next previous
english arabic

 الحرية الأولى والأخيرة

 

جِدُّو كريشنامورتي

 

8. في الانتباه

سؤال: ما هو الفرق بين الانتباه وبين الاستبطان؟ ومَن الذي ينتبه لدى الانتباه؟

كريشنامورتي: دعنا، أولاً، نفحص عمَّا نعنيه بالاستبطان. بالاستبطان نعني النظر في دخيلة النفس، الفحص عن النفس. فلماذا يفحص المرء عن نفسه؟ من أجل أن يتحسَّن، من أجل أن يغيِّر، من أجل أن يعدِّل. أنت تستبطِن حتى تصير شيئًا، وإلا لما تعاطيتَ الاستبطان. ما كنت لتفحص عن نفسك لو لم تكن فيك الرغبة في التعديل، في التغيير، في أن تصير شيئًا مختلفًا عمَّا أنت عليه. ذلك هو السبب الظاهر للاستبطان. أنا غاضب، لذلك أستبطن، أفحص عن نفسي، من أجل أن أتخلَّص من الغضب أو من أجل أن أعدِّل الغضب أو أغيِّره. حيثما يوجد الاستبطان – وهو الرغبة في تعديل استجابات الذات، ردود فعلها، أو في تغيير ردود الفعل هذه – هناك دومًا غاية ماثلة أمام أنظارنا؛ وعندما لا يتم بلوغ هذه الغاية، تتكدر نفوسُنا، ويصيبنا اكتئاب. لذا فإن الاستبطان يترافق دومًا بالاكتئاب. لا أدري إن كنت لاحظت أنك، حين تستبطن، حين تنظر في دخيلة نفسك من أجل أن تغيِّر نفسك، هناك دومًا موجة من الاكتئاب. هناك دومًا موجة كآبة عليك أن تحاربها؛ عليك أن تفحص عن نفسك من أجل أن تتغلَّب على هذه الكآبة، وهلم جرا. الاستبطان سيرورة لا فكاك منها لأنها سيرورة تحويل الموجود إلى شيء ليس موجودًا. وجليٌّ أن هذا بالضبط ما يحدث عندما نستبطن، عندما نتعاطى ذلك العمل الغريب. ففي ذلك العمل، هناك دومًا سيرورة تراكمية، تفحص فيها "الأنا" عن شيء من أجل أن تغيِّره؛ لذا هناك دومًا نزاع ثنوي، وبالتالي، سيرورة إحباط. ليس من فكاك ثمة أبدًا؛ وبإدراك ذلك الإحباط يحدث اكتئاب.

الانتباه مختلف تمام الاختلاف. الانتباه هو الرصد من غير إدانة. والانتباه يجلب الفهم، لأنه ليس ثمة إدانة أو تماهٍ فيه، بل رصد صامت. إذا شئتُ أن أفهم شيئًا، عليَّ أن أرصده، لا أن أنتقده، لا أن أدينه، لا أن أطلبه بوصفه لذة أو أتجنَّبه بوصفه نفيًا للَّذة. يجب أن يكون هناك مجرد رصد صامت للواقعة. وليس ثمة من غاية ماثلة للعيان، بل انتباه لكلِّ شيء لحظة ظهوره. ذلك الرصد، والفهم الناتج عنه، ينقطعان عندما توجد إدانة، تماهٍ، أو تسويغ. الاستبطان هو تحسين الذات؛ لذا فإن الاستبطان هو تمركُز على الذات. أما الانتباه فهو ليس تحسين الذات. إنه، على العكس، وضع حدٍّ للذات، للـ"أنا"، بكلِّ شذوذاتها، ذاكراتها، متطلَّباتها، ومساعيها الغريبة. في الاستبطان، هناك تماهٍ وإدانة. أما في الانتباه فليس هناك من تماهٍ ولا من إدانة؛ لذا فليس هناك تحسين للذات. هناك، إذن، فرق شاسع بين الاثنين.

إن الإنسان الذي يريد أن يحسِّن ذاته لا يستطيع أن يكون منتبهًا أبدًا، لأن التحسين ينطوي على الإدانة وعلى بلوغ نتيجة. في حين أنه في الانتباه هناك رصد بلا إدانة، بلا إنكار أو قبول. ذلك الانتباه يبدأ بالأشياء الخارجية، بأن يكون المرء منتبهًا، بأن يكون على صلة بالأشياء، بالطبيعة. هناك، أولاً، انتباه المرء إلى الأشياء المحيطة به، بأن يكون حساسًا للأشياء، للطبيعة، ومن بعدُ للناس، الأمر الذي يعني العلاقة؛ ومن بعدُ هناك انتباه إلى الأفكار. وهذا الانتباه، إذ يكون حسَّاسًا للأشياء، للطبيعة، للناس، للأفكار، ليس مكوَّنًا من سيرورات منفصلة، بل هو سيرورة موحَّدة واحدة. إنه رصد متواصل لكلِّ شيء، لكلِّ خاطرة وشعور وفعل فيما هو ينشأ في دخيلة المرء. وبما أن الانتباه ليس ديَّانًا، ليس ثمة تراكُم. فأنت لا تدين إلا حين تمتلك معيارًا، الأمر الذي يعني وجود تراكُم، وبالتالي، تحسين للذات. أما الانتباه هو فهم نشاطات الذات، "الأنا"، في علاقتها بالناس، بالأفكار، وبالأشياء. وذلك الانتباه يتم من لحظة إلى لحظة، ولهذا لا يمكن له أن يمارَس. عندما تمارس شيئًا، يصير هذا الشيء عادة، والانتباه ليس عادة. الذهن المتعوِّد ذهنٌ عديم الحساسية، الذهن الذي ينحصر فعلُه في أخدود عمل معين ذهنٌ بليد، عديم المرونة، في حين أن الانتباه يتطلب مرونة وتيقظًا دائمين. وهذا ليس صعبًا. إنه ما تقوم به فعلاً عندما تهتم لشيء ما، عندما تهتم لمراقبة طفلك أو زوجك أو نباتاتك، الأشجار، الطيور. أنت ترصد دونما إدانة، دونما تماهٍ؛ لذا فإن في رصد كهذا وصالاً تامًّا: الراصد والمرصود يكونان في وصال تام. وهذا يحدث فعلاً حين تكون مهتمًا لشيء ما اهتمامًا بالغًا، عميقًا.

بذا ثمة فارق شاسع بين الانتباه وبين تحسين الاستبطان الممدِّد للذات. الاستبطان يقود إلى الإحباط، إلى تفاقُم النزاع أكثر؛ في حين أن الانتباه سيرورة فكاك من فعل الذات: إنه الانتباه إلى حركاتك اليومية، إلى خواطرك، أفعالك، وهو الانتباه إلى الآخر ورصده. وليس في وسعك أن تفعل ذلك إلا حين تحب أحدهم، حين تهتم لشيء ما اهتمامًا عميقًا: عندما أريد أن أعرف نفسي، كياني كلَّه، محتوى نفسي كلَّه، لا طبقة واحدة منه أو طبقتين وحسب، إذ ذاك من الواضح أن الإدانة يجب أن تزول. إذ ذاك يجب أن أكون منفتحًا على كلِّ خاطر، على كلِّ شعور، على الأمزجة كلِّها، على المكبوتات كلِّها؛ ومع احتداد الانتباه المتوسِّع شيئًا فشيئًا، ثمة حرية أعظم فأعظم من الحركة الخفية للخواطر والدوافع والمساعي كافة. الانتباه حرية، وهو يجلب الحرية، يورِث الحرية؛ في حين أن الاستبطان ينمِّي النزاع، سيرورة التقوقع على الذات؛ ولهذا فهو لا يخلو من الإحباط والخوف أبدًا.

يريد السائل أن يعرف أيضًا مَن الذي ينتبه. حينما تختبر تجربة عميقة، أيًّا كان نوعها، ماذا يحدث؟ عندما تكون ثمة تجربة كهذه، هل تعي أنك تختبر؟ عندما تغضب، في لمحة الغضب أو الغيرة أو الفرح نفسها، هل تعي أنك فَرِح أو أنك غاضب؟ فقط بعد أن تنتهي التجربة، هناك المجرِّب والمجرَّب؛ إذ ذاك يرصد المجرِّب المجرَّب، موضوع التجربة. في لحظة التجربة، ليس هناك من راصد ولا من مرصود: هناك الاختبار فقط. إن غالبيتنا لا تختبر. نحن دومًا خارج حالة الاختبار، ولهذا نسأل هذا السؤال حول مَن هو الراصد، مَن هو الذي ينتبه؟ هذا السؤال قطعًا سؤال مغلوط، أليس كذلك؟ ففي اللحظة التي يوجد فيها الاختبار، ليس ثمة من شخص منتبه ولا من موضوع ينتبه إليه، ليس ثمة من راصد أو من مرصود، بل حالة من الاختبار فقط. معظمنا يجد أنه من العسير جدًّا عليه أن يحيا في حالة من الاختبار، لأن ذلك يتطلب مرونة فائقة، خفَّة، درجة عالية من الحساسية؛ وهذا ينتفي عندما نسعى وراء نتيجة، عندما نريد أن ننجح، عندما نضع هدفًا نصب أعيننا، عندما نحسب – وهذا كلُّه يجلب الإحباط. إن المرء الذي لا يطلب شيئًا، ولا يسعى إلى هدف، ولا ينقِّب عن نتيجة، بكلِّ ما تنطوي عليه – امرؤ كهذا يحيا حالة من الاختبار الدائم. لكلِّ شيء إذ ذاك حركة ومعنى؛ لا شيء يشيخ، لا شيء يبلى، لا شيء يتكرَّر، لأن الموجود لا يتقادم أبدًا. التحدِّي جديد دومًا. وحدها الاستجابة للتحدِّي قديمة؛ القديم يولِّد المزيد من النفايات – وهي الذاكرة، الراصد، الذي يفصل نفسه عن المرصود، عن التحدِّي، عن التجربة.

في وسعك أن تختبر ذلك بنفسك، في بساطة وسهولة فائقتين: في المرة القادمة التي تغضب فيها أو تغار أو تطمع أو تعنِّف أو ما تشاء، راقِب نفسك. في تلك الحالة "أنت" معدوم؛ وحدها توجد تلك الحالة من الوجود. وفي اللحظة التالية، في الثانية التالية، تصطلح على تلك الحالة، تسمِّيها، تدعوها غيرة، غضبًا، طمعًا؛ وبهذا تكون قد أوجدت على الفور الراصد والمرصود، المجرِّب والمجرَّب. وحين يكون هناك المجرِّب والمجرَّب، إذ ذاك يحاول المجرِّب أن يعدِّل التجربة، أن يغيِّر فيها، أن يتذكر أشياء عنها، وهلم جرا، وبالتالي، يحافظ على الانقسام بينه وبين المجرَّب. أما إذا لم تسمِّ ذاك الشعور – وهذا يعني أنك لا تسعى إلى نتيجة، لا تدين، فقط تنتبه في صمت إلى هذا الشعور – إذ ذاك سترى أنه في تلك الحالة من الشعور، من الاختبار، ما من راصد ولا من مرصود، لأن الراصد والمرصود وجهان لظاهرة واحدة، وبالتالي، لا يوجد سوى الاختبار.

وهكذا يختلف الاستبطان عن الانتباه كلَّ الاختلاف. الاستبطان يقود إلى الإحباط، إلى المزيد من النزاع، لأنه ينطوي على الرغبة في التغيير – والتغيير مجرِّد استمرارية معدَّلة. أما الانتباه فهو حالة لا إدانة فيها، ولا تسويغ، ولا تماهي، وبالتالي هناك فَهْم. في تلك الحالة من الانتباه الساكن، اليَقِظ، ليس ثمة من مجرِّب ولا من مجرَّب.

أما الاستبطان – وهو شكل من أشكال تحسين الذات، توسيع الذات – فلا يمكن له أن يقود أبدًا إلى الحقيقة، لأنه دومًا سيرورة من التقوقع على الذات؛ في حين أن الانتباه حالة يمكن للحقيقة فيها أن تولد، حقيقة الموجود، حقيقة الحياة اليومية البسيطة. فقط حين نفهم حقيقة الحياة اليومية يمكن لنا أن نمضي بعيدًا. يجب أن تبدأ من الداني لكي تمضي إلى القاصي؛ لكن معظمنا يريد أن يقفز، أن يبدأ بعيدًا، دون أن يفهم ما هو قريب. وحين نفهم القريب، سنجد أنه لا توجد مسافة بين القريب وبين البعيد. ما من مسافة – فالبداية والنهاية واحد.

*** *** ***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود