإنسان جعلتْه ذا ميل دائم إلى تصنيف حادثة أو ظاهرة ما على أنها من الخوارق. إن هذه النزعة البشرية القوية نحو التفسيرات الميتافيزيقية لم تحجبْ عن الإنسان طبيعةَ الظواهر الخارقة فحسب، وإنما جعلتْه يسيء فهم الكثير من الظواهر الفيزيائية كذلك؛ فكان أن اختلط الفيزيائي بالميتافيزيقي.

غير أنه كان مقُدَّرًا للمعرفة البشرية بالظواهر الخارقة والظواهر المألوفة على حدٍّ سواء أن تتطور. فلقد شهد القرن السادس عشر بدايةَ انعتاق العلم في الغرب من عبوديته لرجال الكنيسة وبدايةَ ما يُعرَف بعصر النهضة العلمية؛ ذلك العصر الذي مثَّل ثورة معرفية مهمة جدًّا قادت إلى هذا التقدم التكنولوجي المُذهل الذي يميِّز حضارتَنا الحالية. إن التقدُّم العلمي في دراسة طبيعة الظواهر الفيزيائية وفهمها كان لا بدَّ أن يعمل على زيادة قدرة الإنسان على تمييز هذه الظواهر عن تلك التي تُصنَّف على أنها ظواهر خارقة. غير أن الثورة العلمية التي اجتاحت العلوم الفيزيائية لم تبلغ مجالَ الظواهر الخارقة إلا في القرن التاسع عشر، وذلك بعد مضيِّ أكثر من ثلاثمائة سنة على بداية ما يُسمَّى بعصر النهضة.

لقد ظهرتْ أولى البحوث عن الظواهر الخارقة على يد بعض الدارسين الذين ادَّعوا أن ممارسة المِسْمِرية mesmerism، التي عُرِفَتْ لاحقًا بالتنويم hypnosis، يمكن لها أن تتسبَّب في ظهور بعض التأثيرات الخارقة، كانتقال الأفكار بين المُنوِّم والمُنوَّم. كما دُرِسَتْ حالاتُ العديد من أولئك الذين اصطُلِحَ على تسميتهم بـ"الوسطاء الروحيين" mediums، الذين ادَّعوا أن في مقدورهم إقامة ما سُمِّيَ حينذاك بـ"جلسات تحضير الأرواح"؛ أولئك الوسطاء الذين ازداد عددُهم ازديادًا كبيرًا نتيجة لانتشار الحركة التي عُرفت بـ"الأرواحية" spiritualism في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا.

ولم يقتصر الاهتمام في ذاك الوقت على دراسة الظواهر الخارقة على باحثين انشغلوا بهذه الظواهر حصرًا. فلقد تمَّ إجراءُ بعض البحوث على يد باحثين مرموقين من المتخصِّصين في مجالات علمية تقليدية، كالفيزياء والكيمياء والفسيولوجيا. وكمثال على هذه البحوث، هناك الدراسات التي قام بها الفيزيائي الإنكليزي الشهير وليم كروكس على أحد أشهر الوسطاء الروحيين، وهو الاسكتلندي دانيال هيوم، حيث حاول كروكس قياس القوة الفيزيائية التي تضمَّنتْها بعض الفعاليات الخارقة لهذا الوسيط. إلا أن مثل هذه البحوث لم تكن سوى جهود فردية، ولم تكُ بالتأكيد جهودًا منظمة أو متواصلة.

لكن الاهتمام المتزايد بدراسة الخوارق، في شكل عام، وظاهرة الوساطة الروحية، في شكل خاص، قاد مجموعةً من الأكاديميين من جامعة كمبردج البريطانية إلى إنشاء أول جمعية رفيعة المستوى متخصِّصة في دراسة الظواهر الخارقة، وهي "جمعية بحث الخوارق" Society for Psychical Research. كان ذلك في العام 1882، وكان أول رئيس لها أحد أساتذة جامعة كمبردج المعروفين، وهو الفيلسوف هنري سِدْوِك Henry Sidgwick. أدى إنشاء هذه الجمعية الأكاديمية إلى تنظيم دراسة الظواهر الخارقة وتأسيس معايير للبحث العلمي في هذا المجال. وقامت جمعية بحث الخوارق، بعيد تأسيسها مباشرة، بإصدار دورية متخصِّصة ذات مستوى أكاديمي رفيع. وهكذا أخذتْ دراساتُ الظواهر الخارقة تتحول تدريجيًّا إلى علم نظري. وبعد تأسيس جمعية بحث الخوارق بثلاثة أعوام، قامت مجموعة من الأكاديميين الأمريكيين، من بينهم عالم النفس المشهور وليم جيمس، بتأسيس "جمعية بحث الخوارق الأمريكية" American Society for Psychical Research في بوسطن.

تركزتْ بحوثُ جمعية بحث الخوارق البريطانية، ونظيرتها الأمريكية، على دراسة حالات خاصة من الظواهر الخارقة، وكذلك على القيام ببحوث ميدانية field research. وقامت الجمعيتان بنشر العديد من التقارير والبحوث. إلا أن الثورة الحقيقية في مجال دراسة الظواهر الخارقة حدثت في العقد الثالث من القرن العشرين، وذلك بظهور البحوث المختبرية للظواهر الخارقة على يد بيولوجي النبات جوزيف راين Joseph Rhine؛ إذ قام راين بدراسة العديد من الظواهر الخارقة تحت شروط مختبرية مُسيطَر عليها experimentally controlled conditions، وأخضَعَ نتائجَ بحوثه هذه للتقييمات الإحصائية statistical evaluations، كما هو متعارف عليه في العلوم التقليدية، ليضع أسُسَ ما يُعرَف حاليًّا بـ"البارابسيكولوجيا التجريبية" experimental parapsychology. وهنا لا بدَّ من الإشارة إلى أن مصطلح "بارابسيكولوجيا" نفسه هو من وَضْعِ راين الذي صاغَه من الألمانية. وقد أدَّتْ جهودُ راين إلى إنشاء أول مختبر للبحوث البارابسيكولوجية في العالم في العام 1934، وهو "مختبر بارابسيكولوجيا جامعة ديوك" Duke University Parapsychology Laboratory. وبذلك أصبحت طائفةٌ من الظواهر الخارقة تُدرَس كما تُدرَس الظواهر الفيزيائية، وغدت البارابسيكولوجيا مبحثًا يمكن إخضاعُ نتائجه للتقييمين الكمِّي والنوعي quantitative & qualitative، كما هي الحال مع العلوم التقليدية.

لقد كان اتخاذُ المنهج التجريبي–الاختباري experimental-empirical في دراسة الظواهر الخارقة، في وقت شَهِدَ توجهًا كبيرًا في العلوم بشكل عام نحو الدراسات المختبرية، ذا أثر كبير في إعطاء بحوث الظواهر الخارقة زخمًا قويًّا مكَّنها من فَرْضِ نفسها كندٍّ لا يقل علمية عن غيرها من البحوث في ميادين العلوم التقليدية. ولكن بسبب من اتجاه راين نحو البحث التجريبي، فقد حَصَرَ اهتمامه بالظواهر التي يمكن إخضاعُها لشروط الدراسة المختبرية، ولم يولِ اهتمامًا بتلك الظواهر التي كانت السبب في نشوء الانشغال العلمي بالظواهر الخارقة، مثل ظواهر الأطياف والأشباح وما يُعرَف بـ"الأرواح الصاخبة" poltergeist. فالدراسة المختبرية للظواهر الخارقة تتلافى بعض المشكلات المهمة التي تعيق المنهجين الآخرين اللذين كانا يسودان البحث في هذا المجال، أي منهجَي دراسة الحالات التلقائية spontaneous، وهي الحوادث الخارقة التي تقع وقوعًا مفاجئًا، والدراسة الميدانية.

فعند دراسة الحالات التلقائية يواجِه الدارسون إمكانيةً قائمة على الدوام، وهي أنْ تكون الوثائق التي تصف الحالة المعنية قيد الدرس، أو شهادات الشهود عليها، ليست على الدقة المطلوبة، وربما أيضًا غير صحيحة، أو حتى ملفَّقة. أما المشكلة الأساسية التي تُقابِل القائمين بالدراسات الميدانية، أي دراسة الظاهرة الخارقة في موقع حدوثها، فهي صعوبة التيقُّن من أنه قد تمَّ التغلُّب على كلِّ احتمالات التلاعب والغشِّ اللذين قد يلجأ إليهما مَن يدَّعي امتلاكه لمقدرات خارقة، وبالذات إذا كان من المتمكِّنين من فنِّ "خفة اليد" slight of hand، وذلك لأن الدراسة عادةً ما تجري في مكان يكون قد أعدَّه الشخصُ نفسه، وبالتالي فإن في إمكانه أن يجعل فيه ما يساعده على القيام بعمليات الغشِّ والخداع. كما ويشترك منهجا دراسة الحالات التلقائية والدراسة الميداينة في تعذُّر أو صعوبة وَصْف الحادثة الخارقة فيهما وصْفًا كميًّا – وهو أمر يمكن السيطرة عليه في سهولة في المختبر، حيث يوجد تحت سيطرة الباحث مختلفُ الأجهزة التي يحتاج إليها.

تركَّزتْ دراسات البارابسيكولوجيا التجريبية على طائفتين بالذات من الظواهر الخارقة: الطائفة الأولى هي ظواهر التحريك الخارق psychokinesis، التي تتضمَّن إحداث تأثير على جسم ما عن بُعد من دون استخدام وسيلة فيزيائية مُدرَكة، كالجهد العضلي أو أيِّ نشاط للجهاز الحركي في الجسم؛ والطائفة الثانية هي ظواهر الإدراك الحسي الفائق extrasensory perception، التي تصنَّف، بدورها، إلى ثلاثة أنواع هي: أولاً، التخاطُر telepathy، ويُقصَد به انتقال الأفكار والصور الذهنية بين الكائنات الحية من دون الاستعانة بأية حاسة من الحواس التقليدية؛ وثانيًا، الإدراك المُسبَّق precognition، الذي يعني معرفة أحداث مستقبلية قبل وقوعها؛ وثالثًا، الاستشعار clairsentience، وهو اكتساب معلومات عن حادثة بعيدة أو جسم بعيد دون استخدام الحواس.

وعلى الرغم من أن أبحاث الخوارق توجَّهتْ أساسًا إلى دراسة حالات أفراد موهوبين، فإن البارابسيكولوجيا التجريبية انحرفت تدريجيًّا عن هذا الاتجاه في البحث، لتركِّز، بدلاً من ذلك، على دراسة مختلف الظروف والعوامل التي يمكن لها أن تُكسِب الإنسانَ – أيَّ إنسان – قابليات خارقة من هذا النوع أو ذاك. فمن يطَّلع على المنشور من الدراسات المختبرية في البارابسيكولوجيا لا بدَّ أن يلاحظ أن البحوث التي قامت بدراسة القابليات الخارقة لبعضٍ من الموهوبين تمثِّل قلةً من هذه الدراسات التي خُصِّصتْ غالبيتُها العُظمى لمعرفة كيفية إيجاد قابليات خارقة عند أفراد لا يمتلكونها.

أدى هذا المنحى في البارابسيكولوجيا التجريبية إلى التركيز في التجارب على محاولة استكشاف أية تغييرات، مهما كانت ضعيفة، في قابلية الشخص على القيام بفعاليات، مثل قراءة أفكار شخص آخر ينظر إلى صور معينة، وبالتالي محاولة الأول إعطاء وَصْفٍ لهذه الصور، أو محاولته التأثير على الوجه الذي يستقر عليه النَّرْد من بعد رَمْيِه (من دون أن يلمسه طبعًا)، وفعاليات من هذا النمط. فوفقًا لقوانين الاحتمالية، من المفروض أن يؤدي رميُ النَّرْد عددًا كافيًا من المرات إلى استقراره على كلِّ وجه عددًا من المرات يعادل سُدس عدد الرميات الكلِّي. فإذا تبيَّن أن النَّرْد استقر عددًا من المرات أكبر على الوجه الذي يريده الشخص المشترك في التجربة، يتم تطبيق القوانين الإحصائية المناسبة على الحالة لحساب احتمالية أن يكون ما حَدَثَ لا يقبل الإرجاع إلى المصادفة، أي احتمالية أن يكون النَّرْد قد استقرَّ على وجهه المعيَّن بسببٍ من تأثيرات خارقة مصدرها الشخص محور التجربة.

وعلى الرغم من أن البارابسيكولوجيا التجريبية هي أكثر شكل اتَّخذتْه دراسةُ الخوارق قُربًا من العلوم التقليدية، وذلك على قدر تعلق الأمر بمنهج البحث، فإن هذا المنهج قد فشل، مع ذلك، في كَسْبِ تأييد الكثيرين من المختصين في العلوم التقليدية. وأحد أسباب هذا الفشل هو ضعف التأثيرات الفيزيائية الخارقة التي يتم الحصول عليها في معظم هذه البحوث – هذه التأثيرات التي لا يمكن على الإطلاق مقارنتُها بالقابليات الخارقة التي يستعرضها الأفرادُ الموهوبون.

وفي الحقيقة، لو كانت قابليات الأفراد الموهوبين هي من نفس مقدار التأثيرات الضعيفة weak effects التي يحصل عليها باحثو البارابسيكولوجيا في المختبر لما نشأ أيُّ اهتمام أساسًا بدراسة هذه القابليات. لذا لا عجب أن نرى أن مثل هذه البحوث لم تنجح في إقناع معظم العلماء أن نجاح الشخص في جعل النَّرْد يستقر على وجه معيَّن أكثر من غيره هو دليل على تمتُّع هذا الشخص بقابليات تحريك خارق مثل التي يتمتع بها بعض الموهوبين ممَّن لدى بعضهم قابلية، على سبيل المثال، لتحريك قطعة معدنية عن بُعد.

إلا أن ضعف التأثيرات التي تظهر في الدراسات البارابسيكولوجية المختبرية على الأفراد غير الموهوبين ليس العامل الوحيد الذي يحدُّ كثيرًا من قدرة هذه الدراسات على إقناع المشكِّكين skeptics بوجود الظواهر الخارقة؛ إذ إن هنالك مظهرًا سلبيًّا آخر يمكن ملاحظته، حتى على نتائج التجارب التي أشخاصها أفراد يتمتعون بقابليات خارقة. وهذا المظهر السلبي هو ما يُعرَف في مصطلحات البارابسيكولوجيا بـ"لاتكرارية" irreproducibility الظواهر الخارقة. والمقصود باللاتكرارية هو أن الفرد صاحب القابلية الخارقة لا ينجح دائمًا في استعراض قابليته هذه. وعلى سبيل المثال، فإن الشخص الموهوب بقابلية التخاطُر في إمكانه أن ينجح أحيانًا في قراءة أفكار غيره من الناس، إلا أنه يعجز، في أحيان أخرى، عن القيام بالفعل نفسه، مما يبرهن على أن قابليته هذه غير ثابتة، ولكن متغيِّرة بين ظهور واختفاء؛ وبالتالي فمن الواضح أن هذا الشخص ليست لديه السيطرةُ الفعلية على قابليته الخارقة كما يبدو عليه حين ينجح في إظهارها.

لقد شكَّلتْ صفةُ اللاتكرارية أكبر عقبة أمام إقناع كثير من العلماء التقليديين الذين ألِفوا دراسة الظواهر الفيزيائية – هذه الظواهر التي تطيع قوانين ثابتة لا تُغيِّرها بين حين وآخر. إلا أن من المهم هنا التشديد على أن صفة اللاتكرارية التي تتميَّز بها الظواهرُ الخارقة ليست مبررًا ولا مسوغًا للتشكيك في صحة هذه الظواهر، وذلك لأن الدراسات المختبرية للموهوبين تأتي عادة بنتائج إيجابية لا يمكن، بأية حال من الأحوال، إنكارُ أهميتها. فلاتكرارية القابليات الخارقة يجب ألا تدفع بالباحث إلى إنكار هذه القابليات؛ وإنما يجب أن يتعامل معها كصفة من صفات هذه الظواهر الخارقة عينها.

إن مما لا شكَّ فيه أن دراسة الظواهر الخارقة ليست بالأمر الهيِّن على الإطلاق، وذلك لأن هذه الظواهر تختلف في الكثير من صفاتها عن المألوف من الظواهر الفيزيائية، كما هو واضح من خلال تميُّزها بصفة اللاتكرارية. بيد أن هذه الحقيقة يجب ألا تمنعنا من التشديد على حقيقة أخرى مفادها أن باحثي البارابسيكولوجيا هم أنفسهم مسؤولون عن الكثير من الشكِّ الذي لازالت تُقابَل به الظواهرُ الخارقة. إن نزعةَ التركيز على دراسة الأفراد غير الموهوبين، على سبيل المثال، والتأثيراتِ الضعيفةَ التي يبحث عنها الباحثون في هذه التجارب، قد لعبت دورًا كبيرًا في تضييع الكثير من الجهود التي كان يمكن أن تُستغَلَّ استغلالاً أفضل في دراسات أخرى.

ومما لا شكَّ فيه أيضًا أن حلم السيطرة على القابليات الخارقة حلم مُغْرٍ؛ غير أن الجري وراء هذا الحلم لم يجلب خيرًا كثيرًا لبحوث البارابسيكولوجيا. فكما يقول ريتشارد بورتون، مدير البحث في معهد البارابسيكولوجيا Institute for Parapsychology الأمريكي المرموق، فإن المحاولات التجريبية التي ترمي إلى التوصُّل إلى صياغة تقنياتٍ كفيلة باصطناع القابليات الخارقة عند أشخاص غير موهوبين كانت نتائج معظمها سلبية. لكن تركيز باحثي البارابسيكولوجيا على دراسة أفراد عاديين ليست لهم قابليات خارقة ليست النزعة الخاطئة الوحيدة التي تركت آثارًا سلبية على البارابسيكولوجيا. فهناك نزعة أخرى خاطئة لا تقل تأثيرًا عن سابقتها، وهي استسلام الباحثين للأحكام النظرية المُسبَّقة عن طبيعة الظواهر الخارقة. وهذه المسألة تتطلب بعض التفصيل.

فعلى الرغم من أن الدراسات التجريبية تمثل قدرًا كبيرًا من حجم البحث العلمي في البارابسيكولوجيا، فإن هذا لم يجعل منها علمًا تجريبيًّا حقًّا، يلتزم الدلالاتِ التجريبيةَ للنتائج المختبرية، ويتجنب الانسياق وراء الفرضيات النظرية التي ليس في نتائج التجارب ما يدلِّل على صحَّتها. فالناظر في تمحيص إلى طبيعة البحوث البارابسيكولوجية التجريبية لن تخفى عليه النزعةُ الواضحة لاستغلال نتائج هذه البحوث في دَعْمِ تفسيراتٍ معينة تتجاوز بكثير دلالاتِ التجارب المختبرية. وعلى وجه التحديد، فإن الدراسة النقدية للاتجاهات التفسيرية في البارابسيكولوجيا تكشف عن ميل شديد، لدى غالبية الباحثين، إلى البرهنة على أن الإنسان – ولا أحد سوى الإنسان – هو مصدر الطاقة الوحيد للفعاليات الخارقة التي تظهر على يديه. وهاهنا مفارقة ساخرة، وذلك لأن البارابسيكولوجيا نشأت أساسًا لدراسة ظواهر من المفروض أنها تحدث بسبب من تدخُّل كائنات عاقلة غير بيولوجية! حسبُنا هنا أن نتذكر جلسات تحضير الأرواح والأرواح الصاخبة وظواهر الأشباح والأطياف. فعلى الرغم من أن المفترَض في باحث البارابسيكولوجيا أن يتمتع بذهنية منفتحة، باعتباره يدرس ظواهر تهملها العلومُ التقليدية – بل وتنكرُ وجودَها أصلاً – فإن من الواضح أن هذا التفتُّح الفكري يتوقف عند حدِّ التسليم بوجود هذه الظواهر، ويغيب تمامًا حين يبدأ الباحثُ بدراسة الظاهرة. إذ إن الكثير من بحوث البارابسيكولوجيا تتضمن إنكارًا ورفضًا، ضمنيًّا أو صريحًا، لاحتمال أن تكون الظواهر الخارقة ذات مصادر طاقة غير بشرية. فهذه البحوث ترفض أن تدرس دراسةً جدية احتمالَ وجود كائنات عاقلة غير بشرية، يمكن أن يكون لها دورٌ ما في مثل هذه الظواهر.

لقد وضع باحثو البارابسيكولوجيا، على سبيل المثال، العديدَ من النظريات التي تهدف إلى تفسير ظواهر مثل الأماكن المسكونة haunted places وتحضير الأرواح والأطياف apparitions or ghosts والأرواح الصاخبة على أساس يتم النظرُ بموجبه إلى هذه الظواهر على أنها ليست سوى تجلِّيات لطاقات بشرية، وأن لا مبرِّر هنالك لافتراضٍ مؤدَّاه أن هذه الظواهر تشير فعلاً إلى وجود مخلوقات عاقلة غير بشرية. فوفقًا لأكثر هذه النظريات شيوعًا – وهي نظرية "بسي الفائقة" super psi – فإن كلَّ ما يحدث في ظواهر البيوت المسكونة والأرواح الضوضائية وتحضير الأرواح، من أصوات وتحريك أشياء وغيرها، هو نتيجة تأثيرات خارقة غير واعية لأحد الأشخاص من حضور المكان. وعلى الرغم من هشاشة البناء النظري لهذه النظريات، وافتقارها إلى البرهان التجريبي، فإن لهذه النظريات شعبيةً كبيرة في مجتمع باحثي البارابسيكولوجيا. وفي الحقيقة، فإن دراسة الاتجاه التفسيري السائد في البحوث البارابسيكولوجية لا بدَّ أن يترك في الشخص الانطباع أن الهدف الوحيد للبارابسيكولوجيا، سواء صرَّحتْ به أم لم تصرِّحْ، هو البرهنة على أن الإنسان هو مصدر الطاقة الوحيد للظواهر الخارقة وأن الظاهرة الخارقة تبدأ في الإنسان وتنتهي فيه.

إذًا فلقد أنكر العلماءُ المشكِّكون وجود الظواهر الخارقة لأن وجودها يفترض حتمًا قصور – أو على الأقل محدودية – بعض النظريات العلمية، ويبرهن على أن النظريات العلمية التقليدية هي ليست بالشمولية التي يقول بها العلمُ النظري. أما باحثو البارابسيكولوجيا فقد أقروا بوجود هذه الظواهر؛ إلا أنهم، بدورهم، أنكروا احتمالَ وجود أيِّ تفسير لها يخرج عن النطاق الضيق للتفسيرات التي وضعوها. ومن هذا يمكن الاستنتاج أن البارابسيكولوجيا لم تكن يومًا علمًا حياديًّا، يتناول بالبحث مختلف الظواهر الخارقة من دون أحكام مسبَّقة – وهو أمرٌ لطالما ادَّعاه في فخر باحثو البارابسيكولوجيا في سياق نَقْدِهم للمشكِّكين في الظواهر الخارقة واتِّهامهم لهؤلاء برفض هذه الظواهر على أسُس غير علمية. إن الفرق الحقيقي بين المشكِّكين وباحثي البارابسيكولوجيا لا يتمثل في كون الفريق الأول منغلقًا فكريًّا، بينما الفريق الثاني منفتح فكريًّا – وهي الصورة الشائعة بين الناس، التي يروِّج لها باحثو البارابسيكولوجيا أنفسهم – وإنما الفرق الحقيقي بين الفريقين هو فرق في ما قد أغلق كلُّ فريق عينيه عنه!

والآن، إذا كان هذا هو الأسلوب الذي تعاملتْ به البارابسيكولوجيا الغربية مع الظواهر الخارقة المتوفرة في البيئة التي ظهرتْ فيها، أي في المجتمعات الأوروبية والمجتمع الأمريكي، فما هو موقفها من الظواهر الخارقة التي تنتمي إلى مجتمع غير غربي؟ وعلى وجه التحديد: ما هو موقف البارابسيكولوجيا الغربية من الظواهر الخارقة في البلدان العربية والإسلامية؟ إن الموقف العام الذي اتخذتْه البارابسيكولوجيا الغربية من الظواهر الخارقة في هذه البلدان يمكن وصفُه باختصار بكلمتين فقط: إهمال تام!

فمن الحقائق البديهية التي يعرفها كلُّ من لديه بعض الاطِّلاع، مهما كان محدودًا، على المجتمعات العربية والإسلامية هو أن هذه المجتمعات تزخر بمختلف أنواع الظواهر الخارقة التي هي نتاج لطبيعة الانتماء الديني لهذه المجتمعات. وهذه الحقيقة لا يتطلب التحقق منها الرجوعُ إلى كتب التاريخ لدراسة ما سَبَقَ حدوثُه من مختلف أنواع الظواهر الخارقة (على الرغم من أن هذا أمر ممكن طبعًا، حيث سجَّلتْ كتبُ التاريخ الكثير من مثل هذه الظواهر)، وإنما يمكن التحقُّق من ذلك تحققًا مباشرًا، وذلك لأن مثل هذه الظواهر لم تختفِ يومًا ولم يتوقَّف حدوثها. والظواهر الخارقة المنتشرة في البلدان العربية والإسلامية تتضمن الظواهر التلقائية وتلك المُسيطَر على حدوثها.

والظواهر التلقائية هي تلك الظواهر التي تحدث دون أن يكون في الإمكان التحكُّم في وقت و/أو زمان حدوثها. ويتركَّز وقوع هذه الحوادث، على وجه الخصوص، في مقامات الصالحين. وأكثر أنواع الظواهر التلقائية انتشارًا التي تحدث لبعض الناس في أثناء زيارتهم مثل هذه الأماكن الدينية، أو نتيجة تلك الزيارة، هي حالات خَرْقٍ للقوانين الطبية، وذلك على شكل شفاء آني من أمراض مستعصية. وقد تكون الحادثةُ شفاءً من مرض عضال، كالسرطان، أو حتى من حالات مرضية ولادية، كالعمى. إن في كلِّ بلد من البلدان العربية والإسلامية العديدَ من مثل هذه الأماكن التي تُعرَفُ بأنها ذات بَرَكَة خاصة، كما تشهد بذلك الخوارق (الكرامات) التي تحدث فيها.

إن دراسة الظواهر الخارقة التلقائية ليست بالأمر الهيِّن على الإطلاق، وذلك لأنها ظواهر لا يمكن للباحث التحكُّم في وقت حدوثها ومكانه. غير أن هذا لا يعني "استحالة" دراسة هذه الظواهر، وإنما يعني أنها تحتاج أسلوبًا مختلفًا في التعامل معها، وذلك لأن التحقق من حدوثها هو بالتأكيد أمرٌ أصعب من التحقق من حدوث الظواهر المُسيطَر عليها. لقد طوَّرتْ البارابسيكولوجيا الغربية فعلاً أساليب للبحث والتمحيص تُمكِّنها من دراسة الظواهر الخارقة التلقائية بكفاءة والتحقق مما إذا كانت الحادثة المعنيَّة هي فعلاً حادثة مما يمكن وصفُها بأنها "خارقة" أو مما إذا كان هذا الوصف لا ينطبق عليها.

ربما يجد بعضُهم في الصعوبات العملية المتضمَّنة في دراسة الظواهر الخارقة التلقائية تبريرًا مقبولاً لإهمال البارابسيكولوجيا الغربية مثل هذه الظواهر التي تحدث في البيئة العربية المؤمنة. إلا أن ما لا يمكن أن يوجد له تبريرٌ مقبول هو الإهمال التام لبارابسيكولوجيا الغرب للظواهر الخارقة المُسيطَر عليها التي في إمكان بعض الأفراد استعراضُها. والظاهرة التي سنبحثها هنا هي تلك المعروفة، وفقًا للمصطلحات الصوفية، بـ"الدرباشة" (ضرب الشيش)، التي في الإمكان أن يُعرَّف بها بأنها "ظواهر الشفاء الخارق للإضرار المتعمَّد إحداثه في الجسم" Super Healing of Deliberately Caused Bodily Damage.

في العديد من الكتب التي قام بوضعها كتَّابٌ عرب، وكذلك بعض الكتب التي قام بتأليفها باحثون أو رحَّالة مستشرقون أجانب، يرجع تاريخُ بعضها إلى عدة قرون، هنالك إشارات سريعة، وأحيانًا مفصَّلة، إلى فعاليات غريبة ذات مظاهر خارقة، يمارسُها مريدو بعض الطُّرُق الصوفية، أي الدراويش. ففي فعاليات الدرباشة (الشفاء الخارق للإضرار المتعمَّد إحداثه في الجسم) هذه، يقوم الدرويش بإحداث جروح عميقة في أجزاء معينة من جسمه، غير أنه لا يعاني أية من النتائج الخطيرة التي تنشأ عادة عن مثل هذه الإصابات (نزيف والتهاب وعطب في وظيفة الجزء المصاب من الجسم)، إضافة إلى عدم الشعور بالألم.

وكمثال يصف طبيعة هذه الظواهر، في الإمكان دراسة فعاليات إصلاح الضرر الجسمي المُتعمَّد إحداثه كما يمارسها دراويش الطريقة العليَّة القادرية الكَسْنَزانية، إحدى أكثر الطُّرُق الصوفية انتشارًا في الوطن العربي والعالم الإسلامي. ويمكن تقسيم هذه الفعاليات الخارقة إلى الأصناف الثلاثة التالية:

1.    يقوم الدرويش بإدخال أدوات حادة، كالأسياخ والسيوف، في مناطق مختلفة من جسمه. ولا تخضع الأدوات المستعملة لأية عملية تعقيم مسبَّقة؛ كما يمكن للدرويش أحيانًا أن يلوِّث الأدواتِ التي يستخدمها تلويثًا متعمَّدًا قبل أن يطعن جسمَه بها. أما أجزاء الجسم التي تُستهدَف في هذه الفعاليات فتشمل الرقبة (صورة 1)، الخدَّين، اللسان، قاعدة الفم، الذراع، عضلات الصدر (صورة 2)، والبطن (صورة 3)، بمناطقها المختلفة. والأدوات التي تُستعمَل في هذه الفعاليات تكون عادة معدنية وذات أقطار مختلفة. غير أنه، عند استخدام أجزاء رقيقة من الجسم، كالخدَّين وقاعدة الفم، قد يستبدل الدرويشُ بالأداة المعدنية قضيبًا خشبيًّا (صورة 4)، حيث يمكن إدخال القضيب في تلك الأجزاء الرقيقة من الجسم باستخدام ضغط اليد ومن دون أن تنكسر. إن خطورة الجرح وشدة الألم المتوقَّعين من استخدام أداة خشبية هما أكبر مما يُتوقَّع من استخدام أداة معدنية ذات الأبعاد نفسها؛ إذ إن الأولى تكون عادة مصنوعة يدويًّا، غالبًا من قِبَل الدرويش نفسه؛ لذلك يكون سطحُها خشنًا نسبيًّا، وقطرُها غير منتظم، مما يجعلها تُمزِّق من نسيج الجسم الذي تخترقه أكثر مما تفعل الأداةُ المعدنية. أي أن الدرويش يستعمل مثل هذه الأدوات لأنها أخطر من الأدوات المعدنية التقليدية.

صورة 1: أحد مريدي الطريقة الكَسْنَزانية وقد أدخل سيخًا من خلال فمه مخترقًا رقبته ونافذًا منها.

صورة 2: إدخال سيخ في عضلات الصدر. (يمكن ملاحظة الندوب اللحمية في ناحية دخول السيخ وخروجه، بما يشير إلى كثرة ممارسة المريد لفعالية الدرباشة.)

صورة 3: إدخال سيخ في جانب البطن (تبلغ الفعالية أوج خطورتها حين يخترق السيخ الكبد). وعادة ما يقوم مريدٌ آخر بإدخال السيخ لأن الفعل يتطلب قوة؛ إلا أنه يمكن للمريد أن يُدخِل السيخ في بطنه بنفسه بإسناد مقبض السيخ إلى جدار، ومواجهة طرفه الحاد ببطنه، ثم ضغط بطنه على السيخ.

صورة 4: إدخال قضيب خشبي من خلال أسفل الفم. (يمكن ملاحظة سماكة قطر القضيب وعدم انتظامه.)

2.    يقوم الدرويش، مستخدِمًا مطارق مصنوعة عادة من الخشب، بإدخال خناجر في جوانب مختلفة من عظم الجمجمة (صورة 5)، وكذلك في عظم الترقوة (صورة 6). وأحيانًا يقوم الدرويش بطَرْق الخناجر في رأسه بنفسه، وفي أحيان أخرى، يقوم درويش آخر بعملية الطَّرْق. يُغرَس الخنجرُ أحيانًا إلى عمق يجعل إخراجه باليد غير ممكن بسبب ضغط عظم الجمجمة عليه، وأحيانًا يؤدي الإصرار على سحب الخنجر بالقوة، من قِبَلِ شخص آخر بالطبع، إلى انفصال المقبض وبقاء نصل الخنجر في الرأس. إلا أن من المظاهر الغريبة لهذه الفعالية أن تَرْكَ الخنجر في الرأس بضعة دقائق يؤدي إلى خروجه تدريجيًّا، بحيث يمكن سحبُه باليد، أو يُسبِّب سقوطَه تلقائيًّا إذا لم يسحبه أحد. كما تُستخدَم ضرباتٌ خفيفة بالمطرقة لإدخال سكاكين وخناجر وأسياخ تحت العين مباشرة (صورة 7).

صورة 5: مريد غرس عددًا من الخناجر في مواضع مختلفة من جمجمته باستخدام المطرقة.

صورة 6: سيخان تمَّ إدخالهما في عظمي الترقوة.

صورة 7: استخدام أجزاء مختلفة من الجسم في الفعالية الواحدة: إدخال سيخ في العظم، تحت العين مباشرة، وسيخ آخر يخترق قاعدة الفم وجلد الرقبة من الأمام، بالإضافة إلى طَرْق خنجر في الرأس.

3.    يمضغ الدرويش ويبتلع قطعًا من زجاج مكسور، غالبًا من قدح زجاجي أو شمعة إنارة (صورة 8). يتضمَّن ابتلاعُ زجاج شمعات الإنارة عنصر خطورة يضاف إلى خطورة الزجاج الجارح، هو سُميَّة مادة الزئبق التي تُطلَى بها شمعاتُ الإنارة. والشكل الآخر الذي يمارس من خلاله الدراويش هذا النوع من فعاليات الدرباشة (الشفاء الخارق للإضرار المتعمَّد إحداثه في الجسم) هو مضغ أمواس حلاقة غير مستعملة وابتلاعها. وتجدر الإشارة إلى أن الدرويش يمكن له أن يقوم بممارسة أيِّ عدد من فعاليات الدرباشة أعلاه في الوقت نفسه (صورة 7).

صورة 8: أحد المريدين يأكل زجاج لمبة "فلوريسان" كهربائية.

(إلى يمين الصورة، يبدو جالسًا الشيخ عبد الكريم الكَسْنَزاني الحسيني، أستاذ الطريقة القادرية الكَسْنَزانية.)

إن فعاليات الشفاء الخارق للإضرار المتعمَّد إحداثه في الجسم، التي يقوم بها دراويش الطريقة الكَسْنَزانية، لا تتضمن إصلاح الضرر الجسمي المتعمَّد فقط؛ إذ إن الدراويش يمارسون فعاليات أخرى تُطلَق عليها تسمية "مقاومة الضرر الجسمي المتعمَّد" Resistance to Deliberately Caused Bodily Damage، لأن هذه الفعاليات تُبيِّن قابليةً خارقةً للجسم على مقاومة الإصابة التي من المفروض أن تنتج لدى التعرُّض لمؤثرات مؤذية معيَّنة. أي أن الضرر لا يحدث أصلاً في هذا النوع من فعاليات الدرباشة؛ وهي بذلك تختلف عن النوع الأول من فعاليات الدرباشة التي تتضمن إصلاحًا خارقًا لضَرَرٍ جسميٍّ تمَّ إحداثُه قصدًا. تتمثَّل ظواهرُ مقاومة الضَّرر الجسمي المُتعمَّد في الطريقة الكَسْنَزانية في الفعاليات التالية:

1.    مقاومة النار: هناك أشكال متعددة لممارسة هذه الفعالية؛ إلا أن أكثرها شيوعًا بين الدراويش، بسبب سهولة ممارسته والخطورة الكبيرة التي يتضمَّنها، هو استخدام قطعة من القماش ملفوفة على عصا خشبية أو معدنية، تُغمَر في مادة سريعة الاشتعال، كالنفط، وتوقَد فيها النار، ليقوم الدرويش بعدها بتعريض وجهه ويديه وأقدامه لِلَهَب هذه النار (صورة 9). والشكل الآخر لهذه الظاهرة هو تسخين صفائح معدنية حتى الاحمرار، وقيام الدراويش بِحَمْلِها بأيديهم ووَضْعِها بين أسنانهم. من الجدير بالذكر هنا هو أنه عند ممارسة الدرويش لأيٍّ من الفعاليتين أعلاه يكون في إمكان أيِّ شخص آخر أن يشعر بالحرارة العالية التي تشعُّ من مصدر النار المستخدَم على بُعد أكثر من متر؛ إلا أن جسم الدرويش المتعرِّض للنار تعريضًا مباشرًا لا يُصاب بحروق. ومن الأشكال الأخرى لممارسة هذه الفعالية هي حَمْلُ الدرويش بيد عارية قطعًا من الفحم الساخن حتى الاحمرار ووضعها في فمه أيضًا. وإضافةً إلى خطر الاحتراق، تتضمن هذه الممارسة خطرًا إضافيًّا على الدرويش، يتمثل في استنشاقه غاز أول أكسيد الكربون السام الذي ينبعث من احتراق قطعة الفحم داخل الفم. من الواضح أن هذه الفعاليات تتضمَّن مناعةً ضد النار، وفي حالة الفحم المتِّقد، مناعةً ضد غاز سامٍّ أيضًا.

صورة 9: تعريض الأيدي والوجه، والفم بالأخص، لنار ملتهبة.

(يبدو في خلفية الصورة المدَّاحون في أثناء قيامهم بتلاوة المدائح النبوية بعد انعقاد حلقة الذِّكر.)

2.    مقاومة سمِّ الأفاعي والعقارب: في هذه الفعاليات يعرِّض الدراويش أيديهم لِلَدغات عقارب وأفاعٍ سامة (صورة 10). كما يعرِّضون ألسنتَهم تعريضًا مقصودًا لِلَدغات الأفاعي. وفي كثير من الأحيان، بعد أن يستعرض الدرويش هذه الفعاليات يقوم بأكل رأس الأفعى أو التهام العقرب بالكامل. ومن الواضح أن هذه الفعاليات التي يمارسها الدرويش، من غير أن يُصاب بأذى، تتضمن استعراض مناعة ضد السم. ومما يجدر ذكره هنا هو أن الجروح التي تُحدِثُها لدغاتُ الأفاعي قد تُصاب بالتهابات كأيِّ جرح اعتيادي يتعرَّض له الجسم؛ وهذا يجعلها مختلفة تمامًا عن جروح فعاليات إصلاح الضرر الجسمي المُتعمَّد، حيث يُبدي الجسمُ مناعةً خارقة ضد الالتهابات.

الصورة: مريد يحرِّض أفعى سامة على لدغ إصبعه بإدخاله في فمها.

3.    مقاومة الصدمة الكهربائية: يُعرِّض الدرويشُ نفسه مدة عدة دقائق لتيار كهربائي ناتج عن فولتية متناوبة 220 فولت. ولإثبات حقيقة مرور التيار الكهربائي في جسمه، يقوم الدرويش بإنارة مصباح كهربائي مرتبط بدارة كهربائية تمرُّ من جسمه.

من الواضح أن فعاليات الدرباشة (الشفاء الخارق للإضرار المتعمَّد إحداثه في الجسم) تتضمن العديدَ من المظاهر الخارقة التي تتجاوز القدرات الاعتيادية للجسم البشري. وهذه المظاهر الخارقة هي: المناعة ضد الألم، والمناعة ضد النزيف، والمناعة ضد الالتهاب. ففي أثناء ممارسته لفعاليات الدرباشة، لا يعاني الدرويش من أيِّ ألم، علمًا أن من المفروض أن يكون هذا الألم في غاية الشدة، وذلك بسبب نوعية هذه الجروح وحساسية مناطق الجسم المستهدَفة. أما في خصوص المناعة ضد النزيف فإن بضعة قطرات فقط من الدم تخرج عادة من الجرح؛ وأحيانًا يسيل خيطٌ قصيرٌ من الدم من موضع الجرح. ولخروج الدم من الجرح أهميةٌ خاصة، لأنه يشهد على حقيقة الفعالية، ويدفع عن الدرويش أيَّ اتهام من قِبَل المشاهدين بعدم إدخال الأداة الجارحة في الجسم فعلاً، أو بممارسة نوع من الخداع، كاستخدام خفة اليد للإيحاء للناظر باختراق الأداة الجارحة لأنسجة الجسم.

غنيٌّ عن القول هنا إن الجروح التي تُسبِّبها فعالياتُ إصلاح الضرر الجسمي المُتعمَّد المذكورة أعلاه يُصاحِبُها في الحالات الاعتيادية نزفٌ شديد في الجسم؛ بل إن المتوقع طبيعيًّا هو أن بعض حالات النزيف هذه يمكن أن تكون قاتلة. وعلى الرغم من أن الأدوات المُستعمَلة لإحداث الإصابات في الجسم غير معقَّمة، بل يلوِّثها المُريدُ (الدرويش) أحيانًا تلويثًا مقصودًا، فإن جروح جسم المُريد لا يصيبها التهاب.

أما عملية شفاء الجروح، فهي أغرب من المناعات الخارقة المذكورة أعلاه؛ إذ تختفي جميع جروح الدرباشة إبان وقت قصير جدًّا من سَحْبِ المُريد للآلة الحادة من جسمه، بغضِّ النظر عن موضعها في الجسم وحجمها. وبينما تلتئم غالبيةُ الجروح ولا تكاد أن تبين بمجرد سَحْبِ الآلة الحادة من الجسم، فإن التئام بعض الجروح قد يستغرق من 15 إلى 20 ثانية. ويلتئم بعضُ هذه الجروح من دون أن يترك ندبةً scar يمكن تمييزُها بالعين المجردة، فيما يترك بعضُها الآخر ندبةً صغيرة.

مما لا شكَّ فيه أن هناك الكثير من مظاهر الخارقيَّة في فعاليات الدرباشة التي تجعلها تستحق، ولا شكَّ، أن يدرسها دراسةً تفصيلية باحثو البارابسيكولوجيا. ولكن، للأسف، فإن هذا الأمر لم يحدث، حيث أهمل باحثو البارابسيكولوجيا هذه الظواهر إهمالاً تامًّا. إن غالبية باحثي البارابسيكولوجيا يتفقون على أن الهدف من وراء دراسة الفعاليات الخارقة هو محاولة فهم ما يحدث فيها، وذلك لتسخير المعرفة المُكتسَبة من هذه الدراسة في مجالات تخدم الإنسانية بشكل عام.

وهنا لا بدَّ من أن نتوقف فنسأل: هل هناك ظواهر أهم من ظواهر الدرباشة التي تكشف عن إمكانية سيطرة تامة على جروح رئيسية والتغلُّب على آثارها السلبية على الجسم كلِّها؟ وهل أن دراسة ظواهر، مثل التخاطُر أو التحريك الخارق وما شابه، هي الأهم للإنسانية، أم دراسة ظواهر الشفاء الخارق للإضرار المتعمَّد إحداثه في الجسم، التي يتجلَّى فيها إعجازٌ طبي مذهل؟ في عبارة أخرى، هل يفضِّل المرءُ أن يمتلك قدرةً خارقة على قراءة أفكار الناس أم قدرة خارقة على السيطرة على الجروح المختلفة؟

الجواب، ولا شكَّ، واضح تمامًا؛ إذ إن ما يخدم صحة الإنسان يُفضَّل دائمًا على كلِّ شيء آخر. إلا أن الغريب هنا هو أن البارابسيكولوجيا التجريبية ركَّزتْ تركيزًا رئيسيًّا على دراسة ظاهرة التحريك الخارق وظواهر الإدراك الحسِّي الفائق الثلاثة، المذكورة أعلاه، منذ أن نشأ هذا المنهج في دراسة الظواهر الخارقة على يد جوزيف راين في ثلاثينيات القرن العشرين.

قد يظن بعضهم أن سبب إهمال البارابسيكولوجيا الغربية لظواهر الشفاء الخارق للإضرار المتعمَّد إحداثه في الجسم هو إهمال عام للظواهر الطبية الخارقة. إلا أن هذا الظن في الواقع لا سند له. إذ على الرغم من أن الظواهر الطبية الخارقة لم تحصل على قَدْرٍ من الاهتمام مساوٍ لنظيراتها من الظواهر الخارقة التقليدية، فإن العقود الثلاثة أو الأربعة الأخيرة قد شهدتْ فعلاً اهتمامًا متزايدًا بدراسة مختلف أنواع الظواهر الطبية الخارقة التقليدية، التي تُعرَف عادة بظواهر "العلاج الروحي" psychic healing. إذ تَوَجَّه العديدُ من الباحثين إلى دراسة مَقْدِرَة بعض الأفراد الموهوبين على التأثير إيجابًا على الحالة الصحية لغيرهم من البشر، عن بُعد ومن غير أن يقوموا بلَمْسِهم أو أن يستعملوا عقاقير عشبية أو كيميائية. إذ إن من الممكن، كما هو معلوم، العثور على مثل هؤلاء المعالجين الموهوبين في المجتمعات كافة، حيث إن أكثر ممارسات العلاج الخارق انتشارًا هي الظاهرة المعروفة بـ"وضع الأيدي" laying on of hands، حيث يقوم المعالِجُ بمحاولة التأثير على الحالة الصحية للمريض بمجرَّد وضع يديه قريبًا من جسم المريض. وقد ذهبتْ الدراساتُ العلمية لظاهرة العلاج الروحي إلى أبعد من دراسة تأثير هؤلاء الموهوبين على حالات مَرَضيَّة بشرية معينة، حيث ظَهَرَ الكثيرُ من الدراسات حول تأثير هؤلاء المعالِجين الموهوبين على مختلف المنظومات البيولوجية. وكما يشير وليم برود William Braud، أحد الباحثين البارزين في مجال العلاج الروحي، فقد بيَّنتْ البحوثُ العلمية أن هنالك

أشخاصًا استطاعوا التأثير، ذهنيًّا وعن بُعد، على أهداف مختلفة من المنظومات البيولوجية، من ضمنها البكتريا، مستعمرات الخميرة، مستعمرات الفطر، الطحالب المتحركة، النباتات، البَرزَويات [حيوانات وحيدة الخلية]، اليرقات [...]، النمل، أفراخ الدجاج، الفئران، الجرذان، العَضَل، القطط، الكلاب، إضافة إلى مستحضرات خلَوية (كخلايا الدم، والخلايا العصبية، وخلايا السرطان)، وفعالية الإنزيمات. كما أمكن التأثيرُ في جسم الإنسان على حركات العين، فعاليات الجهاز الحركي، الفعالية الكهربائية للجلد، حجم الأطراف [عن طريق تغيير ضغط الدم]، التنفس، وأمواج الدماغ.

إن ما يلخِّصه وليم برود هنا قد يبدو غريبًا على مَن ليس له اطِّلاع على بعضٍ من العدد الكبير من البحوث العلمية التي تناولتْ ظاهرةَ العلاج الروحي. إلا أن هذه التأثيرات العلاجية، التي أمكن التحققُ مختبريًّا من إمكان حدوثها، هي في الواقع تأثيرات محدودة الأثَر، مثلما هي محدودة تلك التأثيرات الخارقة التي أمكن توليدُها مختبريًّا في التجارب على الظواهر الخارقة الأخرى التي درستْها البارابسيكولوجيا التجريبية. فعلى سبيل المثال، يقوم الباحث في بعض التجارب بتعريض نبات معيَّن لمادة كيميائية ضارة، ثم يطلب من الشخص الموهوب بقابلية العلاج الخارق أن يقوم بمحاولة التأثير على النبات ذهنيًّا بغية تقليل تأثير المادة الضارة عليه. أو يقوم الباحث بمقارنة سرعة شفاء جروح سطحية في جسم الإنسان، حين يحاول المعالِجُ الموهوبُ علاجَها، بسرعة شفاء الجروح المثيلة من دون تدخُّل معالِج. والفرق المحسوس بين الحالتين يكون عادةً فرقًا بسيطًا.

إذًا فظواهر العلاج الروحي التي يدرسها الباحثون في المختبر لا يمكن على الإطلاق مقارنتُها بالشفاء الفوري الخارق لجروح عميقة وخطيرة، كالذي يحدث في فعاليات الدرباشة (الشفاء الخارق للإضرار المتعمَّد إحداثه في الجسم). ولكن إذا كان الباحثون مشغولين بالبحث عن أيِّ تأثير لظاهرة العلاج الروحي – وهذا اهتمام يشهد له العددُ المتزايد من البحوث في هذا المجال – فما الذي يجعلهم يتجاهلون ظواهر الدرباشة التي تظهر فيها آثارُ العلاج الخارق بأقوى أشكاله، الذي لا يمكن على الإطلاق أن تُقارَن به التأثيراتُ المحدودة في تجارب البارابسيكولوجيا؟

من غير الممكن إيجادُ أيِّ تبرير لهذا الموقف المتجاهل لظواهر الدرباشة الخارقة. بل إن موقف البارابسيكولوجيا الغربية هذا يبدو أغرب إذا أخذنا بنظر الاعتبار إحدى أهم الخواص الأساسية التي تمتلكها هذه الفعاليات، وهي صفة "التكرارية". فمن الخصائص الفريدة التي تتميز بها الدرباشة، التي تفتقدها الظواهرُ الخارقة التقليدية، خاصية التكرارية: أي إمكانية القائم بها تكرارها متى وأينما شاء. فالدرويش قادرٌ على القيام بهذه الفعاليات بنجاح في أيِّ وقت ومكان؛ إذ إن الدرباشة لا يمكن أن تكون ظاهرة لاتكرارية، لأن الفشل فيها يعني إصابةَ الشخص بجروح ذات نتائج خطيرة يمكن لها أن تهدِّد حياته نفسَها أحيانًا.

على الخلاف من هذه التكرارية المثالية التي تتمتع بها فعالياتُ الدرباشة، فإن قابليات العلاج الروحي التي يتمتع بها بعضُ الأفراد الموهوبين تعاني من نفس صفة اللاتكرارية التي تعاني منها الظواهرُ البارابسيكولوجية التقليدية. إذ نجد، مثلاً، أن مُعالِجًا ما قد ينجح في إحدى التجارب في استعراض تأثيرات علاجية خارقة، إلا أنه يخفق في إحداث التأثيرات نفسها عند تكرار التجربة نفسها في وقت لاحق. وَصِفَة اللاتكرارية هذه تُعتبَر مشكلة رئيسية من مشكلات بحوث العلاج الروحي، مثلما هي مشكلة رئيسية في بحوث الظواهر الخارقة التقليدية. إذ إن صفة اللاتكرارية هذه تضع حدودًا وقيودًا على إمكانية استغلال هذه الظواهر في دراسات مختبرية، كما أنها توفِّر للمشكِّكين حجَّةً يؤسِّسون عليها شكَّهم في واقعية الظاهرة.

ومن المهم هنا التشديد على أن البارابسيكولوجيا الغربية لم تهمل كلَّ الظواهر الخارقة التي تحدث في بيئة غير غربية، وإنما كانت "انتقائية" في اختيار الظواهر التي تهملها. إذ قامت البارابسيكولوجيا الغربية فعلاً بدراسة الكثير من الحالات والظواهر الخارقة التي تحدث في بيئات غير غربية، مما يؤكد أن إهمالها لظواهر الدرباشة (الشفاء الخارق للإضرار المتعمَّد إحداثه في الجسم) هو إهمال استثنائي مقصود. وعلى سبيل المثال لا الحصر، مع بداية بحوث العلاج الروحي في الغرب الأوروبي والأمريكي، بدأتْ في خمسينات القرن الماضي حركةُ بَحْثٍ نشطة تناولتْ بالدراسة التأثيراتِ الفسيولوجيةَ للعديد من ممارسات التأمُّل، كاليوغا والتأمُّل التجاوزي transcendental meditation والزازِنْ وغيرها؛ وكانت حركةُ البحث هذه جديةً ومستمرةً، حتى إنها تحوَّلتْ إلى فرع جديد من فروع الدراسات الطبية، هو "الطب السلوكي" behavioral medicine، الذي من روَّاده طبيب جامعة هارفرد الأمريكية الشهير هربرت بِنْسون. ولم يتوقَّف البحثُ في هذا المجال عند استقدام عدد من خبراء الممارسات التأملية من دول الشرق الأقصى إلى مختبرات الغرب لكي تتمَّ دراسةُ تأثيرات الرياضات الذهنية والبدنية التي يقومون بها على مختلف الفعاليات الفسيولوجية للجسم، وإنما قام العديدُ من فِرَقِ البحث الغربية باصطحاب أجهزتهم المختبرية المتنقِّلة والسفر، إلى شبه القارة الهندية على وجه الخصوص، حيث ينتشر في شكل خاص ممارسو رياضات التأمل، وذلك للقيام بدراسة خبراء رياضات التأمل هؤلاء.

والشيء نفسه يمكن قولُه عن الظاهرة المعروفة بـ"الجراحة الروحية" psychic surgery، التي يمارسها بعضُ الموهوبين الذين يقومون بإجراء عمليات لمرضاهم من دون استخدام مواد تعقيم أو تطهير. وهنا أيضًا، نجد أن الباحثين الغربيين لم يقوموا باستقدام مثل هؤلاء الأشخاص إلى الغرب الأوروبي والأمريكي لدراستهم فحسب، وإنما قام العديدُ منهم بدراسة هذه الظاهرة في مواطنها الأصلية، وبالذات البرازيل والفلبِّين.

قد يرى بعضُهم أن تجاهُل البارابسيكولوجيا الغربية لفعاليات الدرباشة يعود إلى جَهْلِها بأهمية هذه الفعاليات ومظاهرها الخارقة. بيد أن هذا التبرير هو الآخر غير صحيح، وذلك لأن الباحثين في الغرب قد قاموا فعلاً بعدد من الدراسات – وإن كانت قليلة جدًّا – على أفراد في إمكانهم استعراض فعاليات شبيهة بفعاليات الشفاء الخارق للإضرار المتعمَّد إحداثه في الجسم التي يمارسها الدراويش. أي أن مجتمع البارابسيكولوجيا على دراية تامة بالإمكانات الخارقة التي تتضمَّنها هذه الفعاليات. وفيما يلي استعراض للبحوث القليلة التي تم القيام بها لدراسة أفراد من القائمين بفعاليات إصلاح الضرر الجسمي المُتعمَّد، التي يمكن تقسيمها إلى ثلاثة بحوث، نسبةً إلى فِرَق العمل التي قامت بها:

1.    أُجرِيَتْ أولُ دراسة مختبرية على ظاهرة إصلاح الضرر الجسمي المتعمَّد في مختبرات جامعة غوتنغِن الألمانية، حيث قام بها الباحثُ الألماني فولفغانغ لاربغ مع مجموعة من زملائه. وتمَّتْ هذه التجارب على شخص من منغوليا كان يقوم بإدخال أسياخ في عدة مواضع من جسمه من غير أن يُصاب بأذى. اعتقد هؤلاء الباحثون أن الفعالية الخارقة لهذا الشخص تعود إلى ممارسته لنوع من التنويم الذاتي. وقد قام لاربغ وزملاؤه بقياس العديد من الفعاليات الفسيولوجية لجسم هذا الشخص في أثناء ممارسته لفعالياته.

2.    مجموعة البحث الثانية التي قامتْ بدراسات مختبرية شبيهة كانت برئاسة الباحث الأمريكي إلمِر غرين، وتمَّتْ في مؤسَّسة مينِنْغِر في مدينة توبيكا في ولاية كنساس الأمريكية. قامت مجموعةُ مينِنْغِر باختبار شخص كان في إمكانه القيام بإدخال إبرة طويلة في أعلى ذراعه.

3.    أما اختبارات المجموعة الثالثة والأخيرة، فقد قام بها العالمان الأمريكيان كينِّث بيلتييه وإريك بِبِر في عدد من المختبرات في الولايات المتحدة الأمريكية. أجرى هذان الباحثان تجاربَهما على ثلاثة أشخاص، كان أحدهم هو الشخص نفسه الذي اختارتْه مجموعة إلمِر غرين. أما الشخص الثاني فكان يقوم بإدخال سيخ حادٍّ في طيَّة جلد ساعد ذراعه، فيما كان الشخص الثالث يقوم بإدخال أسياخ مَحاوِر الدرَّاجة bicycle في خدوده وجوانب جسمه، إضافة إلى أكله قطع زجاجية لمصباح كهربائي.

هذه هي فقط البحوث التي قام فيها باحثون غربيون بدراسة ظاهرة إصلاح الضَّرر الجسمي المتعمَّد. وقد أُجرِيَتْ هذه الدراساتُ جميعًا خلال السبعينات، ولم يتم رَفْدُها بالمزيد من البحوث. إن عدد الأشخاص الذين في إمكانهم استعراض فعاليات إصلاح الضَّرر الجسميِّ المتعمَّد محدود جدًّا؛ وهذا أمر صحيح في الغرب كما هو صحيح في الشرق. غير أن هذا لا يبرِّر إهمال هذه الظواهر؛ إذ على الرغم من عدم وجود مَن يمارس ظاهرة مثل الجراحة الروحية في أوروبا وأمريكا، إلا أن هذا لم يمنع باحثي البارابسيكولوجيا من دراستها دراسةً مكثَّفة في الغرب عن طريق استقدام بعض القائمين بهذه الجراحات الخارقة واختبارهم مختبريًّا، وكذلك في مواطنها الأصلية.

إذًا لو أخذنا بنظر الاعتبار كلَّ ما تقدَّم، فإن النتيجة الوحيدة التي يمكن التوصلُ إليها هي أن إهمال البارابسيكولوجيا الغربية للدرباشة لا يمكن تفسيرُه بأيِّ شكل يُبعِد عن البارابسيكولوجيا الغربية تهمةَ الإهمال المتعمَّد لهذه الظواهر. أفلا يحق لنا، إذًا، وصفُ البارابسيكولوجيا الحالية بأنها بارابسيكولوجيا "غربية"؟

من الواضح أن هذا الموقف المَرَضي للبارابسيكولوجيا من ظواهر الدرباشة (الشفاء الخارق للإضرار المتعمَّد إحداثه في الجسم) لا يمكن فهمُه بعيدًا عن ردود الفعل الشبيهة والنظرات المغلوطة التي يحملها الغربُ عن الكثير من الأفكار والممارسات العربية والإسلامية. إلا أننا، انطلاقًا من اعتقادنا بأهمية هذه الظواهر، يجب أن لا نترك هذا الأمر على حاله؛ إذ تقع علينا – نحن الذين منَّ الله علينا بهذه الظواهر الغالية – مسؤوليةُ إنقاذ البارابسيكولوجيا الغربية من إدمانها المَرَضي على دراسة ظواهرها التي لم تسأمْها بعدُ، وأن نُنبِّه البارابسيكولوجيا الغربية من غفلتها عن ظواهر الدرباشة.

بيد أن هذا التحرُّك يتطلب، قبل كلِّ شيء، أن نكون نحن أولَ مَن يُولي هذه الظواهر ما تستحقه من اهتمام. إذ إن من غير المنطقي، ولا المعقول، أن نتوجَّه إلى الغرب باللوم قائلين: ما لكَ لا تدرس ظواهرنا التي تركناها وراء ظهورنا؟! إن ظواهرنا الخارقة هي جزء من تراثنا الذي نعتز به والذي لا يمكن لنا أن نتوقع أن نجد مَن يهتم به أكثر من اهتمامنا به. فإذا ما أهملناه نحن فهل يحق لنا، بعدُ، أن نلوم الغرب على إهماله له؟ وهنا لا بدَّ أن يتبادر إلى الذهن السؤالُ التالي: ما الذي يجب علينا القيامُ به تجاه الظواهر الخارقة التي تتميَّز بها بيئتُنا العربية المؤمنة؟

إن أول ما يجب أن نُبادِر إليه هو العمل على إنشاء بارابسيكولوجيا عربية مؤمنة، تتولَّى دراسةَ ظواهرنا الخارقة، ولكن من غير أن تستثني غيرَها من الظواهر، لكي لا نقع في فخِّ الانحياز واللاحيادية الذي انتقدْنا البارابسيكولوجيا الغربية على السير باتجاهه، فالوقوع فيه. إن هذا يتطلَّب منا الاستفادةَ من تجربة الغرب الذي جعل من البارابسيكولوجيا مبحثًا تنطبق عليه مواصفاتُ العلوم التقليدية، والذي أدخَلَ التقدم التكنولوجي في قلب هذا المبحث. إلا أن هذا يجب ألا يعني استيرادنا مع هذه البارابسيكولوجيا نزعتَها المغلوطة التي جعلتْها تضلُّ السبيل. فالبارابسيكولوجيا الحقيقية يجب أن لا تُبنى على أفكار واعتقادات مُسبَّقة؛ كما أنها يجب أن تكون علمًا استكشافيًّا بكلِّ معنى الكلمة، يبحث عن الحقيقة حيثما وُجِدَتْ، فلا يستثني من بحثه هذه الظاهرة أو تلك. إن الظواهر الخارقة التي تتميَّز بها بيئتُنا العربية المؤمنة توفِّر لنا فرصةً لا تُقدَّر بثمن لأن نكون في موقع القيادة والريادة في مجال البارابسيكولوجيا.

إذًا لقد تبيَّن لنا ما في إمكان شرقنا العربي، المؤمن بالضرورة، أن يقدِّمه للغرب من خير كثير سوف يتكفَّل – إذا ما تنازل علماؤه وباحثوه عن موقفهم الاستعلائي، ونزلوا من بروجهم العاجيَّة، ورضوا أن يتحلَّوْا بما توجِبُه عليهم روحُ العلم وحكمةُ البحث عن الحقيقة – بالارتقاء بالإنسانية إلى حضارة جديدة تَخْلِفُ الحضارةَ المعاصرة، متجاوزةً لكلِّ ما تجلَّى فيها من تناقضات وتمايزات. فالشرق العربي المؤمن، بظواهره الخارقة، قادرٌ على مدِّ يَدِ العون إلى الغرب لينتشل هذه الحضارةَ من المأزق الذي قادها إليه وأوقعَها فيه الغرورُ البشري، متجليًّا في الموقف الغربي من ظواهر الوجود، انتقاءً واحتقارًا وتبعيضًا ونفيًا وإقصاء.

ولن يقوم الغربُ من كبوته، ولن يغادر الشرقَ تخلُّفُه، ما لم يلتقيا على تجاوُز كلِّ ما هو سيء في الطبع البشري المميِّز للإنسان، شرقيًّا كان أم غربيًّا، ويبادرا إلى الأخذ بكلِّ ما هو قمينٌ أن يجعل منهما شريكين حقيقيين في رحلة البحث عن الحقيقة والعروج إلى الحكمة.

*** *** ***

 

مراجع

-        حسين، جمال نصَّار، حطين الجديدة: معركة الارتقاء إلى حضارة إنسانية جديدة، دار الإسراء، عمان، 2000.

-        حسين، جمال نصَّار، لؤي فتوحي، الباراسيكولوجيا بين المطرقة والسندان: بحث تجريبي رائد في الخوارق المحمدية للطريقة الكسنزانية، دار الطليعة، بيروت، 1995.

-        فتوحي، لؤي، شذى الدركزلِّي، جمال نصَّار حسين، علم خوارق العادات: البارانورمالوجيا، الشركة العالمية للكتاب، بيروت، 1999.

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود