مصـطـفى فــرُّوخ
حين يهمل الوطنُ أبناءَه تتناثر إبداعاتُه بين أيدي اللصوص وسماسرة الفن

 

زاهد عزت حرش

 

إن الحياة الحقة هي حياة الفكر أولاً وحياة الروح. إنها كتاب، وزهرة، ولوحة، وحب خالص. هذا هو الإنسان، وهذه هي حياته. وما تبقَّى فحيوانية لا تعرفها النفوسُ الكبيرة.
مصطفى فروخ، قصة إنسان من لبنان

 

لبنان أعطى النهضة العربية شيئًا من صلابة أرزه وعنفوان قلاعه التاريخية، فأنجب من صلب ترابه اليازجي والبستاني وجبران ونعيمه، كما أنجب الرحابنة وفيروز ووديع الصافي، ولم يبخل في ميادين الشعر والأدب والسياسة، فأهدى الزمان كلاًّ من سعيد عقل وخليل حاوي وإلياس خوري، كما شرَّف الشرق بكمال جنبلاط ومهدي عامل وحسين مروة والكثير من الأسماء الخالدة التي لا يستطيع الإنسانُ عند ذكرها أن ينسى "فارسها الجميل" زياد الرحباني!

وبحكم عشقي لواحات التشكيل ومسارات نبض عطائه الإنساني، وجدتُني ألتقي قبل بضعة أعوام مع مقالة تتساءل صاحبتُها من خلالها عن دور الدولة في الحفاظ على تراث الرسام اللبناني مصطفى فروخ. فشرعت أبحث عنه في سجلات الأيام، حيث استفزت مشاعري تلك الكاتبةُ حين ذكرتْ أن سماسرة من الغرب يهرِّبون أعمال فروخ لتباع هناك بأسعار خيالية، وذلك بعد أن يحصلوا عليها من أناس في لبنان لقاء مال بسيط وجهد لا يُذكَر.

وإذا بي ألتقي، أيضًا، بعد ذلك بعام، بأخبار تقول إن نجل هذا الفنان، هاني مصطفى فروخ، يقيم معرضًا لذكرى والده في "متحف آل سرسق" في بيروت يضم زهاء 170 لوحة من أعمال والده، تمت استعارةُ بعضها من مقتنيها اللبنانيين، لتتشكَّل بذلك أول خطوة في مواجهة سطوة اللصوص والسماسرة.

كان ميلاد فنان لبنان الأول مصطفى فروخ في بيروت سنة 1901. وقد نشأ فيها ودرس في معاهدها وجامعاتها. ومنذ تفتُّق سنوات نضجه الأول، أحسَّ بميوله الشديدة إلى الرسم، فقصد الفنان حبيب سرور ليتلقَّى أولى دروسه في الرسم على يديه. بعد ذلك، غادر لبنان متجهًا إلى روما، وهناك التحق بكلِّية الفنون الجميلة، وتخرَّج بعد أن نال منها أول شهادة في الفنون التشكيلية سنة 1928. ثم غادر روما متوجهًا نحو باريس ليبقى فيها مدة أربع سنوات متواصلة، يمارس الرسم ويتعلَّمه على يد أحد روَّاد الحركة التشكيلية الباريسية، الفنان پ. شابا، الذي كان يشغل حينذاك منصب رئيس "رابطة التشكيليين الفرنسيين".

استغل الفنان الشاب وجوده في باريس، فاختلف إلى معظم متاحفها وصالات عرضها، لينهل من منابعها ما استطاعت قدراتُه الذاتية حملَه وليُكوِّن، من خلالها، مخزونًا ثريًّا، مشبعًا بالأحاسيس والخبرات، التي لم تستيقظ إلا على جدران باريس الحالمة، وليرتوي من عتبات ألوانها وأساليب فنانيها وتعدُّد مدارسهم بكلِّ ما أوتي من رغبة وعشق للفنِّ وآفاقه الإبداعية.

اتجه فروخ، منذ بداياته، إلى الأسلوب الكلاسيكي في تشكيل اللوحة، واتخذ التصوير الواقعي ليتناول من خلاله موضوعات رسوماته كافة، متنقلاً، في رحاب الواقعية، من طبيعة لبنان الرائعة إلى بيوتها وأحيائها الريفية والمدنية، ومن شواطئ بحره إلى جباله الشمَّاء، ومن الأودية والغدران إلى السهول والغابات، متعمدًا في ذلك كلِّه أن يضع بصماتِه المتميزةَ على ألوانها وفضائها، في صورة أقرب ما تكون إلى مخزونه التراثي المشبع بروح لبنان الذي صهرتْه الطبيعة، ما بين زمهرير ثلوجه وأيام القيظ الصيفية فيه.

هذا كله لم يحجب عن ناظريه صورة الإنسان وملامح أبعاده الروحية، فوضع أعمالاً كثيرة تحمل وجوه الناس، پورتريهات من شتى الانتماءات، الريفية والمدنية، الثقافية والسياسية، التاريخية والتراثية، حتى غدت أعمالُه مرجعًا "متحفيًّا" يروِّي بالإحساس والمشاعر كمًّا هائلاً من المعرفة بإنسان لبنان وعلاقته بالتاريخ وبالأرض. وجاءت ريشتُه لتتأنَّى في تشكيل انحناءات الجسد ومعالمه، كما تتريث في استقبال انعكاس نظرات الوجه بالتروِّي ذاته الذي ترسم به المكنسة والمجرود اليتيم عند حائط المصطبة – كل ذلك لتتحول التفاصيل في أعماله كلِّها إلى عمل إبداعي يضفي قيمةً مذهلةً حتى على أدق التوافه في حياة الناس اليومية العادية جدًّا.

وجاءت لوحته "معاوية يركب البحر" (1939) لتتصدَّر الصالة الرئيسية التي تواجه المدخل الرئيسي للمتحف. وقد استوحى فروخ موضوع هذا العمل من حدث تاريخي، وهو بناء أول أسطول عربي قاده معاوية حوالى سنة 632 لاجتياح قبرص. وقد قال عنه:

ألَّفتُ موضوعًا يمثل معاوية وزوجته على رأس أسطوله يبحر من لبنان، يحيط بهما القُواد والرجال ويظهر في استقبالهما وفدٌ من كرام اللبنانيين، وقد نُصِبَتْ فوقهما أقواس النصر ترفرف عليها الأعلام وتمتد تحت أرجلهما السجاجيد. نرى في هذه اللوحة الكبيرة جرأة معاوية في أول مغامرة بحرية وتضحيته كي يضرب المثل لجنده في قوة الإرادة، [كما نرى] المكانة السامية التي تحتلها المرأة العربية في إبان نهضة العرب الماضية.

قالت عنه الدكتورة زينات بيطار، أستاذة مادة الفنون في الجامعة اللبنانية:

مصطفى فروخ مدماك تأسيسي في تاريخ الفن اللبناني الحديث وقامة فنية شاهقة بشموليتها الإبداعية. فإلى جانب تميُّزه في فنِّ التصوير والرسم والكاريكاتور، كان ناقدًا فنيًّا ثاقب البصيرة ومؤرخًا فنيًّا متعمقًا في فنون الغرب والشرق معًا.

وقد تمَّ في هذا المعرض التذكاري فرزُ اللوحات إلى ثلاث مراحل، وهي:

1.     البدايات (1915-1930)؛

2.     النضج (1930-1940)؛ و

3.     النهايات (1950-1956).

وفقًا لهذا التقسيم التوثيقي، يمكن لنا أن نقرأ لوحات فروخ في ضوء نظرة تحليلية عميقة تشمل، في أحيان كثيرة، أعمالاً كُشِفَ النقابُ عنها للمرة الأولى. نجد في "البدايات" ولادةً حقيقيةً لمغامرة تبلورت في ظهور سلسلة من لوحات الصور الشخصية التي خلَّدت ذكرى رجال دين مسلمين، راحلين ومعاصرين له، ابتدأ فيها من العام 1928، لتضمَّ لوحاتٍ لوجوه مشايخ وأساقفة، مسلمين ومسيحيين، من رجال عصر النهضة العربية، وقد زيَّنت في العام نفسه صالون فندق "الشرق" في بيروت، منها وجوه: جمال الدين الأفغاني والإمام محمد عبده والشيخ عبد الحميد الزهراوي والبطريرك غريغوريوس حداد وغيرهم.

على هذا الأساس، ضمَّ المعرض أكثر من سبعين لوحة محورها الوجه، مما منح روَّاده فرصة الاطلاع على أسرار تحولات هذا النمط من الفن في تجارب فروخ، من صورة وجهية لتخليد ذكرى الراحلين، إلى نزوة التقاط المشاعر والهنيهات العابرة، إلى وجوه الطلبيات وألبومات العائلات البيروتية ووجوه الصداقات المتعددة. وما بين الحركة الثابتة والهادئة ووقار الشخصيات ومكانتهم الاجتماعية، كانت لوحات الوجوه، في نزعتها الكلاسيكية المحدثة، أشبه بالشعر الموزون المقفَّى، بينما كانت لمساته "الانطباعية" المتحررة أشبه، في أحيان كثيرة، بسراب المشاعر التي تخترق الحُجُب.

وكانت لوجه المرأة في فن فروخ معانٍ كثيرة: فهناك إشراقات ابتسامتها ("المرأة السافرة"، زيتية، 1929)، ونظراتها الحائرة ("البيروتية الجميلة لابسة المنديل"، پاستيل، 1929)، حاول فروخ التعبير من خلالها عن مكانة المرأة العربية إبان النهضة الماضية. وقد سعى فروخ إلى التعبير عن إعجابه بملامح الفلاحين التي حفلت بالقوة والعزم والتواضع. فقد آمن بالانتماء إلى "الأمكنة الأرضية"، كما يؤثر تسميتها، حيث كتب في جريدة الأحرار (1938): "إن الجبل الملهم يترجم شعورنا وكياننا وتقاليدنا." وهذا ما يفسِّر سرَّ رسمه لوحة ذاتية لوجهه معتمرًا الكوفية (نحو 1938). ثم كانت رحلاته إلى بلاد المجد المفقود (المائيات الأندلسية، 1930) التي عمَّقت ارتباطه بجذوره اللبنانية والعربية.

لقد عمَّقت الرحلات التي قام بها فروخ ما يسمَّى فن الپورتريه والمنظر والمنظر التاريخي والمنظر الرعوي في تجاربه، التي انتقلت ما بعد العام 1932 إلى رحلات الداخل، أو إلى ما سمَّاه أمين الريحاني بـ"قلب لبنان". وقد آمن فروخ، بعد عودته من أوروبا واستقراره في بيروت، أن لوحة المنظر هي الأقرب إلى الذوق المحلِّي لأنها تتفاعل في شكل تلقائيٍّ ومباشر مع أحلام الناس ورغباتهم الصادقة في الارتباط بأرضهم وهويتهم. لذا راح يرسم على هواه ما يرى وما يريد وما يحس، في محاولة لمواجهة المنظور وما يكتنفه من عواطف وأسرار وأضواء وظلال وتموجات لونية ومناخ. فالرسوم السريعة التي كان ينفذِّها في الهواء الطلق كانت تقوده نحو مزيد من التناغم والتوازن. كانت مناظره دومًا تتسم، في آنٍ واحد، بالطراوة والصلابة والإضاءة الصحيحة.

مات مصطفى فروخ عن 56 عامًا سنة 1957، تاركًا وراءه أعمالاً تشهد له ولتاريخ الفن في لبنان بعطائه الفني المتميز. ومجمل هذه الأعمال ينطبق عليها ما جاء على لسان بابلو پيكاسو في تحديده لوجهة نظر الباحثين حول أعماله:

أنا أعارض أن يكون هنالك ثلاثة آلاف رأي وتفسير لأعمالي... يجب ألا يكون ثمة أكثر من تفسير واحد، وعليه أن يتضمن، إلى حدٍّ ما، الطبيعة، التي ليست، بعد ذلك كلِّه، سوى نبع الصراع الدائر ما بين الذاتي والموضوعي، الشخصي والعام، الذي هو أصلاً صراع ما بين ما يكمن في داخلي وما يحيط بي.

وهكذا كانت أعمال فروخ أيضًا!

*** *** ***

 

مراجع

-        لميحة فياض، ليلى، أعلام الرسم.

-        صحيفتا الوطن والشرق الأوسط، 15 كانون ثاني 2003.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود