انظُرْ في بؤرة نفسك تعرف منهجك

حوار مع الناقد

يوسف سامي اليوسف

***

النصوص الأدبية المعاصرة تعاني من ضمور العنصر الإنساني

الأديب شاهد على عصره، والناقد شاهد على الشاهد

الأعمال الأدبية الكبيرة لا يتيسر إنجازها بسهولة

نعم، هنالك صلة رحم بين الكتابة والعمارة

الناضج هو وحده الناضج من أجل الموت

***

بين أيدينا الآن أطول حديث أدبي يفضي به الناقد الفلسطيني الكبير يوسف اليوسف.

لقد أبحرنا في صحبته في عوالم النقد والأدب، فكلَّمنا عن أطوار النقد الأدبي، عربياً وعالمياً، وعن أهمية النقد في بناء عمارة الأدب، ودوره في توجيه أذواق المثقفين والعامة على حد سواء.

 

وبيَّن الناقد اليوسف، بجرأة أدبية عالية، أنه الآن، بعد نضج ملكاته النقدية واطلاعه الواسع على جلِّ ميادين النقد، التراثية منها والمعاصِرة، بات يتبنَّى منهجاً نقدياً هو غير المنهج النقدي الذي تبنَّاه في السبعينات. فهو لم يعد يؤمن بما يسمى بـ"المنهج النقدي المتكامل"، وإنما يؤمن بالمنهج الذي مدارُه "الجَوَّانية التأملية" والذي يصل عن طريق الحدس إلى أرواح الأشياء.

في هذا الحوار سيجد القارئ جملة من أفكار الناقد يوسف اليوسف التي هي على درجة كبيرة من الأهمية والعمق.

حسن حميد

***

كيف تنظر إلى مهمة الناقد الموضوعي في توجيه رأي الجماهير الوجهة الصحيحة نحو تقبُّل عمل أدبي ما أو نحو رفضه؟

قد لا نختلف على أن جمهور القراء يحتاج دوماً إلى توجيهٍ مدارُه على قيمة النص الأدبي الذي يرشِّحه صاحبُه للقراءة. ولكن خلافاً من نوع ما لازال يدور حول القيم التي ينبغي للنص الأدبي أن يدرجها في طواياه كي يصير إنجازاً صالحاً للقراءة. فبعض الناس يشدِّدون على أهمية العناصر الاجتماعية والسياسية، بينما يشدد بعضهم الآخر على أهمية العناصر الجَوَّانية العميقة، ولاسيما الثوابت الديمومية للنفس البشرية؛ إذ بهذه الثوابت حصراً نملك أن نقرأ المتنبي الذي مضى عليه ألف عام، والمسرح الإغريقي الذي مضى عليه خمسة وعشرون قرناً.

وعلى أية حال، قد يملك المرء أن يوجِّه رأي الجمهور وذائقتَه الأدبية والفنية إذا استطاع أن يخلق في الناس ضرباً من الحساسية الذوقية، أو قُلْ حساسية القراءة. ويتلخص هذا الصنف من الحساسية عندي في نقطتين بسيطتين، أو هما تبدوان كذلك للوهلة الأولى:

أولاً: تدريب القارئ على تأويل ما يقرأ، أو تفسيره وتذويب غموضه، بحيث يصير قابلاً للهضم العقلي. فمما هو مؤسف حقاً أن يعجز شعرٌ ذكي كشعر أدونيس عن الوصول إلى الرقعة الواسعة من القراء في العالم العربي بسبب ما ينبثُّ فيه من غموض – ولو أن المرء قد لا يوافق على أن هذا الغموض رمزي وفنِّي دوماً. إن في ميسور الناقد، إذ يفسِّر الغموض الرامز على الأخص، أن يساعد حساسية القراءة لدى الجمهور على البزوغ والتحرك والفاعلية؛ وبذلك يسهم في إزاحة بعض الحواجز التي تنتصب بين القارئ والنص الأدبي، ولو إسهاماً نسبياً.

ثانياً: لا ريب عندي في أن أكبر مهمة للناقد الممتاز هي ممارسة التمييز بين الأصيل والنغيل. فالناقد الأدبي، مأخوذاً من هذه الزاوية، هو حارس قوي لفسحة العبقرية التي لا يدخلها إلا المطهَّمون. وما من ثقافة قد أتيح لآدابها أن تترمَّد قبل أن تترمَّد حركة النقد الأدبي فيها.

حين يجيد الناقد الأدبي هذه الوظيفة الكبرى، وحين يوزع معاييره النقدية عبر جميع الوسائل المتاحة، فإنه يسهم إسهاماً، كبيراً أو صغيراً، في إنتاج عقل معياري، أو حساسية تمحيصية لها القدرة على التمييز بين الغث والسمين. فكلنا يعرف أعمالاً أدبية تافهة قد أتيح لها أن تحتل مكانة مرموقة، ولو مؤقتاً. ولا جدال في أن العجز عن المَيْز، الناجم عن غياب المعايير النقدية الراسخة، هو أحد العوامل الكبرى لمثل هذه الظاهرة.

إن الفرق برهة تركيبية ديمومية في الذهن البشري. والمَيْز هو فعل التفريق، أو المنشِّط العقلي الرامي إلى تحديد الفروق بين المتباينات، لا من حيث صفتُها وكميتُها فقط، بل من حيث قيمتُها أو مراتبُها قبل كل شيء. ومن المعروف أن صغار الأطفال هم أقل الكائنات البشرية قدرة على التمييز بين الأشياء؛ وإلا فلماذا يقحم الطفل يده في النار أحياناً؟ فالطفل منخرط في وحدة وجود تجهل الفروق والتمايزات والتناقضات. وهو لا يخرج من هذه الوحدة، عبر نمو الإدراك، إلا إذا تنامت قوة المَيْز فيه على نحو جوهري معافى.

فإذا ما استطاع الناقد الأدبي أن يبذر في الناس حساسية المَيْز، أو التفريق بين الرفيع والوضيع، بين السليم والسقيم، فإنه يكون قد أسهم إسهاماً مرموقاً في توجيه رأي القراء نحو الاتجاه السليم.

إذا كانت مهمة المبدع الفلسطيني هي الالتزام بالموضوع الفلسطيني والعربي القومي، فما هي مهمة الناقد وهو يتناول هذا الأدب؟

إن الالتزام بالموضوع الفلسطيني والعربي القومي، أو الالتزام بالهمِّ الوطني إجمالاً، ليس المهمة الوحيدة للمبدع الفلسطيني، بخاصة، والعربي، بعامة. فثمة هموم أخرى: العدالة الاجتماعية، الشر الذي يملأ العالم، الألم البشري، سر الكون والوجود، سر الحب والصداقة، سر الموت... وبإيجاز ثمة وظيفة التعامل مع الكون. إن أدباً بغير هموم كونية لا يسعه البتة أن يكون أدباً عظيماً؛ أو قل إن الأدب الوطني نفسه لا يمكن له أن يكون أدباً بالمعنى الدقيق للكلمة إلا إذا استطاع أن يصل إلى الإنسان الشامل، إلى الراقة النفسية التي تتعالى على التاريخ، على الأماكن والأزمنة كلِّها.

شخصياً، لا أستطيع الاعتقاد بأن الإنسان الشامل ليس أكثر من تجريد خيالي. ولهذا أراني أملك حق الذهاب إلى أن الإنسان الشامل، الذي يتعالى على التاريخ، لا يتعالى على الفهم أو الاستيعاء. وما ذاك إلا لأنه يرخم في داخل كلٍّ منا على الإطلاق؛ وفي ميسور النفوس الصافية أن تستوعبه بكيانية أصلية. وأقصد أن في الوسع أن تصل إليه النفس بضرب من المباشرة التي تتوجه إلى الأشياء من تلقاء نفسها. إن هذه الفورية التي تبلغ إلى الكلِّي بمنتهى اليسر لهي عنصر تركيبي أصلي في بنيان النفس.

حين يلتزم الكاتب (وكذلك الناقد) بكل ما هو نبيل وسوي في هذا العالم فإنه سوف يلتزم بالهمِّ الوطني والقومي بالضرورة؛ وما ذاك إلا لأن هذا الهم جزء لا يتجزأ من هم كوني أشمل. والعكس صحيح: فحين يلتزم الكاتب (والناقد أيضاً) بالوطن والأمة من حيث هما تاريخ فإنه سوف يبلغ على الفور إلى كل ما هو نبيل ومعافى داخل هذا الكون المطلق. فمن أية درب أتيت وصلت؛ والمهم أن يكتمل ارتسام الدائرة.

إن أكبر نقص تعانيه النصوص الأدبية المعاصرة، الملتزمة بقضايا التاريخ، هو ضمور العنصر الإنساني، أو الكوني، بين ثناياها. وإن من أهم وظائف الناقد الأدبي أن يرفع يده محتجاً. فلئن كان الكاتب شاهداً على عصره فإن الناقد شاهد على الشاهد نفسه. وذلك يعني أن السؤال الكبير المطروح على الناقد الخبير برسالة النقد هو هذا: هل صَدَقَ الشاهدُ أم كَذَب؟ أو قل هذا: إلى أيِّ مدى صَدَقَ الشاهد وإلى أي مدى كَذَب؟

إذا ما سلَّمنا بمقولة الأجيال – جيل الستينات، جيل السبعينات، إلخ – فإننا نلاحظ أنك توقف تطور النثر الفلسطيني عند غسان كنفاني، وتغفل حيناً، وتهاجم أحياناً أخرى، جيل الكتاب الذين جاؤوا بعد غسان كنفاني. لا أدري لماذا...

الـ"لماذا" هي بيت العقل؛ ومن دون هذه الـ"لماذا" يتبخر العقل ويتلاشى!

ما أكثر الذين يوافقون على أن النثر الأدبي الفلسطيني في السنوات العشر الأخيرة يكابد أزمة تعبيرية لا يستهان بها. وهذا يعني أن النثر الأدبي الفلسطيني لم يتوقف، وإنما هو قد انحدر إلى ما دون المستوى الذي كان عليه أيام غسان كنفاني وسميرة عزام.

ولم يتم ذلك بالمصادفة الخالصة، بل هو محكوم بطبيعة العصر الذي فيه نحيا. فلقد دخلنا في عصر الأورام والتضخمات، في عصر الكسب السريع. فلقد استطاع بعض الناس في هذا الزمن أن يتحولوا من الفقر إلى الغنى الفاحش خلال يوم وليلة فقط! إننا، إذن، في عصر اللاجهد؛ فإنسان هذا العصر لا يريد أن يبذل جهداً.

بيد أن الأعمال الكبيرة لا يتيسر إنجازُها بسهولة؛ أو قُلْ إنها تحتاج إلى جهد كبير. فالطبيعة، لكي تنتج الذهب، قد بذلتْ جهداً أكبر من الجهد الذي بذلتْه لكي تنتج الحديد؛ ولهذا السبب، دون سواه، كان الذهب نادراً، وكان أنفس من الحديد. فقيمه الشيء إنما تتحدد بمقدار الجهد الذي أودِع فيه.

حين تقرأ رواية فلسطينية (أو مجموعة قصصية) من إنتاج السنوات العشر الأخيرة فإنك لن تجد فيها، إلا على ندرة، شيئاً من الجهد الجدير بالاحترام. وبكل توكيد، ما انفكت الحقيقة الفلسطينية، بما تنطوي عليه من منطويات مأسوية، أكبر بكثير من تجلِّياتها الأدبية أو من انعكاسها في النثر الأدبي الفلسطيني. ولم يكن غياب العنصر المأسوي وليد المصادفة. فالحقيقة أن الهموم اليومية لعصرنا الراهن كفيلة بأن ترمِّد الوجدان الإنساني، أو تبلِّده على الأقل؛ وحين يتبلَّد الوجدان أو يترمَّد فلا بدَّ لينبوع اللغة من أن ينضب أو يجف. وعند ذاك سوف تسمع لغواً لا لغة؛ أو لعلك سوف تسمع اللغو أكثر مما تسمع اللغة. والفرق بين اللغة واللغو شديد الوضوح: اللغة تقول، واللغو لا يقول. وهذا يعني أن اللغو هو انحطاط اللغة.

ها نحن اليوم في عصر الطباعة والصحافة. وفي يقيني الجازم أن الطباعة والصحافة ما كان لهما أن تكونا إلا ابتغاء تشجيع اللغو على النمو، وإلا من أجل توسيع مساحة اللغو على حساب مساحة اللغة. وإذا دققتَ في تاريخ الكتابة كلِّها وجدتَ أن البشرية قد نشرت أعظم كتبها على الإطلاق قبل أن يستفحل أمر الطباعة والصحافة منذ تعميم الكهرباء في أواخر القرن الماضي. فالبالوعة التي تسمى الطباعة تشبه جهنم التي كلما قيل لها: "هل امتلأت؟" قالت: "هل من مزيد؟" فالطباعة تطالب بالكمية، ولا تهمُّها النوعية بأية حال من الأحوال؛ وهي تحتاج إلى الكثير وإلى السريع. وفي حمأة الانهماك بالكثير والسريع أهمل الإنسان الأصالة إلى حد كبير، ودخل في اللغو منصاعاً لمطالب هذه الواقعة الرهيبة التي تسمى الطباعة.

نعلم جميعاً أن حركة الطباعة في العالم العربي قد كانت وئيدة قبل عشرين سنة، وأنها قد تسارعت على نحو لم يُؤلَف من قبل خلال الأعوام العشرة الأخيرة. وقد تزامن هذا التسارع مع انحطاط الكتابة في العالم العربي كلِّه؛ وبعقبه، إذن بسببه. أجل، إن الطباعة عامل من عوامل انحطاط الكتابة في العالم كلِّه، أو في معظم أرجائه على الأقل. أكداس من الكتب تُنشَر في كل مكان هذه الأيام؛ بيد أن عدداً قليلاً منها يصلح للقراءة. ولا أدلَّ على ذلك من أن معظم هذه الكتب، ولاسيما الشعر والقصص، تكسد في السوق ولا تجد من يشتريها. ومن الأدلة على عدم قابلية معظم الكتب الأدبية للقراءة أن هذا المعظم لا يعاد نشره إلا على ندرة.

لقد قرأتُ الكثير من النثر الأدبي المعاصر بغرض التعرف على صلة الكاتب العربي (أكان فلسطينياً أم غير فلسطيني) بالطبيعة والمرأة والألوان، وخلصت إلى ما فحواه أن الكاتب المعاصر يكاد يجهل الطبيعة إلى حدٍّ لا يصدَّق، وأن صورة المرأة في ذهنه قلما تسمو إلى مستوى العشق المصعَّد النبيل، وأن رعشة اللون في وجدانه باهتة أو غائبة – إذ الألوان لا تُذكَر إلا عرضاً؛ وكأن الألوان ليست الأشياء إياها، وكأن الانسجام الذي يشد الأشياء والألوان إلى وحدة الهوية أمر مجهول إلى حدٍّ مطبق. مملكة النبات الهادئة المستتبة، مملكة الحيوان المجسِّم للحياة، الفراغ وما يسبح فيه من غمام وأنسام وأطيار وكواكب... هذه الظواهر الكونية التي تؤلف النسيج الأوَّلاني لكل أدب، وفي كل مكان وزمان، لا تحضر إلا لماماً، أو على ندرة، في النثر العربي المعاصر كلِّه، ومن ضمنه النثر الفلسطيني في هذه الأيام.

وقد لا أبالغ إذا ما قلت بأن الرادار الذي يربض في داخل الإنسان ما عاد يلتقط الصور جيداً في عصرنا الراهن. وفي مثل هذه الحال لن يكون الأدب العظيم إلا شحيحاً دون أدنى ريب.

أستاذ يوسف... أنت دارس جيد للتراث العربي القديم، من سير أدبية وتاريخية، إلى باقي الأجناس الأدبية المختلفة. وهنا أود أن أسألك: كيف تسخِّر فهمك للتراث حين تتعامل مع نص إبداعي ما من أدبنا الحديث؟

لا أظنني أجافي الحقيقة إذا ما قلت بأن هذا السؤال هو أذكى سؤال في هذه المجموعة الكبيرة من الأسئلة. ولأنني أرغب في أن أكون صادقاً معك فلا بأس في الاعتراف بأن هذا السؤال لم يخطر في بالي قط في أي يوم من الأيام. غير أنني بمجرَّد أن سمعته شعرتُ بأنني أعرفه وأعرف الإجابة عنه إلى حدٍّ كبير.

لقد ترك الأدب التراثي في بنيتي الداخلية جملة من العناصر الكيانية لست أشك الآن في أنني كنت أوظِّفها قبل سواها في نقد الأعمال الأدبية الحديثة. دعني أتناول بعض هذه العناصر الواحدة إثر الأخرى:

أولاً: اللغة:

قد لا تجد من يخالفك إذا ما ادَّعيتَ بأن اللغة العربية هي لغة القدماء أكثر مما هي لغتنا نحن أبناء القرن العشرين. فنحن نتكلم العامية؛ والشاعر القديم كان يجهل العامية، أو يرفضها على الأقل. يقول المتنبي:

وكلمة في طريق خفت أعربها

فيُهتدى لي فلم أقدر على اللحن

ففي فترة ما كان المتنبي مطلوباً للسلطة، فهرب وتخفَّى في الجبال. وقد رأى أنه إذا ما تكلَّم العامية فإنه سوف يُسهِم في تضليل الجنود الباحثين عنه ليمثُل أمام الجلاد. وهكذا رفض المتنبي أن يتكلم العامية، مع أن فيها بعض الجدوى.

وعلى أية حال، فإن اللغة في الكتابات التراثية كلِّها، ولاسيما في الشعر الجاهلي والنثر الصوفي، وعلى نحو أخص في نثر النفَّري، تمتاز بمستوى من الرصانة لم يستطع أحد في القرن العشرين كلِّه أن يبذَّه أو يقاربه بأية حال من الأحوال.

فلقد حاول الرافعي في مصر وسعيد عقل في لبنان أن يطورا أسلوباً عربياً جديداً يوهِم، للوهلة الأولى، بأنه الأسلوب الأصلي. بيد أن أياً من الرجلين لم يملك البتة أن يداني التوحيدي والنفَّري، ولا حتى الجاحظ. فأسلوب سعيد عقل ينطبق عليه المبدأ الذي أدعوه عادة مبدأ "الخواء الأنيق": فاللغة ههنا ظاهرُها الجمال وباطنُها اللاشيئية أو الفراغ؛ إذ هي لغة هيفاء مدمَّثة، ولكنها لا تقول أيَّما شيء ذي بال. أما أسلوب الرافعي فتهيمن عليه النزعة اللفظية؛ وهي نزعة خشنة، بل موحشة في كثير من الأحيان.

إن الأساليب العربية التي تضاهي أساليب أفلاطون ورابليه في النثرين اليوناني والفرنسي هي حتى الآن أساليب تراثية دون أدنى ريب. فالجملة في النثر التراثي، كما هي في الشعر، تنساب سيَّالة، لدنة ومتراصة في آن واحد، حتى لكأنها عمارة فنية نادرة. وقد لا أبالغ إذا ما قلت بأن البناء اللغوي في الكتابات التراثية شديد الشبه بقصر الحمراء أو الجامع الأموي؛ إذ كلا الشيئين – الكتابة والعمارة التراثيتين – ينبثقان من مبدأ واحد فحواه دمجُ القوي والجميل في تركيبة واحدة. والحقيقة أن ثمة صلة رحم بين الكتابة والعمارة. إن عمارة عصرنا البسكوتية لن يزامنها، أو يزاملها، إلا كتابة بسكوتية، ولكن من دون أن نهمل قانون الاستثناء أو الخروج عن القاعدة.

إذن، لقد تعلمت من التراث أن رصانة اللغة، التي لم ينزح عنها الهيفُ والطراءُ اللدِن، هي معيارٌ جد كبير من معايير أي أدب عظيم. وإنني دوماً أطبِّق هذا المعيار على الأعمال الأدبية الحديثة.

ثانياً: عمق الحياة في الأدب التراثي:

لا ريب في أن الأدب التراثي شديد الحساسية تجاه الحياة البشرية، بكل ما فيها من نبل وخسة، من فرح وألم، من نجاح وإخفاق. تقرأ بيتاً واحداً من الشعر الجاهلي فتشعر بأنك قد قُذِفَ بك قذفاً إلى الينبوع الأول للوجود. اسمع هذا البيت لامرئ القيس واحكم على الأمر بنفسك:

فلو أنها نفس تموت جميعة

 ولكنها نفس تقاطر أنفسا

فهل بعد هذا العمق من عمق؟!

وإذا ما تشبَّع المرء بروح الأدب التراثي الغنية بشتى عناصر الحياة فإنه سوف يرفض الفجاجة والتسطُّح أينما وجدهما، وسوف يلح على الأصيل والنبيل أيَّما إلحاح. فالتجربة الحيوية في الأدب التراثي شديدة الغنى والتنوع. اقرأ، مثلاً، ديوان ذي الرمة (وهو ديوان لا أعرف كم مرة قرأته)، ولسوف تجد أن انفعال الشاعر ببيئته وعناصرها شيء نادر المثال. ههنا يمثُل عالم الصحراء بكل ما فيه من عناصر الحياة: الحيوان، النبات، الآفاق، الأفلاك، الغيوم، الطيور، السراب، الرمل، الماء... وكل ما قد يخطر لك في بال. وههنا تجد تجربة عشق أصلية ونادرة. المرأة ههنا ليست جسداً من النوع الرخيص السهل؛ إنها حنين، بالدرجة الأولى، إنها ظمأ.

ولا ريب في أن الحياة العميقة، أو التجربة الأصلية، معيار من معايير الأدب في كل زمان ومكان. فهل كان شكسبير أعظم الشعراء في أوروبا إلا لأنه أقدرُهم على التعبير عن تجربة الحياة الأصلية والعميقة؟ ويقيناً، إنني كثيراً ما أبحث عن هذا المعيار في الأدب الحديث.

ثالثاً: النقد التراثي:

صدقاً، لقد ترك النقد التراثي في ذهني من الآثار ما لم يتركه النقد الأوروبي الحديث، ولاسيما في الآونة الأخيرة، بعدما أدركت أن النقد الأوروبي الحديث شكلاني أكثر مما هو روحاني أو جَوَّاني. ويقيناً أن الجَوَّانية من اختصاص الشرق؛ وبكل توكيد، ما من نقد عظيم بغير النزعة الجَوَّانية الأصلية.

ويقيناً مرة أخرى أنه ما من دائرة حضارية تملك أن تطوِّر نظرية في النقد الأدبي إلا انبثاقاً من أدبها الخاص، ولاسيما من أدب عصرها بالدرجة الأولى. وهذا يعني أن ثمة نظرية نقدية أميركية، وأخرى يابانية، وثالثة عربية، وهكذا ولكن من دون أن نغفل العناصر المشتركة بين جميع المجتمعات.

والحقيقة أن نظرية النقد التراثية قد اشتُقَّت من الشعر العربي التراثي بالدرجة الأولى، حتى لكأن الناقد يومذاك قدم ما فحواه أن نظرية الأدب هي تكثيفه في مفهوم أو تلخيصه في مبادئ لا تخلو من ثبات.

وأهم ما في النظرية النقدية التراثية أنها قد رأت، بكل وضوح، أن معايير الأدب هي قيم النفس إياها، أو هي أنفَسُ مُنطوَياتها ومحتوياتها على الإطلاق. فلكم كان ضياء الدين بن الأثير مدهشاً حين حدَّد النص العظيم بأن له "نشوة كنشوة الخمر، وطرباً كطرب الألحان". ولكم أصاب القاضي الجرجاني حين حدَّد وظيفة النقد الأدبي بأنها "تفتيش وكشف" عن الجمالات والمُضمَرات. فعند القاضي أن "مآل الجمال إلى باطن تحصِّله الضمائر".

إن هذا التنقيب عن أذواق ونشوات وكشوف أو رؤى هو مبدأ لم يبلغ إليه النقد اليوناني–الروماني، أو لم يبلغ إليه أي من أرسطو أو هوراس، على الرغم من أن اليونان أهلُ جمال ونشوات. أما الهند والصين فتفتقران إلى أية نظرية متكاملة في النقد الأدبي – اللهم إلا أن يكون ذلك قد تم في العصر الحديث. وهذا يعني أن نظرية النقد الأدبي هي شيء من ابتكارات العرب التراثيين.

لقد حدد ابن الأثير هوية العبقرية، أو الاستطاعة الابتكارية، بهذا السطر الذي يكاد أن يكون المبدأ الأول لكلِّ أدب ونقد على السواء: "وإنما الأرب كله في طريقة عذراء لم تُخترَع، ومذهب غريب لم يُبتدَع."

أما عبد القاهر الجرجاني فناقد نادر في كل زمان ومكان. ولا أبالغ إذا ما قلت بأن عبد القاهر أستاذ بلا تلاميذ في العالم العربي. والأنكى من ذلك أنني لا أعرف من استطاع أن يعرض نظرية عبد القاهر في عصرنا هذا، على الرغم من أن الذين قد كتبوا عن عبد القاهر قد لا يطالهم الإحصاء.

إن كتاب أسرار البلاغة هو درة النقد التراثي وذروته التي كان يتطور خلال خمسة قرون لكي يبلغ إليها. وللحق أن أهم ما في داخله من قيم ومبادئ نقدية قد اشتُقَّ على نحو ذكي من التراث الصوفي العربي بكلِّ وضوح. ولست لأقر بأن البشرية قد كتبت حتى الآن كتاباً في النقد الأدبي يملك أن يتعالى فوق هذا الكتاب. ولكن من الميسور القول بأن بعض الكتابات النقدية التي تركها ت. س. إليوت تكاد أن تقارب مستوى أسرار البلاغة، ولكن دون أن تتخطاه.

ولا بأس ههنا من تلخيص بعض المبادئ الكبرى التي حدَّدها الجرجاني للكلام العظيم:

أولاً: الكلام العظيم يمثل وحدة وجوده: فهو يدمج المتباينات أو المتنائيات في تركيبة واحدة، حتى لكأنه ضرب من صلح الأضداد، كالكون سواء بسواء.

ثانياً: إن البعد أو المسافة الشاسعة التي تفصل بين شيئين يتحدان في عالم الكلام هو واحد من الأسس الأوَّلانية لكلِّ كلام عظيم. تعالَ من النائي والمنداح، أو... اعترفْ بأن ما تكتب ليس إلا شيئاً عادياً وحسب.

ثالثاً: إذا سَحَرَكَ الكلام فلأنك قد "خودعتَ فيه وأتيتَ به من طريق الخلابة في مسلك السحر ومذهب التخييل".

رابعاً: ما من كتابة عظيمة إلا وهي تتأسَّس على مبدأ "التلويح" وإخفاء المعاني وسترها، بحيث لا تعطي فحاويها إلا للمتروِّي والقادر على التأمل. لقد علَّمني الجرجاني أن فناً يخبِّئ سراً ما هو الفن على الأصالة؛ أما ما عداه ففنٌّ من الدرجة الثانية، إن لم يكن شبه الفن وحسب.

علَّمني النقد التراثي أن ألفباء النقد هي الذائقة، أو التنقيب عن الممتع، أو قُلْ عن مَواطن الخلب. ومنذ أن تعلمت هذا كله ما عاد في مقدوري أن أنظر إلى النصوص الحديثة بمعزل عن هذه المبادئ – وهي التي لا أبالغ إذا ما سميتها مبادئ النبل والحنين.

والحقيقة أنني لم أقل كل شيء بهذا الصدد؛ ولو قلت كل ما في جعبتي لما قنعت بأقل من مجلَّد كامل. ولا بأس بأن أصرح في هذه المناسبة بأنني قد بتُّ أسأم من الثقافة الأورو–أميركية (باستثناء قليل من الأسماء)، وترسَّخ لديَّ شعورٌ بوجوب البحث عن آسيا في أصالتها الفذة وقممها التي لم تُبَذُّ حتى الآن. لقد بات أفلاطون صغيراً في نظري حين أُقارنه بابن عربي أو بالبوذا العظيم. إن قادة الروح في آسيا ذُرى سوف يتعذر على البشرية أن تتسلقها، ولو بعد ألف سنة. فتلك نفوس مطهَّمة ما كانت، وقد لا تكون، إلا في آسيا، وفي آسيا وحدها. (وعندي أن الشمال الأفريقي آسيوي في الصميم.)

عرفناك مترجماً للأدب الإنكليزي إلى اللغة العربية؛ إذ نقلتَ أشعار ت. س. إليوت وغيرها. لكنك لم تنقل أي أثر إبداعي عربي إلى اللغة الإنكليزية. هل هناك من سبب؟

لا أظن أن ثمة، بالدرجة الأولى، سوى سبب واحد هو إشكالية النشر. لو أتيحت لي فرصة لنشر بعض المواد المترجمة، أو حتى المؤلَّفة، باللغة الإنكليزية، لما ترددتُ كثيراً. وهذا هو كل ما في الأمر، خلال السبعينات أو في مطالع الثمانينات على الأقل. وربما كان هذا الأمر يتوقف على فرصة أو مصادفة.

يُشيع بعضُ المبدعين والمثقفين في أوساطنا الأدبية أن خمود نار الحركة الأدبية في وقتنا الحاضر يعود إلى غياب النقد. هل هذه المقولة مجرد شائعة، أم تراها حقيقة ماثلة؟

هذا سؤال وُجِّه إليَّ ألف مرة على الأقل؛ ومع ذلك فهو يتواتر باستمرار.

إن خمود نار الحركة الأدبية في وقتنا الحاضر إنما يعود إلى طبيعة الحياة في وقتنا الحاضر. فإنسان عصرنا مشغول بيومياته، وكذلك بشؤونه المادية؛ فلا وقت لديه للاهتمام بالحركة الأدبية. أضف إلى ذلك التلفزيون الذي يلتهم الجزء الأكبر من فراغ الإنسان هذه الأيام.

دعنا نصدق هذه الشائعة، فنؤمن بأن خمود نار الحركة الأدبية في وقتنا الحاضر يعود إلى غياب النقد. ههنا يصطدم المرء بسؤال كبير: ما هو سبب غياب النقد؟ ليس ثمة سوى سبب واحد وحسب لضمور الحركة الأدبية والحركة النقدية معاً، وهو أن عصرنا الراهن يعطب شرايين الأشياء، أو يهدم الأساس الذي ينبثق منه كل ما هو عميق ونبيل. إن عصرنا قد أعدم الإنسان. لقد انطفأت الفلسفات والفنون والآداب، وحتى الإيديولوجيات، ولم يبقَ سوى السياسة وأجهزة الإعلام. والفكر السياسي أصبح وصيفاً فقط. وأجهزة الإعلام أصبحت مخصَّصة من أجل التسلية وحسب. والبشر مشغولون بيومياتهم المادية وشؤونهم الصغيرة. وربما كانت الكتابة الوحيدة المرشحة للبقاء هي الرواية، ولكن على نحو ضامر؛ إذ إن التلفزيون قد نحَّى كل شيء.

بداهة، لا يمكن للنقد الأدبي أن يكون إلا إذا كان النص الأدبي أولاً؛ إذ من المحال أن يتعامل النقد مع الفراغ. فهو، بالبداهة، يبحث في نص أدبي سابق عليه. وهذا لا ينفي أبداً أن الصلة بين النص والنقد هي صلة دائرية، أو صلة تأثُّر وتأثير في آن معاً. فلا ريب، إذن، في أن فتور الحركة الأدبية هو الذي أدى إلى فتور الحركة النقدية، وليس العكس؛ أو قل إن نقيض ما يشاع هو الصحيح تماماً.

نقادنا، في بداية حياتهم الأدبية، يواكبون ما يُصدِره المبدعون. لكنهم، بعد أن يأخذوا حظهم من الشهرة، نجدهم يصابون بالكسل الأدبي، ويكفون عن المتابعة والكتابة النقدية معاً. فما رأيك بهذا الكلام؟

إذا ما قبل المرء بعبارة "الكسل الأدبي" هذه – وهي شيء أوثر إحلال عبارة أخرى في محلِّه؛ ولتكن عبارة "الركود الأدبي"، فهي ألطف قليلاً –؛ أقول: إذا ما قبل المرء بهذه العبارة، أو ببديلها، فإنه سوف يبحث عن تعليل مقنع لها.

في تقديري أن استنكاف الناقد الأدبي عن متابعة الإنتاج الأدبي مردُّه إلى تضخم هذا الإنتاج تضخماً كمياً على حساب النوع، وكذلك إلى أحادية النمط الأدبي الراهن. ففي العالم العربي اليوم، أو في سوريا على الأقل، ثمة قصيدة واحدة يكتبها الجميع ويعيدون إنتاجها في كل يوم. وقُلْ الشيء نفسه عن القصة والرواية. وفي مثل هذه الحال تصبح المواكبة مملة، ولا بدَّ من استنكاف.

إما أن يكون التنوع الكبير والمستوى الرفيع؛ وإما أن يكف المرء عن الانجذاب إلى هذا الإنتاج الأدبي لافتقاره إلى المنعش والجذاب. وهذا ما قد حدث بالفعل.

فعالية النقد فعالية تتطور وتنمو وتتعدد اتجاهاتُها ومدارسُها مع نمو الحياة وتطورها. كيف تحدِّثنا عن تجربتك مع هذه الفعالية؟ كيف أثريتَها؟ وما هو المنهج النقدي السليم برأيك؟

في الجيل الذي أنتمي إليه يقع المرء في البداية تحت تأثير الثقافة الأورو–أميركية، ولاسيما علم النفس والفلسفة الوجودية والنظريات السياسية الثورية، فضلاً عن آدابها وفنونها وفلسفتها العامة. ولهذا كنت في البداية أكتب تحت تأثير هذه الثقافة، متجاوباً مع طبيعة زمننا الراهن.

ولكنني، ابتداءً من أواخر السبعينات، أخذت أشعر بأن الثقافة الأورو–أميركية فقيرة إلى بعض العناصر النفيسة، أو قُلْ إلى عنصر نفيس واحد، وهو العنصر الروحاني التأملي. علم النفس يتنكَّر للمحبة وللجمال؛ المادية تتنكر للروح؛ الوجودية فيها من القلق أكثر مما فيها من التأمل؛ الفلسفة الكلاسية الألمانية تجريدٌ مكدودٌ يضني الذهن دون أن يستجيب لمطالب الروح...

لهذا السبب أخذتُ أوغل في قراءة التراث الصوفي العربي، ولاسيما النفَّري والتوحيدي وابن عربي والسهروردي والجيلي وسواهم. لقد وجدت في هذا الموروث ما ينقص الثقافة الأورو–أميركية. ثم أضفت إلى هذه الصوفية العربية شيئاً من تراث الهند والصين، وراقني البوذا العظيم إلى حدٍّ بعيد، مثلما راقتني الـفيدا والـبهاغفادغيتا. ولكنني لم أقطع صلتي بأفلاطون على نحو خاص، وبقيت على مودتي مع دانتي وشكسبير وغوته والشعراء الفرنسيين العظام، ولاسيما بودلير ورامبو ومالارميه.

وبدلاً من النقد الأورو–أميركي، أخذتُ أعزز صلاتي بالنقاد التراثيين العرب، ولاسيما عبد القاهر الجرجاني. فتحتَ تأثير هؤلاء النقاد، وتحت تأثير الصوفية العربية والموروث الهندي، أخذتُ أهجر الدعوة إلى المنهج المتكامل الذي يوظِّف جملة ثقافة الناقد في دراسة النص الأدبي، ورحتُ، منذ مطالع الثمانينات، أتبنى منهجاً روحانياً أو جَوَّانياً يعتمد كثيراً على الذائقة والتعشق بالجميل، مثلما يعتمد على مبدأ فحواه استنفارُ مُضمَرات النص، ولكن على نحو تأملي حدسي، وليس التزاماً بمنهج مسبق الصنع.

لقد استطاعت نظرية التقدم أن تقنع الناس بأن الـ"مابعد" أرقى من الـ"ماقبل" دوماً. وهذا ليس بصحيح على الإطلاق، إلا في ميدان العلم وحسب. أما خارج العلم فأنا قانع جازم بأن شباب الإنسانية قد صار وراءها. فمن فاحش الغلط أن نداوي مريضاً في هذه الأيام بأدوية ابن سينا؛ ولكن أحداً على الأرض لن يقنعني بأن الشعر العربي الحديث أرقى من الشعر الجاهلي؛ مثلما لا يمكن لأحد أن يقنعني بأن ثمة في العالم المعاصر فيلسوفاً بحجم أفلاطون، أو شاعراً بحجم شكسبير، أو نحاتاً بحجم ميكلانجلو أو فيدياس أو سواهما من الفنانين.

وهكذا استنكفتُ عن علم النفس الحديث وعن البنيوية والشكلانية، وحتى عن الفلسفة الجدلية، وعن كثير من المنجزات الأورو–أميركية في النقد الأدبي، وأخذت أجنح صوب كتابة نقدية (ولا أقول صوب منهج نقدي) مدارُها على الجَوَّانية التأملية التي ينبغي أن تصل عن طريق الحدس إلى أرواح الأشياء. أصبح الهمُّ الأكبر الذي يهمُّني هو النبل والحنين والهيف والدنف. وتغير كثيراً طاقم المصطلحات الذي كنت أتبناه في السبعينات؛ إذ أدخلت إلى معجمي طاقماً جديداً مثل: "المنبهم الأعظم"، و"الانشعاب المأسوي"، و"اللطائف السبحانية"، و"الرعوش الماسية"، إلخ.

وأخذت أهتم بالنص الأدبي من حيث هو سياحة، أو رحلة حج، هدفها ملاقاة الأديب لنفسه ومعانقتها والاغتباط بما تنطوي عليه من ألطاف حسنى. وحتى النص الفجيعي – وليكن مثلاً هملت أو رجال في الشمس – لا يعدو كونه رحلة سياحية صوفية تبتغي إفراز الهيف في داخل النفس عبر مكابدة الدنف. فلقد اعتاد الكيميائيون (أو الخيميائيون) الصوفيون في القرون الغابرة على ممارسة ضرب من النشاط يستهدف تحويل المعادن الخسيسة إلى معادن نفيسة، أو تحويل الحديد والنحاس إلى الذهب والفضة. وبالطبع، لقد كان هذا الفعل ضرباً من المحال؛ والكيميائيون العلميون يصرون على أنه متعذر التنفيذ. ولا أظن أن الخيميائيين الصوفيين كانوا يعتقدون بأن تحويل النحاس إلى ذهب هو شأن ممكن؛ كل ما في الأمر أنهم كانوا يحاولون أن يحولوا نفوسهم من القذارة إلى النظافة، أو من الخسة إلى الرفعة. وإن الأديب، حين يكتب نصاً، إنما يفعل الشيء نفسه؛ وإلا فكيف تفسر إصرار آلاف الناس في هذه الأيام على الكتابة والنشر، مع أن معظم كتبهم لا يباع منها إلا القليل.

وعلى هذا الضوء، أخذت إعادة قراءة الكوميديا الإلهية، فوجدتها مجرد معراج ينطلق من ثقالة المادة ليبلغ إلى خفة النور. وما لم تُفهَم الكوميديا الإلهية على هذا النحو "السياحي" فإنها لن تكون قد فُهِمَتْ على الوجه الأكمل. إنها مجرد تعبير عن تحول المعدن النفسي الخسيس إلى معدن روحي ذهبي نفيس؛ إذ ما كان دانتي إلا الموازي الأدبي لفاعلية الصوفيين الخيميائية.

ويتلخص هذا كله في أن الناضج هو وحده الناضج من أجل الموت، بغض البصر عن سنِّه ومستوى معرفته العلمية. فالذين تحولت نفوسُهم من المعدن الخسيس إلى المعدن النفيس، أو قُلْ الذين صاروا ذهباً أو ماساً (وهذا مجرد مجاز)، هم وحدهم القادرون على استقبال الموت بالرضى التام، وربما رأوا فيه الفرح الأكبر.

لو أنني أفضتُ في الإجابة عن هذا السؤال لما اكتفيتُ بأقل من مجلد كامل. ولكن دعني أؤكد لك، قبل أن أختم إجابتي، أنني ما عدت أومن بأي منهج مسبق الصنع. وهذا يعني أنني لا أملك أن أحدد مواصفات "المنهج النقدي السليم". فالمنهج هو أنت، بدمك ولحمك، بحنينك وشكواك، بالدنف الذي تكابد، وبالألطاف الحسنى التي تتعشق بها. فإذا نظرت في بؤرة نفسك عرفت منهجك.

أنت كناقد مع غيرك من نقاد، على قلة عددكم، متهمون بأنكم لا تقفون بصلابة أمام مدِّ النص الأدبي الهش، أي النص الأبيض، الذي يكاد لا يقول شيئاً. هذا من ناحية؛ وأما من الناحية الأخرى، فإنكم لا تكتبون بموضوعية عن النص الإبداعي الجيد. فما هو ردك على ذلك؟

لعلك تذكر المقال الذي نشرتْه لي الهدف في كانون الثاني عام 1986. وفي مقدورك أن تحكم بنفسك على هذه المسألة. ولست لأكتفي بالاستشهاد بمقال واحد؛ ففي الممكن أن أحيلَك إلى عشرات المقالات الأُخرى. أما غيري من النقاد فلست لأتحمل مسؤوليتهم، ولست لأسأل عما يفعلون.

ولكن حبذا لو ظهر من يتصدى للنقد الأدبي في سوريا، فيمارس عليه ما يمكن تسميته بـ"نقد النقد"، شريطة أن يكون نقد النقد نزيهاً وموضوعياً هو الآخر.

يقال عن النقد الأدبي في بلادنا أنه "نقد علاقات شخصية". فإلى أي مدى تجد هذا القول صحيحاً؟

أظن أن ثمة شيئاً من هذا. ولكن لا لزوم للمبالغة؛ إذ ثمة بالفعل نقد يتم خارج العلاقات الشخصية، وثمة نقد موضوعي؛ بل ثمة نقود موضوعية كثيرة. وما فينا من يجهل المعارك الأدبية التي تدور بين كتاب ونقاد على صفحات الصحف.

*** *** ***

أجرى الحوار: حسن حميد

عن الموقف الأدبي، العدد 190

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود