ما سبب الشر؟

وكيف دخل إلى العالم؟

تمهيد: تأمُّل في الشرِّ الإنسانيِّ

 

ندى الحاج

 

من أين يستمد الشرُّ سلطته التي تقوى كلَّ يوم أكثر فأكثر في العالم؟ من الجشع أم من التعصب، من الكره أم من الجبن؟ هذا العدو، الذي نعتقد أنه خارجنا، هو حيٌّ فينا، على ما يؤكد الفيلسوف الفرنسي المعاصر أندريه كونت سبونفيل.

اعتاد الإنسان، على مرِّ العصور، فكرةَ الألم المتفشي في العالم من جراء العنف والظلم والبؤس. ولطالما اعتقد أن مصدر الألم تتسبب به مشاكل اجتماعية أكثر منها أخلاقية؛ كأن يلقي باللوم، مثلاً، على الرأسمالية في مسألة الظلم (ماركس)، أو على الكبت الذي يولد العنف (فرويد). فحلَّت السياسة مكان الأخلاق، وطبعت القرن العشرين بالشيوعية والنزعة النيتشوية الداعية إلى العيش والتفكير "ما وراء الخير والشر".

اليوم، بعد سقوط المثاليات السياسية والإيديولوجية التي تسببت بخراب وموت كبيرين، يكتشف الإنسان مجددًا أن الشر موجود، ولا يقتصر على الأوهام أو على حوادث تاريخية معينة، بل يلتصق بجوهر الإنسانية. ينبِّه سبونفيل إلى أن الالتباس الحاصل اليوم في العالم بين السياسة والأخلاق كبير وخطير ويؤدي إلى التعصب بضمير مرتاح.

الإجابة عن ماهية الشر لا تُحدَّد في سهولة. كان الفيلسوف الألماني لايبنتس يميِّز بين ثلاثة أنواع من الشرور:

1.    ميتافيزيقي، يكمن في عدم الكمال؛

2.    فيزيقي، يكمن في الألم؛

3.    أخلاقي، يكمن في الخطيئة.

والشر الأخلاقي هو الأكثر غموضًا وصِدامية. يحصر الفكر التقليدي الشرَّ الأخلاقي في مخالفة الله وأوامره. أما الفكر المعاصر فيُخرِج الشرَّ الأخلاقي من إطاره الديني ليحمِّله التجربة الإنسانية البحت ويحصره في نية أذى الآخر والمساس بحريته أو كرامته أو راحته ومنعه من تحقيق ذاته.

من أين يأتي الشر؟ من الغرائز؟ من اللاوعي؟ لكن الغريزة الحيوانية بريئة، واللاوعي غير إرادي. هل ينحصر الشر المعنوي، إذن، في فعل الشرِّ الإرادي والواعي؟ وهل مبدأ "الشر من أجل الشر" موجود لدى الإنسان؟ حتى السادي لا يؤذي بغية الشر، بل في سبيل اللذة التي يجدها إيجابية. أما الأسباب التي دفعت هتلر إلى القيام بمجازره فلم تكن شريرة، بحسب اعتقاده، إنما كانت من أجل عظمة ألمانيا وتفوُّق العرق الآري وسلطته الخاصة. وينطبق الأمر على الذين يسمونهم "إرهابيين"، فيما هم يَقتُلون ويُقتَلون باسم الخير الأسمى.

الله، الوطن، الثورة، السلطة، المال، اللذة – كلها قضايا يُحمِّلها الإنسان منطقه الخاص؛ وإذا تطرَّف فيها اصطدم مع الآخرين وألحق بهم الأذى. الشر الأخلاقي إنساني بحت، يرتدي عباءة الأنانية والضلال، أو الجشع والتعصب، الكره أو الجبن – وكلها عناصر تنحدر بالإنسان إلى مستوى أدنى بكثير من الحيوان. والطريقة المثلى لمحاربة الشرِّ هي في صفاء الرؤية والنبل والتسامح والتجرد والشجاعة والحب. "الأنانية أساس كلِّ شر"، بحسب الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط، وخاصة عندما تغرق الأنانية في الكره أو التعصب. أن نخوض المعركة ضد ذواتنا لنحارب الشرَّ أفضل من أن نخوضها ضد الآخرين – إلا إذا كانت دفاعًا عن النفس.

طرح القديس أغسطينوس السؤال الآتي: "أين نجد القوة لإنقاذ ذواتنا عندما نكون خطأة ونحيا في عالم داخلي مرهون بكامله للشر؟" كان أغسطينوس يعتقد أن حرية الإنسان لا تستطيع إنقاذه لأنه منفصل طبيعيًّا عن الله منذ الخطيئة الأصلية، ودعا الإنسان إلى الخلاص قائلاً: "ابحث كما لو أنك ستجد، وإذا وجدت واصل البحث." أما القديس بولس فبشَّر باهتداء الإنسان من خلال ولادة جديدة وتحوُّل في الذات قائلاً: "... أي أن تقلعوا عن سيرتكم الأولى فتخلعوا الإنسان القديم الذي تفسده الشهوات الخادعة، وأن تتجدَّدوا بتجدُّد أذهانكم الروحي فتلبسوا الإنسان الجديد ..." [أفسس 4: 22-4]. حتى تجربة البوذا الجوهرية – وهي اليقظة – تكمن في الولادة الداخلية، حيث تتمزق غلالة الجهل، إما على نحو فجائي أو تدريجيًّا بواسطة إشراقات متتالية. تسمح تلك الولادات الداخلية، في رأي الكاتب الفرنسي فريدريك لونوار، بتخطِّي أوهام الأنا وفخاخها بالمصالحة العميقة مع ذواتنا والآخرين والعالم، مهما تكن المحن.

ويبقى السؤال الملح الذي يطرح نفسه، يوميًّا وعمليًّا، في أنحاء العالم قاطبة: كيف نواجه جنون الحروب المتكررة والمتفجرة ضد الآخر "العدو" باسم الحق والأخلاق والإنسانية؟ هل يكفي التأمل والصلاة والتنوير على صعيد الأفراد لمواجهة جحافل الجهل والحقد والتعصب؟

بين اللاهوت والفلسفة وعلم الأخلاق، من ناحية، والعالم المتعصب إيديولوجيًّا ودينيًّا وسياسيًّا وسلطويًّا والسائر نحو تدميره الذاتي، من ناحية ثانية، هوةٌ كبيرة لا سبيل إلى ردمها إلا بالحكمة وقبول الآخر وترويض الوحش القابع فينا.

***

 

ما سبب الشر؟

وكيف دخل إلى العالم؟

نظرة فلسفية حول مفهوم الشر

 

ندره اليازجي

 

أسمح لنفسي وأنا أسعى إلى الإجابة عن موضوع أو مقولة تشغل العقل الإنساني الذي يبحث عن خلاص، أن أعالج هذا الموضوع على نحو ينقله من نطاق الحرف إلى نطاق الروح. في هذا المنظور، أهدف إلى تأمل الموضوع على المستويات التالية:

1.    المستوى الأول الذي نشأنا على الأخذ بحرفيَّته واعتبارها حقيقة مطلقة.

2.    المستوى الثاني الذي يتيح للعقل الواعي المجالَ لطرح الموضوع – موضوع الخير والشر – في الطبيعة المادية وفي الطبيعة الإنسانية، حيث نعترف بوجود الإيجاب والسلب.

3.    المستوى الثالث الذي أعالج فيه مفهوم الخير والشر في مظهريه: الخير الذاتي والخير المطلق.

4.    المستوى الرابع الذي أعالج فيه مفهوم الحرية والوعي في علاقته بالخير.

5.    المستوى الخامس الذي أعالج فيه الصعوبات الطبيعية، الممثلة بالكوارث الطبيعية، كالبراكين والزلازل والفيضانات التي ندعوها شريرة، ومفهوم سيادة الإنسان على الطبيعة وعلى الكائنات والمخلوقات.

***

المستوى الأول

نشأنا، منذ طفولتنا، على الاعتقاد بمأساوية الوجود الإنساني، الماثلة في سقوط آدم وحواء واقترافهما الخطيئة. وأضحت هذه المأساة الإنسانية هي العقيدة المهيمنة على عقولنا والموجِّهة لسلوكنا. هكذا، نشأنا على الاعتقاد بالخطيئة، واستمراريتها، وسيطرة الشر الذي أصبح كائنًا في كيان الإنسان، في جسده، على نحو "ناموس" يتخذ منه الجسد تسويغًا لاقتراف الشر.

وعلى الرغم من أننا نشأنا على الاعتقاد بنهاية السقوط والخطيئة والشر بمجيء المسيح وخلاص البشرية بقوة "ناموس الإيمان" الذي نحته الله في قلب الإنسان وروحه، بما يهيِّئه بقوة الخلاص من عبودية الخطيئة والشر على نحو يجعلنا أحرارًا وأبناء لله، لكننا، مع ذلك، مازلنا نتحدث عن وجود الشر والخطيئة، وننسى أن المسيح علَّمنا كيف نتجاوز الخطيئة، وأرشدنا إلى اعتناق التعاليم والمبادئ التي تزودنا بالقدرة الروحية – حلول الروح القدس – الفاعلة في صميمنا، والمهيأة للانتصار على الشرِّ والخطيئة. وعلى الرغم من أننا نشأنا على الاعتقاد بفاعلية معمودية الروح القدس التي تضع نهاية للإنسان القديم – إنسان الخطيئة – وتبدع منَّا كائنات روحية جديدة مخلوقة على صورة مبدعها، وهو الله، لكننا مازلنا نضطرب ونحن نتساءل عن طغيان الشر والخطيئة، ونناقش قضية وجود الشر في الإنسان، لنتساءل من جديد إن كان هذا الشر قائمًا في طبيعة الإنسان أم أنه مكتسب.

ويتعاظم تساؤلنا، إذ نرى ونعاين سفك الدماء في الحروب، ونتألم للفقر والعوز والبؤس والتعاسة التي تعاني منها البشرية، ونكتئب للطغيان والظلم السائدين، وللكراهية وأنواع التعصب المسيطرة. ومع ذلك، نعيد هذه المساوئ أو الشرور كلَّها إلى معتقد تبنَّيناه منذ الطفولة، وترسَّخ في نفوسنا، ونحن نزعم أن الإنسان الأول كان – ومازال – المسؤولَ عن وجود الشر وأننا نحمل عبء خطيئته!

في هذا الإحساس الأليم بالذنب، الناتج عن الاعتقاد بخطيئة السقوط في هاوية الحرف والخضوع لميكانيكية الحرف وإغفال ديناميَّة الروح التي حصلنا عليها في العهد الجديد، نسينا أن سقوط الإنسان، بمفهومه الحرفي، تلا سقوط الملائكة. ولعمري، لم أجد من يحاول أن يفهم هذا السرَّ أو اللغز ليخفف من حدة اللوم الذي نلقيه على الإنسان الأول، بحسب نصوص الشريعة والقصة التوراتية.

في هذا السياق يمكنني أن أقول: إذا كان سقوط الإنسان، أو اقترافه للخطأ أو الخطيئة، نتاج وجوده في العالم الأرضي، أي في عالم الثنائية، وتماسه مع تلقائية الطبيعة المادية، فلا بدَّ لنا أن نتساءل عن سبب سقوط الملائكة – وهم أرواح مجردة من الأجساد، ومتجاوزة لقوانين الطبيعة المادية.

في هذا المنظور، ندرك أن الخطيئة المنسوبة إلى آدم وحواء، على أنها محبة المعرفة أو السعي إلى معرفة سرِّ الشجرة، لا تُعتبَر خطيئة، وذلك لأن محبة المعرفة، وفق تعليم المسيح، تؤدي إلى الحرية. لقد قال المسيح: "تعرفون الحق والحق يحرركم." إذًا، فمحبة المعرفة تُحرِّرنا من الجهل والخطيئة؛ وبالتالي، تبلغ بنا هذه المعرفة نطاق الحقيقة والحرية التي تشير إلى نهاية الخطيئة والشر. وبالمثل، يشدد بولس على المعرفة، إذ يقول: "إلى أن ننتهي جميعنا إلى وحدانية الإيمان ومعرفة ابن الله إلى إنسان كامل إلى قياس قامة ملء المسيح." ويؤكد المسيح على المعرفة إذ يقول: "أعطي لكم أن تعرفوا أسرار ملكوت السموات."

أسمح لنفسي أن أقول: إن الإله الذي لا يسمح لآدم بالمعرفة لا يكون إله محبة، بل يكون إلهًا طاغية مستبدًّا، يمنع الإنسان من الارتقاء إلى مستوى ملكوت النعمة والمعرفة لكي يبقى عبدًا مكبلاً بقيود الجهل والخطيئة. وفي هذا السياق، يصبح الجهل حافزًا إلى الخطيئة – وأعني أن الخطيئة تكمن في الجهل. فإن كان المسيح قد دعا إلى معرفة أسرار ملكوت الله، ودعا بولس إلى معرفة ابن الله، فلا بدَّ لنا أن نفهم أن الخطيئة التي أدَّتْ إلى سقوط آدم – إذا كانت هي محبة المعرفة – لم تكن "خطيئة" في حكمة الله ومحبته، بل هي خطيئة في نظر إله قاس وظالم، غير الرب الإله الحقيقي.

فإذا شئنا أن نفهم حقيقة السقوط قلنا: إن السقوط يعني هبوط الروح إلى العالم المادي، حيث تسود الثنائية. وإذا كان واجب الإنسان، وهو يحيا في عالم الثنائية، يقضي بالمعرفة فإنما عليه أن لا يخطئ في تجربته واختباره للثنائية القائمة في الوجود المادي. لذا، تحدِّثه "شجرة المعرفة"، التي هي جسده، عن أحادية المعرفة التي تنجيه من الخطأ، وتنقذه من "عدم المعرفة"، أي الجهل، الذي يؤدي إلى الخطيئة، أي الشر.

هكذا نفهم الرمز القائم في أطروحة الوجود البدئي الذي استهل فيه الإنسان رحلته بالمعرفة التي تنقذه من الضلال والتيه – وهذا لأن الإنسان، في أثناء قيامه بأية تجربة أو اختبار، يعتمد مبادئ العقل التي تحتمل أن تخطئ أو تصيب. لذا يجب عليه ألا يبقى في إطار الخطأ، لسبب هو أن المعرفة المعمقة تؤدي به إلى الصواب. وعلى سبيل المثال، نعلم أن العالِم أو الحكيم، الذي اختبر تجربة، بعقله الواعي، مرات عديدة لم يكن مخطئًا، بل كان في طريقه إلى الصواب، أي كان يتلمس الطريق إلى الحقيقة – وعندئذٍ يعرف. وهذه المعرفة تنقذه من الخطأ والخطيئة والجهل، فلا يقترف الخطأ أو الخطيئة، إذ يختبر كلَّ تجربة بوعي، ولا يقترف الشر.

أما سقوط الملائكة، فإني أسعى إلى توضيحه في التفسير التأويلي التالي:

أ‌.       يشير سقوط الملائكة إلى التطور الهابط من الروح إلى المادة، من اللطافة إلى الكثافة، من عالم اللازمان واللامكان إلى عالم الزمان والمكان، من عالم الوحدة الكلِّية والشاملة إلى عالم الثنائية والتعددية والتنوع.

ب‌.  إذا كان الملائكة أنوارًا فهذا يعني أنهم الوسطاء بين الله والإنسان والعالم المادي. وهذا يعني أنهم يمثلون المستويات، أو مراتب الوجود بين الألوهة والإنسان.

وإذ تبلغ هذه المراتب الحدَّ الأدنى ينبثق العالم المادي إلى الوجود. وفي سبيل الوضوح أقدم المثل التالي:

أمامنا شمعة مضاءة – نعتبر إضاءتها الكاملة مائة درجة. وهذا يعني أن ضياءها الكامل كامن في الشعلة. لكن ضياءها يتضاءل كلما ابتعد عن مصدره، فيكون تسعين درجة، ثم ثمانين، فسبعين، ثم... حتى يبلغ عشر درجات. وفي هذا المستوى من الإضاءة يكون الضوء ثنائيًا، أي ظلامًا ونورًا. في هذا المثال، ندرك أن العالم المادي يتمثل في مستوى الدرجات العشر الأخيرة المنبثقة من كمال الضوء أو النور.

وعلى هذا الأساس، يكون عالمنا عالم الثنائية، أي عالم النور والظلمة، والروح والمادة، والخير والشر، والمعرفة والجهل، والسعادة والألم، والبرودة والحرارة، إلخ. ويكون الملائكة الوسطاء، أو الأنوار، التي تشير إلى هبوط الروح إلى عالم المادة، والنور الكامل إلى النور–الظلمة، على نحو يكون فيه العالم المادي ثنائيًا، بما يدعو الإنسان إلى المصالحة بين حدَّي الثنائية والتوفيق بين الظاهرات لتعود إلى الوحدة البدئية الحقيقية. ولا تتحقق هذه المصالحة والتوفيق والعودة بالثنائية إلى الوحدة إلا بالمعرفة والوعي والمحبة. وفي هذه المصالحة يُختزَل الشرُّ لصالح الخير، والجهل لصالح المعرفة، والظلمة لصالح النور، والألم لصالح الغبطة، إلخ. وعندئذٍ يحقق الإنسان "الأنسنة العليا" التي هي "الحياة المؤلَّهة" لأنه أصبح "يعرف" و"يعي" و"يحب" حقيقة وجوده.

المستوى الثاني

يشير ما تقدم إلى حقيقة تتمثل في "هبوط" – وليس في سقوط – هو تطور هابط involution من الإيجاب الكامل إلى عالم الإيجاب والسلب، هو عالم الوجود المادي. ويمكننا أن نعبِّر عن هذا التطور الهابط، رمزيًّا، بالتسلسل المتحول من اللطافة الروحية إلى الكثافة المادية. وكذلك يمكننا أن نعبِّر عنه بأسلوب لاهوتي فنقول: إنه الابتعاد عن الله واغتراب الروح عن مصدرها الإلهي.

نحن، وإن كنَّا تحدثنا عن وجود السلب، وذكرنا الشر والجهل والكثافة والظلام والبرودة إلخ، لكن الدراسة الروحية والعرفانية المتعمقة تشير إلى عدم وجود الشرِّ كوجود صرف أو وجود محض أو حقيقي في جوهر الكون. وفي هذا المنظور، لا يُعتبَر السلب مناقضًا للإيجاب إلا في ظاهره – وهذا لأن التعمق في فهم حقيقة المادة يشير إلى أن المادة، في حقيقتها، غير موجودة: إنها إشعاع كثيف. وقد برهن العلماء، الذين تعمقوا إلى المستوى ما دون الذري، أن النهايات القصوى لعالم الصغائر تشير إلى عدم وجود المادة. ومع ذلك، لم يتصفوا بالشجاعة التي تجعلهم يعترفون بوجود الروح.

يمكننا أن نقول: على مستوى كوكب الأرض، يُعتبَر السلب والإيجاب قطبي حقيقة واحدة. وفي هذا المستوى، يجب على الإنسان أن يعي الإيجاب الكامن في حقيقة الوجود الأرضي وجوهره. وإذ يعي الإنسان هذه الحقيقة، لن يكون السلب نفيًا للإيجاب – وهذا لأن السلب حيادي في كمونه. فما من شيء يُعتبَر، في جوهره، شرًّا.

وإذا ما تساءلنا ونحن نعالج هذا المنظور: ما هو الشر؟ أجبنا: الشر هو عدم معرفة الخير؛ هو نفي للخير الناتج عن عدم وعي حقيقة الخير، أي عدم تحقيق الخير. وبالمثل نقول: الجهل هو عدم تحقيق المعرفة، والعنف أو الكراهية هي عدم تحقيق المحبة، والظلمة هي عدم تحقيق النور. وفي هذا النفي، أو عدم التحقيق، ينبثق ما ندعوه الشر إلى الوجود عبر الانفعالات البشرية السيئة التي تشير إلى انعدام الوعي. فإذا كان الخير امتلاءً، كان الشر تفريغ محتوى هذا الامتلاء. وهذا يعني أن درجة مائة تتناقص إلى الصفر: لقد أُفرِغَتْ المائة من امتلائها. إذًا فالشر هو "نقصان" للامتلاء. فإذا كان الله هو "الملء" أو "الكمال" أو "الكلَّ في الكلِّ" كان إبليس هو نقصان الملء، أو الكل، إلى الصفر؛ وأعني أنه الانعدام الكامل للملء أو الكمال أو الكل.

في هذا المنظور، ندرك أن الإنسان الواعي لحقيقة وجوده يعلم أنه كائن كوني "ممتلئ" بالإيجاب، وأن هذا الإيجاب يتطلب التحقيق على نحو كمال ينشده عبر توق يشده إلى التوحُّد مع الأبدية. ويدرك هذا الكائن الواعي أن "الشر" ينبثق إلى الوجود العياني من عدم التحقيق. وفي هذه الحالة، لا يرى نقصًا في الكون – هذا لأن الله يخلق ويبدع الكمال الذي ضمَّنه في الوجود. وعندئذٍ يردد هذا الإنسان الواعي مع الشاعر العظيم وولت ويتمان العبارة التالية: "يا لعظمة الوجود! يا لعظمة أصغر جزيء في الوجود!" ويضيف إلى هذه العبارة الحكمة التالية: "لا أرى نقصًا واحدًا في الكون وفي أيِّ شيء" – وهذا لأن عالم الصغائر، كالقسيمات والجزيئات والدقائق الصغيرة، هي عوالم كاملة. أليست الذرة نظامًا شمسيًّا كاملاً؟

هكذا يكون الشر نقصًا في الوعي وفي معرفة الخير وجهلاً بالغاية القصوى لوجود الإنسان. ويكون الجهل نقصًا في معرفة الحقيقة، وبالتالي، كما ذكر سقراط، سببًا للشر. لذا لا يوجد شرٌّ في طبيعة الوجود، بل، على غير ذلك، يوجد السلب القابل للانحراف إلى الشرِّ الذي هو الجهل بحقيقة الأشياء. وإذا كنا نتحدث عن الظلام فلأن عيوننا لا تستطيع أن ترى إلا ضمن حدين من الاهتزاز. وهذا يعني أن النور يملأ الكون. أما الظلمة فهي عدم القدرة على رؤية النور. لذا لا توجد ظلمة في النور، ولا يوجد إبليس في الله – وهذا لأن الله حضور كلِّي، وخير كلِّي، ومحبة كلِّية، وحكمة كلِّية تملأ الوجود وتشمله. والحق إن إبليس، الذي نجعله رمزًا للشر، هو مجرد السلب الذي لا ينبثق إلى الوجود إلا بجهل حقيقة الإيجاب الكامل الذي هو الله. لذا وُجِدَ الشر بوجود الإنسان الذي جعل من السلب وجودًا واقعيًّا.

المستوى الثالث

إذ نطرح مفهوم الخير والشر على مستوى السلوك والتصرف، نعلم أن الأفعال البشرية، المعبَّر عنها بالواقع المأساوي، تتجلَّى في مظهرين:

1.    الخير الذاتي

2.    الخير المطلق

يشير الخير الذاتي إلى المصلحة أو الخير المؤقت الذي يتوخاه الإنسان وهو يعزز "مركزية أناه"، ويتخلَّى عن الخير المطلق الذي تعززه "مركزية روحه". فهو يرى الخير الذاتي في "الهدف" الآني الذي يسعى إليه في الربح، والسيطرة، والمصلحة، والخداع، والاستغلال، والتكبر، والتملك، والتعصب، والاعتقاد بامتلاك الحقيقة المطلقة، إلخ. ويسعى هذا الإنسان "الأناني" إلى تحقيق هذا الخير الذاتي المزعوم في كلِّ سلوك أو تصرف. وهكذا تخلو حياة الإنسان "الأناني"، المحب لذاته والتائه في صحراء الرغبات والشهوات، والغارق في مستنقع فوضى التقييم، من الغاية أو الغايات النبيلة والسامية. ومن هذا الخير الذاتي ينبثق الشر – وهذا لأن الشر هو حصيلة السعي المحموم إلى الخير الذاتي، الآني والمؤقت، الذي ينتهي بالشر على الصعيد الفردي والصعيد الاجتماعي.

على غير ذلك، ترى الإنسان الواعي والحكيم – إنسان المعرفة والمحبة – يسعى إلى تحقيق الغاية السامية من وجوده. وإذ يدرك أنه كائن طبيعي وإنساني وكوني يفهم أن "القيمة" و"المعنى" المضمونين في وجوده يشيران إلى تحقيق الغاية القصوى في حياته. وفي هذه المعرفة، يسعى إلى تحقيق "مركزيته الروحية" التي تعتمد على تنمية عقله ليصبح "عقلاً فوقيًّا" يطلُّ على مبادئ الروح ويشتمل على مركزية أناه ويحتويها. وعندئذٍ تفعل وظائف الجسد في وفاق مع الناموس الروحي الذي نحته الله في كيان الإنسان. وهكذا يسعى جاهدًا للعمل على مستوى "العقل الفوقي" الذي يجعل منه كائنًا واعيًا ومُحبًّا، يخدم البشرية جمعاء، إذ يشاهد فيها نفسه. وفي هذا المنظور، تتوافق أفعالُه مع الخير المطلق الذي يشير إلى نهاية السلب، أي إلى عدم تحويل الإيجاب إلى سلب، أي إلى عدم حَرْفِ السلب، الذي هو مجرد وجود معكوس للإيجاب، إلى شر.

في هذا السياق، نعلم كيف تنتهي مظاهر الشر الاجتماعية التي هي حصائل حتمية لتطلعات وأهداف الأنا المركزية المؤقتة التي لا ترى غير ذاتها في نطاق المعيشة الفردية، وتغفل نطاق الحياة القائمة في العقل الواعي والروح السامية، وتخفق في معاينة الحقيقة التي يخفيها "حجاب الأنانية".

المستوى الرابع

يُعَدُّ هذا المستوى خلاصة لما تقدم.

عندما يدرك الإنسان أنه كائن كوني، يدرك الغاية السامية الكامنة في صلب كيانه. وعندئذٍ يسعى إلى تحقيق الحرية التي تعتقه من جميع الإشراطات التي تقيِّده وتحول دون انفتاحه، في قلبه وعقله، على شمولية الحياة. والحق أن الوعي هو الحرية ذاتها – الحرية التي تسمو به إلى معرفة الحق. وكلما زاد وعيُ الإنسان زادت حريته وتخلَّص من عبودية الأنا المركزية. وإذا ما تأملنا قول المسيح: "تعرفون الحق والحق يحرركم"، علمنا أن معرفة الحقيقة تؤدي إلى الحرية. وإذ أتساءل: ممَّ تحررني المعرفة؟ أجيب: إنها تحررني من عبودية الجهل، وضيق الأفق الفكري، والتعصب، والكراهية، إلخ، لتنقلني إلى حرية الوعي.

إذا كان الجهل سببًا رئيسيًّا لاقتراف الخطيئة، أي الشر، كانت المعرفة وعيًا يحرِّرنا من الخطيئة والشر. ألم يقل المسيح: "أبتاه، اغفر لهم لأنهم لا يعرفون [أي يجهلون] ما يفعلون." لقد وُجِدَتْ عبوديات كثيرة، أصبحت إشراطات وقيودًا عديدة، سبَّبها الإنسان الجاهل الذي أغفل الإيجاب وانحرف إلى السلب الذي صار شرًّا أو شرورًا. وفي وسط هذه الشرور الناجمة عن عدم معرفة الحقيقة نجد أنفسنا غارقين في الإشراطات التي ينبغي علينا الخلاص منها في نطاق الإيجاب، والتحرر منها بفعل المعرفة والوعي اللذين يُشيَّد عليهما "الإيمان الحقيقي" الذي لا يتزعزع – الإيمان الذي يقول بولس إنه "عطية الله"، ثم يصرِّح لتلميذه تيموثاوس بأنه لا يخجل لأنه "عالم بمن آمن"، أي أنه آمن عن معرفة.

المستوى الخامس

قد يقول أحدهم: إن كنا قادرين على معرفة الحقيقة ووعيها، والعمل بالمحبة حتى درجة التضحية، والتحرر من الإشراطات العديدة التي تكبِّلنا، وإلغاء الشر أو اختزاله أو تقليصه في حياتنا الفردية والاجتماعية على نحو يُحدِث تعادلاً مع الإيجاب، فماذا نقول عن الشرور الناتجة عن الطبيعة، كالبراكين والزلازل والفيضانات والأعاصير، التي تشير إلى ثورة الطبيعة المادية وطغيانها وقدرتها التدميرية؟

يمكنني أن أجيب على النحو التالي: نحن نعلم أن العالم المادي هو عالم السلب الذي تسوده القوة النابذة التي تنحرف إلى تمرد وعصيان وانفجار في حال خروج السلب عن نطاق الإيجاب. ومن جانبي، أعتقد أن جميع الظاهرات الطبيعية التي ندعوها شرورًا طبيعية تُرَدُّ إلى أسباب فيزيقية وأسباب إنسانية. والحق أن الطبيعة المادية تسير وتفعل وفق قوانين يسودها النظام. وعلى سبيل المثال، يحاول كلُّ كوكب من كواكب النظام الشمسي الإفلات من مداره أو مسلكه بقوة النبذ، أي السلب، ولكن الجاذبية المركزية تعيده إلى الإيجاب، أي إلى النظام والانسجام مع المركز أو مع النظام الكلِّي للكون. لذا توجد "حركة كونية" واعية تفعل لتحقيق الإيجاب على نحو يكون السلب فيه مضمونًا في الإيجاب.

وبالإضافة إلى ما ذكرت، يشير وجود الإنسان على كوكب الأرض أنه يحيا في عالم الصعوبة. ولا شكَّ أن وجوده في عالم الصعوبة يُمِدُّه بالقدرة العقلية على التفكير والمعرفة. لذا يمكننا أن نعتبر ما ندعوه الكوارث الطبيعية التي نتهمها بالشر صعوبات تقتضي المعرفة القصوى التي، إنْ تزوَّدَ الإنسانُ بها، تصبح وسيلة أو وسائل تُمِدُّ الإنسان بالقدرة على تحويل السلب القائم في المادة إلى إيجاب. وفي هذه الحالة تكون الصعوبات في الطبيعة الطرقَ التي تُمِدُّ الإنسان بالمعرفة التي تساعده، بدورها، على التعاون مع الطبيعة على الخير، وليس على الشر. وعندئذٍ يحب الإنسان الطبيعة؛ ومتى أحبها، بسيادة عقله وروحه، فإنه يساعدها؛ ومتى ساعدها وتآلف معها بالمحبة والتعاطف والوعي، يتوقف غليان السلب في المادة، ويتجلَّى الإيجاب القائم في عظمة المحبة والمعرفة والوعي.

والحق إن الظاهرات التي دُعِيَتْ قوة مدمرة و"شريرة" تفعل للخير المطلق الذي يستتر، أحيانًا، عن بصر الإنسان وبصيرته، الأمر الذي يجعله يُنكِر الخير الكامن في الوجود. ألا ترى أن غالبية الأفكار الإنسانية تنزع إلى السلب؟ وعلى هذا السلب، ننسى ما حدثنا به الرسول بولس من أن كلَّ الأشياء تعمل معًا للخير إن كنا نحب الله.

في هذا المنظور، ندرك دور الإنسان في إثارة السلب على صعيد ذاته، على صعيد المجتمع، وعلى صعيد الطبيعة التي يحوِّل سلبها إلى ثورة يدعوها شرًا. وإذا كان قانون الفعل وردِّ الفعل ينطبق على جميع العلاقات يمكننا أن نقول: إن الطبيعة التي يستغلها الإنسان "شر" استغلال تردُّ عليه بعنف. والحق إن الإنسان يعتدي على الطبيعة التي تردُّ له العداء على نحو براكين وزلازل وفيضانات.

يمكنني أن أقول: إن الإنسان أساء فهم كونه سيدًا للطبيعة، للمخلوقات والكائنات. فالسيادة لا تشير إلى الطغيان والتسلط والظلم والقهر – وهي مظاهر السلب – بل تشير إلى "سيادة" العقل العارف والواعي الذي يعلم أن واجبه يقضي بمساعدة الطبيعة على استعادة هدوئها وسكينتها ضمن الإيجاب الكوني، وعلى إمدادها بالقدرة لتقوم بدورها الفعال في نطاق الوعي والنظام والعطاء. عندئذٍ يتوافق ما هو عقلي وإنساني مع ما هو طبيعي ومادي.

لذا يجب على الإنسان أن يسعى إلى "رَوْحَنَة" الطبيعة، أي العودة بسلب المادة إلى إيجابها، لكي لا ينحرف سلبُها إلى ما ندعوه "الشر". وعلى هذا الأساس، نتحدث عن الأطروحة الإنسانية على النحو التالي: إن العقل الواعي، الذي بلغ حدود الروح، يرفع مستوى الوجود المادي والطبيعة إلى مستوى الروح. وفي حال إخفاق الإنسان في تحقيق هذه الأطروحة، ينبثق "الشر" إلى الوجود، ويكون هو المسؤول الوحيد عن عدم التحقيق الذي ندعوه الشر.

*** *** ***

تنضيد: نبيل سلامة

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود