الرجل والمرأة

ندره اليازجي

 

يُعَدُّ هذا الموضوع بحثًا لقضية الكائن الإنساني كما هو موجود على الكرة الأرضية. ولا يتطلَّب بحثُنا هذا طرح الموضوع باعتباره مشكلةً اجتماعية أو إنسانية، لسبب أصيل هو أن المشكلة أمرٌ يستوجب الحلَّ ومعرفة السبب أو الأسباب. لكن بحثنا يطرح ذاته كقضية تستوجب الفهم والوعي والحكمة. إذن، فبحثنا هذا ولوجٌ إلى معرفة حقيقة الإنسان وواقعيته، ودخولٌ إلى سرِّ هذا الكائن من وجهة نظر العلاقة بين قطبيه: الرجل والمرأة.

تطرح القضية ذاتها في مقولتين: الرجل والمرأة. الرجل إنسان، والمرأة إنسان؛ الرجل آدم، والمرأة آدم. فالإنسان يكشف عن علاقته بذاته ولذاته على مستوى كوكبنا هذا في قطبين يعملان على تحقيق غاية. ويعرَّف بالغاية بأنها تحقيق الوجود على كوكب الأرض. ولما كان الوجود في هذا الكوكب يشير إلى ثنائية ظاهرية، فمن المؤكد أن الإنسان ثنائي في واقعه؛ وهذا يعني أنه رجل وامرأة. ولما كانت الظاهرية هي القضية الأساسية التي تطرح ذاتها على مستوى كوكبنا، فالعلاقة التي تقوم بين قطبي هذه الثنائية أو طرفيها سرٌّ من الأسرار يغلِّف حياتَنا كلَّها. والسرُّ، كما يُفهَم في عمقه، يشير إلى وجود حقيقة جوهرية واحدة، تتَّصف بثنائية ظاهرية أو بازدواجية، تُعرَف بقطبين يفعلان معًا من أجل إعادة الوحدة إلى الإنسان ضمن عملية تلاقٍ ندعوها العلاقة بين قطبي الحياة أو الإنسان تارةً، والزواج أو الاقتران تارةً أخرى.

نحاول، في مقالنا هذا، أن نميط اللثام عن حقيقة هذا السرِّ الذي يتصف به الإنسان. وقبل الشروع في الإجابة والتحليل، نتساءل عن ثنائية الإنسان وازدواجيته وقطبيه. فلِمَ لا يكون الإنسان واحدًا؟

تشير إجابتنا إلى أن الإنسان واحد، وإلى أن الرجل والمرأة قطبا هذه الواحدية؛ الأمر الذي يدفعنا إلى القول بالثنوية، من جهة، وبالواحدية، من جهة أخرى. وتشير إجابتنا أيضًا إلى أن السرَّ يكمن في واحدية الإنسان، لا في ثنائيته. هنالك حقيقة تؤكد واحدية الإنسان، وهنالك واقعية تؤكد ثنائيته. وهكذا، نصل إلى ما يلي: يشير باطن الإنسان وحقيقته إلى أنه واحد؛ ويشير ظاهر الإنسان وواقعه إلى أنه اثنان. وهذا ليس إلا لأن كوكبنا يستوجب الثنائية في سبيل تحقيق الوحدة.

بهذه الطريقة يتم ولوجنا إلى عمق الموضوع.

يقتضي البحث، ونحن نقوم بعملية الإفصاح عن الحقيقة المختبئة في عمق كيان الإنسان، أن نتطرق إلى موضوع نقلي طُرِحَ علينا منذ طفولتنا على صورة حقيقة، وتغلغل في لاوعينا لقرون طويلة. ولا شكَّ أن هذا الموضوع خلَّف في لاوعينا الجمعي الذي تكدَّس عبر العصور سوء فهم لواحدية الإنسان، وأوقَعَنا في شرورٍ عديدة نتجت عن سوء الفهم هذا، أقل ما يقال عنها إنها كرَّست مبدأ الثنائية الظاهرية وأحلَّتْه محلَّ الواحدية.

تُحدِّثنا الأسطورة النقلية التي لُقِنَّا إياها منذ طفولتنا عن بشرية بدأت بكائن أسمى سُمِّيَ بآدم، عرَّفتْ به المبادئ النقلية الشائعة بالذكورة. وتضيف هذه الأسطورة النقلية أن كائنًا آخر، هو المرأة–حواء، تشكَّل من جسد هذا الكائن الأسبق، الرجل. وعملت الأسطورة على إطلاق اسم على ذينك الكائنين، فكان أحدهما آدم والآخر حواء.

هذا ما كان في البدء – بدء الجنس البشري. فهل أن الأسطورة المطروحة على هذه الصورة تنطوي على الحق، أم يجوز لنا أن نعتبرها مجرد تشويه للحقيقة؟

تشير الدراسات المقارنة التي قام بها علماءٌ ومفكرون خلال العصر الحديث، بوجه عام، والدراسات الثيوصوفية والباطنية، بوجه خاص، إلى أن الميثولوجيا تنطوي على رمزية تتطلَّب التفسير والتأويل. وإذا كانت هذه الدراسات عميقة في طرحها لأيِّ موضوع، فجدير بنا أن نتساءل عن الرمز الكامن في هذه السرَّانية وعن حقيقة تفسيرها وتأويلها.

تؤكد هذه الدراسات، علمية كانت أم فكرية، أن كلمة "آدم" لا تعني رجلاً واحدًا، وأن كلمة "حواء" لا تعني امرأة واحدة. فآدم، وفق معطيات هذه الدراسات، لم يكن رجلاً. والبرهان الذي نعتمده هنا هو أن المرأة لا تنبثق من رجل؛ وبالتالي، لو كان آدم رجلاً، لانبثق منه رجل، لا امرأة. ولقد خلصت هذه الدراسات إلى القول إن كلمة "آدم" تعني الجنس البشري كلَّه، الجنس البشري بأنواعه، وفقًا لمستواه الكوكبي الأرضي. وتؤكد هذه الدراسات أن مصطلح آدم قدمون ("آدم القديم") الوارد في الكتابات الباطنية القديمة (القبالة تحديدًا) يعني الجنس البشري. وتشدِّد هذه الدراسات على أن إطلاق صفة "الآدمية" على حواء دليل على أن كلمة "آدم" تشير إلى الإنسان، في جنسه كلِّه. والواقع هو أن هذه الصفة تعبِّر عن إنسانية المرأة، كما تعبِّر عن إنسانية الرجل، وعن "آدمية" المرأة كما تعبِّر عن آدمية الرجل.

وتصرِّح هذه الدراسات أن آدم – الجنس البشري – في بدء دورنا الأرضي هذا، الذي لم يكن رجلاً، كان وحيد الجنس androgynous. وتعلن تلك الدراسات الأسطورية أن الجنس البشري، وحيد الجنس، قد انقسم إلى قسمين، فكان الرجل وكان المرأة. ولما كان مبدأ الثنائية الظاهرية هو المبدأ السائد على هذا الكوكب الذي نحيا عليه، كان واجبًا أن ينقسم الكائن أو يتمايز، في وحدة جنسه، إلى قسمين.

ذلكم هو السر الذي وُجِدَ في البدء، بدء الجنس البشري. وتلكم هي حقيقة واحدية الإنسان الجوهرية التي تحولت أو تمايزت، وفقًا لمنطق طبيعة هذا العالم وضرورته، إلى ثنائية ظاهرية ملحوظة، تتمثل بواقع الرجل والمرأة، قطبي الإنسان.

وإذا ما تساءل سائلٌ عن الطريقة التي تمَّ بها التمايز، وطالب بالبرهان العلمي الذي يؤكد هذه الحقيقة والواقع، قلنا إن إجابتنا تدور حول مركزين نعتبرهما برهانين: البرهان الأول طبيعي وواقعي، نشاهده أمامنا؛ والبرهان الثاني علمي، كشف عنه علماء البيولوجيا.

في البرهان الأول نجد الخنثى hermaphrodite. فالخنثى كائن بشري ليس ذكرًا وليس أنثى؛ هو كائن لم يتمايز الجنسُ الواحد فيه تمايزًا كاملاً. والخنثى واقعٌ نعاينه، ويتأكَّد في واقعيته العلمية والطبيعية الملموسة.

كيف نعلِّل هذه الظاهرة؟

الطبيعة لا تعرف الشذوذ والفوضى والمصادفة. كلُّ شيء في الطبيعة يعرف النظام، ويتصرف أو يسلك وفقًا لهذا النظام. ولقد كشفت البيولوجيا، ولاسيما علم الوراثة، عن وجود قوانين تُعتبَر، في حال عدم إدراكها، أمورًا محيِّرة ومذهلة. ولما كانت الطبيعة تكشف عن ذاتها من خلال ظاهرات يسبر الإنسان عمق حقيقتها، فإن الإنسان يعمل جاهدًا لتبيان هذه الحقيقة. ولما كانت قوانين الطبيعة عميقة في سرِّها ومستترة ومعقدة، فإن بعضها يتَّسم بصعوبة أكبر من بعضها الآخر. والطبيعة تلمِّح إلى الحقيقة المكنونة في صدرها. وعلى هذا الأساس، لا تكون ظاهرة الخنثى شذوذًا، بل حقيقةٌ تدل على سرِّ ما اختبأ في جوهر الوجود. وقد استطاعت الدراسات الثيوصوفية والبيولوجية الحديثة إظهار واقع هذا السرِّ، مؤكدةً وجود كائن أوليٍّ لم يكن ذكرًا ولا أنثى. لقد تمايَز ذلك الكائن، وحيد الجنس، وفق مبدأ الطبيعة الأرضية، إلى ذكر وأنثى. تمَّ هذا الواقع لأن استمرارية الكائن البشري تقوم على الثنائية.

يتمثل البرهان الثاني في الخلية الإنسانية. والحق أن هذه الخلية لا تكون، في بدء تكوينها، ذكرًا أو أنثى. إنها واحدية الجنس. ولكنها تتمايز إلى ذكر أو أنثى وفقًا للوظيفة التي ستقوم بها. فالخلية الإنسانية المكوَّنة عودة إلى الكائن الأول البدئي أو إلى الخلية الأولى قبل مرحلة تمايُزها. فهي تمثِّل له خير تمثيل. ولما كانت عملية التكوين والتكون في رحم الأم خلال أشهر تسعة تمثل آلاف آلاف السنين التي قضتْها الطبيعة لكي تنتقل من الخلية الواحدة إلى الإنسان – الذكر والأنثى، – فإن عملية التكون هذه في رحم المرأة تشير إلى هذه الحقيقة. ولما كانت الخلية الأولى الوحيدة، قبل تمايزها إلى أنواع عديدة، لا تعرف الثنائية، فإن الخلية الإنسانية، في رحم المرأة، لا تعرف التمايز والثنائية قبل التلقيح. ولهذا، تكون هذه الخلية واحدة، واحدية، لا تعرف الانقسام. وهذا هو سرُّ عودة الإنسان إلى الواحدية في الخلية. لكنها تخضع للانقسام، وفقًا لمفهوم الطبيعة الأرضية، إلى ذكر وأنثى، بحسب وظيفة كلٍّ منهما، لكي يستمر الوجود على الأرض.

هنالك برهان ثالث لا يعتمد الواقعية العلمية في حرفيتها، بل يعتمد الوظيفة الإنسانية في كلا القطبين.

لن يكون بمستطاعنا أن نحدِّد هذه الوظيفة إلا من خلال قضية إنسانية، هي اجتماعية وسياسية وبيولوجية. وتدور هذه القضية حول مركزية المساواة بين الرجل والمرأة. فهل يتساوى قطبا الإنسان، أم أن أحدهما يرجح على الآخر؟ الجواب صريح وواضح. فإن كان الرجل والمرأة قطبي الحياة والإنسان، كانت المساواة تامةً بينهما. لكن تساؤلنا يطرح ذاته على الصورة التالية: كيف تكون هذه المساواة؟

لا تكون مساواة الرجل بالمرأة، أو المرأة بالرجل، مساواةً في الكمِّ. فهذه المساواة الكمِّية ذاتها لا تتم حتى بين الرجل والرجل أو بين المرأة والمرأة. لكن المساواة تتحقق في الكيف. والكيف، في مقولتنا هذه، يشير إلى الوظيفة التي يقوم بها كلُّ قطب. ولما كانت كلُّ وظيفة على حدة لا تكتمل من دون الأخرى، فإن الوظيفتين تتساويان تمامًا. فليس فخرًا للرجل أن يقول إنه أتى أولاً وتقدَّم على المرأة زمنيًّا، ذلك لأن "أسبقية" الرجل على المرأة دليلٌ على عدم اكتماله، كما هو دليل على حاجته الماسَّة إلى تحقيق وجوده، وعلى أن المرأة هي التي أكملتْه. ولكي ندفع كلَّ لبس أو كلَّ جدل عقيم، نقول: لم تكن هنالك أسبقية رجل على امرأة، ولا أسبقية امرأة على رجل. فآدم لم يعنِ شيئًا آخر سوى الجنس البشري المتمثل، بعد انقسامه، بالرجل والمرأة. أما قبل انقسامه فكان وحيد الجنس.

شئنا تقديم هذا البرهان الثالث في هذه الصيغة رغبةً منَّا في عدم الوقوع في إشكال ميتافيزيائي. ولذا قلنا إن الوظيفة هي التي تحدِّد جنس الإنسان، ذكرًا كان أم أنثى. ولهذا السبب، نجرؤ على القول إن هذه الوظيفة تعني أن الجسم الروحاني المتجسِّد في هذا الوجود يلبس جسم امرأة أو جسم رجل في توافُق مع المهمة التي سيؤديها أو الواجب الذي سيقوم به. فإن كان على الجسم الروحاني أن يقوم بدور الأنثى لَبِسَ جسدَ امرأة، وإن كان عليه أن يقوم بدور الذكر لَبِسَ جسدَ رجل. ومن هذا نستنتج أن الجسم الروحاني لا يتصف بالذكورة ولا بالأنوثة. فليس هو ذكرًا أو أنثى؛ لكنه يتصف بالذكورة أو بالأنوثة في مجال تحقيق ذاته على هذا الكوكب. ولهذا نقول إن الرجل والمرأة يتساويان في الكيف لأن جسمهما الروحاني ليس ذكرًا ولا أنثى، ولأن التنوع أو التمايز الوحيد بينهما يشير إلى الوظيفة فقط. والمساواة الحق هي أن يحقق كلٌّ منهما وظيفته، وأن يصل بها إلى كمالها.

هكذا، نبرهن كيف تكون الثنائية في الإنسان ظاهرية، وكيف تكون الواحدية جوهرية وأساسية.

ولا غرو أن برهاننا الميتافيزيائي هذا يقودنا إلى برهان رابع ناتج عنه. فلقد برهن العلم الحديث أن كلَّ ما في الرجل موجود في المرأة، وأن كلَّ ما في المرأة موجود في الرجل، لكنْ بنسبة أقل أو أكثر. وهكذا، نقول إن الاختلاف لا يقوم بينهما؛ فلا يقوم بينهما إلا التمايز والتنوع. فالاختلاف يشير إلى التضاد أو التناقض؛ والتنوع يشير إلى التمايز ضمن الواحدية. والضرورة تقتضي التمايز على مستوى كوكبنا هذا. والتمايز يعني تنوُّع الوظيفة من الوجهة البيولوجية فقط.

لا فرق، إذن، بين الرجل والمرأة.

هكذا، يكون الرجل والمرأة قطبين لإنسان واحد. ولما كان هذان القطبان يتفاعلان ضمن حقيقة واحدة، ويهدفان إلى استمرارية الوجود المادي على كوكب الأرض، فجدير بنا أن ننظر إلى واقع هذه العلاقة وإلى حقيقتها في آنٍ واحد.

يبدو واقع هذه العلاقة في الظاهرة البيولوجية التي نطلق عليها اسم الحب Eros أو التجاذب المادي. وتبدو حقيقة هذه العلاقة في الظاهرة النفسية التي نطلق عليها اسم اجتماعية الإنسان، وكذلك في الظاهرة المثالية التي نطلق عليها اسم المحبة Agapè أو التجاذب الروحي. إذن، فبحثنا يفرض ذاته كضرورة كافية من خلال بحث دوافع الإنسان الثلاثة:

1.     البيولوجية–المادية–الجسدية؛

2.     المثالية–الاجتماعية–الإناسية؛ و

3.     المثالية–الروحية.

الدوافع البيولوجية هي تلك الدوافع المغروسة في مادة الإنسان والكامنة فيها، التي تسعى إلى تحقيق ذاتها من خلال تلقائية طبيعية تهدف إلى تحقيق غاية. وتكون هذه الدوافع البيولوجية طاقة حيوية أصيلة تعمل في الإنسان لتحقيق غاية. فالدوافع الطبيعية–المادية–البيولوجية هادفة في جوهرها، منظَّمة في أساسها، لأنها تسعى إلى تحقيق ذاتها؛ وهذا، على الرغم من أن التلقائية تشكِّل محورها. فإنْ هي انتظمتْ وتفاعلتْ مع الدوافع الأخرى كانت غائية، وإن هي فعلت بذاتها ولذاتها كانت غريزية مدمِّرة.

إن دوافع الجوع والجنس والعطش دوافع بيولوجية، توجد بوجود الإنسان، وتتأصل في جذور جسده. فهي ليست أمورًا تخرج عن نطاق الجسمية في المتعضِّية organism البشرية.

ولما كانت العلاقة بين الرجل والمرأة تتصف بظاهرتها البيولوجية التي أطلقنا عليها اسم الحب، أو الجنس، أو التجاذب المادي، فمن واجبنا أن نعرِّف بهذه الظاهرة، فنقول: الجنس أو الحب هو انجذاب المادة إلى المادة، وتوق أو حنين الجسد إلى الجسد، بفعل طاقة داخلية صميمية، ندعوها دافعًا بيولوجيًّا، طبيعيًّا أو حيويًّا.

هذه هي العلاقة الأولى التي تقوم بين الرجل والمرأة. لكن هذه العلاقة تشكِّل عاملاً يشترك فيه الإنسانُ والحيوان. فالدافع البيولوجي دافع يعمل في الإنسان والحيوان على حدٍّ سواء. لكنه يقف في الحيوان عند هذا الحد، ولا يتعداه أو يتجاوزه إلى دافع أسمى. فالحيوان يحقق الدافع البيولوجي والطبيعي كطاقة حيوية بالدرجة ذاتها التي يحققها الإنسان؛ ذلك أن الطبيعة تعمل من أجل تحقيق ذاتها. ولا يمنعنا هذا من القول إن الدافع البيولوجي منظَّم في الحيوان تنظيمًا دقيقًا يفوق مثيله في الإنسان. ويعود عدم انتظام هذا الدافع في الإنسان إلى وجود العامل الثاني لديه، وهو الدافع النفسي–الاجتماعي. ولما كان هذا الدافع شبه معدوم لدى الحيوان، كان دافعُه البيولوجي أكثر انتظامًا. وهذا ما يدفعنا إلى القول بأن أيَّ اختلال في الدافع النفسي–الاجتماعي لدى الإنسان يؤدي إلى اختلال في الوظيفة البيولوجية. ولا بدَّ لنا من أن نأخذ بعين الاعتبار أن بحث الدوافع يشير إلى استقرارها وتحقيقها لذاتها تحقيقًا طبيعيًّا ونفسيًّا، الأمر الذي يُلزِمُنا على القول إن بحثنا هذا ينطبق على الإنسان السوي.

الدوافع النفسية–الاجتماعية هي تلك الدوافع التي يبدأ الإنسان، من خلالها، بالتمايز عن الحيوان؛ وفي صيغة أخرى، نقول: هي الدوافع التي تجعل من الإنسان كائنًا يسمو بنفسانيَّته على بيولوجيَّته. إذن، تُعتبَر هذه الدوافع امتدادًا للفعل البيولوجي، الأمر الذي لا يسمح للإنسان، في قطبيه، بأن يتوقف عند حدِّ تحقيق الدافع الطبيعي وحده. ولا شكَّ أن القيام بالدافع الطبيعي في المجال الإنساني، لمجرَّد تحقيقه فقط، أمر يسيء إلى تَوازُنه إساءة كبرى.

هكذا نرى أن الدوافع النفسية–الاجتماعية تمتد، ولا تقف عند حدود البيولوجيا؛ بينما تنتهي في الحيوان عندها أو تتناهى إليها. فالدافع البيولوجي لا يقف عند حدوده في نطاق الإنسان، بل يتجاوز ذاته إلى دافع أكثر أصالة في إنسانية الإنسان، هو النفسانية والاجتماع.

وإذا ما أخذنا الأمومة مثالاً، قلنا إن الأمومة دافع بيولوجي يشترك فيه كلٌّ من الحيوان والإنسان. ولكنه، مع ذلك، دافع يستمر في الإنسان ويمتد. وامتدادُه في الإنسان يشكل الدافع النفسي–الاجتماعي. ويدل هذا على أن الإنسان أسمى من الحيوان. ولكننا نضيف قائلين إنه ينحطُّ إلى مستوى أدنى من مستوى الحيوان إنْ هو عجز عن وعي هذه الحقيقة.

يكتفي الحيوان بتحقيق دافع الأمومة؛ ولسوف يقطع صلته بهذا الدافع بعد تحقيقه على المستوى البيولوجي. ويعمل الإنسان على امتداد هذا الدافع على المستوى النفسي–الاجتماعي. والحيوان، بدوره، يعجز عن تلقين صغاره مبادئ الاحترام، وعزَّة النفس، والشجاعة الأدبية، أو غيرها، في الوقت الذي يقوم الإنسان بذلك – رجلاً كان أو امرأة، أبًا أو أمًّا. فالأمومة في الإنسان دافع يشترك في البيولوجيا والنفس. والجنس في الإنسان – وهو أمومة وأبوة – دافعٌ يشترك في البيولوجيا والنفس.

ولا يقف الدافع النفسي–الاجتماعي عند هذا الحدِّ من البحث والتفسير، بل يشير أيضًا إلى أن العلاقة بين الرجل والمرأة نفسية–اجتماعية، وبيولوجية كذلك بالطبيعة. إن بيئة الأسرة والزواج حالة نفسية–اجتماعية. ولا شكَّ أن سعي الإنسان إلى الإنسان، تحقيقًا لصداقة وإلفة، وتجنبًا للوحدة والشعور بالانعزال، وأن امتداد الإنسان في الآخر، تحقيقًا للاجتماع والأنْسَنَة humanization، وأن التعبير عن الشخصية الإنسانية من خلال الزواج، دليل على الجانب النفسي من العلاقة. ولا تكتمل شخصية الإنسان على المستوى النفسي–الاجتماعي إلا من خلال تسامي العلاقة البيولوجية وامتدادها.

هكذا نرى أن العلاقة الجنسية–البيولوجية–الطبيعية تمتد في الإنسان ليحقق كيانه على مستوى أعلى، هو المستوى النفسي–الاجتماعي.

أما العلاقة الثالثة والأخيرة، فهي العلاقة المثالية أو الروحية التي تتمثل فيها المحبةُ خير تمثيل. ففي العلاقة الأولى – وهي العلاقة البيولوجية–المادية – يتحقق الحب الذي يعبِّر عن انجذاب المادة إلى المادة. وفي العلاقة الثالثة – وهي العلاقة المثالية – تتحقق المحبة التي تعبِّر عن انجذاب الروح إلى الروح. وإذا توخينا التعبير الواضح عن هذه العلاقة الأخيرة، تأمَّلنا الفكرتين التاليتين:

1.     إن كنَّا نحترم الإنسان، ونكرِّمه، ونعتبره الكائن الأفضل على الكرة الأرضية، فحريٌّ بنا أن نعتبر الوسيلة أو الطريقة التي يحضر من خلالها إلى الوجود ونكرِّمها. وليست هذه العلاقة غير العلاقة التي تقوم بين الرجل والمرأة، تلك هي التي نسمِّيها بالعلاقة الجنسية تارة وبالزواج والاقتران تارة أخرى. وبناء على هذا المبدأ، لا نسمح لأنفسنا أن نعتبر العلاقة–الوسيلة منحطَّة، أو مدنَّسة أو متدنِّية، لأنها السبيل الوحيد الذي يتحقق من خلاله وجودُ الإنسان على الأرض.

2.     إن كنَّا نعتبر هذه العلاقة أو الوسيلة الطريقةَ الوحيدة التي يتم من خلالها تجسُّد الروح على الأرض، فحريٌّ بنا أن نعترف بسرَّانيتها ومثاليتها. إن الاستمرار على هذا الكوكب – وهو تجسُّد الطاقة الروحية في مجال مادي – لا يتم إلا من خلال العلاقة بين الرجل والمرأة.

تنبثق مثاليةُ العلاقة من هذا المستوى الثالث للعلاقة بين الرجل والمرأة.

في نهاية مقالنا هذا نستخلص ما يلي: إن العلاقة التي تقوم بين الرجل والمرأة علاقة ثلاثية الأبعاد، تتحقق على مستويات ثلاثة: بيولوجية، ونفسية، ومثالية. إذن، فالعلاقة ثلاثية الأبعاد وواحدية الجوهر والحقيقة. ولا تُعتبَر هذه العلاقة ذات شأن وأهمية، ولا تحقق معناها، أو مغزى القيام بها، ما لم تكن تشتمل في صميمها على هذه المستويات الثلاثة، أو على مستويين منهما في الحدِّ الأدنى، هما المستويان البيولوجي والنفسي معًا.

عندما نصل إلى نتيجة من هذا النوع، نتساءل عن واقع العلاقة التي تقوم بين الرجل والمرأة وتتم على المستوى البيولوجي وحده. ما هي هذه العلاقة؟ ماذا ندعوها؟ وماذا تكون؟

تُعَدُّ العلاقة التي تقوم بين الرجل والمرأة، – بل بين كلِّ إنسان وإنسان، – وتعتمد المستوى البيولوجي وحده، علاقة مادية، لا تفعل لتحقيق غاية. وبصريح الكلمة، ندعوها علاقة زنى. فالزنى علاقة تقوم بين قطبي الإنسان، وتعتمد المستوى البيولوجي وحده. وما الفرق القائم بين العلاقة الجوهرية المتحقِّقة في المستويات الثلاثة وبين العلاقة الجزئية التي تعتمد الجانب البيولوجي وحده سوى فرق يشير إلى أن العلاقة الأولى حقيقية، تعبِّر عن الكيان الإنساني في شموله المادي والنفسي والمثالي، والعلاقة الثانية شذوذ عن مبدأ كيان الإنسان وشموله.

هكذا، تتراءى لنا حقيقة العلاقة بين الإنسان وذاته في صورة الرجل والمرأة. وما التعاسة والسوء الناتجان عن هذه العلاقة غير برهان يشير إلى سوء استعمال وسوء تطبيق الإنسان لها. وما الشقاء الذي نراه في أثناء تطبيق هذه العلاقة سوى نتاج لطغيان المستوى البيولوجي وحده. فلكي يحيا الإنسان حياة متزنة ورصينة، ويحقِّق ذاته في علاقة من هذا النوع، يجب عليه أن يقيم توازنًا بين هذه المستويات الثلاثة – توازنًا حقيقيًّا يتجاوز المظهر الخارجي.

*** *** ***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود