الطاعة والخوف

 

أوغاريت يونان*

 

لنتعلم، ونعلم أنفسنا. لنتعلم من بعضنا البعض. إن إعادة النظر في بعض القضايا مفيدة للغاية.

الجلسات تراكمية ضمن منطق تكاملي، والبرنامج مرن حسب تطور العمل.

التغيير قاسٍ خاصة إذا كنا قد مررنا بجمود لمدة طويلة. ولكن لا بد من التغيير. توجد تجارب في العالم اختبرت التغيير دون أي دعم من الخارج أو حتى دون معرفة الخارج بها. والحركة القوية من الداخل هي التي أحدثت التغيير مثل بذرة صغيرة نمت داخل الشعوب.

لكن، كيف نحقق ذلك؟ كل من الغاية والوسيلة مهم، كما يقول غاندي، وأحيانًا تؤذي الوسيلة الغايةَ إذا كانت غير محترفة، أو إذا نفذت بعكس الغاية. الغاية والوسيلة مثل الشجرة والبذرة، لا يمكن أن يكونا إلا من المصدر نفسه ولا يوجد فاصل بينهم. لهذا من كانت غايته لاعنفية لا يستطيع أن يستخدم وسائل عنفية لتحقيق تلك الغاية. وإذا استخدم وسائل عنفية يؤذي نفسه وغايته قبل أن يؤذي الخصم. لذلك فإن المبدأ اللاعنفي ليس فكرًا فحسب بل أيضًا إستراتيجية عمل وسلوك واقتناع ذاتي.

التربية، أساسًا، هي فعل سياسي. لقد ربونا منذ الصغر على الطاعة. يعلموننا بذلك أول درس سياسي. فالتربية هي أول وأهم فعل سياسي يمارس علينا (تكريس الطاعة مثلاً). فمنذ أول لحظة نختبر الفعل السياسي ونتعلمه ونعيشه. أول ما يتعلمه الطفل هو ما يختبره منذ الولادة فيتعلم منه بالاختبار – التعلم بالحياة منذ الولادة، أي التعلم بالخبرة. أما ما يتعلمه في المدرسة فهو عن طريق التدريس.

بالتعلم يتعلم الطفل الصغير ما هو النزاع وإدارة النزاع حتى لو لم يخبره أحد بذلك، وقبل أن يتكلم.

يتعلم الطفل طرقًا كثيرة لإدارة النزاع منذ الولادة، مثلاً عندما يشعر بالجوع يبكي فيحصل على ما يريد، وإذا زاد بكاءه أكثر يحصل على استجابة أسرع، حتى إن كانت الأم لا تريد أو تريد. بهذه الطريقة يبدأ الطفل بحل نزاعاته قبل النطق برغباته وحاجاته.

النظام السلطوي يجعل الطفل في داخلنا ينام، وكلما كنا أكثر قدرة على إحياء هذا الطفل، اقتربنا من اللاعنف. فالأطفال ماهرون جدًا، فهم يبرمجون أمورهم، ووحدهم يتعلمون إما اختيار البكاء أو السكوت أو الطاعة أو المساومة أو العنف... كلها حلول لنزاعات يتعلمونها ويعرفون متى وكيف يستخدمونها، وكل هذه أفعال سياسية نستعملها عندما نكبر فإما أن نلجأ إلى العنف أو الدبلوماسية أو الخضوع .

بعض المفاهيم بين التربية والسياسة

لمواجهة أزمة معينة نحتاج إلى التعلم، فالتقنيات والمنهجيات أيضًا غير كافية. نحتاج توضيح مفاهيم هامة ومنها مفهوم اللاعنف.

ثقافة اللاعنف ثقافة مهمشة في كل المجتمعات: في المدارس والجامعات وفي الإعلام أيضًا.

سعت بعض المجتمعات الأوربية، منذ حولي 40 سنة حيث وجدوا أنفسهم بعد الحربين العالميتين بين الفاشية والنازية وكل الطغاة الذين عرفهم تاريخ الحرب، إلى البحث عن كل المبادرات اللاعنفية في كل أنحاء العالم وفي كل الثقافات وبدؤوا بترجمتها لنشر الفكر اللاعنفي. أما في المنطقة العربية فقد بدأت هذه المبادرة منذ حوالي 20 سنة فقط. وبذلك توجد محاولات لإخراج ثقافة اللاعنف من الظلام والتهميش ومحاولة نشرها.

مهما كانت الظروف المتنوعة التي اختبرناها أو نختبرها بخصوص موضوع اللاعنف، فإن الانتقال من العنف إلى اللاعنف يحتاج إلى هذه النية كخطوة أولى هامة، وهي أمر جوهري لأنه خطوة فكرية سلوكية شخصية، فالنضال اللاعنفي يبدأ بقرار داخلي (قرار وجودي)، وبعد اتخاذ القرار "الوجودي" بالتوجه إلى اللاعنف (عيش اللاعنف واستخدامه) يجب أن نبدأ مرحلة البناء: (القراءة والتثقيف + العمل والممارسة والتجربة)، حيث سيصبح لهذا الخيار صدى في كل الخيارات اليومية، السلوك، المفردات، والنضال السياسي والتربية والمواقف؛ كلها تصبح متكاملة كما قال غاندي: البذرة والشجرة مثل بعضهما.

كثيرون يتدربون ويتعلمون الكثير ويصبحون محترفين، وقد يصبحوا أساتذة أو مدربين، لكن لم يأخذوا القرار الذاتي بالانتقال إلى خيار اللاعنف في حياتهم. فمثلاً عندما أخذ القرار غاندي، كانت لحظة وجودية هامة في حياته ولم يتراجع عنها، لم يصبح لاعنفيًا فورًا وإنما شيء ما في داخله وشخصيته ساعده على أخذ القرار. هذه البذور في واقعه المليء بالظلم. فبدأ يقرأ ويبحث لأن الظلم يحفز ويقودنا إلى اللاعنف وليس إلى العنف، هذا ما فهمه غاندي وكل المناضلين اللاعنفين الآخرين.

لا أحد يعرف متى يصل إلى هذه اللحظة. ولكن الثقافة والتدريب والقراءة تساعد وتفتح أمامنا أبواب سماع تجارب الآخرين. العمل السياسي اللاعنفي ليس التظاهر فقط بل القراءة والبحث والكلام والنقاش، فمرحلة البناء هذه هامة جدًا مع العمل الفعلي، أي الاثنين معًا لأن الإحباط قد يهدم الخيار اللاعنفي إذا لم تكن مرحلة البناء كافية.

الخوف والطاعة والألم

كم هو مقدار العنف الموجود داخل كل واحد منا؟ كيف أحسه الآن أنا؟

إن انطباعي عن نفسي هام، فقبل التطرق إلى العنف الخارجي من الأستاذ والشرطة والجار والأنظمة يجب أن أتساءل: ما هو العنف الذي فيَّ؟ من الذي أدخله؟ هل هو من الفقر أو من المفاهيم أو السياسة أو الدين، أم هو عنف جسدي؟  هل هو نتاج الإخضاع؟ هل كله من الآخرين أم أنني كنت شريكًا بتثبيه في بداخلي؟

عندما نعرف الجواب نعرف ماذا نواجهه، هل سأواجه ذاتي أولاً؟ قد يستخدم العنف واللاعنف في مواجهة طغيان الآخرين، لكن باللاعنف وحده يستطيع المرء مواجهة طغيان الذات (وليد صليبي). ربما استعمل العنف في وجه عنف وظلم الآخرين وأعتقد أنني قد أحل الأمور، ولكن ماذا أفعل تجاه العنف الذي في داخلي؟ كيف أتخلص منه؟ لا يوجد إمامي إلا اللاعنف.

هذا أصعب ما واجهه غاندي، مواجهة العنف الذي كان موجودًا فيه أصلاً، لأنه لم يكن فارغًا ونظيفًا من أي عنف، هذه مسيرة وتربية تأخذ وقتًا وجهدًا طويلاً ولا نصل إلى هذا في يوم وليلة، ولا نحاسب أنفسنا أو الآخرين بأيام أو شهور لأن تربيتنا أخذت سنين، وهذا التغيير أيضًا قد يتطلب سنين أيضًا. ما يساعدنا هو كم تتوفر لنا فرص في مرحلة البناء للقاء أناس لاعنفيين، وفرص قراءة وتدريب، وفرص لنعيش تجارب تدفعنا إلى الأمام.

عندما نكون في مواجهة الواقع الظالم أو رجل الأمن أو أية مواجهة، ورغم تعلمنا لتقنيات لاعنفية، فإن أول سلوك يبدر مني هو السلوك الموجود في داخلي. إذا كنت عصبية عدائية عنيفة ستكون ردة فعلي عنيفة وهذا يضر بقضيتي. هذا ليس ثانويًا أو غير هام إذ لا مفر من فهمي للعنف الذي في داخلي.

الخلاصة: من الممكن اختيار الحل العنفي أو اللاعنفي تجاه العنف الخارجي الموجه إلينا وتجاه الظلم الخارجي، أما العنف الداخلي "عنف الذات" فالخيار هو فقط في الحل اللاعنفي.

العنف الذاتي سيظهر أولاً وبشكل عفوي وتلقائي عند أول مواجهة عنفية لذا تكمن هنا أهمية العمل على الذات (العمل على العنف الداخلي وفهم مكامنه وأسبابه وتوجيهه بطريقة أكثر فعالية).

ما هي الطاعة؟

حاضر، حكم، عسكرية، استجابة قسرية، أمرك، امتثال، استسلام، ذل، علاقة مع سلطة، خضوع، انكسار، نعم لكل شي، نظام، تنفيذ غير القابل للتنفيذ، نحبك، نحن بخير، قبول مع عدم الرضا، إجبار، الاحترام، الخوف.

الطاعة من أوائل الدروس التربوية التي نتعلمها في حياتنا، ولها معان وتسميات واضحة جدًا في أذهاننا.

هناك أشياء لا يعتبرها الجميع طاعة. الطاعة هي الرد على الإجبار. نحن نقول أمرك فنطيع. ولكن ليس الجواب على الإجبار طاعة دائمًا.

هل كل حكم طاعة؟ كيف يكون الحكم؟ تعسفي إنساني... إذا استجبت للتحكم فأطيع... لأنه قد يتحكم بي أحد ولا أطيع.

نحبك، ذل، خضوع، انكسار، قسر، نعم لكل شيء... هذا على مستوى سلوكنا المطيع وسلوكنا الداخلي العميق ذل داخلي وانكسار شخصي.

من يقول نعم لكل شيء يشبه الموت، أحيانًا نعيش وفي داخلنا أجزاء ميتة كثيرة.

إن الامتثال هو الخضوع لمشيئة الآخر، والطاعة العمياء هي تنفيذ دون مناقشة.

يقول المفكرون والفلاسفة اللاعنفيون إن الامتثال أخطر من الخوف الذي تسببه الطاعة لأن التغيير يصبح صعبًا وبطيئًا. يظهر الامتثال وكأنه خالٍ من العنف، يعلمنا كيف نلبس، كيف نمشي، كيف تكون الحرية. ويقولون هذا دون ضرب، دون صراخ. يعمل ما يقال له من قبل السلطة لينال الرضا وخوفًا من العقاب.

كل واحد منا يعيش في درجة معينة من الامتثال، أي أننا نمتثل ونصير كما يقولون لنا، هكذا تعودنا، علمونا طاعة مغلفة بأشياء أخرى.

الطاعة بالمعنى السلبي، والطاعة عندما تكون مسيئة، لأنها ليست بموجب الاقتناع وليس لنا قرار بها.

لماذا نمتثل؟ لتجنب العقاب، ولكي لا نكون منبوذين من المحيطين، أي الحاجة إلى القبول الاجتماعي. الحاجة إلى القبول حقيقية وطبيعية، ولكن أن أعمل ما لا أرضى عنه لكسب رضاهم هنا الخطأ، وهنا الطاعة التي فيها الذل الداخلي، وهنا أحصل على الرضا الشكلي.

أما أصعب أنواع الطاعة على الصعيد النفسي الداخلي فهو تقديم الحب والاحترام – طبعًا القسري والمزيف.

الطاعة من أهم الركائز ليفهم الإنسان نفسه ونضاله السياسي إن كان عنفيًا أو لاعنفيًا.

الطاعة بخضوع أو الرد بعنف هما وجهان لشخصية خاضعة لا تستطيع الرد إلا بالعنف والذل الذي تغلغل فيها، والنتيجة أن الطاعة = العنف (وجهين لذات العملة). واحد متسلط وواحد خاضع، يكملان بعضهما.

بعض الأمثلة عن الثقافة اللاعنفية

-       كانت فكرة جين شارب Gene sharp – باحث أمريكي وكاتب في الاستراتيجية اللاعنفية – عن سياسة العمل اللاعنفي المباشر تتلخص بالآتي: عندما نتخطى الطاعة والخوف نخترع طريقتنا لمواجهة العنف.

-       كتب اتيان دو لا بويسي Etienne de la Boitie – فرنسي الأصل – أهم كتاب في الفلسفة السياسية والطاعة والنضال السياسي اللاعنفي (Etienne de la Boiisie نص عن الطاعة الإرادية، كيف تخدم الطاغي بإرادتك) فقد لفت نظره عام 1630 أن الحاكم يمارس السلطة والعظمة والطغيان ويتم تقبيل يده ويركع له من قبل الفقراء والمذلولين والشعب رغم ذلك.

لا يستطيع الحاكم حكمنا إلا إذا تنازلنا نحن عن السلطة. إن الذي ينتهك حقوقنا لا يملك سوى عينين ويدين وجسم واحد تمامًا كأبسط البشر الذين يقطنون مدننا، والشيء الوحيد الذي يسمح له بالتفوق علينا وتدميرنا هو الشيء الذي نمنحه له. نعطي سلطتنا له ولاستعادة السلطة علينا تخطي الخوف وإيقاف الطاعة.

انعدام الخوف تمامًا ليس جيدًا، لكن الخوف هو أن نهمش أنفسنا، لأننا لا نستطيع الوجود والمواجهة، وهكذا نصل إلى الطاعة العمياء.

أريد إيقاف ما يسبب لي الذل والانكسار والرعب والاحترام والحب المشوهين بالخضوع والطاعة العمياء.

الطاعة واحدة من مفاهيم العنف ولا نستطيع الانتقال إلى اللاعنف دون أن نعرف أين نحن منها، وهي من أهم الأشياء التي سنمارسها عبر نضالنا السياسي.

-       اثيان دو لا بويسيي – مؤسس المفهوم الفلسفي الأول للعصيان المدني (شاعر مفكر إنساني).

-       أطلق هنري ديفيد ثورو مصطلح العصيان المدني من خلال خبرته الشخصية. أهم ما في هذا النص هو أننا نستطيع أن نعصي إذا كان هذا العصيان ناشئًا من ضمير واع ولا يقبل الظلم وليس لأننا مكبوتين ومقهورين وعندنا عنف ونريد الانتقام من السلطة. اللاعنف لا يعني أن أكون لطيفًا ومهذبًا بل أن أعرف، بضمير واع ولا يقبل الظلم، كيف أتصرف؛ أعرف أننا نطيع السلطة من خلال الضريبة مثلاً ونستطيع العصيان بعدم دفعها.وقد قام هنري ديفيد ثورو بعد سجنه بتحركات كهذه وكتب نص العصيان المدني.

-       وليم رايخ – طبيب ألماني – تحدث عن كيفية خضوع الناس؟ كيف أطاع الناس في أوروبا هتلر رغم تراثهم الثقافي، ورغم الفكر والفلسفة والفنون والطبيعة الجميلة؟ كيف تقبلوا النازية؟ طرح السؤال: لماذا يطيعون؟ عرف أن الناس يُحكمون أولاً ببنيتهم النفسية الداخلية قبل أفكارهم السياسية ومصالحهم الاقتصادية. الحاكم الأول هو بنيتنا النفسية وليس رجل الدين أو الرئيس أو الحاكم. كان الناس فقراء في ألمانيا، ولكنهم لم يتبعوا النقابات والشيوعية والاشتراكية لتحقيق مصالحهم بزيادة الأجور مثلاً بل تبعوا من قال لهم إن ألمانيا هي العظمة، نحن العرق الآري سنصبح ألمانيا العظمى الكبرى، وبذلك صوتوا له بل انتخبوه بإرادتهم وليس بالإجبار.

-       ستانلي ميلرغرم – عالم نفس اجتماعي أمريكي – جرب في المختبر تجربة علمية مفادها كيف يطيع الإنسان؟ إلى أي درجة يطيع الإنسان عندما يُطلب منه القيام بشيء؟ تضمنت التجربة طرح أسئلة على شخص في الغرفة المجاورة وهو موصول إلى جهاز يعطي شحنات كهربائية وفي الغرفة الثانية من يسأل أسئلة، وإذا لم يعرف الأول الإجابات يعطي الثاني شحنة كهربائية للأول، وفي كل مرة يطلب منه الدكتور المسؤول أن يزيد الشحنة الكهربائية إذا لم يعرف الإجابة الصحيحة. ليس المهم إن كان الشخص الأول يحفظ المعلومات بل المهم أن الشخص الذي يضرب الشحنات ورغم معرفته بأنه قد يقتل الشخص الأول فقد أكمل عمله. ولكن لماذا؟ لأن الأستاذ قال له أكمل ارفع الشحنات، أكمل أنا المسؤول، لا تهتم أعطه. منهم من لم يسمح له ضميره برفع الدرجة ومنهم من أكمل ولكن لم ينسحب أي واحد منهم.

الخلاصة هي أن السلطة مصدرها عندنا، فينا، نعطيها لأحد فيصبح جبارًا. السلطة مصدرها كل واحد منا. عندما يتنازل كل واحد منا عن سلطته وقوته الكامنة فيه، ويعطيها للآخر، حينها يظن أنه لا يملك أية سلطة، وأن السلطة موجودة فقط عند الآخر، الحاكم مثلاً.

ولذلك فإن تجزئة المسؤولية خطرة جدًا في أي مكان: المدرسة والبيت أو أي مكان أو مؤسسة. يبرر أحدنا بأنه ليس مسؤولاً فقد قالوا له "احرس، اضرب". كل واحد منا جزء من المسؤولية. خاصة الحاكم الأعلى، أيًا كان سياسيًا أو دينيًا، وهو من يعتمد على أنه بشكل أو آخر ليس المسؤول لأن المسؤولية موزعة على الآخرين.

المسؤولية مسؤولية الكل لأن كل واحد هو جزء من التنفيذ رغم أنه ليس من يتخذ القرار.

نقوم بالعنف ونتكل على أن المسؤولية على الآخر وليس علينا. وهذا خطر إذ تتشتت المسؤولية وتتجزأ فتضيع.

السلطة في المقابل هي أصلاً عند الكل، عند الشعب، عند الإنسان. عندما نهبها لأحدهم ونكدسها عنده نبدأ بالسؤال لماذا يحكمنا هكذا؟ وهنا تعد ظاهرة تكديس السلطة وتجزئة السلطة وجهان لعملة واحدة. وإذا دامت في مجتمع ما لوقت طويل وتحولت إلى روتين، حتى لو أن هناك أفرادًا يرفضون ذلك وإنما الأكثرية خانعون، سيصبح الوضع قاسيًا وصعب التغيير ويحتاج إلى تخطيط خاص للخروج من هذا المشكل.

النضال ليس أن نشارك في المظاهرات فقط، لأن النضال يحتاج إلى بناء وتهيئة. ولكن الخصم أيضًا يجب أن يكون مستعدًا.

نحن نساهم في الاستبداد عبر تكديس السلطة وقبول تجزئتها. لم يأخذها المستبد عنوة وإنما نحن من أعطاه إياها.

فاستلاف هافيل، رئيس التشيك، الذي أنشأ تجربة نادرة بفصله البلاد بشكل سلمي لاعنفي بدون حروب. أخذ القرار بفصل البلدين بلا حروب عندما بدأت التوترات بين الثقافتين. الآن كل جزء حر ومستقل. وهذا تحقق لأن هافيل شخصية لاعنفية مؤمنة بما تقوم به.

الخلاصة: عندما اسحب سلطتي منك أيها الآخر، وكل واحد فينا يبدأ بسحب هذه السلطة، سلطتك يومًا بعد يوم سوف تضعف وتنتهي تدريجيًا، وأكون حينها استعدت سلطتي وقوتي المشروعة.

كلنا مسؤولون عن هذا العنف اليوم، لا يكفي أن ننكر هذا ونرفضه، يجب أن نريد اللاعنف أيضًا. لا يكفي نبذ العنف فقط، وإنما يجب عدم القبول به والعمل على إيقافه.

الخوف

عندما نخاف من شيء ما نصبح مربوطين فيه وغير قادرين على التفكير لإيجاد الحلول والأفكار، فتطغى الانفعالات العنيفة علينا. إذ عند لحظة الخوف تطفو الغرائز والعواطف على السطح، وتصبح المحاكمة العقلية مغيبة، أو شبه معدومة في لحظات الخوف الشديدة.

عند الخوف الشديد يفقد الإنسان القدرة على الحب ويتوجه بشكل لاإرادي نحو العنف. والضرر الأول والأهم لهذا العنف واللاحب يقع على الشخص نفسه قبل أن يقع على الآخر الموجه الكره والعنف ضده – على الصعيد النفسي.

الخوف الذي يظهر في لحظات معينة ليس الخوف الآني فقط، وإنما هو مجرد إحياء لخوف عميق داخلنا – مجموع المخاوف الداخلية المتراكمة على مدار سنوات العمر كلها.

أتذكر هنا فكرة تقول إن العنف لا يمكن أن ينبت أو يترعرع إلا في تربة خصبة "عنف عميق متراكم داخلنا". لذا كان التأكيد على ضرورة بدء العمل على العنف الداخلي الموجود عند كل واحد فينا أولاً.

الاحتلال الكامل عبر الخوف أضخم وأقدم سلاح في البشرية. لنتخيل عالمًا بدون أسلحة. يمكننا أن نظلم ونحتل من خلال الخوف، من خلال التربية على الخوف، لأننا نستعيد ما تربينا على أن نخاف منه.

إذا سُجنا بالخوف تُسحب منا كل السلطة.

الخوف سلاح فتاك دون دم.

القوة والعنف، هل هما الشيء نفسه؟

الإحساس بالقوة الناتج عن استخدام العنف، برأيي، هو إحساس مزيف ناتج عن خوف شديد معاش، فالعنف ينتج عن ضعف وليس عن قوة؛ أما القوة فهي خيار إرادي، ليس سهلاً، بحاجة إلى مواجهة مخاوفنا وليس إلى قمعها، وإلى التعامل معها وفهمها، ثم توجيهها. وهنا الخيار الوحيد لهذه القوة هو الخيار اللاعنفي.

القوة ليست بالتعنيف المباشر، بل الصلابة إمام العنف. القوة خيار. لا يحتاج الأقوياء إلى العنف. القوة قد تتحول إلى عنف. والقوة ليست سلبية دائمًا.

العنف: ردة فعل. نتيجة مباشرة. ضعف. دائمًا سلبي. وسيلة مباشرة.

هل العنف قوة؟!

نعتقد أن العنف يعطى نتيجة!.

السلطة تعرف أن العنف لا يعطي نتيجة، ولكن الآن وحاليًا يعطي مفعولاً مؤقتًا.

أخيرًا، العنف ضعف فهو منطق الضعفاء.

القوة للإيجابي فقط. واللاعنف هو قمة القوة.

*** *** ***

ملاحظة: منقول عن محاضرة شفهية


 

horizontal rule

*  من رواد اللاعنف، مؤسِّسة لجامعة اللاعنف وحقوق الإنسان في العالم العربي (أونور AUNOHR)، دكتورة في علم الاقتصاد السياسي وباحثة في الفلسفة وعلم النفس التحليلي.

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود