english arabic

العقل الإيكولوجي

والتفكير الإجلالي

  هنريك سكوليموفسكي - عدسة بيير لونوفو

مقابلة مع هنريك سكوليموفسكي

 

لقد بلغنا في التطور الاجتماعي مرحلة بات لزاماً علينا فيها تطوير نظرة أوسع، أن نرى الكل من أجل أن نفهم الأجزاء فهماً أفضل. لقد حققت نظرتنا التقنية-العلمية إلى العالم إنجازات كثيرة، لكن محدوديَّتها باتت تفقأ العين. إن بيت الورق الذي شُيِّدت عليه طاقتنا وحاجاتنا الاقتصادية ما هو إلا واحدة من نتائج هذا الافتقار إلى الرؤيا. لقد أمسى اتخاذ القرارات ضمن المؤسسات عملية عقلانية بالكامل تتأثر بالضغوط العشائرية وحمّى المصلحة الضيقة. لم تعد القيم الإنسانية اعتباراً، وأقل من ذلك بكثير طرفاً في المعادلة. والروح قد أزيحت. هناك قطعة حياة حيوية مفقودة. فهل من عجب أن تسود الفوضى والهلع والشواش؟ إننا نحيا وسط وفرة المعلومات، لكن الحكمة باتت تعزّ أكثر فأكثر. لقد طرح هنريك سكوليموفسكي رؤية جديدة، دعاها الفلسفة الإيكولوجية Eco-philosophy، قد يكون من شأنها أن تقدِّم رداً إيجابياً على متطلبات وقتنا.

***

مايكل تومز: ما هي الفلسفة الإيكولوجية يا هنريك، وبِمَ تختلف عما نؤوِّله عادة كفلسفة تقليدية؟

هنريك سكوليموفسكي: الفلسفة الإيكولوجية، كما أراها، هي إعادة بناء عقلانية للشرط الإنساني ونحن ندنو من القرن الواحد والعشرين. وإني لأشدِّد على مصطلح "عقلانية"، إذ إن الصواب reason بعامة ليس شيئاً ينبغي الاستخفاف به. وبالفعل، فإني لا أحسب أن أية إعادة بناء، مهما كانت، قابلة للإنجاز من خلال اللاصواب unreason. غير أني لا أواحد بين الصواب والعقلانية وبين وصايا العلم الضيق، أو بينها وبين التفكير الشبيه بالكمبيوتر. فالصواب والعقلانية من منجزات التطور المجيدة، وعندي أن الصواب يحيط به كلّه، بما فيه حساسياتنا كلها. إن المصطلح العام للفلسفة هو philosophia، محبة الحكمة، وهذا ما كانت الفلسفة إياه على كرّ آلاف السنين. إنها تحاول أن تعيننا في تفتيشنا عن المعنى، في تفتيشنا عن فهم لا يتناول الحياة اليومية التافهة وحسب، ولكن هذا الكوسموس الأوسع أيضاً قوامه، وتشابكاته، وارتباطنا به على المستوى الفيزيائي وعلى المستويات الأخرى كلِّها أيضاً.

غير أن المناهج كلها في القرن العشرين، من جراء النزوع إلى الاختصاص، وجدت نفسها مرغمة على التخصص. وحتى الفلسفة وقعت في المطبّ نفسه. لقد نزلت فكرة الفلسفة العلمية إلى الحلبة حوالى عام 1910 مع برترند رَسّل. ثم قطف الفكرة الفلاسفةُ من حلقة فيينا، في النمسا، ومضوا بها إلى أقصاها. وبذلك صارت الفلسفة تقصياً لبنيان اللغة، وبذلك مُسِخت برأيي. هكذا، شيئاً فشيئاً، جُعِلت الفلسفة استقصاءً لطبيعة القضايا اللغوية. وصار الفلاسفة منشغلين، إلى حد الهوس، بطريقة عمل اللغة. وشرع فلاسفة مرموقون، من نحو ج. ل. أوستن بكتابة مقالات في "الشروط والممكنات" Ifs and Cans. فإذا خطر ببالك أن ترى إلى أي حد يبتعد ذلك عن المسعى الحقيقي للفلسفة، أدركتَ عندئذٍ بأن شيئاً شاذاً قد حصل.

وفي أيامنا هذه، أضحى الفلاسفة التحليليون حتى مستائين نوعاً ما من المأزق الذي حُشِروا فيه، وهم يحاولون الخروج منه. بيد أنهم، على نحو ما، عالقون فيه. وهم يحاولون الفكاك منه بالتدريج، في حين أن ما نحن بحاجة إليه هو إعادة بناء كاملة، تغيِّر نسق التفكير والإدراك والتقويم برمَّته. ههنا تأتي الفلسفة الإيكولوجية بوصفها كوسمولوجيا جديدة، وطريقة جديدة في إعادة التفكير في الجمهور.

بدلاً من تصوُّر الكون كآلية mechanism شبيهة بالساعة، تحكمها قوانين جبرية deterministic، نحن عالقون بها مثل مزلاج أو لولب، يمكننا الافتراض بأن الكون حَرَم sanctuary وبأننا القوّامون عليه كهنته إن شئت. لقد قام الكون الآلي mechanistic على افتراضات الطبيعة الآلية للكوسموس. أما الفلسفة الإيكولوجية فقائمة على نظرة مفادها أن طبيعة الكون طبيعة متفتِّحة، تطوُّرية، ومنبثقة. ولأنها منبثقة ليس بوسع المرء أن يتنبأ بما سوف يحدث لاحقاً. وإن مجد التطوُّر وجماله هو في إبداعه، في إنتاجه تنويعات جديدة العقل البشري واحد منها. كل فكرة جديدة فهي تفتُّح للتطور المبدع. وعندي أن أية فلسفة جديدة هي تجلٍّ لقدرة التطور على الإبداع من خلالنا. بعبارة أخرى، فإن تصوُّراً جديداً خلاقاً للكوسموس هو استجابة التطور من خلالنا! للخروج من مأزق. إذ إننا إذا علقنا فإن التطور عالق لامحالة. لقد احتجزنا أنفسنا في أنبوب أعور ونحن الآن نفكّ أسرنا بإبداع كُوى جديدة نبيِّن من خلالها أن لدينا مكاناً نمضي إليه، وأن لدى التطور مكاناً يمضي إليه.

هذا جواب مختصر جداً عما تريد الفلسفة الإيكولوجية أن تنجزه. إنها تريد أن تبدع كوسمولوجيا جديدة نكون ضمنها مستأنِسين في هذا الكون ومتسالمين مع الخليقة كلِّها.

إن لدى غالبيَّتنا، كلما سمعنا مصطلح "فلسفة"، صورة عن كتب عفنة على رفوف المكتبات. وفي مجتمعنا، أحيلت الفلسفة غالباً إلى القاعات الأكاديمية، والمرء لا يجد النظرة الفلسفية، أو المقاربة الفلسفية، قوية الحضور في المسلك العادي للمجتمع أو الحياة. إننا قلَّما نسمع رجالنا السياسيين يسألون: "ما هي المنطويات الفلسفية لهذا التشريع المحدد؟" إن هذا ليس جزءاً من الاعتبار أصلاً. لماذا حدث هذا في مجتمعنا برأيك؟ لماذا بلغ بنا الأمر هذا المبلغ، حيث الفلسفة لم تعد حاضرة حقاً في الجانب اليومي، العملي، للحياة؟

هذا جزئياً نتيجة من نتائج التخصص المتنامي في القرن العشرين. لكنه أيضاً نتيجة أسطورة خاطئة مفادها أن مجد الشرط الإنساني يقوم على تحسين نصيبنا المادي وأن على المرء، بالتالي، أن يراهن على التقدم المادي، على التكنولوجيا والعلم.

مع ذلك، أودّ أن ألفت نظرك إلى أن افتراضات التقدم المادي تلك عينها إنما هي افتراضات فلسفية بامتياز. قد نحسب أننا ألقينا بالفلسفة من النافذة، وأننا لسنا بحاجة إليها. بيد أن كيفيات عملنا البراغماتية، وطرق تفكيرنا في ماهية الواقع، قائمة كلها على افتراضات فلسفية معيَّنة. إنها عادة افتراضات فجَّة نوعاً ما، يُتَصوَّر الكون وفقاً لها كوناً مادياً بالدرجة الأولى، ونُتَصوَّر نحن بالأخص كائناتٍ مختزَلة إلى التكسُّب أو الرَغَد. ومع ذلك فإننا نعلم أن أمجد اللحظات في حياتنا وفي تاريخ الجنس البشري بأسره ليست اللحظات التي نعيش فيها ككائنات رَغَد. كذا فإنه بمقدار ما زجّت بنا الفلسفة الحالية في صورة كائنات الرَغَدcomfort creatures ، فقد ضيَّقت فلسفياً على كياننا. بذلك فإننا ضحايا فلسفة ضحلة.

لامراء في أن قسطاً وافراً من الفلسفة محتوى في تلك الكتب الجافة على رفوف مكتباتنا التي يتراكم عليها الغبار، لكنْ بالإضافة إلى تلك الكتب، هناك بعض الكتب المثيرة جداً في الفلسفة التي نعود إلها مراراً وتكراراً. إذا أخذت مثلاً تاريخ برنامجك أنت "أبعاد جديدة" ، فإن ما رأيتُه على كرّ السنين هو تفتُّح فلسفة جديدة، مثيرة. ليس إبداع فلسفة جديدة حكراً على الفلاسفة. فالفلسفة الجديدة تنبثق طوال الوقت. إذ إن الفلسفة ظلت دائماً تفكُّراً معمَّقاً في الشرط الإنساني. ولسوف تظل حية مادام الشرط الإنساني حياً، ما ظللنا مثابرين على كوننا بشراً. بذا أتجرأ على القول إننا مادمنا نفتش عن الإنسانية في أنفسنا، مادمنا نفتش عن الحرية، لن تضيِّق علينا الفلسفة الضحلة التي تختزلنا إلى كائنات رَغَد.

م. ت.: بمعنى ما، كل واحد منا فيلسوف؟

أجل. وإذا فحصت بشيء من العمق عن تلك المفاهيم التي تؤكد: "لسنا بحاجة إلى الفلسفة، نحن براغماتيون، نحن واقعيون" لوجدت بأنها تقوم على بعض المفاهيم الفلسفية. ماذا يعني أن يكون المرء "براغماتياً"؟ يعني الافتراض بأن المكاسب الاقتصادية ذات أهمية بالغة في الحياة. فهل ذلك صحيح؟ ماذا يعني أن يكون "واقعيا"؟ ثمة مفارقة هنا. إن ما ينضوي تحت لواء "الواقعية" ليس في أيامنا هذه من الواقعية في شيء. إذ إننا نتصرف تصرفاً أحمق، مدمراً، مضاداً للإنتاج حيال أنفسنا، وحيال البيئة، ثم ندعو هذا التصرف "واقعياً". عندما نفكر في الأمر نجده أبعد ما يكون عن الواقعية.

بذا ينبغي علينا أن نطوِّر مفهوماً جديداً عن الواقعية نكون به أقل تدميراً لأنفسنا، للكائنات الأخرى، وللبيئة أو بعبارة إيجابية أكثر مؤازرةً للحياة life-enhancing. وهذا اسم آخر للفلسفة الإيكولوجية. إنها تحاول أن تكون مؤزِّرة للحياة. تحاول أن تبيِّن أي نوع من المعتقدات والقيم من شأنه أن يساعدنا في رؤية أنفسنا رؤية أوضح بوصفنا كائنات إنسانية، نوعاً خاصاً جداً من الأجناس، لا تتحمل المسؤولية عن نفسها وحسب، بل والمسؤولية عن الكوكب ككل، وعن الكوسموس بأسره، إن شئت.

أتذكر، يا هنريك، بكمنستر فلِّر يقول إن أكثر من سبعين بالمئة من القوة العاملة في أمريكا مكرسة لنشاطات غير داعمة للحياة non-life-support، نشاط في أمريكا غثيثة العمل work-a-day ليس موجهاً حقاً نحو تعزيز الحياة. فكيف للمرء أن يدرج الفلسفة الإيكولوجية في مجتمع قائم أساساً على الرأسمالية، ذي توجُّه نحو المكسب والمصالح؟ أعني مجتمعاً المكسب فيه لا يُعلى عليه.

اسمح لي أن أنظر إلى الوضع بطريقة عكسية: ليس كيفية إدراج الفلسفة الإيكولوجية في البنيان الحالي إذ إن ذلك التصور هو قُبلة مسمومة للفلسفة الإيكولوجية ، بل بالحري كيفية إدراج العالم والبنيان الحاليين في الفلسفة الإيكولوجية.

قد يخطر في بالك أن هذا طموح، لكننا يجب أن نكون طموحين من أجل أن نجعل حياتنا ذات معنى، من أجل أن نبقى، من أجل أن يكون لنا مستقبل. إننا جميعاً نفتش مستيئسين عن فسحة عمر جديدة، عن بنى اقتصادية وسياسية، وكذلك إنسانية وإيكولوجية، تكون داعمة للحياة ليس لتفتيشنا الفردي عن المعنى وحسب، إنما داعمة للحياة life-supporting للاقتصاد عموماً. إن ما نراه هو أن البنى الرأسمالية ببساطة لم تعد تعمل حتى في حدود الرأسمالية نفسها. إن هذه البنى بحاجة ماسة إلى فسحة عمر جديدة.

أرى الرأسمالية كدورة، مسرفة نوعاً، من دورات المدنية الغربية. لقد كانت سبيلاً لكي نرى إلى أي حد يمكننا أن نكتشف العالم وأية منفعة يمكننا أن نحصِّل فردياً إذا قلنا: "يجوز للجميع أن يفعل أو تفعل كما يحلو له أو لها." لقد وجدنا أننا في عالم الزوائل لا نستطيع أن نفعل ذلك، لأنه إذا تبع بعضهم سبيلهم كما يحلو لهم على حساب الآخرين فإن السفينة برمتها سوف تبدأ بالجنوح عاجلاً أم آجلاً. وهذا ما يجري الآن. هكذا فإني أرى في الفلسفة الإيكولوجية محاولة للإتيان بنسق جديد من البنى يمكن فيه للممارسات والرؤى وطرق التفاعل بعضنا مع بعض الحالية أن تتجدد وتتحول إلى أشكال مؤزِّرة للحياة.

من مبادئ الفلسفة الإيكولوجية مبدأ التقشف frugality، الذي يجب ألا يلتبس بالفقر أو الحرمان المفروضين فرضاً. التقشف، بنظري، مبدأ إيجابي. التقشف شرط مسبق للجمال الداخلي. عليك أن تتمهل قليلاً لكي تدرك بأن هذه هي كيفية إبداع الأعمال الفنية العظمى. عندما يفرض الفنان على نفسه حدوداً صارمة ويبدع من كتلة الرخام الخام منحوتة بديعة، فهذا هو التقشف بأحسن معانيه. إبداع غايات رائعة بوسائل محدودة: ذلكم هو التقشف. وهو ينسجم جزئياً مع فكرة بكمنستر فلِّر عن فعل المزيد بالأقل. ذلكم ما يعنيه الخلق والابتكار: بوسائل محدودة إبداع غايات غنية وممتازة. وهذا، بالمناسبة، ما يدعو إليه الفيلسوف الإيكولوجي النروجي آرني نيس: حياة هيفاء من حيث الوسائل وغنية من حيث الغايات.

في المجتمع الحالي، يتم الأمر على العكس تماماً. إننا نستعمل وسائل باذخة الغنى والتفنُّن، وننجز أهدافاً لا تتناسب مطلقاً مع الاستثمار. لقد صرنا أناساً يتقنون وسائل من أجل وسائل أخرى لا تُترجَم إلى غايات يمكننا أن نقرَّ بكونها مؤزِّرة للحياة، وتضيف شيئاً إلى حياتنا وإلى حياة الكوكب. إن التعريف الآخر بالتقشُّف هو أن التقشُّف هو نعمة بلا تفريط. أظنُُّّنا لسنا مضطرين إلى الاعتذار لاستعمال مصطلح "نعمة"، من حيث إنه جزء من الشرط الإنساني.

يُطلَب مني في بعض المناسبات أن أقدم تعريفاً بالفلسفة الإيكولوجية. ليس بوسعك أن أفعل. فأنت بحاجة إلى مدة 10 إلى 15 ساعة لإنصاف الفكرة التي تسعى إلى إعادة التعريف بالمجموع كله. الفلسفة الإيكولوجية، شأنها ِشأن درب البوذية المثمَّن، تومئ إلى أن كل الأشياء متواشجة. الافتراضات الصحيحة عن العالم تقود إلى معتقدات صحيحة، التي تقود إلى التفكير الصحيح أو السليم، الذي يقود إلى العمل الصحيح، الذي يقود إلى المعيشة الصحيحة، التي تقود بدورها إلى المشاهدة الصحيحة. العمل هام، على أن يتأسَّس على قيم صحيحة ورؤى صحيحة. وإلا فإنه يصير عملاً أعمى. والواقع أننا كثيراً جداً ما نندفع من شكل ما من أشكال العمل إلى شكل آخر، ظانِّين أن في شكل العمل الآخر هذا خلاصنا، بينما أساس عملنا برمَّته مخلخل. وفي أيامنا علينا أن نعيد التفكير في الأمر بكلَّيته. والطريقة الأخرى للنظر في الوضع الذي نحن فيه حالياً هي في إيجازه على النحو التالي.

الحياة قصيرة.

الفن طويل.

التجربة عسيرة.

الحقيقة مغرية بالتفتيش.

عسيرة المنال.

مباهج الوجود كثيرة.

مباهج الصيرورة لا تنتهي.

والجملة الأخيرة جملة أود التشديد عليها. نحن كائنات الصيرورة. فهذه هي طبيعة التطور. هذه هي طبيعة المجتمعات المتطوِّرة قاطبة. فما لم نتجاوز تجاوزاً متواصلاً سوف نتحجَّر. ومشكلة مجتمعنا وتربيتنا هي أننا وقعنا أسرى أشكال معينة من الوجود. ونحن نتحجَّر. إن بنانا ومؤسساتنا الاجتماعية الحالية مهتمة حقاً بإدامة نفسها وجعل الناس على صورتها. إنها تريد مؤيِّدين يجعلون المنظومة تستمر. هذا واحد من أسباب إخفاق منظومتنا التعليمية في مساعدتنا في مسعانا إلى الاستنارة، على الرغم من هول حجمها. إن مؤسساتنا التعليمية مصنوعة بحيث تجعلنا أصفاراً طائعة، وليس أناساً أحراراً.

إن مبدأ آخر من مبادئ الحياة، على ما يبدو، يقاوم التغيُّر، إذ هو مرتاح إلى الوضع الراهن. عندما تتكلم على الفلسفة الإيكولوجية، فإن واحداً من الأشياء التي تبدو حاضرة هو التغيُّر الدائم. ثمة دوماً انبثاق لخواطر جديدة، أفكار جديدة، طرق جديدة للقيام بالأشياء – يمكن أن تكون منغِّصة. ماذا عن هذا المنغِّص وعن العمل من خلاله؟

حقاً إنه يمكن أن يكون منغِّصاً جداً. لكن الحياة في الزمن المتغيِّر دوماً منغِّصة. بيد أنك إذا عشت حياة مفتوحة وأخَّاذة فإنك تجد دوماً استجابة لغير المتوقَّع. إن غير المتوقَّع، الجديد، هو فرح الحياة وسرورها. في الولايات المتحدة، نحاول أن نمتنع على التغيُّر لأنه يعنى عدم الأمان. وتلكم هي إحدى المفارقات: نقول من جهة بأننا المجتمع الذي يتغير، بأننا المجتمع المنطلق؛ ومن جهة أخرى، حاولنا أن نوجِد بنياناً اقتصادياً للأمان لا نتعرض من خلاله لأي إزعاج. وترافُق الاثنين متعذَّر.

نحن بحاجة إلى التعمُّق في طبيعة الشرط الإنساني وفي كيفية تصوُّرنا لما هو إنساني. إذا رأيت أننا نتفتَّح مع التطور، أننا مبدعون، عليك أن تعتنق التغيُّر وقلق الراحة، إذ إنه جزء من جمال الصيرورة واحتضارها. وخير لك أن تقتنع بأنها طيبة، لأنها لا يمكن أن تكون على غير ما هي عليه. بمقدار ما أستطيع أن أرى، ما من طريقة لجعل الناس مرتاحين ومحصَّنين ضد التغيُّر والألم، اللهم إلا القبر.

لعلنا يمكن أن نتكلم على كيفية صيرورتنا أكثر مشاركة في الإبداع وتغلُّبنا على الرؤية السلبية للعالم التي تسود هذه السيادة اليوم. قد يكون التفاؤل ضرورة بيولوجية، وهو بالتأكيد من مبادئ الفلسفة الإيكولوجية. نحن، كما تقول يا هنريك، مشاركون للتطور في إبداعه ونحن العامل الذي يتوقف عليه ما سوف يحدث لاحقاً. كذلك نجد مبطونةً في ملاحظاتك فكرة أننا، على نحو ما، بحاجة إلى الاحتفاء بالحياة أكثر مما نفعل، أن الحياة غنية ومترعة. لكننا كثيراً جداً ما ننظر إلى الثقوب، ملاحظين الثغرات، ومختبرين المشكلات. عندما ننظر من حولنا، ندرك أننا في بيئة يتخللها تعزيز دائم لما يُخِلُّ بالعالم – النظرة السلبية المظلمة. كيف يمكن للمرء أن يخترق هذا التعزيز العجيب للسلب؟

أنت محقٌّ تماماً في قولك إن التفاؤل قد يكون ضرورة بيولوجية. وسوف أضيف أن الأمل ليس حكراً على المجانين، بل جزء من الوجود الأونطولوجي للإنسان في هذا العالم. إذ حالما تفقد الأمل، تتحلَّل ككائن بشري. فإذا كان الأمر كذلك، لماذا نحن مبتلون بطاعون اليأس والعجز ونوع من الوحشة؟ لماذا لا نحتفي بالحياة، والحياة معيشةً بتمامها، بمعنى ما، هي الحياة محتفًى بها؟ ثمة أسباب عديدة، وسأتكلم على اثنين منها.

الأول هو المنظومة التعليمية السائدة تنمِّي فوق كل شيء الملكات النقدية، الملكات التشكيكية، الملكات العدمية. فحتى تكون ذكياً، تحاول دائماً أن تثقب كل شيء يقدَّم لك. تحاول أن تقطع كل شيء إلى أجزاء وقطع. وهذا لا ينمي موقفاً كلِّياً، احتفائياً بالحياة. المنظومة التعليمية تقول: " إذا كنت ذكياً، حاول أن تفكك وتخرب كل شيء." لكن ثمة سبب أعمق أيضاً لموقف التمعُّن النقدي هذا، موقف تفكيك أوصال كل شيء، استعراض قدراتك الدائمة على التشريح. هذا السبب الأعمق هو قبول النظرة الآلتية إلى العالم the mechanistic world-view، التي تفترض أن كل شيء مصنوع من ذرات تتفاعل تفاعلاً حتمياً deterministic، وتفترض أيضاً أنك كلما تعمَّقت في القطع قطعت شوطاً أبعد. إن الرؤية النَفَقية/الذرَّانيةthe tunnel/atomistic vision ملازمة لنظرتنا الآلتية إلى العالم.

أما الوجه الآخر للعملة هو عجزنا عن الإدراك إدراك كلانياً holistically، على نحو متَّصل ومتكامل. أما الأمل فهو يتطلب التشديد على كون ذي معنى هو كلٌّ واحد متَّسق. الكون الآلتي يعزل، يفصل، يفك كل شيء عن كل شيء آخر. علاوة على أنه خلو من المعنى الإنساني. من هنا علينا أن نتخطى العلم الآلتي لخلق كون الأمل. فإذا أمعنت النظر في المخطط الآلتي، أدركت أن الاحتفاء بالحياة غائب عنه. "إنه لا ينتمي إلى المنظومة"؛ إذ إن المنظومة مفتقرة إلى المصطلحات لمثل هذه الأمور.

قد يصر العالِم العنيد على أن نظرته للكون هي الصحيحة. أقول إن هذا الافتراض قصير البصر ومشوِّه للصورة الحقيقية للكون. بحسب الفلسفة الإيكولوجية، يمكننا أن نختار احتفاءً بالكون يكون الأمل أحد أبعاده. فما الافتراض الصحيح عن الكون؟ ليس من طريقة منطقية للخروج من هذا المأزق. لذا فإن جوابي على السؤال عن أيهما الصحيح، المتشائم أم المتفائل، ليس بمحاولة محاججة الافتراض على أسس منطقية. أقترح بالحري: دعنا نرى ما يفعله التشاؤم بنا، من جهة، ودعنا نرى ما يستطيع التفاؤل والأمل أن يفعلاه لنا، من جهة أخرى.

لم ينبغي علينا أن نفترض أن الكون موحش؟ لم لا نرى أنه يتفجر أشكال حياة جديدةً، يتفجر فرحاً طوال الوقت؟ نحن بحاجة إلى ركوب كون يكون مكاناً للاحتفاء، وبحاجة إلى العمل وفقاً لافتراضنا هذا. عندئذٍ فقط يمكننا أن نرى عزم وقوة هذا النوع من الأكوان. وبمقدار ما نحن واحد من أكثر أشكاله تعقيداً، يحتفي الكون بذاته من خلالنا. ليس بوسعك أن تدحض منطقياً مثل هذا الافتراض. فلنفترض أن الكون يساعدنا على سكناه، إذ إننا جزء من هذا الكون. ليس ثمة شيء غريب في الافتراض بأن الكون منزل للإنسان. حدسياً، هذه النظرة أكثر إقناعاً من النظرة التي تفترض أن الكون مكان عدائي، غير مبالٍ، بارد، نهيم فيه كمونادات عاجزة.

فما نفعله، إذن، ونحن نطوِّر الفلسفة الإيكولوجية، هو العودة إلى تصور عن الكون مرتبط ومرحِّب، نكون فيه قاطنيه أصحاب الحق ويكون منزلاً لنا. ولعلي يجب أن أذكر بأني توسعت في هذه الأفكار أكثر في كتابي الفلسفة الحيَّة: الفلسفة الإيكولوجية كشجرة حياة (بنغوين، 1991).

إن العديد من مؤسساتنا، إذ تطورت وصارت جزءاً من حياتنا اليومية، أضاعت الرؤية الأصلية التي قد تكون أوجِدت من أجلها. قد تكون أوجِدت بدافع اهتمام صادق لحل مشكلة بشرية معينة، وقد تكون تأسست على قيم وأخلاق معينة، إنما يكاد يبدو كأنما هو من مبادئ المؤسسات أنها، بينما هي تكبر وتكبر، فإن القيم والأخلاق واهتمامات مشابهة تكاد تُلفَظ من سيرورة صنع القرار اليومية.

وبالعودة إلى سؤالي الأسبق حول التعاونيات والعيش في مجتمع تعاوني، كيف تعود تلك القيم والأخلاق للتأثير؟ اعتباراً مما كنت تقول، ربما كانت إحدى طروح المستقبل أن تكون لمؤسسة ما – ولنقل، تعاونية – فيلسوفاً إيكولوجياً مقيماً يقدِّر كيف يمكن للفوائد وللنتائج أن تكون متصلة مباشرة باهتمام تلك المؤسسة بالتأثير المستقبلي الإجمالي لما هي تقوم به. أود أن أربط ذلك بأهمية المؤسسات المبدِية كذلك اهتماماً حقيقياً بالقيم والأخلاق الإنسانية – وأساساً، العودة إلى سلامة الخُلُق بوصفها مكوِّناً هاماً في النشاط اليومي.

طيب، هنا أيضاً، سلامة الخُلُق شيء يختص بها الإنسان. إنها ليست من خواص الكون الآلتي. إنها ليست من تعاونية همُّها الربح. إنها ليست شيئاً تجده في محاسبتنا الاقتصادية. إذ فقط عندما ينمو فيك الحسُّ الخاص بأنك بدون سلامة الخُلُق لست تاماً، لست إنساناً تماماً، تبدأ بأن تحقن في المنظومة – أياً كانت المنظومة – معياراً جديداً، بعداً جديداً. وعند هذه النقطة، وليس قبلها، تبدأ بالفحص عن كل المؤسسات وتدرك أن كلاً منها تقريباً، على نحو أو آخر، تتنصل من القصد الذي أوجِدَت من أجله أصلاً. هذا جزء من ديالكتيك الحياة.

إن مؤسسة – أو أي نسق من المؤسسات – توجد لتلبية حاجات معينة، متطلبات معينة، اجتماعية أو فردية، وهي عادة تخدم هذه الحاجات لمدة ما. ولكن حالما يتم إشباع هذه الحاجات، يؤول بنا الأمر إلى تطوير حاجات جديدة. والمؤسسة عادة لا تتطور لإمداد هذه الحاجات الجديدة، فتحاول أن تستجيب بلغة الحاجات القديمة. بعدئذٍ بمدة، نجد المؤسسة مناقضة تماماً للحاجات الجديدة التي تطورت استجابة للحياة واستجابة لسعينا نفسه إلى التخطي، إلى التعالي. بهذا الصدد، لكل مؤسسة – سواء أخذنا مؤسسة مدنية صغيرة في المدينة أو مؤسسة كالكنيسة الكاثوليكية – نزوع إلى الاستعصاء والاستجابة للحاجات الأقدم بدلاً من الحاجات الجديدة المتطورة.

هذا وإنها لمن عبقرية شعب أو مؤسسة أن تتمكن من تكييف نفسها والتغيُّر مع الحاجات المتغيِّرة. ومعظم المؤسسات لا تفعل ذلك. وكلما كانت أكبر، كانت خرقاء أكثر وازدادت تحصُّناً أكثر، فتحاول ترجمة حاجاتنا إلى ما تستطيع أن تفعله من أجل ديمومتها. وعند تلك النقطة تكون ثمة شقة هائلة بين ما تفعله مؤسسة وما كان ينبغي أن تفعله لو أنها كانت تؤدي وظيفتها حقاً. وهذا ما قد جرى، ليس مع المؤسسات وحسب، وإنما مع التكنولوجيا بعامة.

من الممكن التفكير بالتكنولوجيا بوصفها شكلاً من أشكال المؤسسة مهمتها الاهتمام لحاجاتنا. ولقد صُمِّمَت كافة أنواع التكنولوجيا من أجل خيرنا، من أجل تحسين حياتنا الفردية والاجتماعية. ذلكم هو الغرض الذي عملت من أجله مدة ما. لكنها من بعدُ صارت أكبر وأكثر استقلالية مما ينبغي. وهي الآن تُديم نفسها وقد بلغت بها الصفاقة – إذا أجزنا لنفسنا شيئاً من التأنيس – حد المطالبة بنا كملحقات لها. عند هذه النقطة تبلغ الأمور حدَّ المرض، حدَّ النبوّ. إذ لقد تقلَّدت الأداة زمام الأمر. لقد فتح متعلِّم صنعة السحر أقفال الأسرار، وأطلق من عقالها قوى عاتية لم يعد بوسعه السيطرة عليها.

هناك شيء ما مغلوط في السيرورة إذا أفضت إلى عواقب مناقضة للمقاصد الأصلية. أما وقد بلغنا هذا المبلغ، علينا حقاً أن نغيِّر ونطرح العديد من المؤسسات، بما فيها التكنولوجيا. وأنا لا أقول بضرورة طرح التكنولوجيا على ركام مزبلة التاريخ. لكن بعض أشكالها التي تتناقض مع غايات حياتنا وتهدد الكوكب بأسره بالخطر، وتصير تهديداً خطيراً لنموذج التطور برمَّته – هذه الأشكال يجب أن يعاد النظر فيها.

إن ما بناه به البشر يمكن أن يغيَّر ويفكَّك. أنا، بهذا الخصوص، متفائل لا يلين نوعاً ما. فهذه طريقة للشد من أزرنا حقاً، بأن نعلم أن الأمر كله جاء نتيجة رؤى معينة، مقاصد معينة، برامج معينة، وأن علينا أن نعيد بناء رؤانا. يجب أن نتحلَّى بالشجاعة على القول: "هلمَّ نمسك بزمام مصيرنا بيدنا من جديد. فنحن لسنا من العجز والضعف كما يمكن لبعض المؤسسات أن تجعلنا."

أما بخصوص اقتراحك بأن تنتدب كل تعاونية فيلسوفاً إيكولوجياً مقيماً للإشراف على قيمها الإجمالية وإسهاماتها الإيجابية في الحياة بعامة – فهو اقتراح ممتاز! وأنا في الواقع أودُّ أن تدعوني بعض التعاونيات كفيلسوف إيكولوجي مقيم – لأبرهن لها أنها ستكون فكرة جيدة.

أود، يا هنريك، أن أروي ما كنت تقوله عن موقف براغماتي، من واقع الحياة. إذا نظرنا إلى المؤسسة التي تدعى الرعاية الصحية، وإذا نظرنا إلى الحال التي آلت إليها المستشفيات إلى الكيفية التي يتم بها تقديم الخدمات الصحية للناس، سيتبيَّن لنا أننا بلغنا نقطة صارت فيها الرعاية الصحية امتيازاً وليس حقاً. نحن نتحدث عن استبعاد بعض الناس من الحصول على الرعاية الصحية الملائمة أو الفضلى. أظن أن هذا مثال على مؤسسة بلغت مكاناً أضاعت فيه الرؤية الأصلية التي أوجِدت من أجلها. ومع أنه مازال هناك اهتمام برعاية الناس، فإننا نتحدث عن طرق يمكنها أن ترعى عدداً معيناً من الناس فقط – أصحاب النوع المناسب من الضمان والنوع المناسب من الدعم مما يؤهلهم للاستفادة من الخدمات المتوفرة. فماذا عن هذا؟

الصحة مثال جيد جداً على مؤسسات تنصَّلت على نحو ما مما كان يُفترَض فيها أن تخدم. هنا أيضاً، لا يمكنك أن تلقي باللائمة على المؤسسات والمستشفيات والأطباء؛ فهناك الكون برمَّته الذي استقل بمساره الخاص وصار غير مبالٍ بعافيتنا. وهذا، أيضاً، أمر يتعلق بالإدراك المعمَّق، أمر يتعلَّق بإدراك ماهية الرعاية الصحية: أهي صيانة الآلة التي تصون قطع التبديل؟ كلما ازدادت الآلة تعقيداً، يرتفع سعر قطع التبديل، وتزداد صعوبة تبديلها. وكلما ازداد تعقيد العملية، ازدادت كلفته، وازدادت صعوبة توفيره للعاديين من الناس.

الاستجابة الصحيحة، إذن، ليست أن نجعل عملية التصليح عبر هذه العملية الآلتية أقل كلفة، بل أن ننظر إلى الصورة الأوسع. ما هي الرعاية الصحية؟ هل هي صيانة صحتنا. هل صحتنا هي المهدَّدة بالخطر؟ لو نظرت إلى مشكلة الصحة ليس فقط كشفاء المرض، بل كصون لعافيتنا، لغيَّرت المنظور إلى الحياة وإلى الصحة برمَّته. وعندئذٍ تسأل نفسك عن أي نوع من المؤسسات تريد، أي نوع من الرعاية الصحية تطلب لكي تصون الصحة وتبقيها في حالة من الإشعاع، بدلاً من السؤال عن كيفية وقف عملية الرعاية الصحية المكلِفة إلى حد الحظر التي ستصير، لا محالة، أكثر فأكثر كلفة مع تزايد تعقيد العملية التكنولوجية. وهنا أيضاً، إذا كنت محبوساً في منظومتنا، ما ثمة من مخرج. لذا عليك أن تخرج من المنظومة وتذهب إلى الصين.

ذهبت إلى هناك عام 1976. إن ما أدهشني هو أن الصين بلاد فقيرة بدون شعب فقير. وما أدهشني هو أنه، على الرغم من وجود 800 مليون نسمة آنذاك، فإن الجميع يتمتعون بالرعاية الصحية الأساسية. لكنها تقوم على مبدأ مختلف عن مبدئنا. وحق جوبيتير، إذا كانت الصين تستطيع فعل ذلك، وهي على ما هي من الفقر، فإن بوسعنا أن نفعله. غير أننا لن نستطيع فعل ذلك ما لم نغيِّر منظورنا. وهذا المنظور ليس حقاً منظور الآلة الطبية وكيفية تحسينها، بل المنظور إلى الحياة والصحة والموت. عندما نتحدث عن المؤسسات وعن كيفية التلاؤم معها، أظن أن الجواب يكمن في تغيير منظور الناس الذين يديرونها، تغيير الرؤية برمَّتها، وإقناع النفس بأن بالوسع القيام بالأمر على نحو مختلف.

يخطر ببالي أن النظرة الفلسفية الإيكولوجية تحيط بالموت وتقبله كجزء من الحياة. إن واحدة من مشكلات الرعاية الصحية الحديثة هي تلك الإصرار الدائم على إطالة الحياة بأي ثمن. تتم اليوم إطالة حياة أناس كفُّوا جوهرياً عن العمل ككائنات حية بمساعدة التكنولوجيا، بما يزيد من عدد الأسرَّة المشغولة في المستشفيات، إلى ما هنالك. إلى حد ما، لم تقبل المؤسسة الطبية الموتَ كجزء من الحياة.

تحاول الفلسفة الإيكولوجية أن تقوم بذلك وتحاول أن تقترح أنه، بعد نقطة معينة، لا تعود إطالة وظائف بيولوجية معينة إطالة للحياة. إنه الموت البطيء الحاصل أصلاً الذي نحاول أن نمنعه، مع أننا نعلم بأننا لا نستطيع. وهذا يتطلب، أيضاً، نظراً أعمق إلى الشرط الإنساني، بدلاً من ستراتيجية جديدة في كيفية جعل أولئك الناس الذين هم أصلاً متوفَّين جزئياً يبقون عب قيد الحياة على مستوى نباتي نوعاً ما.

إن واحدة من فروع الفلسفة الإيكولوجية هو ما أسميه اليوغا الإيكولوجي eco-yoga. فبالإضافة إلى إعادة النظر في مبادئنا، علينا أن نتوغل في طبقتنا التحتانية الوجودية عبر تمرينات معينة تمكِّننا من إدراك العالم والناس إدراكاً جديداً. إن واحداً من هذه المبادئ هو ما أدعوه التفكير الإجلالي reverential thinking. فما إن تبدأ بالتفكير إجلالياً في الكائنات البشرية الأخرى، وفي علاقتنا بالإيكولوجيا وبالعالم، فإن هذا يؤثر فيك، يغيِّر منظورك حقاً.

إن جزءاً من هذا الخواء القيمي، جزءاً من المشكلة مع الأخلاق، جزءاً من المشكلة مع سلامة الخُلُق، يكمن في أن مواقفنا وتفكيرنا مفتقرة إلى الإجلال irreverent. التفكير الموضوعي نوع من التفكير اللامبالي. إنه التفكير العدمي، بينما الحياة في طريقة عملها modus operandi ظاهرة حنون جداً. عندما نعتني بالحياة حقاً، نعتني بها على أساس إجلال معيَّن لها. وإني لأود إدخال التفكير الإجلالي كجزء من طريقة عملنا، كجزء من إدراكنا اليومي.

هكذا، فبالإضافة إلى الدروس التي أعلِّمها في الجامعة، أذهب إلى خلوة، إن شئت، وأقود مشاغل مدتها أسبوعان في أركوسانتي – وهي مدينة باولو سولاري وسط صحراء أريزونا – نحاول فيها أن نترجم مبادئ الفلسفة الإيكولوجية إلى مواقف حياتية حقيقية. ومؤخراً، بتُّ أقوم بتنظيم مشاغل على الفلسفة الإيكولوجية واليوغا الإيكولوجي على جزيرة ثاسوس في شمال اليونان. فإن سنَّ فلسفة جديدة يتطلب أكثر من مجرَّد التفكير.

التفكير الإجلالي ليس التفكير عن الإجلال، إنه التفكير إجلالياً. وهناك فارق. فمن أجل أن تفكر إجلالياً، عليك، بمعنى ما، أن تجدد أسلاك إدراكك، أن تجدد افتراضاتك. عليك أن تكفَّ عن التفكير دائماً بلغة الاقتصاد: كيف يمكنني أن أستخدم قطعة الأرض هذه كمصدر... كيف يمكنني أن أستخدم هذا الشخص بما يخدم مآربي؟ التفكير الإجلالي ممكن لأننا نعلم أن جزءاً من حياتنا معيش إجلالياً، أي عندما نبالي بالأعزاء علينا، وعندما نحب. وبالفعل، الحب هو أن تعامل الشخص الآخر معاملة إجلالية.

الإجلال، إذن، ليس مبدأ مثالياً، بل مبدأ يشكل فعلاً جزءاً من حالتنا كبشر. وإني أودُّ أن أشدد على مبدأ إجلال الحياة هذا شيء سوف يساعدنا على طريقنا إلى المستقبل. إجلال الحياة ليس مثالية سامية بل واقعية بحتة، إذا قُيِّض لنا مستقبل إنساني.

عندما رأيت للمرة الأولى عنوان كتابك مسرح العقل، يا هنريك، فإن ما تبادر إلى ذهني هو الدراما التي كثيراً ما تكون جزءاً مما يخلقه ذهننا. فكرت في مقدار ما نخلق من "مسرح"، الأمر الذي، بمعنى ما، ينأى بنا عما قد تكون غايتنا الحقة. أريدك أن تعلق على ذلك.

عندي أن الحياة دراما، التطور بأسره دراما، وبالفعل فإن العقل واحد من أكثر المسارح إثارة على الإطلاق. اخترت عنوان مسرح العقل عن قصد تام من أجل أن أتهرب من مختلف العناوين المدرسية والمتحذلقة ومن المعالجة المدرسية، المتحذلقة، والجافة نفسها للموضوع. أظنُّنا قد غمرتنا كمية من الكلمات من شأنها أن تصيبنا بالخَدَر. وكثيراً ما نظن أننا كلما ازددنا معرفة ازددنا تنوُّراً، وأننا كلما ازداد عدد الكلمات التي نستعملها ازددنا معرفة.

أشعر من جانبي أن العكس غالباً هو الصحيح. يغمرنا جبل المعلومات وما من استنارة ثمة في النهاية. لذا قررت أن أبني الكتاب برمَّته على نحو مختلف – كسلسلة من الإشراقات مستلهَمة من الأوبنشاد بالدرجة الأولى. قد يكون قولي من قبيل الادِّعاء بعض الشيء، لكن قصدي كان الآتي: كتابة سلسلة من الأوبنشاد من أجل زماننا. الأوبنشاد هي تينك القصص الخالدة عن الحياة والموت، عن معنى الكون ومعنى حياتنا نفسها. وفي هاتيك الأوبنشاد يقوم العقل بدور لا يجاريه فيه شيء.

في الغرب، جعلنا كل شيء واطئاً. كل شيء يُسحَن حتى يصير مسحوقاً جافاً من المفاهيم، بما فيها معجزة العقل نفسها. أظنه قد آن الأوان لأن نطاول أداة التطور الرائعة المجيدة هذه، العقل الذي بحوزتنا، وهذا لمن الأهمية بمكان لكل شيء آخر، ونفيه حقَّه من الاحترام. لكن إيفاءه حقَّه من الاحترام يعني أن نحتفي به، مدركين أن فرح الكون هو فرح حيازة عقل فَرِح.

تحضرني الآن الإثارة الحقة التي حرضها فيَّ كتب قرأته في المدرسة الثانوية – كتاب لوِلْ ديوارانت بعنوان لذائذ الفلسفة. لقد أثارني لأنه كان فرصة لي لاستكشاف أفكار، لدراسة أفكار، لرؤية كيف يفكر الناس والطريقة التي يدركون بها العالم من حولهم. ومع ذلك، فإن ما رأيته من الفلسفة في الحصص المدرسية كان، في الأعم الأغلب، حذلقة. كان يُقدَّم بوصفه استرجاعاً لأفكار مغبرَّة من الماضي والقول: طيب، هي ذي الطريقة التي كانوا يفكرون بها، وهذا هو ما تتعلَّمه. لم يكن الأمر عبارة عن سيرورة تطوُّرية. كان الغبار يُنفَض عن أفكار من الماضي ويُنظَر فيها في الأزمنة المعاصرة، لكن الفلسفة لم تكن حيواناً ينمو. بالمقابل، عندما أحتكُّ بمؤلفاتك، من الواضح أنك تطوِّر فلسفة هي في آن معاً جديدة ومتأثرة في الوقت نفسه بفلسفة أخرى أقدم. ما هي هذه التأثيرات؟ ماذا أثَّر فيك أكثر ما أثَّر بما جعلك تنحو نحو هذه الفلسفة الجديدة؟

ليس المرء مضطراً إلى التحذلق لكي يكون عميقاً. وبالفعل، عندما أستعرض تاريخ الفلسفة، المنظومات الفلسفية الكبرى، كان الفلاسفة العظام أولئك الذين تحلُّوا بالشجاعة على مواجهة المشكلات. عندما تقرأ نصوصهم، فإنهم مثيرون، على كون قراءتهم صعبة أحياناً. الفلسفة بنظري مثيرة لأنها تحاول أن تواجه تلك المسائل القصوى التي تقبع في خلفية عقولنا.

إن أفلاطون هو الذي شرح صدري للفلسفة – أو قل، أغواني بالفلسفة – إبان سني مراهقتي في بولونيا. قرأت بنهم شديد، كل شيء تقريباً. وبعد قراءة الكتَّاب الفرنسيين العظام، مثل بلزاك وموباسان وسواهما، اكتشفت الكتَّاب الإغريق. قرأت سوفوكليس وإفريبيدس، ثم تعثَّرت بأفلاطون، الذي قرأته أولاً كشاعر. لكن القراءة كانت من الإبهار، ونوع الخيال – الخيال العلمي – الذي كشف عنه كان من الفتنة بحيث إني لم أستطع الإبلال منه. وحتى هذا اليوم، لآ أعرف فيما إذا كان أفلاطون واحداً من أعظم كتَّاب الخيال أو واحداً من أعظم الفلاسفة في محاولاته لاكتشاف ماهية الواقع.

ومؤخراً، بتُّ أرى أن أعظم المنظومات الفلسفية والميتافيزيائية مبدَعَة بمقدار ما هي مكتشَفة. وبهذا أعني أننا، إذ نفرض هندسة معيَّنة على الواقع، ننسج الواقع بأسره حول هذه الهندسة، ونعتبر هذا الواقع، من بعدُ، موضوعياً. وفيما نحن نفعل هذا، ننسى أن الطبعة الأصلية (التي ينطبق عليها الواقع) هي من ابتكار الإنسان. وبهذه المثابة، كل الميتافيزياء وكل الواقع من ابتكار الإنسان!

لعلك تستخلص من تلك الملاحظات أن تأثير أفلاطون عليَّ كان من أعظم التأثيرات وأكثرها ديمومة. بيد أن المرء كان مضطراً بعيدئذٍ إلى المضي قدماً. وبينما كنت أدرس في بولونيا، فتنتني الفلسفة التحليلية. وفي تلك الآونة، كان أفلاطون يدعى ميتافيزيائياً فات أوانه وبطل مفعوله. فكان المرء يلقى كل التشجيع على الإيمان بالتحليل الدلالي semantic analysis، بالحساب المنطقي logical calculus، بحساب القضايا propositional calculus. كان يفترض أن في قوة المنطق خلاصنا. كان ثمة نوع من الرسالة المخلِّصية messianic من وراء الفلسفة التحليلية: فإذا قوَّمنا لغتنا، إذا صحَّحنا عافيتنا الذهنية، عندئذٍ سوف نتمكَّن من حل كل المشكلات. وهذه الأسطورة هيمنت حتى الخمسينيات. بعد ذلك، تنكَّرت لهذه الأسطورة، واحداً بعد الآخر، العقولُ القائدة نفسها التي ابتكرتها وتنصَّلت منها.

غير أن العقول الصغرى لم تستطع قط أن تفعل ذلك. ونحن واقعون تحت سحر تلك العقول الصغرى التي ماتزال تُديم أسطورة أن التحليل هو الفلسفة الوحيدة، ناسية تماماً ماهية ما يفترَض أن تكونه الفلسفة التحليلية. فكان يُظَنُّ أنها عبارة عن جعل اللغة واضحة ودقيقة، بحيث نتمكن من التصدي لكل المشكلات ونحلُّها حلاً مُرضياً.

لقد صارت الفلسفة الحالية عبارة عن أدوات شاحذة لأدوات شاحذة. وبما أن الفلسفة الأكاديمية لا تعيننا على فهم العالم وأنفسنا، فإننا نتحوَّل عنها. بيد أننا واعون أيضاً بأنه من جراء المشكلات التي لا سابقة لها التي برزت في النصف الثاني من القرن العشرين – من نحو النفايات النووية، الكارثة الإيكولوجية المحوِّمة، وأخيراً وليس آخراً، فهم الكون والمادة الذي تمخَّض عن فتوح الأستروفيزياء والفيزياء الكوانتية – لم نعد نستطيع أن نجد حلولاً لمآزقنا في فلسفات الماضي.

هكذا فنحن بحاجة إلى إيجاد فلسفة ملائمة لزماننا ولمشكلاتنا. وأنا لا أستنكر كل الفلسفة ولا أدعو للعودة إلى الماضي – أكان أفلاطون، أو الأوبنشاد، أو أي منقول صوفي آخر. أنا مؤيِّد لإيجاد فلسفة جديدة، كلانية شاملة، ملائمة لعصر الإيكولوجيا الذي ينبلج فجره علينا.

في مسرح العقل كتبتَ شيئاً كنتُ اختبرتُه في حياتي أنا، ألا وهو التشابه الذي لا يصدَّق بين الفلسفتين اللتين أسَّس لهما كل من تِيَّار دُه شاردان وشري أوروبندو. فمع أنهما كانا بمعنى ما متعاصرين، فإنهما لم يتعارفا، وأنت تقيم الصلة بينهما. دُه شاردان كان كاثوليكياً، وأوروبندو كان هندياً، قادماً من المنظومة الهندوسية. فماذا عن هذه الصلة؟ ما المغزى منها؟

كان تأثير تيار دُه شاردان واحداً من أعظم التأثيرات عليَّ لاحقاً. لقد بهرتني قصته للتطوُّر كواحدة من أكثر مغامرات العقل الإنساني إمتاعاً.

إن محاولة إعادة بناء وإلقاء الضوء على ظاهرة كظاهرة التطوُّر الكلِّي أشبه ما تكون بالإمساك بالكون بأسره، منذ مستَهلِّه، في راحة اليد. ولقد حاولت أن أستبين كيفية توصُّل تِيَّار إلى منظومته. وعندما اكتشفت شري أوروبندو، الذي توصَّل إلى منظومة مشابهة للغاية، صَعُب عليَّ تصديق الأمر. هناك، بالطبع، نظرية أن روح العصر zeitgeist فعل من خلال كليهما. وسواء صحَّ ذلك أم لم يصح، فكَّرت بأن لابد أن تكون ثمة تأثيرات.

هكذا فإني عندما كنت في بونديشيري في جنوب الهند، حيث يقع أشرم [معتزَل] شري أوروبندو، تعرَّفت أخيراً إلى أناس ممَّن كانوا على علم بمؤلفات أوروبندو كلها وكانوا كذلك على اطلاع على برغسون. كانت هناك سيدة ناقشت رسالة دكتوراه في السوربون في برغسون وأوروبندو. قلت لنفسي: "أجل، لابد أن هذه هي الصلة." سألتها مواجهةً: "كم تعلَّم أوروبندو من برغسون؟" أجابت: "التأثير من الكبر بحيث إني لا أقدر على تمييز واحدهما من الآخر."

نحن نعلم، بالطبع، أن تِيَّار تأثَّر هو الآخر ببرغسون تاثُّراً عظيماً. هذه هي الصلة إذن. تأثير برغسون هائل حقاً، مع أنه غير بيِّن.

كما ترى فإن التطوُّر مستمر. وكذلك تطورُّنا فيما يختص بالمغزى من التطوُّر. نشر داروِن كتابه أصل الأنواع علم 1859. وهذا هو العام عينه الذي شهد ولادة هنري برغسون – 1859. وعندما صار برغسون رجلاً ناضجاً، في حوالى سن الخامسة والأربعين، كان وَقْع داروِن برمَّته قد امتُصَّ امتصاصاً تاماً. لذا كان بوسع برغسون أن يقبل الفكرة حقاً، لا بل وأن ينظر إليها نظرة مختلفة. وهذا ما فعل. فخرج بفكرة التطوُّر المبدع. لقد تصوَّر التطوُّر ليس كمجرَّد سيرورة مصادفة وضرورة – كما حاول مونود وغيره من الدارونيين والدارونيين الجدد آخرون إيهامنا – بل كشيء أشد حذاقة وإعجازاً بكثير. ففي كتابه التطوُّر المبدع، بسط هذا الرأي، ومن تلك النظرات تعلَّم كلا أوروبندو وتِيَّار. عندما ننتقل الآن إلى النصف الثاني من القرن العشرين، نجد وَقْع برغسون وقد بات أكثر قبولاً. فلقد قال ثيودوسيوس دوبجانسكي، أحد البيولوجيين التطوُّريين: كما أنه كان من المهم في القرن التاسع عشر رؤية الصلة بين النوع البشري وأنواع أخرى – أننا أشقاء للشمبانزي وقرود وحيوانات أخرى – كذلك من المهم بالدرجة نفسها في القرن العشرين رؤية ما يميِّزنا عن الأشكال الأدنى للحياة. ما أراه يحصل هو أننا نصوغ فكرة التطوُّر. وهي فكرة من الروعة، والتعقيد، والجمال، بحيث إننا مازلنا بعيدين عن الإحاطة بها إحاطة كاملة.

إن كتابي مسرح العقل بمجمله سلسلة من الصياغات لفكرة التطوُّر. وهو، بمعنى ما، احتفاء بالتطوُّر من خلال العقل الراقص، من خلال مسرح العقل.

فماذا، هنريك، عن فكرة الطفرة الكبرى، الطفرة الكوانتية التي يمكن أن تحدث من شيء لآخر؟ كثيراً ما يفكر المرء في التطوُّر كسيرورة متدرِّجة تستغرق آلاف السنين. ومع ذلك نرى عبر التاريخ هذا المؤشِّر على الطفرة الكوانية. ماذا عنها؟

أجل، بمعنى ما، كلنا بانتظار هذه القفزة الكوانتية للتطوُّر التي ستحملنا جميعاً إلى عالم الاستنارة حيث، مثلنا كمثل الملائكة الأطهار، سوف نتمكن من حل مشكلاتنا كلها. أحسب أن هذه الحالة قد تكون بعدُ بعيدة عنَّا بعض الشيء. غير أني أقبل فكرة أن التطوُّر لا يتقدَّم بانسياب من شوط إلى آخر. فهو ليس كبناء الهرم. التطوُّر سيرورة متقطِّعة تحدث فيها بعد وقوع انقطاع قفزة نحو مستوى جديد. وهذا يمكنك أن تقتفيه بطرق متنوعة.

دونك تاريخ العلم. فحتى النصف الثاني من القرن العشرين، سادت نظرة مفادها أن العلم أشبه ما يكون بهرم حجري يضيف إليه كل من العلماء، كالبنَّائين، حجراً واحداً. أما إذا نظرت إلى صورة تطوُّر العلم كما يقدِّمها في أيامنا هذه مفكرون من أمثال كارل بوبِّر وتوماس كون، ستجد صورة مختلفة كلِّياً. إنها صورة درامية، صورة متقطِّعة، تذكِّرنا أكثر ما تذكِّرنا بنوع من المسرح الشكسبيري يُذبَح على خشبته الممثلون الرئيسيون – النظريات الأساسية – كما يُذبَح الملوك ويظهر ملوك جدد في التراجيديات القديمة. فبعد أن يبزغ أنموذج paradigm جديد، يُخلَع الأنموذج القديم كأنه سلالة ملكية بائدة.

هذا ما يؤكده أيضاً علماء النفس الذين يرون أن نموَّنا الفردي لا يجري بانسياب من عام لآخر. فعند نقاط معينة، هناك فترات من التوتر من الشدة بحيث إننا لا نعود نعلم من نحن. وبعد سيرورة التحوُّل الداخلي، إذا جاز التعبير، ينبثق شخص جديد. يصير المراهق شاباً راشداً، على سبيل المثال.

يطلق عالم النفس البولوني دومبروفسكي على سيرورة التحوُّل الداخلي عبر الألم هذه اسم "التحلُّل الإيجابي": يتم تحلُّل شخصية أقدم وتنبثق شخصية جديدة. وبهذا يتمكن الشخص من الالتئام من جديد. من هنا تسمية التحلُّل الإيجابي. لكن بعضهم لا يفلح فيها. ومن هنا المأساة. هذا النوع من السيرورة لا يحصل مرة واحدة وحسب، بل يحتمَل حصوله ثلاث مرات أو أربع. نخلع عن أنفسنا الجلد القديم في الألم حتى نحصل على جلد جديد. بذلك يمكننا أن نرى أنه في الحياة الفعلية لا يجري التطوُّر عبر أشواط متواصلة، إنما عبر أشواط متقطِّعة أيضاً.

هناك فكرة مشابهة يعبِّر عنها، وإن يكن بمصطلحات مختلفة، إيليا بريغوجين. إنه يتحدث عن بنى التبدُّدية dissipative structures تحصل عندما تعاني متعضِّية أو بيئة من ضغط من الشدة بحيث يتعذَّر عليها أن تواصل تحمُّله: بذلك يحصل تحلُّل، يليه التئام على مستوى جديد يمكن عليه تصريف التوترات والضغوط القديمة. وهذه طريقة أخرى للإقرار بأن التطوُّر متقطِّع. فعندما يتعذَّر على أشكال الحياة تحمُّل الضغوط القديمة، فإنها تلتئم على مستوى جديد. أعتقد أن هذان اسمان مختلفان لفكرتين متشابهتين للغاية. تتم قفزة تترافق مع آلام وبعض الرضوض.

وإني أميل إلى الاعتقاد بأننا كحضارة نكابد سيرورة مشابهة. من هنا كل هذا التوتر والألم في المجتمعات والأفراد. وما من طريقة لمعرفة ما ستكون عليه نتيجة هذه القفزة. إن طبيعة التطوُّر البازغ هي بحيث إن الشوط الجديد، الشوط البازغ، غير مشابه للشوط السابق. فلنأمل أنه سيكون شوطاً خلاقاً حقاً وأنه سيمكِّننا من إيجاد بنى وحلولاً ملائمة لمشكلاتنا الحالية.

إنك كثيراً ما تذكر أن التغيُّر التطوُّري ينطوي على الألم والرضّ. يمكننا أن نطبق ذلك على تطوُّرنا الفردي أيضاً، اختبارنا الفردي الخاص للحياة والنمو والتطوُّر. إننا أحياناً نكابد أوقاتاً مؤلمة، أوقاتاً رضِّية، ومع ذلك فإننا نتبيَّن بعد انقضاء تلك الفترة كيف أنها كانت سيرورة نمو. بوسعنا أن نرى كيف اقتحمنا ذلك الشوط كشخص واحد، وكيف أصبحنا، بعد الخروج من سيرورة الألم والرضّ، شخصاً آخر. لقد حدثت سيرورة تطوُّرية هناك على مستوى فردي.

بالضبط. لكن رؤيتها أسهل بكثير بعد وقوعها منها عندما نكون في فترة الانتقال والألم. إن تلك الفترات مشوِّشة، لأننا نكون بين شوطين، بين أنموذجين، إذا جاز التعبير.

العبرة من ذلك أن التطوُّر الفردي يحدث بالطريقة ذاتها التي يحدث وفقاً لها التطوُّر الكبير. أحسب أن هذه ملاحظة هامة ينبغي الإشارة إليها، أن التطوُّر الشخصي هو نفسه التطوُّر الكوكبي. وهذا من شأنه أن يقيم، أيضاً، الربط بأنه مثلما نتطوَّر كذلك سوف يتطوَّر الكوكب والكوسموس.

ولعل ثمة خاطراً يجدر التفكير فيه، إنما ليس الاحتفاء به، ألا وهو أن الألم قد يكون شرطاً مسبقاً للنمو. إننا لا نريد أن نعترف بالفكرة ونحن نكابد سيرورة الألم. لكنْ ربما يكون من المحتم أن يترافق النمو الحقيقي بالألم لأنه ألم الانتقال من حالة وجود، نكون فيها مرتاحين، إلى حالة وجود أخرى. الصيرورة عسيرة دوماً.

هناك صلاة بوذية تطلب العذاب فعلاً لأنه الطريق إلى النمو، أي الطريق إلى الإشراق.

إنه لتعبير جميل حقاً.

أحياناً نحتاج – ومن شأن هذا أن يساعدنا – لرؤية عذابنا رؤية مختلفة ولاختباره.

فلنتفكَّر أعمق في ثقافتنا التي غالباً ما تحاول اجتناب العذاب بأي ثمن. والعاقبة هي أن اجتناب العذاب بأي ثمن يُدفَع ثمنه باهظاً بتنمية نوع من التخدير، وهذا بحد ذاته شكل من أشكال العذاب. أميل بالحري إلى الاعتراف بالعذاب أداةً للنمو الحيوي بدلاً من الابتلاء بالخَدَر الذي يقود إلى الضمور وإلى شكل آخر للعذاب. وبعبارة أوجز: مادمنا نعيش، مادمنا ننمو، مادمنا نصير، يجب علينا ألا نجتنب العذاب لأن هذه هي كيفية صنع الكون. قد يكون الأمر مختلفاً في كون الملائكة، لكنه يجري على هذا النحو في كون الكائنات الإنسانية العارضة.

قد أكون مخطئاً في هذا، لكن إحساسي هو أننا غالباً، عندما نفكر في الفلسفة، نميل إلى رؤيتها كنوع ما من الموضوعات قابل للدرس. نلجأ إلى الكتب وندرس فلسفة أحدهم، ما كتبوا، ما خلفوا، ربما منذ قرون، أو في زمن أحدث. إنها فلسفة خاصة، ونحن ندرسها. وفي تلك العملية نفقد على نحو ما شيئاً من قيمة الفلسفة. أود أن أسمعك تتكلم على كيفية رؤيتك لمتات الفلسفة إلى عيش حياتنا، وحتى متات دراسة الفلسفة إلى كيفية عيش حياتنا. هل تمت الفلسفة بشيء إلى ما نفعل؟

إنها تمت بالشيء كثير. من طرق النظر إلى الفلسفة اعتبارها دراسة لأفكار الماضي. إنها طريقة محترمة جداً، وجيدة جداً لمعرفتك العامة. لكن ثمة طريقة أخرى. إنك تنظر عنئذٍ إلى الفلسفة وتعتبرها من أشكال الحياة. الفلسفة نفسها شكل من أشكال الحياة. ما نشهده اليوم هو فصل الفلسفة عن الحياة لأن في مجتمعنا المذَرْذَر التحليلي كل شيء مفصول عن كل شيء آخر. فلا عجب أن تضمر الثقافة.

يُفصَل فيه كل شيء ويُحلَّل حتى الغثيان، توضع الفلسفة على رف وتوضع الحياة على رف آخر – والحياة موضوعة في الأعم الأغلب على رف فعلاً. عندما أتكلم على متات الفلسفة إلى الحياة، أحسب أني لست وحدي. ففي كتابه الصغير جميل، يشدد إ. ف. شوماخر تشديداً قوياً جداً على أن أهم مهمة في زماننا ليست إعادة بناء اقتصادية ، على كونها حيوية وضرورية، بمقدار ما هي ما يدعوه إعادة بناء ميتافيزيائية أو دينية – النظر أعمق في أسسنا الفلسفية والميتافيزيائية ورؤية الغلط الحاصل. الفلسفة حيوية بهذا المعنى، لأن العديد من مشكلاتنا ناجم عن كوننا بدأنا ننظر إلى الكون اعتباراً من القرن السابع عشر وما تلاه بطريقة هي من المحدودية بمكان. وإن مجاز الكون بوصفه آلية أشبه بالساعة لم يختزل في نظرنا معنى الكون وحسب ومعنى الكوسموس وحسب، بل ومعنى حياتنا نحن أيضاً. لقد غرَّبنا أنفسنا على نحو ما.

ما أحاول القيام به إذن في الفلسفة الإيكولوجية وغيره من الكتب هو التفتيش عن أسس فلسفية وميتافيزيائية بديلة. علينا أن ندرك أن الطريقة الآلتية هي طريقة واحدة فقط وليست خير الطرق قطعاً. ولقد باتت خبيثة في أيامنا هذه. ومع أنها جلبت مكافآت مادية عظيمة، فإنها مثبطة للجدوى على المدى الطويل. علينا أن نوجِد حِواءً matrix آخر، عمارة أخرى نستطيع أن ننسج حولها الواقع والكوسموس. وينبغي أن تكون هذه عمارة للكوسموس يمكن لحياتنا ضمنها أن تتنفس، وتكون فلسفتنا بها مؤزِّرة للحياة. نحن بحاجة إلى توطيد علاقة تعايش مع الكوسموس وأشكال الحياة الأخرى. وهذا لا يمكن أن يتم ضمن الكون الآلتي الذي يشطر ويحلِّل كل شيء في مشرحة تفكيرنا التحليلي.

الفلسفة المؤزِّرة للحياة فلسفة تحاول أن تشجع على اعتناق تصوُّر عن كون يكون منزلاً للإنسان، ونكون فيه جزءاً من تفتُّح زهرة التطوُّر الكبرى. ضمن مثل هذا التصوُّر عن الكون، لسنا معادين لأشكال الحياة الأخرى، ولسنا معادين بخاصة واحدنا للآخرين.

على قمة التصوُّر الآلتي للكون، غرسنا الداروِنية الاجتماعية، "الإنسان ذئب [يفترس] الإنسان". وهذان التصوُّران، الفلسفيان بامتياز، يعملان في سبيل نكبتنا.

ما أقوله هو الآتي: جذورنا الفلسفية لم تعد تغذينا. إنها مسؤولة عن بلائنا. سيتعيَّن علينا أن نغيِّر تلك الجذور، هذا الأساس برمَّته، بحيث يصير من جديد شجرة تغذينا، تربطنا إلى الكون، إلى أشكال الحياة الأخرى، وإلى مصيرنا الأخير الذي يدعوه بعضهم الله. لسنا نستطيع أن نحيا في كون مبعثر، عديم المعنى. الإنسان يتوق إلى المعنى، وهذا جزء من طبيعتنا. من هنا فإن إعادة التفكير في أسسنا ليس مجرد تمرين ذهني، بل هو جزء من تفتيشنا عن المعنى. إنه ضرورتنا الوجودية.

بهذا الخصوص، لا أمتنع عن الاعتذار عما أفعل وحسب، بل على العكس، أظنُّني جزءاً من موجة جديدة فيها تحمل الحياة نفسها من جديد على محمل الجد وتريد أن تؤكد ذاتها في أشكال ذات معنى –ببساطة تريد أن تزدهر. مسرح العقل تكريم مرفوع للحياة، التي لا تزحف وحسب، بل تتحلَّى بالقدرة على الطيران.

لدى سماعي ما تقول، يبدو لي أن فلسفة مؤزِّرة للحياة من شأنها أن تتخطى مفهوم وجود التفكير العقلاني وحده ولابد أن تشمل السيرورة الحدسية. فالحدس كثيراً جداً ما يُستبعَد عندما تقدَّم الفلسفة كنمط عقلاني، خطِّي، منطقي-آلتي من السيرورات.

في تصوُّري للعقل في مسرح العقل، أميِّز بين ثلاثة عقول. الأول أدعوه العقل التحليلي أو الخطابي discursive. الثاني أدعوه العقل المصنوع من الحساسيات التي نمَّاها التطوُّر. الحدس، الرحمة، والتقدير الجمالي مشمولة في العقل الثاني. يمكننا أن نتمتع بمظاهر متنوعة من الكون فقط بمقدار ما نمتلك من الملكات المناسبة. أدعو هذه الملكات بـ"الحساسيات الملائمة". فبواسطتها نستدرُّ من الكون ما فيه. من بين هذه الملكات، يتصف الحدس والبصيرة والاستجابات العاطفية بأهمية خاصة.

عندما ينظر كل منا إلى الآخر، مباشرة عيناً في عين، نرى أكثر من العينين بكثير جداً. نرى نفس الشخص الآخر برمَّتها. نرى، بمعنى ما، قصة الشخص برمَّتها.  نرى قصة النوع برمَّتها. هذه ليست مبالغة. فلأن الصلات عبر العين من الأهمية بمكان، لأننا نتحلَّى بهذه الحساسية الداخلة في بناء أعيننا، الداخلة في بناء عقلنا، يمكننا أن نواصل العديد من النقاشات بما يتخطى مجرَّد الكلمات.

في "عقلي 2"، الحب دوماً مشمول. الحب بوصفه ظاهرة تطوَّرية ووجودية هو في آن معاً عاطفي وعقلاني. فبمقدار ما تكون الكائنات الإنسانية حية وغير مُقْعَدة، يكون الحب بين كائنين إنسانيين جميلاً وعقلانياً في آنٍ معاً. لسنا بحاجة إلى الاعتذار عنه. نحن بحاجة إلى الاحتفاء به.

إن مدى ما أدعوه العقل 2 يشمل كل الحساسيات التي سبق للتطوُّر أن طوَّرها، من أوائل حركات الأميبا حتى عبقرية أينشتاين. العقل 2 هو طيف هذه الحساسيات برمَّته. وضمن هذا الطيف تعاش الحياة الإنسانية. نحن بحاجة إلى تطوير مفهوم جديد موسَّع للعقلانية يعلِّل الطيف بكامله، العقل بكلِّيته. نحن لا نريد أن نستغني عن العقلانية ونصير معادين للعقل أو عاطفيين بالكلِّية. أصر على أن كلا العقلانية والعواطف، البصيرة والتعقُّل المجرَّد، قدرات طوَّرها التطوُّر والكائنات الإنسانية ونحن نتمتع بها.

كل هذه الحساسيات ينبغي أن تُدرَج في سمفونية للحياة أوسع، مضافة إليها تلك الملكات والحساسيات الأخرى التي في طور الولادة in status nascendi، التي لم يتم بعد تبلورها تبلوراً تاماً. "العين الثالثة" هي ربما هذه الحساسية التي تمكِّننا من الرؤية فيما يتعدَّى الرؤية. ونحن كثيراً جداً ما تبدو علينا القدرة على الرؤية فيما يتعدَّى الرؤية. فما ظاهرة الإدراك الحواسي الفائق ما لم تكن ظاهرة رؤية ما لا تستطيع أعيننا رؤيته.

هناك سبيل إلى إدراج كل تلك التنميات – من تنمية رُجُع الأميبا الأولى إلى تنمية الملكات عند الصوفية وعند أصحاب الإدراك الحواسي الفائق – يتصف بالمعقولية ضمن طيف حساسيات التطوُّر. وأحسبنا نستطيع ذلك. ونستطيع الدفاع عنه عقلانياً. أنا نفسي أرفض الرضوخ لهجمات العقلانيين الضيقين الذين يحاولون إخافتنا بإخبارنا أن الأبحاث فيما يتعدَّى التجريبي التي تمتد لتطال الصوفي  ليست أبحاثاً عقلانية، وليست، بالتالي، لائقة بالكائنات الإنسانية.

نحن بحاجة إلى تحية التطوُّر في إزهارها كافة. بحاجة إلى رؤية عظمته في قدرتنا على الرحمة وفي قدرتنا على المنطق المجرَّد. كنوز التطوُّر وفي قدرتنا على المنطق المجرَّد. كنوز التطوُّر ضخمة جداً. ولدينا كل الحق في حصة فيها لأننا إزهار التطوُّر. نحن نتحمل أيضاً مسؤولية الدفاع عن هذه المشاركة كسيرورة عقلانية.

يخطر ببالي، ياهنريك، أن أعرف ما يستطيع المرء أن يفعل مما هو أهم من استكشاف الأفكار والسعي إلى الحكمة.

أنا مسرور أنك قلت ذلك. علينا أن نعي أن استكشاف الأفكار والتفتيش عن الحكمة ذوا قيمة عظيمة جداً. لكننا ينبغي ألا نتوقف عند هذا الشوط. نحن في الغرب لدينا نزوع خطير لأن نصير سناجب صغيرة، متشبثين بتلك الأفكار العظيمة ومعتقدين بأننا بما أننا قرأناها كلها، وراكمناها في قوقعتنا المجردة، فإن هذه الأفكار نفسها سوف تجعل حياتنا أفضل، اكثر امتلاءً، وأجمل.

أحسب أن الشوط الثاني هو القدرة على ترجمة تلك الأفكار إلى أساليب حياتنا، وأعتقد أن الفلسفات الشرقية أفضل بكثير في هذه العملية. نحن في الغرب مطوِّلون جداً في التنظير ومقصِّرون جداً في الممارسة. أما في الشرق، فإن الأمر، كما أشعر غالباً، على العكس من ذلك. إنهم مطوِّلون جداً في الممارسة ومقصِّرون غالباً في التنظير. في الغرب تجد مفارقة أنك لا تستطيع أن تطبق الفكرة ما لم تفهمها. وبذلك نبتكر نظريات عظيمة مسهبة ونحاول أن نقنع أنفسنا بأن النظرية صحيحة. لكننا في النهاية لا نفعل شيئاً بها.

لقد وضعت، هنريك، لتوِّك يدك على الجرح. كنت أنا الآخر أشعر بذلك بخصوص المقاربة الشرقية. عندما تعرضت للمرة الأولى للفلسفة الهندوسية، للـأوبنشاد والفيدنتا، كان ثمة تشديد على خبرة صيرورة المرء واحداً مع الكون، بما يتعارض مع التوسُّع في الفلسفة من وراء تلك الخبرة. ثم احتككت بالتيبتيين. وإنه لأمر خارق للعادة. إنهم يشددون على الممارسة، لكن لديهم فلسفة مدهشة خلفها. لديهم ما يبدو أنه مدد لا ينضب من الأدبيات ومن المنقولات. إنها مدوَّنة كتابةً وهي الفلسفة الأساس لممارستهم.

نعم. لقد كنت أحسد الرهبان التيبتيين على قدرتهم على عيش حياة مرتبطة أينما تقاذفهم القدر وتصاريف الحياة. ويبدو أنهم قادرون ليس على البقاء أحياء وحسب، بل وعلى الازدهار بطريقة تجعل منهم مثالاً يُحتذى به. إننا ننظر إلى حياتهم ونتساءل كيف يمكن التمتع بمثل هذه الحياة المرتبطة في تلك الأزمنة الكربة والمفكِّكة. قد يكون الأمر كذلك بفضل فلسفتهم المتكاملة التي تتضافر فيها الفلسفة البوذية العامة مع رياضات ويوغات تجعل من تلك الفلسفة الواقع الداخلي للمرء.

عندما كنت أعلق على مفارقة العقل الغربي، ما قصدته الإلماع إليه هو أننا كثيراً ما نقول بعد أن نتعلَّم النظرية: "طيب، أنا الآن أعرف النظرية، فيجب على النظرية أن تناسبني." ثم نقف عند هذا الحد. هذه ليست فلسفة حية حقاً.  أعتقد أننا إبان القرون الثلاثة الأخيرة بالغنا في التشديد على الخاصية المجرَّدة للمعرفة وعلى أهمية الأفكار في عقل المرء على حساب الحياة كشكل حيّ. لذا فإن العديد من العقول العظيمة، بمن فيها البوذا، قالت إن فن الحياة يأتي في المقام الأول. لذا فإن المهم هو القدرة على إيجاد الطرق التي يمكن بها استبطان الأفكار الطيبة، وبها تبلغ مستوى كياننا، تغيِّر وعينا، حتى نصير إياها.

لهذا السبب، بسطت مؤخراً، كموازٍ لفلسفتي الإيكولوجية، ما أدعوه اليوغا الإيكولوجي. للوهلة الأولى، عندما يسمع أحدهم المصطلح يحسب أن الأمر ضرب من الدعابة. لكنه ليس كذلك، لأنه ما من أفكار طيبة، ما من مبادئ طيبة، ما من حكمة، بوسع المرء أن يراكمها في القسم المجرد من دماغنا، هي من الطيبة بما يكفي، ما لم يمكنها أن تُعْلِمك كيف تحيا. فهي ما لم تَصِرْ حكمة حيَّة ليست بحكمة.

إن إيجاد طريقة يمكن بها ترجمة فكرة طيبة إلى طبقات كيانك هو بحد ذاته فعل إبداع. لهذا السبب، ادعيت بأن علينا أن نقوم بانتقال جذري في ثقافتنا مما أسميه منهجية الموضوعية إلى منهجية المشاركة. الحياة بأسرها مشاركة، في حين إن منهجية الموضوعية، بمعنى ما، تنكر هذه الفكرة. ضمن منهجية الموضوعية الخاصة بنا، يصير كل شيء موضوعاً، يُعزَل، يوضع في المختبر ويشرَّح بمشارطنا التحليلية. بالمقابل، فإن منهجية المشاركة تتأسس على التعاطف، على فهم أشكال الحياة الأخرى بلغتها الخاصة – على فهم الوحدة المبطِّنة للأمر كله. إنها لمنهجية كلانية. إنها متهجية تتطلب منك أن تتحمل المسؤولية عن الكل. فإذا كنت واعياً بأنك جزء من كلٍّ أعظم، عليك أن تتحمل المسؤولية عن الكل.

اليوغا الإيكولوجي الذي طوَّرته هو جزء من منهجية المشاركة هذه. لقد استغرقنا الأمر زمناً لتنمية تامة لمنهجية الموضوعية إلى حدٍّ أصبحت فيها تحتل الصدارة في مدارسنا الجامعية. لذا فقد يستغرقنا الأمر زمناً لا يستهان به لكي تتحول بصائر جديدة إلى ستراتيجيات تشارُكية يمكن بها لبحثنا وتعلُّمنا أن يتأسسا على فكرة المشاركة والتعاطف والرحمة، بدلاً من التشريح والمَوْضَعة والفصل.

لكأنك بنظري، هنريك، فيلسوف غربي اعتنق التفكير اللاثنوي للشرق.

عندما تنظر إلى التطوُّر نظرة كلانية، تدرك أنه سيرورة كلِّية واحدة. تتذكَّر صديقك أنكساغوراس الذي كان معلِّم سقراط. زعم أنكساغوراس أن كل شيء هو عقل.ومن بعده شقَّ تاريخ الفلسفة قدماً عدة جادَّات. إنما ألان عندما تنظر إلى مبلغ أهمية العقل في الإبداع المشترك مع الكون في عملية خلق وقائع، يصير ذا معنى قولنا أنه عند نقطة معيَّنة من التحليل، يصير العقل غير قابل للتمييز من الواقع نفسه. هذا التصوُّر أسميه العقل 3 – عودة إلى مناقشتنا الأسبق – العقل بوصفه مشاركاً الواقع امتدادَه. إن فكرة العقل nous عند أنكساغوراس هي من الأهمية بمكان بحيث إنها قابلة للتصوُّر للتفكير في العقيدة التي أسميها "وحدة الوجود العقلية" noetic monism، العقيدة التي تؤكد أن العقل منتسج ضمناً في كل مظهر من مظاهر الواقع وكل إدراك له. من خلال هذا التصوُّر للعقل، بوسعنا أن نحل العديد من الانقسامات الزائفة والثنائيات المتنوعة الموروثة عن ديكارت ومن تلاه. إن نشاطاتنا المتنوعة – الحب، التمنطق، خلق عوالم جديدة – إنما هي جزء من العقل نفسه. ونحن، إذ نقوم بأشياء مختلفة، نصي جميعاً جزءاً من العقل نفسه الذي يعمل بقدرات مختلفة.

إنك تتكلَّم على ما يمكن أن يدعى العقل الكلِّي، الذي نحن موصولون به.

العقل الكلِّ، هذا صحيح – الذي نحن مظاهر له ونحن نفصح عنه. أعتقد أن فكرة الثنوية هذه، الـأدفيتا في الفلسفة الهندوسية، يمكن أن تجد تبريراً لها على نحو عقلاني جديد. إن جزءاً من إعادتي التفكير في طبيعة العقل ومكانته في الكون الذي يذهب في هذا الاتجاه.

علينا أن نعرف بثلاثة أشياء في آن معاً: الواقع والمعرفة والعقل. محاولة فهم أحد هذه الأجزاء، نلقي آنياً ضوءاً على الجزأين الآخرين. إن تصوُّر العقل يُعلِمكَ بماهية المعرفة وبماهية الواقع. وبالعكس، فإن تصوُّراً معطى عن المعرفة يرسم مباشرة من أجلك مدى العقل ومدى الواقع. ينجم عن ذلك أننا إذا بدأنا بتصوُّر للواقع مغلوط – على سبيل المثال، تصوُّر أنه نوع ما من آلية الساعة مفكوك عنَّا – نتلقى مباشرة تصوُّراً مشوَّهاً عن المعرفة، تصوُّراً يشدد على تراكم الوقائع الفيزيائية؛ وإننا كذلك نتلقى تصوُّراً ملتوياً جداً عن العقل بوصفه صفحة بيضاء تنكتب عليها الخبرة. بوسعك أن ترى أنك إذا قمت بخطوة أساسية واحدة مغلوطة، فإن الأمر برمَّته يُختزَل إلى قطع. وهذا ما يجري مع الثقافة الغربية والفلسفة الغربية. علينا أن نعيد بناءها. أنتَ وأنا.

إذن أنتَ وأنا. وأنتَ تقترح أيضاً أننا يجب أن نأخذ عقولنا، عقولنا الضئيلة، ونوسِّع مفهومنا عما بمقدور عقولنا أن تفعل.

عقولنا الضئيلة التي، وخذها مني، ليست بهذه الضآلة إذا سمحنا لها أن تكون عظيمة عظمة ما هي عليه بالإمكان.

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود